الباحث القرآني

﴿لِنُحْيِيَ بِهِ﴾ أيْ بِما أنْزَلْنا مِنَ الماءِ الطَّهُورِ ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ لَيْسَ فِيها نَباتٌ، وذَلِكَ بِإنْباتِ النَّباتِ بِهِ، والمُرادُ بِالبَلْدَةِ الأرْضُ كَما في قَوْلِهِ: ؎أُنِيخَتْ فَألْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَلِيلٌ بِها الأصْواتُ إلّا بُغامُها وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِها مَعْناها المَعْرُوفُ، وتَنْكِيرُها لِلتَّنْوِيعِ، وتَذْكِيرُ صِفَتِها لِأنَّها بِمَعْنى البَلَدِ، أوْ لِأنَّ ( مَيْتًا ) مِن أمْثِلَةِ المُبالَغَةِ الَّتِي لا تُشْبِهُ المُضارِعَ في الحَرَكاتِ والسَّكَناتِ، وهو يَدُلُّ عَلى الثُّبُوتِ فَأُجْرِيَ مَجْرى الجَوامِدِ، ولامُ ﴿لِنُحْيِيَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ(أنْزَلْنا) وتَعَلُّقُهُ بِـ(طَهُورًا) لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقَرَأ عِيسى وأبُو جَعْفَرٍ (مَيِّتًا) بِالتَّشْدِيدِ، قالَ أبُو حَيّانَ: ورَجَّحَ الجُمْهُورُ التَّخْفِيفَ؛ لِأنَّهُ يُماثِلُ فَعْلًا مِنَ المَصادِرِ فَكَما وُصِفَ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ بِالمَصْدَرِ فَكَذَلِكَ بِما أشْبَهَهُ بِخِلافِ المُشَدَّدِ فَإنَّهُ يُماثِلُ فاعِلًا مِن حَيْثُ قَبُولِهِ لِلتّاءِ إلّا فِيما خَصَّ المُؤَنَّثَ نَحْوُ طامِثٍ. ﴿ونُسْقِيَهُ﴾ أيْ: ذَلِكَ الماءَ الطَّهُورَ، وعِنْدَ جَرَيانِهِ في الأوْدِيَةِ أوِ اجْتِماعِهِ في الحِياضِ والمَناقِعِ والآبارِ ﴿مِمّا خَلَقْنا أنْعامًا وأناسِيَّ كَثِيرًا﴾ أيْ: أهْلَ البَوادِي الَّذِينَ يَعِيشُونَ بِالحَياءِ، ولِذَلِكَ نُكِّرَ الأنْعامُ والأناسِيُّ، فالتَّنْكِيرُ لِلتَّنْوِيعِ. وتَخْصِيصُ هَذا النَّوْعِ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ أهْلَ القُرى والأمْصارِ يُقِيمُونَ بِقُرْبِ الأنْهارِ والمَنابِعِ فَبِهِمْ وبِما لَهم مِنَ الأنْعامِ غُنْيَةٌ عَنْ سَقْيِ السَّماءِ، وسائِرُ الحَيَواناتِ تَبْعُدُ في طَلَبِ الماءِ فَلا يَعُوزُها الشُّرْبُ غالِبًا، ومَساقُ الآياتِ الكَرِيمَةِ - كَما هو لِلدَّلالَةِ عَلى عِظَمِ القُدْرَةِ - كَذَلِكَ هو لِتَعْدادِ أنْواعِ النِّعْمَةِ، فالأنْعامُ حَيْثُ كانَتْ قِنْيَةً لِلْإنْسانِ، وعامَّةُ مَنافِعِهِمْ ومَعايِشِهِمْ مَنُوطَةٌ بِها، قُدِّمَ سَقْيُها عَلى سَقْيِهِمْ، كَما قُدِّمَ عَلَيْها إحْياءُ الأرْضِ فَإنَّهُ سَبَبٌ لِحَياتِها وتَعَيُّشِها، فالتَّقْدِيمُ مِن قَبِيلِ تَقْدِيمِ الأسْبابِ عَلى المُسَبَّباتِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ ما ذُكِرَ عَلى سَقْيِ الأناسِيِّ؛ لِأنَّهم إذا ظَفِرُوا بِما يَكُونُ سَقْيَ أرْضِهِمْ ومَواشِيهِمْ لَمْ يَعْدَمُوا سُقْياهُمْ، وحاصِلُهُ أنَّهُ مِن بابِ تَقْدِيمِ ما هو الأهَمُّ والأصْلُ في بابِ الِامْتِنانِ، وذِكْرُ سَقْيِ الأناسِيِّ عَلى هَذا إرْدافٌ وتَتْمِيمٌ لِلِاسْتِيعابِ، ومِن تَبْعِيضِيَّةٌ أوْ بَيانِيَّةٌ وكَثِيرًا صِفَةٌ لِلْمُتَعاطِفَيْنِ لا عَلى البَدَلِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والأعْمَشُ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ عَنْهُما «ونَسْقِيَهُ» بِفَتْحِ النُّونِ، ورُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وأسْقى وسَقى لُغَتانِ، وقِيلَ: أسْقاهُ بِمَعْنى جَعَلَ السُّقْيا لَهُ وهَيَّأها، ﴿وأناسِيَّ﴾ جَمْعُ إنْسانٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وأصْلُهُ أناسِينَ فَقُلِبَتْ نُونُهُ ياءً وأُدْغِمَتْ فِيما قَبْلَها. وذَهَبَ الفَرّاءُ، والمُبَرِّدُ، والزَّجّاجُ إلى أنَّهُ جَمْعُ إنْسِيٍّ، قالَ في البَحْرِ: والقِياسُ أناسِيَةٌ كَما قالُوا في مَهْلَبِيٍّ مَهالِبَةٌ. وفِي الدُّرِّ المَصُونِ أنَّ فَعالى إنَّما يَكُونُ جَمْعًا لِما فِيهِ ياءٌ مُشَدَّدَةٌ إذا لَمْ يَكُنْ لِلنَّسَبِ كَكُرْسِيٍّ وكَراسِيٍّ، وما فِيهِ ياءُ النَّسَبِ يُجْمَعُ عَلى أفاعِلَةٍ كَأزْرَقِيٍّ وأزارِقَةٍ، وكَوْنُ ياءِ إنْسِيٍّ لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ بَعِيدٌ، فَحَقُّهُ أنْ يُجْمَعَ عَلى أناسِيَةٍ، وقالَ في التَّسْهِيلِ: إنَّهُ أكْثَرِيٌّ، وعَلَيْهِ لا يُرَدُّ ما ذُكِرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب