الباحث القرآني
﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ﴾ أيْ لا يَنْقُصُهم ﴿شَيْئًا﴾ مِمّا نِيطَتْ بِهِ مَصالِحُهم وكَمالاتُهم مِن مَبادِئِ الإدْراكاتِ وأسْبابِ العُلُومِ والإرْشادِ إلى الحَقِّ بِإرْسالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ونَصْبِ الأدِلَّةِ بَلْ يُوَفِّيهِمْ ذَلِكَ فَضْلًا مِنهُ جَلَّ شَأْنُهُ وكَرَمًا ﴿ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ 44﴾ أيْ يَنْقُصُونَ ما يَنْقُصُونَ مِن ذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِعْمالِ مَشاعِرِهِمْ فِيما خُلِقَتْ لَهُ وإعْراضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ وتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ وتَرْكِ النَّظَرِ في الأدِلَّةِ فَشَيْئًا مَفْعُولٌ ثانٍ لِيَظْلِمَ بِناءً عَلى أنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنى يَنْقُصُ كَما قِيلَ أوْ أنَّهُ بِمَعْناهُ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى القَوْلِ بِالتَّضْمِينِ كَما نَقُولُ وإنَّ النَّقْصَ يَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ كَما يَكُونُ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا لِواحِدٍ ولَمْ يُذْكُرْ ثانِيَ مَفْعُولَيِ الثّانِي لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الغَرَضِ بِهِ وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ الأوَّلِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ مَعَ مُراعاةِ الفاصِلَةِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ إلى قَصْرِ المَظْلُومِيَّةِ عَلَيْهِمْ عَلى رَأْيِ مَن لا يَرى التَّقْدِيمَ مُوجِبًا لِلْقَصْرِكابْنِ الأثِيرِ ومَن تَبِعَهُ كَما في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِقَصْرِ المَظْلُومِيَّةِ عَلى رَأْيِ مَن يَرى التَّقْدِيمَ مُوجِبًا لِذَلِكَ كالجُمْهُورِ ومَن تَبِعَهم ولَعَلَّ إيثارَ قَصْرِها عَلى قَصْرِ الظّالِمِيَّةِ عَلَيْهِمْ لِلْمُبالَغَةِ في بُطْلانِ أفْعالِهِمْ وسَخافَةِ عُقُولِهِمْ عَلى أنَّ قَصْرَ الأُولى عَلَيْهِمْ مُسْتَلْزِمٌ كَما قِيلَ لِما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الحالِ مِن قَصْرِ الثّانِيَةِ عَلَيْهِمْ فاكْتُفِيَ بِالقَصْرِ الأوَّلِ عَنِ الثّانِي مَعَ رِعايَةِ ما ذُكِرَ مِنَ الفائِدَةِ
وجَوَّزَ بَعْضُهم كَوْنَ ﴿أنْفُسَهُمْ﴾ تَأْكِيدًا لِلنّاسِ والمَفْعُولُ حِينَئِذٍ مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ بِمَنزِلَةِ ضَمِيرِ الفَصْلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ في قَصْرِ الظّالِمِيَّةِ عَلَيْهِمْ، والتَّعْبِيرُ عَنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِالنَّقْصِ مَعَ كَوْنِهِ تَفْوِيتًا بِالكُلِّيَّةِ لِمُراعاةِ جانِبِ قَرِينِهِ وصِيغَةُ المُضارِعِ لِلِاسْتِمْرارِ نَفْيًا وإثْباتًا أما الثّانِي فَظاهِرٌ وأما الأوَّلُ فَلِأنَّ حَرْفَ النَّفْيِ إذا دَخَلَ عَلى المُضارِعِ يُفِيدُ بِحَسَبِ المَقامِ اسْتِمْرارَ النَّفْيِ لا نَفْيَ الِاسْتِمْرارَ كَما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ
وقِيلَ: المَعْنى إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ بِتَعْذِيبِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ ظُلْما مُسْتَمِرًّا فَإنَّ مُباشَرَتَهُمُ المُسْتَمِرَّةَ لِلسَّيِّئاتِ المُوجِبَةِ لِلتَّعْذِيبِ عَيْنُ ظُلْمِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ فالظُّلْمُ عَلى مَعْناهُ المَشْهُورِ و﴿شَيْئًا﴾ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ والمُضارِعُ المَنفِيُّ لِلِاسْتِقْبالِ والمُثْبَتُ لِلِاسْتِمْرارِ ومَساقُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى الأوَّلِ لِإلْزامِ الحُجَّةِ وعَلى الثّانِي لِلْوَعِيدِ وعَلى الوَجْهَيْنِ هي تَذْيِيلٌ لِما سَبَقَ وجَعَلَها عَلى الأوَّلِ تَذْيِيلًا لِجَمِيعِ التَّكالِيفِ والأقاصِيصِ المَذْكُورَةِ مِن أوَّلِ السُّورَةِ وإنْ كانَ مُتَّجِهًا خِلافَ الظّاهِرِ لا سِيَّما وما بَعْدَ لَيْسَ ابْتِداءٌ مَشْرُوعٌ في قِصَّةِ آخَرِينَ
وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا بِسَلْبِ حَواسِّهِمْ وعُقُولِهِمْ إنْ سَلَبَها لِأنَّهُ تَصَرُّفٌ في خالِصِ مِلْكِهِ ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ بِإفْسادِ ذَلِكَ وصَرْفِهِ لِما لا يَلِيقُ وهي جَوابٌ لِسُؤالٍ نَشَأ مِنَ الآيَةِ السّابِقَةِ والظُّلْمُ فِيها عَلى ظاهِرِهِ أيْضًا واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّ لِلْعَبْدِ كَسْبًا ولَيْسَ مَسْلُوبَ الِاخْتِيارِ بِالكُلِّيَّةِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الجَبْرِيَّةُ والمُخْتارُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ أنَّ نَفْيَ ظُلْمِ النّاسِ عَنْهُ تَعالى شَأْنُهُ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ جَوادٌ حَكِيمٌ يُفِيضُ عَلى القَوابِلِ حَسَبَ اسْتِعْدادِها الأزَلِيِّ الثّابِتِ في العِلْمِ فَما مِن كَمالٍ أوْ نَقْصٍ في العَبْدِ إلّا هو كَمالُهُ أوْ نَقْصُهُ الَّذِي اقْتَضاهُ (p-127)اسْتِعْدادُهُ كَما يُرْشِدُ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وعَلا: ﴿أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ وأنَّ إثْباتَ ظُلْمِ النّاسِ لِأنْفُسِهِمْ بِاعْتِبارِ اقْتِضاءِ اسْتِعْدادِهِمُ الثّابِتِ في العِلْمِ الأزَلِيِّ ما أُفِيضَ عَلَيْهِمْ مِمّا اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّعْذِيبَ
وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ هَذا الِاسْتِعْدادَ غَيْرُ مَجْعُولٍ ضَرُورَةُ أنَّ الجَعْلَ مَسْبُوقٌ بِتَعَلُّقِ القُدْرَةِ المَسْبُوقِ بِتَعَلُّقِ الإرادَةِ المَسْبُوقِ بِتَعَلُّقِ العِلْمِ والِاسْتِعْدادُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ العِلْمُ إلّا وهو مُتَعَلِّقٌ بِهِ بَلْ بِسائِرِ الأشْياءِ أيْضًا لِأنَّ التَّعَلُّقَ بِالمَعْلُومِ مِن ضَرُورِيّاتِ العِلْمِ والتَّعَلُّقُ بِما لا ثُبُوتَ لَهُ أصْلًا مِمّا لا يُعْقَلُ ضَرُورَةَ أنَّهُ نِسْبَةٌ وهي لا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ ثُبُوتِ الطَّرَفَيْنِ ولا يَرُدُّ عَلى هَذا أنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ اسْتِغْناءُ المَوْجُوداتِ عَنِ المُؤَثِّرِ لِأنّا نَقُولُ: إنْ كانَ المُرادُ اسْتِغْناءَها عَنْ ذَلِكَ نَظَرًا إلى الوُجُودِ العِلْمِيِّ القَدِيمِ فالأمْرُ كَذَلِكَ ولا مَحْذُورَ فِيهِ وإنْ كانَ المُرادُ اسْتِغْناءَها عَنْ ذَلِكَ نَظَرًا إلى وُجُودِها الخارِجِيِّ الحادِثِ فَلا نُسَلِّمُ اللُّزُومَ وتَحْقِيقَ ذَلِكَ بِما لِهِ وما عَلَيْهِ في مَحَلِّهِ وفي الآيَةِ عَلى هَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ كَوْنَ أُولَئِكَ المُكَذِّبِينَ كَما وصَفُوا إنَّما نَشَأ عَنِ اقْتِضاءِ اسْتِعْدادِهِمْ لَهُ ولِذَلِكَ ذَمُّوا بِهِ لا عَنْ مَحْضِ تَقْدِيرِهِ عَلَيْهِمْ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ مِنهم طَلَبٌ لَهُ بِاسْتِعْدادِهِمْ ولَعَلَّ تَسْمِيَةَ التَّصَرُّفِ عَلى خِلافِ ما يَقْتَضِيهِ الِاسْتِعْدادُ لَوْ كانَ ظُلْمًا مِن بابِ المَجازِ وتَنْزِيلِ المُقْتَضى مَنزِلَةَ المِلْكِ وإلّا فَحَقِيقَةُ الظُّلْمِ مِمّا لا يَصِحُّ إطْلاقُهُ عَلى تَصَرُّفٍ مِن تَصَرُّفاتِهِ تَعالى كَيْفَ كانَ إذْ لا مِلْكَ حَقِيقَةً لِأحَدٍ سِواهُ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ ووُضِعَ الظّاهِرُ في الجُمْلَةِ الِاسْتِدْراكِيَّةِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِزِيادَةِ التَّعْيِينِ والتَّقْرِيرِ وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِتَخْفِيفِ (لَكِنْ) ورَفْعِ النّاسِ
{"ayah":"إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَیۡـࣰٔا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











