الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ وأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ ومِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ ومَن يَزِغْ مِنهُمْ عَنْ أمْرِنا نُذِقْهُ مِن عَذابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: ١٢].
سخَّر اللهُ لسُلَيْمانَ ما لم يسخِّرْ لأحدٍ مِن بَعْدِه، فقد جعَلَ اللهُ له الرِّيحَ مسخَّرةً بأمرِهِ تَسِيرُ وتَحمِلُ له ما شاءَ إلى ما يُريدُ مِن الأرضِ، وجعَلَ اللهُ له مِن القُدْرةِ ما تَسِيلُ له بعضُ المعادنِ، وهي عَيْنُ القِطْرِ، والمرادُ به النُّحاسُ، كما قاله ابنُ عبّاسٍ وعِكْرِمةُ وقتادةُ وغيرُهم[[«تفسير الطبري» (١٩ /٢٢٨ ـ ٢٢٩)، و«تفسير ابن كثير» (٦ /٤٩٩).]].
الاستعانةُ بالجنِّ:
وفي قولِه تعالى: ﴿ومِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ﴾ تسخيرُ اللهِ الجِنَّ لسليمانَ يَأتَمِرُونَ بأمرِه، ويَنتهُونَ بنَهْيِه، وتوعَّدَهم اللهُ إنْ خالَفُوا أمرَ نبيِّه سليمانَ بالعذابِ، وهو الحَرْقُ.
والجِنُّ كالإنسِ خلَقَهُمُ اللهُ لعبادتِه، ولكنَّ اللهَ جعَلَهُمْ عالَمًا مجهولًا للإنسِ، وجعَلَ الإنسَ عالمًا معلومًا للجنِّ، والأصلُ في تعامُلِ الخَلْقِ فيما بينَهم الإباحةُ، ولكنَّ تعامُلَ الجانِّ مع الإنسانِ تعامُلُ معلومٍ مع مجهولٍ بالنسبةِ للإنسانِ، وتعامُلُ معلومٍ مع معلومٍ بالنسبةِ للجانِّ، وبالنظرِ إلى التعامُلِ بالنسبةِ للإنسانِ، وهو المقصودُ هنا، فإنّ التعامُلَ على نوعَيْنِ:
الـنـوعُ الأولُ: تعامُلٌ عارِضٌ، مِن السؤالِ والجوابِ، وردِّ القولِ والاستنطاقِ عندَ المَسِّ والضُّرِّ، والوعظِ والنُّصْحِ، والترهيبِ والترغيبِ، فذلك جائزٌ، وقد حادَثَ النبيُّ ﷺ الجانَّ، وأَسْمَعَهُمْ كلامَ اللهِ، ووعَظَهم وعلَّمَهم، لأنّه رسولٌ إليهم أُرسِلَ إلى الثَّقَلَيْنِ، ولأنّ النفعَ في ذلك للجانِّ، لا للإنسانِ، فالإنسانُ باذلٌ لا آخِذٌ.
النوعُ الثاني: التعامُلُ الدائمُ، كأنْ يَتخِذَ الإنسانُ جِنِّيًّا أو جِنًّا يُحادِثُهم، ويَستخبِرُهم ويُخبِرونَه، ويستعينُ بهم ويُعِينُونَه، ويَسألُهم ويُعطُونَه، فهذا لا يجوزُ، لأمورٍ:
أولًا: لأنّ الجانَّ مجهولٌ لا يُعرَفُ كفرُهُ مِن إيمانِه، وصِدقُهُ مِن كذبِه، وعِلْمُهُ مِن جهلِه، ومِثلُ هذا التعامُلِ الدائمِ لا يصحُّ أنْ يكونَ مع إنسانٍ هذه حالُه، فكيف بجانٍّ؟! وإنْ أجازَهُ أحدٌ لنفسِهِ مرةً، فإنّه لا يُجِيزُهُ لنفسِه مرّاتٍ، حتى يكونَ تعامُلُهُ معه كتعامُلِ المعروفِ مع المعروفِ مِن الإنسِ.
ثـانيًـا: أنّ خبرَ المجهولِ لا يصحُّ العملُ به، ونقلُهُ مذمومٌ، وكما جاء في الخبرِ: (كَفى بِالمَرْءِ إثْمًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ) [[أخرجه أبو داود (٤٩٩٢).]]، وهذا في أحاديثِ الإنسِ، فكيف بأحاديثِ الجانِّ؟! وغالبُ ما يُحدِّثونَ به مَن يستعينُ بهم هو مِن الغيبيّاتِ والظنيّاتِ التي لا يتمكَّنُ الإنسانُ مِن رؤيةِ حقيقتِها بعَيْنَيْه، وإنّما هي ظنونٌ، وقد يُخبِرُ ببعضِ الحقِّ ليَخدَعَ الإنسانَ فيصدِّقَهُ، ثمَّ يَمزُجُهُ بباطلٍ كثيرٍ، فيَضِلُّ الإنسانُ بالباطلِ الكثيرِ، اغترارًا بالحقِّ القليلِ.
ثـالثًـا: أنّ الجانَّ يُعادِي الإنسانَ، بخلافِ الإنسانِ فإنّه لا يُعادِي الجانَّ، وكثيرٌ منهم شياطينُ مَرَدَةٌ، ومَن كانتْ هذه حالَهُ، كَثُرَتْ شرورُه، وعَظُمَتْ مَخاطِرُه، قال تعالى: ﴿ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يامَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وقالَ أوْلِياؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ١٢٨]، ولهذا كانتِ الإنسُ في الجاهليَّةِ تخافُ الجِنَّ وضَرَّها وشَرَّها، حتى عَبَدَتْها دَفْعًا لِشَرِّها، كما قال تعالى: ﴿وأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: ٦]، وشياطينُ الجانِّ فيهم شرٌّ عظيمٌ على المُسلِمينَ، ولهذا ذكَرَ اللهُ وقوفَ الجانِّ وإعانتَهُمْ للكافِرِينَ على المؤمِنِينَ، وتسليطَهُمْ عليهم، وتَلْقِينَهُمُ الحُجَجَ مِن حيثُ لا يَشعُرونَ، قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ ﴾ [الشعراء: ٢٢١ ـ ٢٢٢].
رابعًا: أنّ الغالبَ أنّ الجانَّ لا يَنفَعُ الإنسانَ إلاَّ بما يَستمتِعُ به منه، فإنْ لم يكنْ له مطلوبٌ في أولِ مرةٍ، فسيكونُ له مطلوبٌ بعدَ ذلك، وقد يَستدرِجُ الإنسانَ في نفعِهِ وإخبارِهِ بالغيبِ، حتى يعلِّقَهُ به ولا يستطيعَ معه الفَكاكَ والاستغناءَ عنه، فيطلُبُ منه الجانُّ ما يُريدُ، ويصبحُ الإنسانُ بينَ أمرَيْنِ عظيمَيْنِ في نفسِه: بينَ أنْ يقدِّمَ للجانِّ ما يُريدُ، أو أنْ يتخلّى عن مُتْعتِهِ العظيمةِ التي أعطاهُ إيّاها واعتادَها، وربَّما آتاهُ اللهُ جاهًا بها عندَ الناسِ، بإخبارٍ عن غيبٍ، أو سيادةٍ، أو منافعَ دنيويَّةٍ كقضاءِ الحاجاتِ ونحوِ ذلك، وأكثَرُ هؤلاءِ يَقَعُونَ في شِراكِ التأويلِ، فيَبدؤونَ ببَذْلِ ما يُريدُهُ الجانُّ منهمْ تأويلًا ثمَّ كفرًا صريحًا، ويَتوهَّمونَ أنّهم متأوِّلونَ، حيثُ أعْمَتْهُم مُتْعَتُهم مِن الجانِّ، ولو زالتْ تلك المتعةُ، لأَبْصَروا ما هم فيه مِن كفرٍ وشِرْكٍ بيِّنٍ صريحٍ.
خـامسًا: أنّ الاستعانةَ الدائمةَ بالجانِّ فتنةٌ لا تَنتهي غالبًا إلى حَدٍّ، فمَن تشَرَّبَها قلَّما يُقلِعُ عنها، ولو رأى ضُرَّها عليه مرةً أو مرتَيْنِ، فإنّه لا يَقدِرُ عليها، فلها فتنةٌ على أصحابِها أشَدُّ مِن فتنةِ إدمانِ الخمرِ والمُسْكِراتِ، وقد ذكَرَ بعضُ مَن أنْجاهُ اللهُ مِن هذا السبيلِ أنّهم كانوا يظُنُّونَ أنفُسَهُمْ يَقدِرُونَ على الرجوعِ مِن أولِ طريقِهم، فاستُدرِجُوا حتى قيَّدَهم الشيطانُ بفتنتِه، ومَن دخَلَ في هذا البابِ بنيَّةٍ صالحةٍ، وأدرَكَ ما هو فيه مِن بلاءٍ، لا يُصوِّرُ نفسَهُ أنّه يَتعاملُ معهم بالشِّرْكِ والكفرِ والمعاصي والشهواتِ، بل يُصوِّرُها للناسِ على أنّها أبوابُ ولايةٍ وكرامةٍ، وعامَّتُهم ليس فيهم عبادةٌ، ولا يَشتهِرونَ بديانةٍ بينَ الناسِ، فلا يَعرِفُهُمُ الناسُ بكثرةِ صلاةٍ ولا بكثرةِ صيامٍ ولا ورَعٍ، بل منهم مَن يُذكَرُ بخلافِ ذلك، ممّا يَقطَعُ معه العارفُ أنّ الجانَّ لم يَخُصَّهُمْ بذلك كَرامةً لهم ولا حبًّا لهم في دِينِ اللهِ.
سادسًا: أنّ القولَ بتجويزِ التعامُلِ الدائمِ مع الجانِّ بابٌ يُفتَحُ للسَّحَرَةِ والكهَنةِ للدخولِ فيه بهذه الذريعةِ، فلا يُعرَفُ الساحرُ والكاهنُ مِن غيرِه، وهذه فتنةٌ عظيمةٌ، وشرٌّ كبيرٌ.
ولا يُنكَرُ أنّ السلفَ يَعرِضُ لهم شيءٌ مِن الكَراماتِ في هذا البابِ، ولكنَّها لم تكنْ لأحدٍ منهم دائمةً وبطلبٍ منه يَتَّبِعُها ويتعاملُ مع قرينِهِ كما يتعاملُ الجانُّ، بل سَمِعْنا منهم مَن يَسمَعُ أصواتًا تُوقِظُهُ للصلاةِ إنْ كان نائمًا، ويسمعُ نداءً يُرْشِدُهُ إنْ كان تائهًا، وهذا عارضٌ، ليس طلبًا وبحثًا منهم عن ذلك، كما يتعاملُ مَن يَقصِدُ الجِنَّ بالسؤالِ والجلوسِ إليهم والخَلْوةِ بهم في البَرِّ والظُّلُماتِ،، فليس هذا مِن هَدْيِهم ولا يُجِيزُونَه.
وهذه الأمورُ كلُّها قد دفَعَها اللهُ عن نبيِّه سُلَيْمانَ، فأَطْلَعَهُ على ما لم يُطلِعْ عليه غيرَهُ مِن أمرِ الجانِّ، وسخَّرَهم له كالعبدِ مع سيِّدِه.
{"ayah":"وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ غُدُوُّهَا شَهۡرࣱ وَرَوَاحُهَا شَهۡرࣱۖ وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَیۡنَ ٱلۡقِطۡرِۖ وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن یَعۡمَلُ بَیۡنَ یَدَیۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن یَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ عَذَابِ ٱلسَّعِیرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق