الباحث القرآني

ولَمّا قَسَّمَتْهم هَذِهِ الآيَةُ قِسْمَيْنِ، وتُلِيَتْ بِذِكْرِ القِسْمِ الثّانِي بِالواوِ، عُرِفَ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى مَطْوِيِّ القِسْمِ الأوَّلِ، فَكانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَإنْ صَدَّقُوكَ فَقُلْ: اللَّهُ ولِيُّ هِدايَتِكم ولِي [مِثْلُ] أُجُورِكم بِنِسْبَتِي فِيها فَضْلًا مِن رَبِّي: ﴿وإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ﴾ [أيْ] قَوْلَ مُنْصِفٍ مُعْتَمِدٍ عَلى قادِرٍ عالِمٍ ﴿لِي عَمَلِي﴾ بِالإيمانِ والطّاعَةِ ﴿ولَكم عَمَلُكُمْ﴾ (p-١٢٧)ما لِأحَدٍ مَنٌّ ولا عَلَيْهِ مِن جَزاءِ الآخَرِ شَيْءٌ؛ ثُمَّ صَرَّحَ بِالمَقْصُودِ مِن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُحَذِّرًا لَهُمْ: ﴿أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ﴾ أيْ: فَإنْ كانَ خَيْرًا لَمْ يَكُنْ لَكم مِنهُ شَيْءٌ وإنْ كانَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكم مِنهُ شَيْءٌ ﴿وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ لا جُناحَ عَلَيَّ في شَيْءٍ مِنهُ لِأنِّي لا أقْدِرُ عَلى رَدِّكم عَنْهُ؛ والبَراءَةُ: قَطْعُ العَلَقَةِ الَّذِي يُوجِبُ رَفْعَ المُطالَبَةِ، ولا حاجَةَ إلى ادِّعاءِ نَسْخِ هَذِهِ الآيَةِ بِآيَةِ السَّيْفِ، فَإنَّهُ لا مُنافاةَ بَيْنَهُما، لِأنَّ هَذِهِ في رَفْعِ لَحاقِ الإثْمِ وهو لا يُنافِي الجِهادَ. ولَمّا قَسَّمَهم إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ، قَسَّمَ القِسْمَ الأخِيرَ إلى قِسْمَيْنِ فَقالَ: ﴿ومِنهُمْ﴾ أيِ المُكَذِّبِينَ ﴿مَن﴾ ولَمّا كانَ المُسْتَمِعُ إلَيْهِ أكْثَرَ لِأنَّهم أشْهى النّاسِ إلى تَعَرُّفِ حالِهِ، وكانَ طَرِيقُ ذَلِكَ السَّمْعَ والبَصَرَ، وكانَ تَحْدِيقُ [العَيْنِ] إلَيْهِ لا يَخْفى، فَكانَ أكْثَرُهم يَتْرُكُهُ إظْهارًا لِبُغْضِهِ وخَوْفًا مِن إنْكارِ مَن يَراهُ عَلَيْهِ، وكانَ إلْقاءُ السَّمْعِ بِغايَةِ الجُهْدِ يُمْكِنُ إخْفاؤُهُ بِخِلافِ الإبْصارِ، عَبَّرَ هُنا بِالِافْتِعالِ، وجَمَعَ دالًّا عَلى كَثْرَتِهِمْ نَظَرًا إلى مَعْنى ”مَن“ وأفْرَدَ في النَّظَرِ اعْتِبارًا لِلَفْظِها ودالًّا عَلى قِلَّةِ النّاظِرِ بِما ذُكِرَ فَقالَ: ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ وضَمَّنَ الِاسْتِماعَ الإصْغاءَ لِيُؤَدِّيَ مُؤَدّى الفِعْلَيْنِ، ودَلَّ عَلى الإصْغاءِ بِصِلَتِهِ مُعَلَّقَةً بِحالٍ انْتُزِعَتْ مِنهُ فَكَأنَّهُ قالَ: مُصْغِينَ ﴿إلَيْكَ﴾ أيْ: عِنْدَ قِراءَةِ القُرْآنِ وبَيانِهِ بِالسُّنَّةِ، ولَكِنَّهم وإنْ كانُوا قِسْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلى الِاسْتِماعِ والنَّظَرِ فَهم (p-١٢٨)قِسْمٌ واحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الضَّلالِ، فَكانَ تَعْقِيبُ ذَلِكَ بِحَشْرِهِمْ بَعْدَ قَصْرِ الهِدايَةِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ كَذِكْرِ حَشْرِهِمْ فِيما مَضى بَعْدَ تَقْسِيمِهِمْ إلى قِسْمَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥] ولَمّا كانَ ﷺ يُرِيدُ - بِإسْماعِهِ لَهم ما أنْزَلَ اللَّهُ - هِدايَتَهم بِهِ، سَبَّبَ عَنِ اسْتِماعِهِمْ إنْكارَ إسْماعِهِمُ الإسْماعَ المُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الهُدى فَقالَ: ﴿أفَأنْتَ﴾ أيْ: وحْدَكَ ﴿تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ أيْ: في آذانِ قُلُوبِهِمْ لِأنَّهم يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وقَدْ خَتَمَ عَلى أسْماعِهِمْ فَهم لا يَنْتَفِعُونَ بِاسْتِماعِهِمْ لِأنَّهم يَطْلُبُونَ السَّمْعَ لِلرَّدِّ لا لِلْفَهْمِ؛ والسَّمْعُ: إدْراكُ الشَّيْءِ بِما يَكُونُ بِهِ مَسْمُوعًا، فَكانُوا بِعَدَمِ انْتِفاعِهِمْ كَأنَّهم [هُمْ] مَجانِينُ، لِأنَّ الأصَمَّ العاقِلَ رُبَّما فَهِمَ بِالتَّفَرُّسِ في تَحْرِيكِ الشِّفاهِ وغَيْرِها فَلِذا قالَ: ﴿ولَوْ كانُوا﴾ أيْ: جِبِلَّةً وطَبْعًا ﴿لا يَعْقِلُونَ﴾ أيْ: لا يَتَجَدَّدُ لَهم عَقْلٌ أصْلًا فَصارُوا بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ إسْماعُهم لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ إلّا بِسَماعِ الصَّوْتِ الدّالِّ عَلى المَعْنى [وبِفَهْمِ المَعْنى]، والمانِعُ مِنَ الأوَّلِ الصَّمَمُ، ومِنَ الثّانِي عَدَمُ العَقْلِ، فَصارُوا شَرًّا مِنَ البَهائِمِ؛ لِأنَّها -وإنْ كانَتْ لا تَعْقِلُ- فَهي تَسْمَعُ، والأصَمُّ: المُنْسَدُّ السَّمْعِ بِما يَمْنَعُ مِن إدْراكِ الصَّوْتِ ﴿ومِنهم مَن يَنْظُرُ﴾ مُحَدِّقًا أوْ رامِيًا بِبَصَرِهِ مِن بَعِيدٍ ﴿إلَيْكَ﴾ فَهو مِنَ التَّضْمِينِ كَما سَبَقَ في ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ نُقِلَ عَنِ التَّفْتازانِيِّ أنَّهُ قالَ في حاشِيَةِ الكَشّافِ: وحَقِيقَةُ التَّضْمِينِ أنْ يُقْصَدَ بِالفِعْلِ مَعْناهُ الحَقِيقِيُّ مَعَ فِعْلٍ آخَرَ يُناسِبُهُ (p-١٢٩)وهُوَ كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ، وذَلِكَ مَعَ حَذْفِ حالٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الفِعْلِ الآخَرِ بِمَعُونَةِ القَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ، ويَتَعَيَّنُ جَعْلُ الفِعْلِ المَذْكُورِ أصْلًا والمَذْكُورِ حالُهُ تَبَعًا، لِأنَّ حَذْفَهُ والدَّلالَةَ عَلَيْهِ بِصِلَتِهِ يَدُلُّ عَلى اعْتِبارِهِ في الجُمْلَةِ لا عَلى زِيادَةِ القَصْدِ إلَيْهِ، ومِن أمْثِلَتِهِ: أحْمَدُ إلَيْكَ اللَّهَ، أيْ مُنْهِيًا إلَيْكَ حَمْدَهُ، ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى كَذا، أيْ نادِمًا عَلَيْهِ، ﴿ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف: ٢٨] أيْ: مُجاوِزَتَيْنِ عَنْهم إلى غَيْرِهِمْ، ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] ضامِّيها - ﴿إلى أمْوالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] ﴿الرَّفَثُ﴾ [البقرة: ١٨٧] -مُفْضِينَ- ﴿إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] ﴿ولا تَعْزِمُوا﴾ [البقرة: ٢٣٥] أيْ: عَلى النِّكاحِ وأنْتُمْ تَنْوُونَ عُقْدَتَهُ و﴿لا يَسَّمَّعُونَ﴾ [الصافات: ٨] - مُصْغِينَ - ﴿إلى المَلإ الأعْلى﴾ [الصافات: ٨] سَمِعَ اللَّهُ - أيْ مُسْتَجِيبًا - لِمَن حَمِدَهُ، ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ﴾ [البقرة: ٢٢٠] - مُمَيِّزًا لَهُ - ﴿مِنَ المُصْلِحِ﴾ [البقرة: ٢٢٠] والَّذِينَ يُؤْلُونَ - مُمْتَنِعِينَ مِن وطْءِ نِسائِهِمْ. ولَمّا كانَ المَعْنى أنَّكَ يا أكْرَمَ الخَلْقِ تُرِيدُ بِنَظَرِ هَذا النّاظِرِ إلَيْكَ أنْ يَنْظُرَ إلى ما تَأْتِي بِهِ مِن باهِرِ الآياتِ فَيَهْتَدِيَ وهو غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِنَظَرِهِ لِما جُعِلَ عَلَيْهِ مِنَ الغِشاوَةِ فَكانَ كالأعْمى الَّذِي زادَ عَلى عَدَمِ بَصَرِهِ عَدَمُ العَقْلِ فَلا بَصَرَ ولا بَصِيرَةَ، قالَ مُنْكِرًا لِذَلِكَ: ﴿أفَأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ﴾ (p-١٣٠)أيْ عُيُونًا وقُلُوبًا ﴿ولَوْ كانُوا﴾ أيْ: بِما جُبِلُوا عَلَيْهِ ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ أيْ: لا يَتَجَدَّدُ لَهم بَصَرٌ ولا بَصِيرَةٌ، فَلا تُمْكِنُ هِدايَتُهُمْ، لِأنَّ هِدايَةَ الطَّرِيقِ الحِسِّيِّ لا تُمْكِنُ إلّا بِالبَصَرِ، وهِدايَةُ الطَّرِيقِ المَعْنَوِيِّ لا تُمْكِنُ إلّا بِالبَصِيرَةِ؛ والنَّظَرُ: طَلَبُ الرُّؤْيَةِ بِتَقْلِيبِ البَصَرِ، ونَظَرُ القَلْبِ طَلَبُ العِلْمِ بِالفِكْرِ؛ والعَمى: آفَةٌ تَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ عَنِ العَيْنِ والقَلْبِ؛ والإبْصارُ: إدْراكُ الشَّيْءِ بِما بِهِ يَكُونُ مُبْصِرًا، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما لَهُ فَعَلَ بِهِمْ هَذا والأمْرُ بِيَدِهِ؟ فَقِيلَ: لِأنَّهُ تامُّ المُلْكِ والمِلْكِ وهو مُتَفَضِّلٌ في جَمِيعِ نِعَمِهِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأحَدٍ شَيْءٌ فَهو لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ، وبَنى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ”إنَّ اللَّهَ“ وأحْسَنُ مِنهُ أنْ يُقالَ: ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: إذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَخَفِّفْ عَنْكَ بَعْضَ ما أنْتَ فِيهِ، فَإنَّكَ لا تَقْدِرُ عَلى إسْماعِهِمْ ولا هِدايَتِهِمْ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ ما هم عَلَيْهِ مِنهم لِاسْتِحْقاقِهِمْ ذَلِكَ لِظُلْمِهِمْ أنْفُسَهُمْ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ المُحِيطَ بِجَمِيعِ الكَمالِ ﴿لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا﴾ وإنْ كانَ هو الَّذِي جَبَلَهم عَلى الشَّرِّ ﴿ولَكِنَّ النّاسَ﴾ أيْ: لِما عِنْدَهم مِن شِدَّةِ الِاضْطِرابِ والتَّقَلُّبِ ﴿أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿يَظْلِمُونَ﴾ بِحَمْلِهِمْ لَها عَلى الشَّرِّ وصَرْفِ قُواهم فِيهِ بِاخْتِيارِهِمْ مَعَ زَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وحَجْبِهِمْ عَمّا جُبِلُوا عَلَيْهِ وإنْ كانَ الكُلُّ بِيَدِهِ سُبْحانَهُ ولا يَكُونُ إلّا بِخَلْقِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب