الباحث القرآني

﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾: لَمّا نَفى تَعالى أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مُفْتَرًى، بَلْ جاءَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكُتُبِ وبَيانًا لِما فِيها، ذَكَرَ أعْظَمَ دَلِيلٍ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ وهو الإعْجازُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَأبْطَلَ بِذَلِكَ دَعْواهُمُ افْتِراءَهُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ مُشْبَعًا في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ﴾ [البقرة: ٢٣] الآيَةَ. وأمْ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنى بَلْ، والهَمْزَةُ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أيْ: أيَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ. والهَمْزَةُ تَقْرِيرٌ لِالتِزامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، أوْ إنْكارٌ لِقَوْلِهِمْ واسْتِبْعادٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: أمْ هَذِهِ بِمَنزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أمْ بِمَعْنى الواوِ، ومَجازُهُ: ويَقُولُونَ افْتَراهُ. وقِيلَ: المِيمُ صِلَةٌ، والتَّقْدِيرُ: أيَقُولُونَ. وقِيلَ: أمْ هي المُعادِلَةُ لِلْهَمْزَةِ، وحُذِفَتِ الجُمْلَةُ قَبْلَها والتَّقْدِيرُ: أيُقِرُّونَ بِهِ أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ؟ . وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قُلْ فَأْتُوا جُمْلَةَ شَرْطٍ مَحْذُوفَةً فَقالَ: قُلْ إنْ كانَ الأمْرُ كَما تَزْعُمُونَ فَأْتُوا أنْتُمْ عَلى وجْهِ الِافْتِراءِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، فَأنْتُمْ مِثْلُهُ في العَرَبِيَّةِ والفَصاحَةِ والألْمَعِيَّةِ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شَبِيهَةٍ بِهِ في البَلاغَةِ وحُسْنِ النَّظْمِ، انْتَهى. والضَّمِيرُ في مِثْلِهِ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أيْ: بِسُورَةٍ مُماثِلَةٍ لِلْقُرْآنِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ لَنا فِيما وقَعَ بِهِ الإعْجازُ. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ قائِدٍ ﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ عَلى الإضافَةِ أيْ: بِسُورَةِ كِتابٍ أوْ كَلامٍ مِثْلِهِ، أيْ: مِثْلِ القُرْآنِ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: هَذا مِمّا حُذِفَ المَوْصُوفُ مِنهُ وأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقامَهُ، أيْ: بِصُورَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِ، فالهاءُ في ذَلِكَ واقِعَةٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ وفي العامَّةِ إلى القُرْآنِ. وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَدْعُوهُ مِن خَلْقِ اللَّهِ إلى الِاسْتِعانَةِ عَلى الإتْيانِ بِمِثْلِهِ مِن دُونِ اللَّهِ، أيْ: مِن غَيْرِ اللَّهِ، لِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى أنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ أحَدٌ إلّا اللَّهُ، فَلا تَسْتَعِينُوهُ وحْدَهُ، واسْتَعِينُوا بِكُلِّ مَن دُونَهُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنَّهُ افْتَراهُ. وقَدْ تَمَسَّكَ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى خَلْقِ القُرْآنِ، قالُوا: لِأنَّهُ تَحَدّى بِهِ وطَلَبَ الإتْيانَ بِمِثْلِهِ وعَجَزُوا، ولا يُمْكِنُ هَذا إلّا إذا كانَ الإتْيانُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَ الوُجُودِ في الجُمْلَةِ، ولَوْ كانَ قَدِيمًا لَكانَ الإتْيانُ بِمِثْلِ القَدِيمِ مُحالًا في نَفْسِ الأمْرِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَصِحَّ التَّحَدِّي بِهِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: مَراتِبُ التَّحَدِّي بِالقُرْآنِ سِتٌّ: تَحَدٍّ بِكُلِّ القُرْآنِ في: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ﴾ [الإسراء: ٨٨] الآيَةَ، وتَحَدٍّ بِعَشْرِ سُوَرٍ، وتَحَدٍّ بِسُورَةٍ واحِدَةٍ، وتَحَدٍّ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور: ٣٤] وفي هَذِهِ الأرْبَعِ طَلَبَ أنْ يُعارِضَ رَجُلٌ يُساوِي الرَّسُولَ في عَدَمِ التَّتَلْمُذِ والتَّعْلِيمِ، وتَحِدٍّ طَلَبَ مِنهم مُعارَضَةَ سُورَةٍ واحِدَةٍ مِن أيِّ إنْسانٍ كانَ، تَعَلَّمَ العُلُومَ أوْ لَمْ يَتَعَلَّمْها، وفي هَذِهِ المَراتِبِ الخَمْسِ تَحَدّى كُلَّ واحِدٍ مِنَ الخَلْقِ، وتَحِدٍّ طَلَبَ مِنَ المَجْمُوعِ اسْتِعانَةَ بَعْضٍ بِبَعْضٍ، انْتَهى مُلَخَّصًا. ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ﴾: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (بَلْ كَذَّبُوا)، بَلْ سارَعُوا إلى التَّكْذِيبِ بِالقُرْآنِ، وفاجَؤُوهُ في بَدِيهَةِ السَّماعِ قَبْلَ أنْ يَفْهَمُوهُ ويَعْلَمُوا كُنْهَ أمْرِهِ، وقَبْلَ أنْ يَتَدَبَّرُوهُ ويَفْقَهُوا تَأْوِيلَهُ ومَعانِيَهُ، وذَلِكَ لِفَرْطِ نُفُورِهِمْ عَمّا يُخالِفُ دِينَهَمْ، وشِرادِهِمْ عَنْ مُفارَقَةِ دِينِ آبائِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يُرِيدَ بِما: الوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ عَلى الكُفْرِ، وتَأْوِيلُهُ عَلى هَذا يُرِيدُ بِهِ ما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُهُ، كَما هو في قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] والآيَةُ مَحْمِلُها عَلى هَذا التَّأْوِيلِ يَتَضَمَّنُ وعِيدًا، والمَعْنى الثّانِي: أنَّهُ أرادَ بَلْ كَذَّبُوا بِهَذا القُرْآنِ العَظِيمِ المُنْبِئِ بِالغُيُوبِ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهم بِهِ مَعْرِفَةٌ، ولا أحاطُوا بِمَعْرِفَةِ غُيُوبِهِ وحُسْنِ نَظْمِهِ، ولا جاءَهم تَفْسِيرُ ذَلِكَ وبَيانُهُ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: يَحْتَمِلُ وجُوهًا، الأوَّلُ: كُلَّما سَمِعُوا شَيْئًا مِنَ القَصَصِ قالُوا ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥] ولَمْ يَعْرِفُوا أنَّ المَقْصُودَ مِنها لَيْسَ نَفْسَ الحِكايَةِ (p-١٥٩)بَلْ قُدْرَتُهُ تَعالى عَلى التَّصَرُّفِ في هَذا العالَمِ، ونَقْلِهِ أهْلَهُ مِن عِزٍّ إلى ذُلٍّ، ومِن ذُلٍّ إلى عِزٍّ، وبِفَناءِ الدُّنْيا، فَيَعْتَبِرُ بِذَلِكَ. وأنَّ ذَلِكَ القَصَصَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، إذْ أعْلَمَ بِذَلِكَ عَلى لِسانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّمْ ولَمْ يَتَتَلْمَذْ. الثّانِي: كُلَّما سَمِعُوا حُرُوفَ التَّهَجِّي ولَمْ يَفْهَمُوا مِنها شَيْئًا ساءَ ظَنُّهم، وقَدْ أجابَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ﴾ [آل عمران: ٩٧] الآيَةَ. الثّالِثُ: ظُهُورُ القُرْآنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَساءَ ظَنُّهم وقالُوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] وقَدْ أجابَ تَعالى وشَرَحَ في مَكانِهِ. الرّابِعُ القُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الحَشْرِ، وكانُوا ألِفُوا المَحْسُوساتِ، فاسْتَبْعَدُوا حُصُولَ الحَياةِ بَعْدَ المَوْتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ صِحَّةَ المَعادِ بِالدَّلائِلِ الكَثِيرَةِ. الخامِسُ: أنَّهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الأمْرِ بِالعِباداتِ، وكانُوا يَقُولُونَ: إلَهُ العالَمِ غَنِيٌّ عَنْ طاعَتِنا، وهو أجَلُّ أنْ يَأْمُرَنا بِما لا فائِدَةَ لَهُ فِيهِ. وأجابَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ﴾ [الإسراء: ٧] الآيَةَ، وبِالجُمْلَةِ فَشُبَهُ الكُفّارِ كَثِيرَةٌ، فَلَمّا رَأوُا القُرْآنَ مُشْتَمِلًا عَلى أُمُورٍ ما عَرَفُوا حَقِيقَتَها ولا اطَّلَعُوا عَلى وجْهِ الحِكْمَةِ فِيها كَذَّبُوا بِالقُرْآنِ فَقَوْلُهُ: بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، إشارَةٌ إلى عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الأشْياءِ وقَوْلُهُ: ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، إشارَةٌ إلى عَدَمِ جُهْدِهِمْ واجْتِهادِهِمْ في طَلَبِ أسْرارِ ما تَضَمَّنَهُ القُرْآنُ، انْتَهى مُلَخَّصًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما مَعْنى التَّوَقُّعِ في قَوْلِهِ تَعالى: ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ؟ (قُلْتُ): مَعْناهُ أنَّهم كَذَّبُوا بِهِ عَلى البَدِيهَةِ قَبْلَ التَّدَبُّرِ، ومَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ تَقْلِيدًا لِلْآباءِ، وكَذَّبُوهُ بَعْدَ التَّدَبُّرِ تَمَرُّدًا وعِنادًا فَذَمَّهم بِالتَّسَرُّعِ إلى التَّكْذِيبِ قَبْلَ العِلْمِ بِهِ، وجاءَ بِكَلِمَةِ التَّوَقُّعِ لِيُؤْذِنَ أنَّهم عَلِمُوا بَعْدَ عُلُوِّ شَأْنِهِ وإعْجازِهِ لَمّا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ التَّحَدِّيَ ورازُوا قُواهم في المُعارَضَةِ، واسْتَيْقَنُوا عَجْزَهم عَنْ مَثَلِهِ، فَكَذَّبُوا بِهِ بَغْيًا وحَسَدًا، انْتَهى. ويَحْتاجُ كَلامُهُ هَذا إلى نَظَرٍ. وقالَ أيْضًا: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، ولَمّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ تَأْوِيلُ ما فِيهِ مِنَ الإخْبارِ بِالغُيُوبِ، أيْ: عاقِبَتُهُ، حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أكَذِبٌ هو أمْ صِدْقٌ ؟ يَعْنِي: أنَّهُ كِتابٌ مُعْجِزٌ مِن جِهَتَيْنِ: مِن جِهَةِ إعْجازِ نَظْمِهِ، ومِن جِهَةِ ما فِيهِ مِنَ الإخْبارِ بِالغُيُوبِ. فَتَسَرَّعُوا إلى التَّكْذِيبِ بِهِ قَبْلَ أنْ يَنْظُرُوا في نَظْمِهِ وبُلُوغِهِ حَدَّ الإعْجازِ، وقَبْلَ أنْ يُخْبَرُوا إخْبارَهُ بِالمَغِيباتِ وصِدْقَهُ وكَذِبَهُ، انْتَهى. وبَقِيَتْ جُمْلَةُ الإحاطَةِ بِلَمْ، وجُمْلَةُ إتْيانِ التَّأْوِيلِ بِلَمّا، ويُحْتاجُ في ذَلِكَ إلى فَرْقٍ دَقِيقٍ. والكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، يَعْنِي: قَبْلَ النَّظَرِ في مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ وقَبْلَ تَدَبُّرِها مِن غَيْرِ إنْصافٍ مِن أنْفُسِهِمْ، ولَكِنْ قَلَّدُوا الآباءَ وعانَدُوا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ الزُّجاجُ: كَيْفَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى خَبَرِ كانَ، لا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ، لِأنَّ ما قَبْلَ الِاسْتِفْهامِ لا يَعْمَلُ فِيهِ، هَذا قانُونُ النَّحْوِيِّينَ لِأنَّهم عامَلُوا كَيْفَ في كُلِّ مَكانٍ مُعامَلَةَ الِاسْتِفْهامِ المَحْضِ. في قَوْلِكَ: كَيْفَ زَيْدٌ ؟ ولِكَيْفَ تَصَرُّفاتٌ غَيْرُ هَذا تَحُلُّ مَحَلَّ المَصْدَرِ الَّذِي هو كَيْفِيَّةٌ، ويَنْخَلِعُ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، ويَحْتَمِلُ هَذا المَوْضِعُ أنْ يَكُونَ مِنها، ومِن تَصَرُّفاتِها قَوْلُهم: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، وانْظُرْ قَوْلَ البُخارِيِّ: كَيْفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ، فَإنَّهُ لَمْ (p-١٦٠)يَسْتَقِمْ، انْتَهى. وقَوْلُ الزَّجّاجِ: لا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ، وتَعْلِيلُهُ: يُرِيدُ لا يَجُوزُ أنْ تَعْمَلَ فِيهِ انْظُرْ لَفْظًا، لَكِنَّ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ لانْظُرْ مُعَلَّقَةً، وهي مِن نَظَرِ القَلْبِ. وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: هَذا قانُونُ النَّحْوِيِّينَ إلى آخِرِ تَعْلِيلِهِ، لَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ لِكَيْفَ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما: الِاسْتِفْهامُ المَحْضُ، وهو سُؤالٌ عَنِ الهَيْئَةِ، إلّا أنْ تُعَلِّقَ عَنْها العامِلَ فَمَعْناها مَعْنى الأسْماءِ الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِها إذا عُلِّقَ عَنْها العامِلُ. والثّانِي: الشَّرْطُ. لِقَوْلِ العَرَبِ: كَيْفَ تَكُونُ أكُونُ، وقَوْلُهُ: ولِكَيْفَ تَصَرُّفاتٌ إلى آخِرِهِ، لَيْسَ كَيْفَ تَحُلُّ مَحَلَّ المَصْدَرِ، ولا لَفْظُ كَيْفِيَّةٍ هو مَصْدَرٌ، إنَّما ذَلِكَ نِسْبَةٌ إلى كَيْفَ. وقَوْلُهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا المَوْضِعُ مِنها ومِن تَصَرُّفاتِها، قَوْلُهم: كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، لا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنها، لِأنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لَها المَعْنى الَّذِي ذَكَرَ مِن كَوْنِ كَيْفَ بِمَعْنى كَيْفِيَّةٍ وادِّعاءِ مَصْدَرِ كَيْفِيَّةٍ. وأمّا كُنْ كَيْفَ شِئْتَ، فَكَيْفَ لَيْسَتْ بِمَعْنى كَيْفِيَّةٍ، وإنَّما هي شَرْطِيَّةٌ وهو المَعْنى الثّانِي الَّذِي لَها. وجَوابُها مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، كَما تَقُولُ: قُمْ مَتى شِئْتَ، فَمَتى اسْمُ شَرْطٍ ظَرْفٌ لا يَعْمَلُ فِيهِ قُمْ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَتى شِئْتَ فَقُمْ، وحُذِفَ الجَوابُ لِدِلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمُ: اضْرِبْ زَيْدًا إنْ أساءَ إلَيْكَ، التَّقْدِيرُ: إنْ أساءَ إلَيْكَ فاضْرِبْهُ، وحُذِفَ فاضْرِبْهُ لِدِلالَةِ اضْرِبِ المُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وأمّا قَوْلُ البُخارِيِّ: كَيْفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ ؟ فَهو اسْتِفْهامٌ مَحْضٌ، إمّا عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ كَأنَّ قائِلًا سَألَهُ فَقالَ: كَيْفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ ؟ فَأجابَ بِالحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ. والظّالِمِينَ: الظّاهِرُ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ مَن عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ بَلْ كَذَّبُوا. ﴿ومِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ﴾: الظّاهِرُ أنَّهُ إخْبارٌ بِأنَّ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ مَن سَيُؤْمِنُ بِهِ وهو مَن سَبَقَتْ لَهُ السَّعادَةُ، ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ فَيُوافى عَلى الكُفْرِ. وقِيلَ: هو تَقْسِيمٌ في الكُفّارِ الباقِينَ عَلى كُفْرِهِمْ، فَمِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ باطِنًا ويَعْلَمُ أنَّهُ حَقٌّ ولَكِنَّهُ كَذَّبَ عِنادًا، ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ لا باطِنًا ولا ظاهِرًا، إمّا لِسُرْعَةِ تَكْذِيبِهِ وكَوْنِهِ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ، وإمّا لِكَوْنِهِ نَظَرَ فِيهِ فَعارَضَتْهُ الشُّبُهاتُ ولَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الفَهْمِ ما يَدْفَعُها. وفِيهِ تَفْرِيقُ كَلِمَةِ الكُفّارِ، وأنَّهم لَيْسُوا مُسْتَوِينَ في اعْتِقاداتِهِمْ، بَلْ هم مُضْطَرِبُونَ وإنْ شَمِلَهُمُ التَّكْذِيبُ والكُفْرُ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في ومِنهم عائِدٌ عَلى أهْلِ الكِتابِ، والظّاهِرُ عَوْدُهُ عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ أمْ يَقُولُونَ، وتَعَلُّقُ العِلْمَ بِالمُفْسِدِينَ وحْدَهم تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهم. ﴿وإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ولَكم عَمَلُكم أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾: أيْ وإنْ تَمادَوْا عَلى تَكْذِيبِكَ فَتَبَرَّأْ مِنهم قَدْ أعْذَرْتَ وبَلَّغْتَ كَقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٦] ومَعْنى لِي عَمَلِي، أيْ: جَزاءُ عَمَلِي ولَكم جَزاءُ عَمَلِكم. ومَعْنى عَمَلِي الصّالِحُ المُشْتَمِلُ عَلى الإيمانِ والطّاعَةِ، ولَكم عَمَلُكُمُ المُشْتَمِلُ عَلى الشِّرْكِ والعِصْيانِ. والظّاهِرُ أنَّها آيَةُ مُنابَذَةٍ لَهم ومُوادَعَةٍ، وضَمَّنَها الوَعِيدَ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] السُّورَةَ. وقِيلَ: المَقْصُودُ بِذَلِكَ اسْتِمالَتُهم وتَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ. وقالَ قَوْمٌ مِنهُمُ ابْنُ زَيْدٍ: هي مَنسُوخَةٌ بِالقِتالِ لِأنَّها مَكِّيَّةٌ، وهو قَوْلُ: مُجاهِدٍ والكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ. وقالَ المُحَقِّقُونَ: لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ، ومَدْلُولُها اخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ بِأفْعالِهِ، وثَمَراتِها مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ، ولَمْ تَرْفَعْ آيَةُ السَّيْفِ شَيْئًا مِن هَذا. وبَدَأ في المَأْمُورِ بِقَوْلِهِ: لِي عَمَلِي لِأنَّهُ آكَدُ في الِانْتِفاءِ مِنهم وفي البَراءَةِ بِقَوْلِهِ: أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ، لِأنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ جاءَتْ كالتَّوْكِيدِ والتَّتْمِيمِ لِما قَبْلَها، فَناسَبَ أنْ تَلِيَ قَوْلَهُ: ولَكم عَمَلُكم. ولِمُراعاةِ الفَواصِلِ، إذْ لَوْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَراءَةٍ كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُ لِي عَمَلِي لَمْ تَقَعِ الجُمْلَةُ فاصِلَةً، إذْ كانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ وأنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ. (p-١٦١)﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿ومِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ أفَأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ ولَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتِ الآيَتانِ في النَّضْرِ بْنِ الحَرْثِ وغَيْرِهِ مِنَ المُسْتَهْزِئِينَ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: في قَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ، انْتَهى. وهَذِهِ الآيَةُ فِيها تَقْسِيمُ مَن لا يُؤْمِنُ مِنَ الكُفّارِ إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ بَعْدَ تَقْسِيمِ المُكَذِّبِينَ إلى مَن يُؤْمِنُ ومَن لا يُؤْمِنُ، والضَّمِيرُ في يَسْتَمِعُونَ عائِدٌ عَلى مَعْنى مَن، والعَوْدِ عَلى المَعْنى دُونَ العَوْدِ عَلى اللَّفْظِ في الكَثْرَةِ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ الشَّياطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٢] والمَعْنى: مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ إذا قَرَأْتَ القُرْآنَ وعَلِمْتَ الشَّرائِعَ، ثُمَّ نَفى جَدْوى ذَلِكَ الِاسْتِماعِ بِقَوْلِهِ: أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ، أيْ: هم، وإنِ اسْتَمَعُوا إلَيْكَ صُمٌّ عَنْ إدْراكِ ما تُلْقِيهِ إلَيْهِمْ لَيْسَ لَهم وعْيٌ ولا قَبُولٌ، ولا سِيَّما قَدِ انْضافَ إلى الصَّمَمِ انْتِفاءُ العَقْلِ، فَجُرَّ بِمِن عَدَمُ السَّمْعِ والعَقْلِ أنْ لا يَكُونَ لَهُ إدْراكٌ لِشَيْءٍ البَتَّةَ، بِخِلافِ أنْ لَوْ كانَ الأصَمُّ عاقِلًا فَإنَّهُ بِعَقْلِهِ يَهْتَدِي إلى أشْياءَ. وأعادَ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ﴾ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا عَلى لَفْظِ مَن، وهو الأكْثَرُ في لِسانِ العَرَبِ. والمَعْنى: أنَّهم عُمْيٌ فَلا تَقْدِرُ عَلى هِدايَتِهِمْ، لِأنَّ السَّبَبَ الَّذِي يُهْتَدى بِهِ إلى رُؤْيَةِ الدَّلائِلِ فَقَدْ فَقَدُوهُ، هَذا وهم مَعَ فَقْدِ البَصَرِ قَدْ فَقَدُوا البَصِيرَةَ، إذْ مَن كانَ أعْمى فَإنَّهُ مُهْدِيهِ نُورُ بَصِيرَتِهِ إلى أشْياءَ بِالحَدْسِ، وهَذا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ فِقْدانِ البَصَرِ والبَصِيرَةِ، وهَذا مُبالَغَةٌ عَظِيمَةٌ في انْتِفاءِ قَبُولِ ما يُلْقى إلى هَؤُلاءِ، إذْ جَمَعُوا بَيْنَ الصَّمَمِ وانْتِفاءِ العَقْلِ، وبَيْنَ العَمى وفَقْدِ البَصِيرَةِ. وقَوْلُهُ: (أفَأنْتَ): تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ وأنْ لا يَكْتَرِثَ بِعَدَمِ قَبُولِهِمْ، فَإنَّ الهِدايَةَ إنَّما هي لِلَّهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جاءَ يَنْظُرُ عَلى لَفْظِ مَن، وإذا جاءَ الفِعْلُ عَلى لَفْظِها فَجائِزٌ أنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ آخَرُ عَلى المَعْنى، وإذا جاءَ أوَّلًا عَلى مَعْناها فَلا يَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِآخَرَ عَلى اللَّفْظِ، لِأنَّ الكَلامَ يُلْبَسُ حِينَئِذٍ، انْتَهى. ولَيْسَ كَما قالَ، بَلْ يَجُوزُ أنْ تُراعِي المَعْنى أوَّلًا فَتُعِيدَ الضَّمِيرَ عَلى حَسَبِ ما تُرِيدُ مِنَ المَعْنى مِن تَأْنِيثٍ وتَثْنِيَةٍ وجَمْعٍ، ثُمَّ تُراعِي اللَّفْظَ فَتُعِيدُ الضَّمِيرَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وفي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ في عِلْمِ النَّحْوِ. والمَقْصُودُ مِنَ الآيَتَيْنِ: إعْلامُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ قَدِ انْتَهَوْا في النَّفْرَةِ والعَداوَةِ، والبُغْضِ الشَّدِيدِ في رُتْبَةِ مَن لا يَنْفَعُ فِيهِ عِلاجٌ البَتَّةَ، لِأنَّ مَن كانَ أصَمَّ أحْمَقَ وأعْمى فاقِدَ البَصِيرَةِ لا يُمْكِنُ ذَلِكَ أنْ يَقِفَ عَلى مَحاسِنِ الكَلامِ وما انْطَوى عَلَيْهِ مِنَ الإعْجازِ، ولا يُمْكِنُ هَذا أنْ يَرى ما أجْرى اللَّهُ عَلى يَدَيْ رَسُولِهِ مِنَ الخَوارِقِ، فَقَدْ أيِسَ مِن هِدايَةِ هَؤُلاءِ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎وإذا خَفِيتُ عَلى الغَبِيَّ فَعاذِرٌ أنْ لا تَرانِي مُقْلَةٌ عَمْياءُ ولَمّا ذَكَرَ تَعالى هَؤُلاءِ الأشْقِياءَ، ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لا يَظْلِمُهم شَيْئًا، إذْ قَدْ أزاحَ عِلَلَهم بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وتَحْذِيرِهِمْ مِن عِقابِهِ، ولَكِنَّهم ظالِمُوا أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ والتَّكْذِيبِ. واحْتَمَلَ هَذا النَّفْيُ لِلظُّلْمِ أنْ يَكُونَ في (p-١٦٢)الدُّنْيا، أيْ: لا يَظْلِمُهم شَيْئًا مِن مَصالِحِهِمْ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ في الآخِرَةِ وأنَّ ما يَلْحَقُهم مِنَ العِقابِ هو عَدْلٌ مِنهُ، لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِيهِ بِاكْتِسابِ ذُنُوبِهِمْ كَما قَدَّرَ تَعالى عَلَيْهِمْ: لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. وتَقَدَّمَ خِلافُ القُرّاءِ في (ولَكِنَّ النّاسَ) مِن تَشْدِيدِ النُّونِ ونَصْبِ النّاسِ وتَخْفِيفِها والرَّفْعِ. (ويَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهم قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وما كانُوا مُهْتَدِينَ): قَرَأ الأعْمَشُ وحَفْصٌ: يَحْشُرُهم بِالياءِ راجِعًا الضَّمِيرَ غائِبًا عائِدًا عَلى اللَّهِ، إذْ تَقَدَّمَ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا﴾ ولَمّا ذَكَرَ أُولَئِكَ الأشْقِياءَ أتْبَعَهُ بِالوَعِيدِ ووَصْفِ حالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، والمَعْنى: كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدُّنْيا أوْ في القُبُورِ، يَعْنِي: فَقَلِيلٌ لُبْثُهم، وذَلِكَ لِهَوْلِ ما يُعايِنُونَ مِن شَدائِدِ القِيامَةِ، أوْ لِطُولِ يَوْمِ القِيامَةِ ووُقُوفِهِمْ لِلْحِسابِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: رَأوْا أنَّ طُولَ أعْمارِهِمْ في مُقابَلَةِ الخُلُودِ كَساعَةٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَوْمَ ظَرْفٌ، ونَصْبُهُ يَصِحُّ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ. ويَصِحُّ أنْ يَنْتَصِبَ بِالفِعْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ، ويَصِحُّ نَصْبُهُ بِيَتَعارَفُونَ، والكافُ مِن قَوْلِهِ: كَأنْ، يَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْيَوْمِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَعْتٍ لِلْمَصْدَرِ كَأنَّهُ قالَ: ويَوْمَ نَحْشُرُهم حَشْرًا كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في نَحْشُرُهم، انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ: ويَصِحُّ أنْ يَنْتَصِبَ بِالفِعْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا فَإنَّهُ كَلامٌ مُجْمَلٌ لَمْ يُبَيِّنِ الفِعْلَ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا، ولَعَلَّهُ أرادَ ما قالَهُ الحَوْفِيُّ: مِن أنَّ الكافَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِما تَضَمَّنَتْ مِن مَعْنى الكَلامِ وهو السُّرْعَةُ، انْتَهى. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: ويَوْمَ نَحْشُرُهم يُسْرِعُونَ كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا، وأمّا قَوْلُهُ: والكافُ مِن قَوْلِهِ كَأنْ، يَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْيَوْمِ، فَلا يَصِحُّ لِأنَّ يَوْمَ نَحْشُرُهم مَعْرِفَةٌ، والجُمَلُ نَكِراتٌ، ولا تُنْعَتُ المَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. لا يُقالُ: إنَّ الجُمَلَ الَّذِي يُضافُ إلَيْها أسْماءُ الزَّمانِ نَكِرَةٌ عَلى الإطْلاقِ، لِأنَّها إنْ كانَتْ في التَّقْدِيرِ تُنْحَلُ إلى مَعْرِفَةٍ، فَإنَّ ما أُضِيفَ إلَيْها يَتَعَرَّفُ وإنْ كانَتْ تُنْحَلُ إلى نَكِرَةٍ كانَ ما أُضِيفَ إلَيْها نَكِرَةً، تَقُولُ: مَرَرْتُ في يَوْمِ قَدِمَ زَيْدٌ الماضِي، فَتَصِفُ يَوْمَ بِالمَعْرِفَةِ، وجِئْتُ لَيْلَةَ قَدِمَ زَيْدٌ المُبارَكَةُ عَلَيْنا. وأيْضًا فَكَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْيَوْمِ مِن (p-١٦٣)جِهَةِ المَعْنى، لِأنَّ ذَلِكَ مِن وصْفِ المَحْشُورِينَ لا مِن وصْفِ يَوْمِ حَشْرِهِمْ. وقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهم تَقْدِيرَ مَحْذُوفٍ بِرَبْطٍ فَقَدَّرَهُ: كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا قَبْلَهُ، فَحُذِفَ قَبْلَهُ، أيْ قَبْلَ اليَوْمِ، وحَذْفُ مِثْلِ هَذا الرّابِطِ لا يَجُوزُ. فالظّاهِرُ أنَّها جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن مَفْعُولِ نَحْشُرُهم كَما قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ آخِرًا، وكَذا أعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وأبُو البَقاءِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا ويَتَعارَفُونَ كَيْفَ مَوْقِعُهُما ؟ (قُلْتُ): أمّا الأُولى فَحالٌ مِنهم، أيْ: نَحْشُرُهم مُشَبَّهِينَ بِمَن لَمْ يَلْبَثْ إلّا ساعَةً. وأمّا الثّانِيَةُ فَإمّا أنْ تَتَعَلَّقَ بِالظَّرْفِ يَعْنِي: فَتَكُونُ حالًا، وإمّا أنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِقَوْلِهِ: كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً، لِأنَّ التَّعارُفَ يَبْقى مَعَ طُولِ العَهْدِ ويَنْقَلِبُ تَناكُرًا، انْتَهى. وقالَ الحَوْفِيُّ: يَتَعارَفُونَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في يَلْبَثُوا وهو العامِلُ، كَأنَّهُ قالَ: مُتَعارِفِينَ، المَعْنى: اجْتَمَعُوا مُتَعارِفِينَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الهاءِ والمِيمِ في نَحْشُرُهم وهو العامِلُ، انْتَهى. وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ لِلْمَصْدَرِ، كَأنَّهُ قالَ: ويَوْمَ نَحْشُرُهم حَشْرًا كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا، فَقَدْ حَكاهُ أبُو البَقاءِ فَقالَ: وقِيلَ هو نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ حَشْرًا كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا قَبْلَهُ، انْتَهى. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ حَذْفَ مِثْلِ هَذا الرّابِطِ لا يَجُوزُ. وجَوَّزُوا في يَتَعارَفُونَ أنْ يَكُونَ حالًا عَلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الخِلافِ في ذِي الحالِ والعامِلِ فِيها، وأنْ يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يَقَعُ التَّعارُفُ بَيْنَهم. وقالَ الكَلْبِيُّ: يَعْرِفُ بَعْضُهم بَعْضًا كَمَعْرِفَتِهِمْ في الدُّنْيا إذا خَرَجُوا مِن قُبُورِهِمْ، وهو تَعارُفُ تَوْبِيخٍ وافْتِضاحٍ، يَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أنْتَ أضْلَلْتَنِي وأغْوَيْتَنِي، ولَيْسَ تَعارُفَ شَفَقَةٍ وعَطْفٍ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ المَعْرِفَةُ إذا عايَنُوا أهْوالَ القِيامَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: ١٠] ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ [المعارج: ١١] . وقِيلَ: يُعَرِّفُ بَعْضُهم بَعْضًا ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَأِ والكُفْرِ. وقالَ الضَّحّاكُ: تَعارَفُ تَعاطُفِ المُؤْمِنِينَ، والكافِرُونَ لا أنْسابَ بَيْنَهم. وقِيلَ: القِيامَةُ مُواطِنُ، فَفي مَوْطِنٍ يَتَعارَفُونَ وفي مَوْطِنٍ لا يَتَعارَفُونَ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ إلى آخِرِهِ: جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أخْبَرَ تَعالى بِخُسْرانِ المُكَذِّبِينَ بِلِقائِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو اسْتِئْنافٌ فِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما أخْسَرَهم. وقالَ أيْضًا: وابْتَدَأ بِهِ قَدْ خَسِرَ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، أيْ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهم قائِلِينَ ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِيلَ إنَّهُ إخْبارُ المَحْشُورِينَ عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِأنْفُسِهِمْ، انْتَهى. وهَذا يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهم قائِلِينَ ذَلِكَ، وأنْ يَكُونَ كَقَوْلِ غَيْرِهِ: نَحْشُرُهم قائِلِينَ قَدْ خَسِرَ، فاحْتَمَلَ هَذا المُقَدَّرُ أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَيَتَعارَفُونَ، وأنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِنَحْشُرُهم، ونَبَّهَ عَلى العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِلْخُسْرانِ وهو التَّكْذِيبُ بِلِقاءِ اللَّهِ. ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾: الظّاهِرُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ، فَيَكُونُ مِن كَلامِ المَحْشُورِينَ إذا قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ قَدْ خَسِرَ مِن كَلامِهِمْ، أخْبَرُوا عَنْ أنْفُسِهِمْ بِخُسْرانِهِمْ في الآخِرَةِ وبِانْتِفاءِ هِدايَتِهِمْ في الدُّنْيا. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى صِلَةِ الَّذِينَ، أيْ: كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ، وانْتَفَتْ هِدايَتُهم في الدُّنْيا. ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ كالتَّوْكِيدِ بِجُمْلَةِ الصِّلَةِ، لِأنَّ مَن كَذَّبَ بِلِقاءِ اللَّهِ هو غَيْرُ مُهْتَدٍ. وقِيلَ: وما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى غايَةِ مَصالِحِ التِّجارَةِ. وقِيلَ: لِلْإيمانِ. وقِيلَ: في عِلْمِ اللَّهِ، بَلْ هم مِمَّنْ حَتَّمَ ضَلالَهم وقَضى بِهِ. ﴿وإمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهم أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ﴾: إمّا هي إنِ الشَّرْطِيَّةُ، زِيدَ عَلَيْها ما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، ولِأجْلِها جازَ دُخُولُ النُّونِ الثَّقِيلَةِ. ولَوْ كانَتْ إنْ وحْدَها لَمْ يَجُزِ، انْتَهى. يَعْنِي أنَّ دُخُولَ النُّونِ لِلتَّأْكِيدِ إنَّما يَكُونُ (p-١٦٤)مَعَ زِيادَةِ ما بَعْدَ إنْ، وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخالِفٌ لِظاهِرِ كَلامِ سِيبَوَيْهِ. قالَ ابْنُ خَرُوفٍ: أجازَ سِيبَوَيْهِ الإتْيانَ بِما، وأنْ لا يُؤْتى بِها، والإتْيانَ بِالنُّونِ مَعَ ما وأنْ لا يُؤْتى بِها، والإراءَةُ هُنا بَصَرِيَّةٌ، ولِذَلِكَ تَعَدّى الفِعْلُ إلى اثْنَيْنِ، والكافُ خِطابٌ لِلرَّسُولِ ﷺ . وبَعْضَ الَّذِي نَعِدُهم يَعْنِي: مِنَ العَذابِ في الدُّنْيا. وقَدْ أراهُ اللَّهُ تَعالى أنْواعًا مِن عَذابِ الكُفّارِ في الدُّنْيا، قَتْلًا وأسْرًا ونَهْبًا لِلْأمْوالِ وسَبْيًا لِلذَّرارِي وضَرْبَ جِزْيَةٍ، وتَشْتِيتَ شَمْلٍ بِالجَلاءِ إلى غَيْرِ بِلادِهِمْ، وما يَحْصُلُ لَهم في الآخِرَةِ أعْظَمُ، لِأنَّهُ العَذابُ الدّائِمُ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ. والظّاهِرُ أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ هو قَوْلُهُ: فَإلَيْنا مَرْجِعُهم، وكَذا قالَهُ الحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ الوَعِيدُ بِالرُّجُوعِ إلى اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، أيْ: إنْ أرَيْناكَ عُقُوبَتَهم أوْ لَمْ نُرِكَها فَهم عَلى كُلِّ حالٍ راجِعُونَ إلَيْنا إلى الحِسابِ والعَذابِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ اللَّهُ شَهِيدٌ مِن أوَّلِ تَكْلِيفِهِمْ عَلى جَمِيعِ أعْمالِهِمْ. فَثُمَّ هاهُنا لِتَرْتِيبِ الأخْبارِ، لا لِتَرْتِيبِ القَصَصِ في أنْفُسِها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإلَيْنا مَرْجِعُهم جَوابُ نَتَوَفَّيَنَّكَ، وجَوابُ نُرِيَنَّكَ مَحْذُوفٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: وإمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهم فَذاكَ، أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ أنْ نُرِيَكَهُ، فَنَحْنُ نُرِيكَ في الآخِرَةِ، انْتَهى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الكَلامَ شَرْطَيْنِ لَهُما جَوابانِ، ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ جَوابٍ مَحْذُوفٍ، لِأنَّ قَوْلَهُ: فَإلَيْنا مَرْجِعُهم صالِحٌ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلشَّرْطِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وأيْضًا فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَذاكَ هو اسْمٌ مُفْرَدٌ لا يَنْعَقِدُ مِنهُ جَوابُ شَرْطٍ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يَأْتِيَ بِجُمْلَةٍ يَتَّضِحُ مِنها جَوابُ الشَّرْطِ، إذْ لا يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ فَذاكَ الجُزْءُ الَّذِي حُذِفَ المُتَحَصِّلُ بِهِ فائِدَةُ الإسْنادِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ثَمَّ اللَّهُ بِفَتْحِ الثّاءِ، أيْ: هُنالِكَ. ومَعْنى شَهادَةِ اللَّهِ عَلى ما يَفْعَلُونَ مُقْتَضاها ونَتِيجَتُها وهو العِقابُ، كَأنَّهُ قالَ: ثُمَّ اللَّهُ مُعاقِبُهم، وإلّا فَهو تَعالى شَهِيدٌ عَلى أفْعالِهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّهُ تَعالى مُؤَدٍّ شَهادَتَهُ عَلى أفْعالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ حَتّى تَنْطِقَ جُلُودُهم، وألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم شاهِدَةً عَلَيْهِمْ. ﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإذا جاءَ رَسُولُهم قُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾: لَمّا بَيَّنَ حالَ الرَّسُولِ ﷺ في قَوْمِهِ بَيَّنَ حالَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ أقْوامِهِمْ، تَسْلِيَةً لَهُ وتَطْمِينًا لِقَلْبِهِ. ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى ما أهْمَلَ أُمَّةً، بَلْ بَعَثَ إلَيْها رَسُولًا كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنْ مِن أُمَّةٍ إلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] وقَوْلُهُ: ﴿فَإذا جاءَ رَسُولُهُمْ﴾، إمّا أنْ يَكُونَ إخْبارًا عَنْ حالَةٍ ماضِيَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ في الدُّنْيا، ويَكُونُ المَعْنى: أنَّهُ بَعَثَ إلى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يَدْعُوهم إلى دِينِ اللَّهِ ويُنَبِّئُهم عَلى تَوْحِيدِهِ، فَلَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ كَذَّبُوهُ، فَقُضِيَ بَيْنَهم، أيْ: بَيْنَ الرَّسُولِ وأُمَّتِهِ، فَأنْجى الرَّسُولَ وعُذِّبَ المُكَذِّبُونَ. وإمّا أنْ يَكُونَ عَلى حالَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، أيْ: فَإذا جاءَهم رَسُولُهم يَوْمَ القِيامَةِ لِلشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بَيْنَهم، أيْ: بَيْنَ الأُمَّةِ بِالعَدْلِ، فَصارَ قَوْمٌ إلى الجَنَّةِ وقَوْمٌ إلى النّارِ، فَهَذا هو القَضاءُ بَيْنَهم، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ. ويَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَداءِ وقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الزمر: ٦٩] . ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾: الضَّمِيرُ في ويَقُولُونَ، عائِدٌ عَلى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ومَن تابَعَهم مِن مُنْكِرِي الحَشْرِ، اسْتَعْجَلُوا بِما وُعِدُوا بِهِ مِنَ العَذابِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِبْعادِ، أوْ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِخْفافِ، ولِذَلِكَ قالُوا: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أيْ: لَسْتُمْ صادِقِينَ فِيما وعَدْتُمْ بِهِ فَلا يَقَعُ شَيْءٌ مِنهُ. وقَوْلُهم: هَذا يَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الأوَّلِ في الآيَةِ قَبْلَها، وأنَّها حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ. وأنَّ مَعْنى ذَلِكَ: فَإذا جاءَهُمُ الرَّسُولُ وكَذَّبُوهُ قُضِيَ بَيْنَهم في الدُّنْيا، وأنَّ كُلَّ رَسُولٍ وعَدَ أُمَّتَهُ بِالعَذابِ في الدُّنْيا إنْ هي كَذَّبَتْ. (p-١٦٥)﴿قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ولا نَفْعًا إلّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ إذا جاءَ أجَلُهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾: لَمّا التَمَسُوا تَعْجِيلَ العَذابِ أوْ تَعْجِيلَ السّاعَةِ، أمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَقُولَ لَهم: لَيْسَ ذَلِكَ إلَيَّ، بَلْ ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى. وإذا كُنْتُ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا فَكَيْفَ أمْلِكُهُ لِغَيْرِي ؟ أوْ كَيْفَ أطَّلِعُ عَلى ما لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللَّهُ ؟ ولَكِنْ لِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ تَعالى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ قَوْلِهِ ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ في الأعْرافِ. وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ: آجالُهم عَلى الجَمْعِ. وإلّا ما شاءَ اللَّهُ ظاهِرُهُ أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، إلّا ما شاءَ اللَّهُ أنْ أمْلِكَهُ وأقْدِرَ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، أيْ: ولَكِنْ ما شاءَ اللَّهُ مِن ذَلِكَ كائِنٌ، فَكَيْفَ أمْلِكُ لَكُمُ الضَّرَرَ وجَلْبَ العَذابِ. ولِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ، أيْ: إنَّ عَذابَكم لَهُ أجَلٌ مَضْرُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ. ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أتاكم عَذابُهُ بَياتًا أوْ نَهارًا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ المُجْرِمُونَ﴾ ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ آمَنتُمْ بِهِ آلْآنَ وقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (p-١٦٦)تَقَدَّمَ الكَلامُ في أرَأيْتُمْ في سُورَةِ الأنْعامِ، وقَرَّرْنا هُناكَ أنَّ العَرَبَ تُضَمِّنُ أرَأيْتَ مَعْنى أخْبِرْنِي، وأنَّها تَتَعَدّى إذْ ذاكَ إلى مَفْعُولَيْنِ، وأنَّ المَفْعُولَ الثّانِي أكْثَرُ ما يَكُونُ جُمْلَةَ اسْتِفْهامٍ، يَنْعَقِدُ مِنها ما قَبْلَها مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ كَقَوْلِ العَرَبِ: أرَأيْتَ زَيْدًا ما صَنَعَ ؟ المَعْنى: أخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ ما صَنَعَ. وقَبْلَ دُخُولِ أرَأيْتَ كانَ الكَلامُ: زَيْدٌ ما صَنَعَ ؟ وإذا تَقَرَّرَ هَذا فَأرَأيْتُمْ هُنا المَفْعُولُ الأوَّلُ لَها مَحْذُوفٌ، والمَسْألَةُ مِن بابِ الإعْمالِ. تَنازَعَ أرَأيْتَ وإنْ أتاكم عَلى قَوْلِهِ: عَذابُهُ، فَأُعْمِلَ الثّانِي إذْ هو المُخْتارُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وهو الَّذِي ورَدَ بِهِ السَّماعُ أكْثَرَ مِن إعْمالِ الأوَّلِ. فَلَمّا أُعْمِلِ الثّانِي حُذِفَ مِنَ الأوَّلِ ولَمْ يُضْمَرْ، لِأنَّ إضْمارَهُ مُخْتَصٌّ بِالشِّعْرِ، أوْ قَلِيلٌ في الكَلامِ عَلى اخْتِلافِ النَّحْوِيِّينَ في ذَلِكَ. والمَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: أخْبِرُونِي عَنْ عَذابِ اللَّهِ إنْ أتاكم، أيُّ شَيْءٍ تَسْتَعْجِلُونَ مِنهُ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنَ العَذابِ يَسْتَعْجِلُهُ عاقِلٌ، إذِ العَذابُ كُلُّهُ مُرُّ المَذاقِ مُوجِبٌ لِنِفارِ الطَّبْعِ مِنهُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِ جاءَتْ عَلى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ بِهِمْ، والتَّنْبِيهِ لَهم أنَّ العَذابَ لا يَنْبَغِي أنْ يَسْتَعْجِلَ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ جاءَتْ عَلى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ والتَّهْوِيلِ لِلْعَذابِ، أيْ: أيُّ شَيْءٍ شَدِيدٍ تَسْتَعْجِلُونَ مِنهُ ؟ أيْ: ما أشَدَّ وأهْوَلَ ما تَسْتَعْجِلُونَ مِنَ العَذابِ. وقالَ الحَوْفِيُّ: الرُّؤْيَةُ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ الَّتِي بِمَعْنى العِلْمِ، لِأنَّها داخِلَةٌ عَلى الجُمْلَةِ مِنَ الِاسْتِفْهامِ ومَعْناها التَّقْرِيرُ. وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: أرَأيْتُمْ ما تَسْتَعْجِلُ مِنَ العَذابِ المُجْرِمُونَ إنْ أتاكم عَذابُهُ، انْتَهى. فَظاهِرُ كَلامِ الحَوْفِيِّ: أنَّ أرَأيْتُمْ باقِيَةٌ عَلى مَوْضُوعِها الأوَّلِ لَمْ تُضَمَّنْ مَعْنى أخْبِرُونِي، وأنَّها بِمَعْنى أعَلِمْتُمْ، وأنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهامِ سَدَّتْ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، وأنَّهُ اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ التَّقْرِيرُ، ولَمْ يُبَيِّنِ الحَوْفِيُّ ما يُفِيدُ جَوابَ الشَّرْطِ المَحْذُوفَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): بِمَ يَتَعَلَّقُ الِاسْتِفْهامُ ؟ وأيْنَ جَوابُ الشَّرْطِ ؟ (قُلْتُ): تَعَلَّقَ بِأرَأيْتُمْ، لِأنَّ المَعْنى: أخْبِرُونِي ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ المُجْرِمُونَ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وهو: تَنْدَمُوا عَلى الِاسْتِعْجالِ وتَعْرِفُوا الخَطَأ فِيهِ، انْتَهى. وما قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ سائِغٍ، لِأنَّهُ لا يُقَدِّرُ الجَوابَ إلّا مِمّا تَقَدَّمَهُ لَفْظًا أوْ تَقْدِيرًا تَقُولُ: أنْتَ ظالِمٌ إنْ فَعَلْتَ، فالتَّقْدِيرُ إنْ فَعَلْتَ فَأنْتَ ظالِمٌ. وكَذَلِكَ ﴿وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] (p-١٦٧)التَّقْدِيرُ: إنْ شاءَ اللَّهُ نَهْتَدِ. فالَّذِي يُسَوِّغُ أنْ يُقَدَّرَ: إنْ أتاكم عَذابُهُ فَأخْبِرُونِي ماذا يَسْتَعْجِلُ ؟ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ المُجْرِمُونَ اعْتِراضًا، والمَعْنى: إنْ أتاكم عَذابُهُ أآمَنتُمْ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ حِينَ لا يَنْفَعُكُمُ الإيمانُ ؟ انْتَهى. أمّا تَجْوِيزُهُ أنْ يَكُونَ ماذا جَوابًا لِلشَّرْطِ فَلا يَصِحُّ، لِأنَّ جَوابَ الشَّرْطِ إذا كانَ اسْتِفْهامًا فَلا بُدَّ فِيهِ مِنَ الفاءِ، تَقُولُ: إنْ زارَنا فُلانٌ فَأيُّ رَجُلٍ هو، وإنْ زارَنا فُلانٌ فَأيُّ يَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، ولا يَجُوزُ حَذْفُها إلّا إنْ كانَ في ضَرُورَةٍ، والمِثالُ الَّذِي ذَكَرَهُ وهو: إنْ أتَيْتُكَ ماذا تُطْعِمُنِي ؟ هو مِن تَمْثِيلِهِ، لا مِن كَلامِ العَرَبِ. وأمّا قَوْلُهُ: ثُمَّ تَتَعَلَّقُ الجُمْلَةُ بِأرَأيْتُمْ، إنْ عُنِيَ بِالجُمْلَةِ: ماذا يَسْتَعْجِلُ ؟ فَلا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأنَّهُ قَدْ جَعَلَها جَوابًا لِلشَّرْطِ، وإنْ عُنِيَ بِالجُمْلَةِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ فَقَدْ فَسَّرَ هو أرَأيْتُمْ بِمَعْنى: أخْبِرْنِي، وأخْبِرْنِي تَطْلُبُ مُتَعَلِّقًا مَفْعُولًا، ولا تَقَعُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مَوْقِعَ مَفْعُولِ أخْبِرْنِي. وأمّا تَجْوِيزُهُ أنْ يَكُونَ ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ آمَنتُمْ بِهِ﴾ جَوابَ الشَّرْطِ، وماذا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ المُجْرِمُونَ اعْتِراضًا فَلا يَصِحُّ أيْضًا، لِما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهامِ لا تَقَعُ جَوابًا لِلشَّرْطِ إلّا ومَعَها فاءُ الجَوابِ. وأيْضًا فَثُمَّ هُنا وهي حَرْفُ عَطْفٍ، تَعْطِفُ الجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها، فالجُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ، وإذا كانَتْ مَعْطُوفَةً لَمْ يَصِحَّ أنْ تَقَعَ جَوابَ شَرْطٍ. وأيْضًا فَأرَأيْتُمْ بِمَعْنى أخْبِرْنِي تَحْتاجُ إلى مَفْعُولٍ، ولا تَقَعُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مَوْقِعَهُ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في قَوْلِهِ: (بَياتًا) في الأعْرافِ مَدْلُولًا وإعْرابًا. والمَعْنى إنْ أتاكم عَذابُهُ وأنْتُمْ ساهُونَ غافِلُونَ، إمّا بِنَوْمٍ وإمّا بِاشْتِغالٍ بِالمَعاشِ والكَسْبِ، وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ: (بَغْتَةً) لِأنَّ العَذابَ إذا فاجَأ مِن غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ كانَ أشَدَّ وأصْعَبَ، بِخِلافِ أنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ وتَهَيَّأ لِحُلُولِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَياتًا وهم نائِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩٧] ﴿ضُحًى وهم يَلْعَبُونَ﴾ [الأعراف: ٩٨] . ويَجُوزُ في ماذا أنْ يَكُونَ ما مُبْتَدَأً وذا خَبَرَهُ، وهو بِمَعْنى الَّذِي ويَسْتَعْجِلُ صِلَتُهُ، وحُذِفَ الضَّمِيرُ العائِدُ عَلى المَوْصُولِ، التَّقْدِيرُ: أيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُهُ مِنَ العَذابِ المُجْرِمُونَ. ويَجُوزُ في ماذا أنْ يَكُونَ كُلُّهُ مَفْعُولًا كَأنَّهُ قِيلَ: أيُّ شَيْءٍ يَسْتَعْجِلُهُ مِنَ العَذابِ المُجْرِمُونَ. وقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ ماذا كُلُّهُ مُبْتَدَأً، وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ. وضَعَّفَهُ أبُو عَلِيٍّ لِخُلُوِّ الجُمْلَةِ مِن ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى المُبْتَدَأِ. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في مِنهُ عَلى العَذابِ، وبِهِ يَحْصُلُ الرَّبْطُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِ بِمَفْعُولِ أرَأيْتُمُ المَحْذُوفِ الَّذِي هو مُبْتَدَأٌ في الأصْلِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى اللَّهِ تَعالى. والمُجْرِمُونَ هُمُ المُخاطَبُونَ في قَوْلِهِ: أرَأيْتُمْ إنْ أتاكم. ونَبَّهَ عَلى الوَصْفِ المُوجِبِ لِتَرْكِ الِاسْتِعْجالِ وهو الإجْرامُ، لِأنَّ مِن حَقِّ المُجْرِمِ أنْ يَخافَ التَّعْذِيبَ عَلى إجْرامِهِ، ويَهْلَكَ فَزَعًا مِن مَجِيئِهِ وإنْ أبْطَأ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُهُ ؟ وثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ وتَقَدَّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ عَلَيْها كَما تَقَدَّمَتْ عَلى الواوِ والفاءِ في: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ [يوسف: ١٠٩] وفي ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ [الروم: ٩] وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ. وخِلافُ الزَّمَخْشَرِيِّ لِلْجَماعَةِ في دَعْواهُ أنَّ بَيْنَ الهَمْزَةِ وحَرْفِ العَطْفِ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً عُطِفَتْ عَلَيْها الجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ في قَوْلِهِ: أثُمَّ بِضَمِّ الثّاءِ، أنَّ مَعْناهُ أهُنالِكَ قالَ: ولَيْسَتْ ثُمَّ هَذِهِ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنى العَطْفِ، انْتَهى. وما قالَهُ الطَّبَرِيُّ مِن أنَّ ثُمَّ هُنا لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ دَعْوى، وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ المَعْنى أهُنالِكَ، فالَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لا أنَّ ثُمَّ المَضْمُومَةَ الثّاءِ مَعْناها مَعْنى هُنالِكَ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: أثَمَّ بِفَتْحِ الثّاءِ، وهَذا يُناسِبُهُ تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ أهُنالِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: آلْآنَ عَلى الِاسْتِفْهامِ بِالمَدِّ، وكَذا: آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ. وقَرَأ طَلْحَةُ والأعْرَجُ: بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ بِغَيْرِ مَدٍّ، وهو عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أيْ قِيلَ لَهم إذا آمَنُوا بَعْدَ وُقُوعِ العَذابِ: آلْآنَ آمَنتُمْ بِهِ، فالنّاصِبُ لِقَوْلِهِ: آلْآنَ هو آمَنتُمْ بِهِ وهو مَحْذُوفٌ، قِيلَ: تَقُولُ لَهم ذَلِكَ المَلائِكَةُ، وقِيلَ: اللَّهُ، والِاسْتِفْهامُ عَلى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ. وفِي كِتابِ اللَّوامِحِ عِيسى البَصْرِيُّ وطَلْحَةُ: آمَنتُمْ بِهِ الآنَ بِوَصْلِ الهَمْزَةِ مِن غَيْرِ اسْتِفْهامٍ، بَلْ عَلى الخَبَرِ، فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلى الظَّرْفِ مِن آمَنتُمْ بِهِ المَذْكُورِ. وأمّا في العامَّةِ فَنَصْبُهُ (p-١٦٨)بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ آمَنتُمْ بِهِ المَذْكُورُ، لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ قَدْ أخَذَ صَدْرَ الكَلامِ، فَيَمْنَعُ ما قَبْلُهُ أنْ يَعْمَلَ فِيما بَعْدَهُ، انْتَهى. وقَدْ كُنْتُمْ جُمْلَةً حالِيَّةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يَعْنِي تُكَذِّبُونَ، لِأنَّ اسْتِعْجالَكم كانَ عَلى جِهَةِ التَّكْذِيبِ والإنْكارِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَسْتَعْجِلُونَ مُكَذِّبِينَ بِهِ. ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾: أيْ تَقُولُ لَهم خَزَنَةُ جَهَنَّمَ هَذا الكَلامَ. والظُّلْمُ ظُلْمُ الكُفْرِ لا ظُلْمُ المَعْصِيَةِ، لِأنَّ مَن دَخَلَ النّارَ مِن عُصاةِ المُؤْمِنِينَ لا يَخْلُدُ فِيها. وثُمَّ قِيلَ عَطْفٌ عَلى المُضْمَرِ قَبْلَ آلْآنَ. ومَن قَرَأ بِوَصْلِ ألَّفِ الآنَ فَهو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَمّا يُقالُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ، وهَلْ تُجْزَوْنَ: تَوْبِيخٌ لَهم وتَوْضِيحٌ أنَّ الجَزاءَ هو عَلى كَسْبِ العَبْدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب