الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: ٦].
في هذه الآيةِ: بيانٌ لِمَقصَدِ الإسلامِ الأعظَمِ، وهو هِدايةُ الكافرِ ودَلالتُهُ وإرشادُهُ، وليس أسْرَهُ وغُنْمَ مالِه، فيَجِبُ على المُسلِمينَ إبلاغُ الحقِّ، ومَن جاءَ طالبًا للحقِّ مُحِبًّا للسَّماعِ له، لِيَفْهَمَهُ ويَتأمَّلَهُ، فإنّه يُسمَعُ كلامَ اللهِ ويُبيَّنُ له، ولا يُضرَبُ ولا يُحبَسُ ولا يُؤسَرُ، فإنْ قَبِلَ واقتنَعَ وتَشهَّدَ واستسلَمَ للهِ، فهو مُسلِمٌ، وإن لم يَقْبَلْ فيُترَكُ حتّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ ثمَّ يُقاتَلُ، وذلك أنْ يُقالَ له: بَيْنَنا وبينَكَ يومٌ وليلةٌ، أو شهرٌ أو شَهْرانِ أو عامٌ، فلا يُؤخَذُ وقد جاءَ يُرِيدُ سَماعَ كلامِ اللهِ.
وإذا جاءَ الكافرُ المحارِبُ بنفسِهِ قبلَ أنْ يُقْدَرَ عليه وطلَبَ سَماعَ كلامِ اللهِ، فيَجِبُ إسماعُهُ وتَحرُمُ أذيَّتُه، ولو كان قد أصابَ مِن قبلُ دِماءً ومالًا مِن المُسلِمينَ، لأنّه جاءَ طالبًا للحقِّ، وإذا سَمِعَ لا يُكْرَهُ على الإسلامِ مِن لَحْظَتِه، فإنْ أسلَمَ منها، وإلاَّ فيُمْهَلُ حتّى مَأْمَنِهِ ثمَّ يُقاتَلُ.
الفَرْقُ بينَ الأَسِيرِ والمُستجِيرِ:
والشريعةُ تفرِّقُ بينَ مَن أمسَكَ به المُسلِمونَ مِن المُحارِبينَ، أو سلَّمَ نفسَهُ بعدَ حِصارٍ، أو ضَلَّ الطريقَ فدخَلَ إلى المُسلِمينَ خطَأً، فذلك هو الأسيرُ، وأمّا مَن جاءَ مِن المُحارِبينَ مِن تِلْقاءِ نفسِه، ولم يُقْدَرْ عليه مِن قَبْلُ، طالبًا سماعَ كلامِ اللهِ ليَتأمَّلَهُ، فهذا مستجيرٌ، وهو المقصودُ في الآيةِ: ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾.
وهذه الآيةُ في حُكْمِ المستجيرِ مُحْكَمةٌ في قولِ أكثرِ السَّلفِ، كمجاهِدٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٤٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /١٧٥٥).]] والحسَنِ[[«تفسير القرطبي» (١٠ /١١٦).]]، ومنهم: مَن جعَلَها خاصَّةً بتلك الأربعةِ الأشهُرِ التي جعَلَها اللهُ أجَلًا للمُشرِكينَ، وهي أشهُرُ التَّسْيِيرِ ولا يأخُذُ حُكْمَها غيرُها[[«تفسير ابن عطية» (٣ /٩)، و«تفسير القرطبي» (١٠ /١١٦).]]، ومنهم: مَن قال: إنّها منسوخةٌ بقولِه: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، وهو قولُ الضحّاكِ والسُّدِّيِّ[[«تفسير ابن عطية» (٣ /٩)، و«تفسير القرطبي» (١٠ /١١٦).]].
والأظهَرُ: أنّها مُحْكَمةٌ، فإنّ الإجارةَ مِن أحكامِ الشريعةِ المُحْكَمةِ، والقولُ بنَسْخِ هذه الآيةِ معَ ثبوتِ الحُكْمِ في الدِّينِ فيه نظَرٌ.
ويجبُ تعليمُ المستجيرِ الدِّينَ، ويُفهَّمُ إيّاهُ برِفْقٍ ولِينٍ، فإنّ اللهَ ما أرسَلَ أنبياءَهُ إلاَّ بذلك، فإنّما هم رَحْمةٌ لأُمَمِهم، والنبيُّ ﷺ رحمةٌ للعالَمِينَ.
مَن يَملِكُ حقَّ إجارةِ الكافرِ:
والإمامُ وكلُّ أحدٍ مِن المُسلِمينَ له أنْ يُجِيرَ مَن شاءَ، رجُلًا أو امرأةً، وتَجْري إجارتُهُ على الجميعِ، وقد ثبَتَ في «الصَّحيحَيْنِ»، أنّ النبيَّ ﷺ قال: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ، يَسْعى بِها أدْناهُمْ، فَمَن أخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنهُ صَرْفًا ولا عَدْلًا)[[أخرجه البخاري (٧٣٠٠)، ومسلم (١٣٧٠).]].
وهذا لا خلافَ عِندَ العلماءِ فيه، إلاَّ خلافٌ غيرُ معتبَرٍ مخالِفٌ للدليلِ، يقولُ به ابنُ الماجِشونِ وابنُ حَبِيبٍ، حيثُ جعَلا الإجارةَ موقوفةً على نظَرِ الإمامِ.
والصوابُ: أنّ الإجارةَ مُلزِمةٌ مِن كلِّ مسلمٍ على المُسلِمينَ، وجَعْلُها مَنُوطةً بالحاكمِ تضييقٌ لِذِمَّةِ المُسلِمينَ، وتنفيرٌ مِن إقبالِ الكفّارِ على الإسلامِ، والأميرُ لا يُحيطُ بِمَعْرِفةِ وسَطِ البُلْدانِ، فضلًا عن أطرافِها، ولا قُدْرةَ له على معرِفةِ الداخِلينَ إلى الثغورِ، حتّى لو وضَعَ نُوّابًا له على كلِّ ثَغْرٍ، فإنّ الذِّمَّةَ لو أُنيطَتْ بالأميرِ ونائبِهِ، لَما تحقَّقَتْ ذِمَّةٌ للمُسلِمينَ، ولَسُفِكَتْ دماءٌ حقُّها أنْ تُعصَمَ، ولَصَدَّ ذلك عن الإقبالِ على الإسلامِ.
أمانُ المرأةِ والعبدِ، والصبيِّ والذمِّيِّ:
وتُجيرُ المرأةُ كالرَّجُلِ، لظاهرِ الأدلَّةِ، ففي «الصحيحَيْنِ»، قالَتْ أُمُّ هانئٍ للنبيِّ ﷺ يومَ فتْحِ مَكَّةَ: إنّني أجَرْتُ رجُلَيْنِ مِن أحْمائي، فقال ﷺ: (قَدْ أجَرْنا مَن أجَرْتِ يا أُمَّ هانِئٍ)[[أخرجه البخاري (٣٥٧)، ومسلم (٣٣٦).]].
وحكى بعضُ العلماءِ الإجماعَ على ذلك، كابنِ المُنذِرِ[[«الأوسط» لابن المنذر (٦ /٢٧٦)، و«الإجماع» له (ص٦٤).]]، والخطّابيِّ[[«معالم السنن» (٢ /٣٢٠).]]، وغيرِهما، وقولُ ابنِ الماجِشون في خلافِ ذلك شاذٌّ غيرُ مُعتبَرٍ، وقد صحَّ عن عائشةَ رضي الله عنها، أنّها قالتْ: «إنْ كانَتِ المَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلى المُسْلِمِينَ»، رواهُ النسائيُّ والبيهقيُّ[[أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (٨٦٣٠)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٨ /١٩٤).]].
وقد جاء مِن طرُقٍ أنّ زينبَ بنتَ النبيِّ ﷺ امرأةَ أبي العاصِ أجارَتْ زَوْجَها أبا العاصِ بنَ الرَّبيعِ، فأجازَ رسولُ اللهِ ﷺ جِوارَها[[ينظر مثلًا: «مصنف عبد الرزاق» (٩٤٤٠)، و«المعجم الكبير» للطبراني (١٠٤٧)، و«المستدرك» للحاكم (٤ /٤٥)، و«السنن الكبرى» للبيهقي (٩ /٩٥).]].
وأمّا العبدُ، فقد اختُلِفَ في إجارتِهِ، والجمهورُ على صحَّتِها ولو لم يُقاتِلْ، خلافًا لأبي حنيفةَ وأبي يوسُفَ، ما لم يُؤذَنْ له بالقتالِ، والحديثُ في جَرَيانِ الذِّمَّةِ مِن كلِّ مسلمٍ: يَشمَلُ العبدَ وغيرَهُ ممَّن يَصِحُّ جَرَيانُ العَقْدِ منه، ورَوى فُضَيْلُ بنُ زيدٍ ـ وكان غَزا على عهدِ عُمَرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه سَبْعَ غزَواتٍ ـ قال: لمّا رَجَعْنا، تَخَلَّفَ عبدٌ مِن عَبِيدِ المُسلِمينَ، فكتَبَ لهم أمانًا في صَحِيفةٍ، فرَماهُ إليهم، قال: فكَتَبْنا إلى عُمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه، فكتَب عُمَرُ: «إنّ عبدَ المُسلِمينَ مِن المُسلِمينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهم»، فأجاز عمرُ رضي الله عنه أمانَهُ، رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ والبيهقيُّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٣٣٩٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٨ /١٩٤).]].
ومَن نظَرَ في كلامِ فقهاءِ السَّلَفِ صحابةً وتابِعينَ، وجَدَ أنّ عمَلَهُمْ على إمضاءِ أمانِ المرأةِ والعبدِ، وقد قال أبو عُبَيْدٍ القاسمُ: «قد أجازَ المُسلِمونَ أمانَ المَمْلوكِ»[[«الأموال» لأبي عبيد (ص٢٤٢).]].
وقد اختَلَفَ العلماءُ في أمانِ الصبيِّ المميِّزِ، فأجازَهُ الأوزاعيُّ في أحَدِ قولَيْه، ومنَعَه أكثَرُ العلماءِ، وحكاهُ ابنُ المُنذِرِ إجماعًا[[«الأوسط» (٦ /٢٧٨)، و«الإجماع» (ص٦٤).]].
ويدخُلُ في عمومِ إمضاءِ أمانِ المُسلِمينَ كلُّ واحدٍ منهم، ولو مبتدِعًا، فمَن صَحَّتْ صلاتُهُ صحَّ أمانُه، وقد أجازَ الأوزاعيُّ أمانَ الخوارجِ[[أخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (٧٢٧).]].
ولا يُقبَلُ أمانُ الذِّمِّيِّ على المُسلِمينَ، لأنّه ليس منهم، والحديثُ فيهم لا في غيرِهم، قال ﷺ: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ) [[سبق تخريجه.]]، وقال: (يُجِيرُ عَلى المُسْلِمِينَ أدْناهُمْ) [[أخرجه أحمد (٢ /٢١٥)، وابن ماجه (٢٦٨٥).]]، ومَن ليس منهم، ليس مِن أدْناهُم.
والأمانُ يكونُ بالقولِ الصريحِ والكِنايةِ، ويكونُ بالإشارةِ باليَدِ، كالإشارةِ بالإصبَعِ إلى السَّماءِ، فالإشارةُ بالأمانِ أمانٌ، كما قالَهُ مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما.
ويَصِحُّ الأمانُ بكلِّ لِسانٍ يَفهَمُهُ السامعُ على أنّه أمانٌ، فقد صحَّ عن أبي وائلٍ، قال: «أتانا كِتابُ عُمَرَ ونَحْنُ بِخانِقِينَ: إذا قالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: لا تَدْهَلْ، فَقَدْ أمَّنَهُ، وإذا قالَ: لا تَخَفْ، فَقَدْ أمَّنَهُ، وإذا قالَ: مَتَرْسْ، فَقَدْ أمَّنَهُ، قالَ: اللهُ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ»، رواهُ عبد الرزّاق وابنُ أبي شيبةَ والبيهقي[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٩٤٢٩)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٣٤٠٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩ /٩٦).]].
{"ayah":"وَإِنۡ أَحَدࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمࣱ لَّا یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق