الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ ومَن يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا ۝﴾ [النساء: ٧٤]. في الآيةِ: أمرٌ بالقتالِ للمُخلِصِينَ، بعدَما ذكَرَ حالَ المُنافِقِينَ الذين قصَدُوا شِراءَ الدُّنيا بالدِّينِ، ذكَرَ حالَ الصادِقِينَ المُخاطَبِينَ بالأمرِ، وهم الذين يَشْرُونَ ـ يعني: يَبِيعُونَ ـ الحياةَ الدُّنيا بالآخِرةِ، فالبيعُ يُسمّى شِراءً، والشِّراءُ يُسمّى بَيْعًا، وهما ـ أي: البيعُ والشراءُ ـ مِن الأضدادِ ومِن مشتركِ المَعاني، وفي الحديثِ قال ﷺ: (البَيِّعانِ بِالخِيارِ)[[أخرجه البخاري (٢٠٧٩) (٣/٥٨)، ومسلم (١٥٣٢) (٣/١١٦٤).]]، وغلَبَ استعمالُ الشراءِ للقابِضِ للسِّلْعةِ، والبيعِ للدافِعِ لها، وإنّما جاز حَمْلُ اللفظِ على المعنيَيْنِ، لأنّ كلَّ واحدٍ مِن المُتَبايِعَينِ قابِضٌ ودافعٌ، فالمُشترِي دافِعٌ للمالِ قابِضٌ للسِّلْعةِ، والبائعُ دافِعٌ للسِّلْعةِ قابِضٌ للمالِ، فكلُّ واحدٍ منهما توافَرَ فيه القبضُ والدفعُ معًا. وذكَرَ القتالَ ولم يُطْلِقْهُ، وإنّما قَيَّدَهُ في سبيلِ اللهِ، لأنّ الصِّدْقَ والإخلاصَ هو الذي يكونُ معه بيعُ الدُّنيا وشِراءُ الآخِرةِ، ومعه يكونُ الثَّباتُ ويَنتفي الخوفُ، ويُؤمَرُ صاحِبُهُ بالحذرِ لإقدامِهِ وصِدْقِه، فقد يُقْدِمُ يُرِيدُ الموتَ العاجِلَ ويَغِيبُ عنه تحقيقُ غايةِ الجهادِ، وهي إقامةُ الحقِّ والعدلِ. القتالُ واحتمالُ النصر: ويدُلُّ الأمرُ السابقُ في قولِه تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: ٧١]، وقولُه تعالى: ﴿ومَن يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ﴾: أنّ الأصلَ في الجهادِ: أنّه لا يكونُ فاضلًا إلاَّ مع احتمالِ الأمرَيْنِ، وأنّ القتلَ في سبيلِ اللهِ لا يُطلَبُ لِذاتِهِ إلاَّ مع احتمالِ النصرِ، والنصرُ قد يتحقَّقُ حِسًّا بالتمكينِ، وقد يتحقَّقُ معنًى بالخوفِ والرعبِ والرهبةِ. ولمّا أمَرَ اللهُ بالحَذَرِ، دَلَّ على وجوبِ توافُرِ احتمالِ الغَلَبَةِ والنصرِ في جِهادِ الطَّلَبِ، ولو قَوِيَ احتمالُ القتلِ وغَلَبَ، لأنّ قَصْدَ القتلِ وطلَبَهُ بِذاتِهِ لا يحتاجُ إلى حَذَرٍ، فالمسلِمُ الذي يَرْمي بنفسِهِ بينَ يدَيِ العدوِّ يتحقَّقُ له القتلُ، ولكنْ قد لا تتحقَّقُ له الغَلَبَةُ، لهذا لا يجوزُ القتالُ إلاَّ مع توافُرِ احتمالِ النصرِ، يحكُمُ فيه مَن جَمَعَ عِلمًا بالشرعِ والحالِ واتَّصَفَ بالشجاعةِ، ونقصُ واحدٍ منها يُضعِفُ النظرَ، فتَخْتَلُّ النتيجةُ. ولهذا ذَكَرَ اللهُ الأمرَيْنِ في قولِه: ﴿فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ﴾، ولم يَذكُرِ الهزيمةَ مع احتمالِها، لأنّ المؤمنَ الصادقَ يَثِقُ بموعودِ اللهِ، وهو النصرُ، والهزيمةُ ولو كانتْ محتملةً، فذِكْرُها واستحضارُها يُورِثُ الخوفَ وسُوءَ الظنِّ باللهِ. فضلُ جهادِ الدفعِ وحَدُّهُ: وأمّا جهادُ الدفعِ، فيُدفَعُ العدوُّ عن العِرْضِ والنفسِ والمالِ ولو مع احتمالِ عدمِ النصرِ، ولكنَّه لا يحرُمُ بحالٍ ولو كان الدفعُ عن دِينارٍ واحدٍ، لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: «جاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مالِي؟ قالَ: (فَلا تُعْطِهِ مالَكَ)، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قاتَلَنِي؟ قالَ: (قاتِلْهُ)، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ)، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قالَ: (هُوَ فِي النّارِ)[[سبق تخريجه.]]. ولحديثِ قابوسِ بنِ أبي مُخارِقٍ، عن أبيهِ، عندَ أحمدَ والنَّسائيِّ، بمعناهُ[[سبق تخريجه.]]. ولحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو في «الصحيحَيْنِ» مرفوعًا: (مَن قُتِلَ دُونَ مالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ)[[سبق تخريجه.]]. ولا يحرُمُ جهادُ الدفعِ بحالٍ ولو تيقَّنَ الإنسانُ عدمَ النصرِ، وإنّما الخلافُ في وجوبِهِ واستحبابِهِ وجوازِهِ على صاحِبِهِ بمقدارِ تحقُّقِ ثمرةِ جهادِه، ونوعِ الحقِّ الذي يَدفَعُ عنه ومقدارِه، فمَن يَدْفَعُ عن دِرْهَمٍ يختلِفُ عمَّن يدفعُ عن مالِهِ كلِّه، فمَن ترَكَ دِرْهَمًا أو دراهمَ أو دنانيرَ ضنًّا بنفسِهِ ألاَّ تُقتَلَ بالدفعِ عنها، فلا يَأثَمُ، والأمرُ فاضلٌ ومفضولٌ، ولو دفَعَ وقُتِلَ، فهو شهيدٌ بكلِّ حالٍ، والدفعُ عن العِرْضِ متعيِّنٌ بكلِّ حالٍ، يَختلِفُ عن الدفعِ عن المالِ، لاختِلافِ المَنزِلتَيْنِ. فضلُ المنتصِرِ المقتولِ، وأثرُ الغنيمةِ على النيَّةِ: وفي معنى هذه الآيةِ: ما رواهُ مسلمٌ في «صحيحِه»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (تَضَمَّنَ اللهُ لِمَن خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إلاَّ جِهادًا فِي سَبِيلِي، وإيمانًا بِي، وتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضامِنٌ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أوْ أرْجِعَهُ إلى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنهُ، نائِلًا ما نالَ مِن أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ)[[أخرجه مسلم (١٨٧٦) (٣/١٤٩٥).]]. والمقتولُ المُنتصِرُ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن المنتصِرِ الغانِمِ السالمِ، وتَحتمِلُ الآيةُ فضلَ المقتولِ الصادقِ ولو لم يَنتصِرْ على المنتصِرِ الغانِمِ السالمِ، وكلٌّ له أجرٌ عظيمٌ، ولذا قدَّمَ اللهُ القتلَ في الآيةِ على الغَلَبَةِ، فإنّ الغانمَ المنتصِرَ يَنقُصُ أجرُهُ عن غيرِ الغانمِ، كما ثَبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (ما مِن غازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلاَّ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآْخِرَةِ، ويَبْقى لَهُمُ الثُّلُثُ، وإنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لَهُمْ أجْرُهُمْ) [[أخرجه مسلم (١٩٠٦) (٣/١٥١٤).]]، وهذا غالبٌ لا مُطَّرِدٌ، بمقدارِ تعلُّقِ القلبِ بالغنيمةِ، وهذا في الناسِ كثيرٌ، وربَّما لا يكادُ يَسْلَمُ منه إلاَّ القليلُ، فالغنائمُ مالٌ وسَبْيُ نساءٍ وثمرٌ ولباسٌ، وهذا لا بدَّ أنْ يَعْلَقَ مِن القلبِ منه عالِقةٌ ولو قليلًا، وبمقدارِ ما عَلِقَ يَنقُصُ مِن أجرِ الآخِرةِ، ولكنْ لا يأثَمُ به صاحبُهُ ما دام قاصدًا إعلاءَ كلمةِ اللهِ، لأنّ اللهَ ما أحَلَّ الغنيمةَ وهم يَأْثَمُونَ بها، ولذا قال في الحديثِ السابقِ: (أوْ أرْجِعَهُ إلى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنهُ، نائِلًا ما نالَ مِن أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ)، وهو ظاهرٌ في أنّ الغنيمةَ لا تُلْغِي الأجرَ، ولكنْ قد تُضعِفُهُ، وقد لا تُؤثِّرُ فيه عندَ الكُمَّلِ والأَصْفِياءِ والصِّدِّيقِينَ. فالغنيمةُ إنْ كانتْ هي الدافِعةَ على القتالِ، أثَّرَتِ النيةُ في أصلِ العملِ، ولكنْ لو كان الرجلُ محبًّا للقتالِ في سبيلِ اللهِ، ويرغبُ في الغزوِ، لكنَّه فقيرٌ منشغلٌ بمُؤْنَةِ أهلِه، فوجَدَ مَن يَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ ومؤنةَ أهلِه، فذهَبَ مجاهِدًا، لم يكنْ ذلك مؤثِّرًا في جهادِه، ويَبقى مقدارُ نقصانِ أجرِهِ بمقدارِ ما تعلَّقَ مِن الدُّنيا بقلبِهِ. ولذا قال الإمامُ أحمدُ: «التاجرُ والمستأجِرُ والمُكارِي أجرُهم على قدرِ ما يخلُصُ مِن نيَّتِهم في غزواتِهم، ولا يكونُ مِثلَ مَن جاهَدَ بنفسِهِ ومالِهِ لا يَخلِطُ به غيرَه». وكذا رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، قال: «إذا جَمَعَ أحدُكُمْ على الغزوِ، فعوَّضَهُ اللهُ رزقًا، فلا بأسَ بذلك، وأمّا إنْ أحدُكم إنْ أُعْطِيَ دِرْهمًا غَزا، وإنْ مُنِعَ دِرهمًا مَكَثَ، فلا خيرَ في ذلك». وبنحوِ هذا قال الأوزاعيُّ وغيرُه[[ينظر: «جامع العلوم والحكم» (ت الأرناؤوط) (١/٨٢).]]. وفي الآيةِ تكرَّرَ ذِكرُ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، تأكيدًا على الإخلاصِ والصِّدْقِ في النيَّةِ مع اللهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب