الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿إذْ قالَتِ امْرَأَةُ عِمْرانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ فَلَمّا وضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ ولَيْسَ الذَّكَرُ كالأُنْثى وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٣٥ ـ ٣٦].
ذكَرَ اللهُ نشأةَ عيسى ببيانِ نشأةِ أُمِّهِ، بيانًا لِبُطْلانِ ما يَعْتَقِدُهُ النصارى فيه مِن أنّه ابنٌ للهِ، تعالى اللهُ عن ذلك، وأسلوبُ القرآنِ عندَ ردِّ وإبطالِ عقيدةٍ: أنْ يُبَيِّنَ أصْلَها فيَنقُضَه لِتَنتقِضَ هي تَبَعًا، فالجدالُ في فروعٍ أُصولُها خاطئةٌ لا يُوصلُ إلى حقٍّ، فيزعُمونَ أنّ عيسى ابنٌ للهِ، تعالى اللهُ، وعيسى له أمٌّ، وأُمُّه مريمُ، ومريمُ لها أمٌّ وأبٌ، ولهما أمَّهاتٌ وآباءٌ إلى آدمَ، فمِن أين أتَتْ بُنُوَّتُهُ للهِ؟! ولذا ذكَرَ اللهُ الزوجيَّةَ بينَ امرأةِ عِمرانَ وعمرانَ، فقال: ﴿إذْ قالَتِ امْرَأَةُ عِمْرانَ﴾، إشارةً إلى الأبوَّةِ والأمومةِ لمريمَ، وذكَرَ اللهُ اسمَ مريمَ، ولم يذكُرِ اسمَ أمِّها في القرآنِ، لأنّ نَسَبَ عيسى يَرجِعُ إلى مريمَ ثمَّ أبيها، لا يَرجِعُ إلى أمِّها، والناسُ تُنسَبُ إلى آبائِهم، واسمُ أمِّ مريمَ: حَنَّةُ، على قولِ عِكْرِمةَ وقتادةَ، فعيسى هو ابنُ مريمَ بنتِ عمرانَ، ولا يقالُ: عيسى ابنُ مريمَ بنتِ حَنَّةَ، وإنّما ذُكِرتْ مريمُ، لأنّ عيسى نُسِبَ إليها لعدمِ الأبِ، ولمّا كان لمريمَ أبٌ، تُركَتِ الأمُّ حَنَّةُ، وذُكِرَ الأبُ عِمْرانُ، ولمّا كانت أمُّ مريمَ لا أثَرَ لها في نسبِ عيسى، قال: ﴿امْرَأَةُ عِمْرانَ﴾، وفي الآيةِ أنّ مَن لا يُعرَفُ أبوهُ، لا حَرَجَ أنْ يُنسَبَ إلى أمِّه.
قولُه: ﴿إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾:
المُحرَّرُ هو المُتحرِّرُ مِن كلِّ قيدٍ يَصرِفُهُ عمّا أُرِيدَ له، والمرادُ هنا: الانقطاعُ للكنيسةِ، فيخدُمُها وعُبّادَها لا ينشغلُ بدُنياهُ عن ذلك.
روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، في قولِه: ﴿إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾، قال: للكنيسةِ يخدُمُها.
وبنحوِه قال الشعبيُّ وقتادةُ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ والربيعُ والضحّاكُ[[«تفسير الطبري» (٥/٣٣٣، ٣٣٥).]].
حكمُ النَّذْرِ:
وفي الآيةِ: جوازُ النذرِ واستحبابُهُ للعبادةِ في شريعتِهم، وفي ظاهرِ الآيةِ: أنّ امرأةَ عِمرانَ نذَرَتْ بعدَ حَمْلِها، طمعًا في الولدِ الذَّكَرِ، وقيل: إنّها نذَرَتْ قبلَ حملِها، طمعًا في الذريَّةِ وأنْ يكونَ ذَكَرًا.
وقد جاءَ النهيُ عن النبيِّ ﷺ في النذرِ، وقال: (إنَّهُ لا يَرُدُّ شَيْئًا، ولَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ) [[أخرجه البخاري (٦٦٩٣) (٨/١٤١)، ومسلم (١٦٣٩) (٣/١٢٦١).]]، وإنّما نُهِيَ عن النذرِ، لأنّ الناذرَ يُلزِمُ نفسَهُ بعملٍ صالحٍ إذا رزَقَهُ اللهُ نِعْمَةً، أو كشَفَ عنه نِقْمَةً، وهذا يَحْمِلُه على إساءةِ الظنِّ بربِّه، فيقعُ في النفسِ أنّ اللهَ لا يُعطِي عَبْدَهُ ويُعافِيهِ إلا إذا تَصَدَّقَ له أو صلّى وزكّى وصام ونَحَرَ وغيرَ ذلك مِن العباداتِ، وهذا يُنافي كمالَ ربوبيَّةِ اللهِ لعبادِهِ ورِزقَهُ للإنسِ والجنِّ وإنْ عصَوْهُ وتكفُّلَهُ برزقِ البهائمِ والذَّرِّ، وحقُّ اللهِ في عبادِه أنْ يعبُدُوه وإنْ حرَمَهم، ولا يعصُوهُ وإنْ وهَبَهم، فالعطاءُ يستوجبُ الشكرَ، والمنعُ يستوجبُ الصبرَ، وكلاهُما يستلزمانِ دوامَ العبادةِ والافتقارِ للهِ.
ويتضمَّنُ النذرُ عجْزَ النفْسِ عن التقرُّبِ للهِ طواعيةً إلا بإلزامِ نفسِها بالنذرِ، وحقُّ اللهِ على عبادِه أنْ يُطاعَ ولا يُعصى، برِضا النفْسِ وتسليمِها.
وإذا احتاج المؤمِنُ إلى النفعِ ودَفْعِ الضُّرِّ فإنه يدْعُو ربَّه ويُلِحُّ في عبادتِه، كحالِ نُوحٍ وإبراهيمَ وأَيُّوبَ وموسى وعيسى ومحمدٍ، مسَّهُمُ الضُّرُّ، وما ذَكَرَ اللهُ أنّهم نذَرُوا، وإنّما صبَرُوا ودعَوْا، كحالِ يُونُسَ وهو في بطنِ الحوتِ، قال: ﴿لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٨٧]، وكحالِ أيوبَ وقد طال مرضُهُ، فقال: إنِّي ﴿...مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ﴾ [الأنبياء: ٨٣ ـ ٨٤].
والنفوسُ الشحيحةُ لا تُخرِجُ مالَها إلا مع كرهٍ وإلزامٍ، والمؤمِنُ يكتفي بدَفْعِ شُحِّهِ بإيمانِهِ بحقِّ ربِّه عليه، ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: ٩، والتغابن: ١٦].
الوفاءُ لنذرِ المعصيةِ والطاعةِ:
ومَن نذَرَ طاعةً، وجَبَ عليه الوفاءُ بنذرِهِ، لقولِهِ ﷺ: (مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) [[أخرجه البخاري (٦٦٩٦) (٨/١٤٢).]]، وقد مدَحَ اللهُ المُوفِينَ بالنذرِ في كتابِهِ، فقال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: ٧]، وقد جاء ذمُّ آخِرِ الزمانِ لكثرةِ النذرِ بلا وفاءٍ فيه، كما في الصحيحِ عن عِمرانَ، قال: قال ﷺ: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُمْ ـ قالَ عِمْرانُ: لا أدْرِي: ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أوْ ثَلاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ ـ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، يَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ) [[أخرجه البخاري (٦٦٩٥) (٨/١٤١)، ومسلم (٢٥٣٥) (٤/١٩٦٤).]].
وفي قوله تعالى: ﴿فَلَمّا وضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ ولَيْسَ الذَّكَرُ كالأُنْثى وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾:
إبطالُ امرأةِ عمرانَ ليمينِها، لأنّ الوفاءَ بها أصبحَ حرامًا، فهي تطمَعُ في ولدٍ ذَكَرٍ، فولَدَتْ أُنثى، والأنثى لا تُقِيمُ في دُورِ العبادةِ، فتعتكِفُ وتنقطِعُ وسَطَ الرجالِ، فتَختلِطُ بهم، والوفاءُ بنذرِ الطاعةِ واجبٌ، وإنّما أبطَلَتْ نَذْرَها، لأنّه لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةِ اللهِ، وسببُ المعصيةِ في وفائِها يظهَرُ في كلامِ السلفِ في أمرَيْنِ:
أولًا: اختلاطُها بالرجالِ، فلا يجوزُ أنْ تُقِيمَ وتُدِيمَ الجلوسَ بينَ الرجالِ الأجانبِ، فروى ابنُ جريرٍ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ، عن عِكْرِمةَ مَوْلى ابنِ عباسٍ، قال: «لا ينبَغي لامرأةٍ أنْ تكونَ مع الرجالِ»[[«تفسير الطبري» (٥/٣٣٨).]].
وعن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ: ﴿قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى﴾، وإنّما كانوا يُحرِّرونَ الغِلْمانَ، قال: ﴿ولَيْسَ الذَّكَرُ كالأُنْثى وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾ [[«تفسير الطبري» (٥/٣٣٧).]].
وقال السُّدِّيُّ: إنّما يُحرَّرُ الغِلْمانُ، يعني: للكنيسةِ[[«تفسير الطبري» (٥/٣٣٨).]].
حكمُ اختلاطِ الرجال بالنِّساءِ:
وفي هذا دليلٌ على حُرْمةِ اختلاطِ الرجالِ بالنساءِ في المَجالِسِ وأماكنِ العملِ الذي يتضمَّنُ قَرارًا، وكذلك مجالسُ التعليمِ، وتحريمُ اختلاطِ الرجالِ بالنِّساءِ في المجالسِ والمجامعِ الدائمةِ ثابتٌ في سائرِ الشرائعِ، وكانتِ النساءُ مِن بني إسرائيلَ يُصَلِّينَ في دُورِ العبادةِ معزولاتٍ عن الرجالِ، فلمّا اسْتَشْرَفْنَ للرِّجالِ، مُنِعْنَ مِن ذلك، كما رُوِيَ عن عائشةَ وابنِ مسعودٍ.
والاختلاطُ على نوعَيْنِ:
الـنوعُ الأولُ: اختلاطٌ عابرٌ، وهو مرورُ النساءِ في الطريقِ والسوقِ، لقضاءِ الحاجاتِ، وصِلَةِ الأرحامِ، والشراءِ والبيعِ، فهذا جائزٌ عندَ الحاجةِ، وقد أذِنَ اللهُ لأمَّهاتِ المؤمنينَ في خروجِهنَّ لحاجاتِهنَّ، وأسقَطَ عن النساءِ صلاةَ الجماعةِ، لفضلِ قَرارِهنَّ في البيوتِ، والواجباتُ لا تسقُطُ إلا لأَجْلِ مقصدٍ عظيمٍ.
النوعُ الثاني: اختلاطٌ دائمٌ، وهو اختلاطُ المَجالِسِ والتعليمِ والعملِ، فهذا محرَّمٌ بالاتِّفاقِ، ولا يُعلَمُ في مذهبٍ عندَ السلفِ والخلفِ إباحتُهُ، وإنّما جَرى في كثيرٍ مِن بُلْدانِ المسلِمِينَ بعدَ زمنِ احتلالِ النصارى لكثيرٍ مِن بلدانِ المسلِمينَ، فاختلَطُوا بهم وطال عليهم الأَمَدُ، فتطبَّعُوا عليه، وإلا فلا يُعرَفُ قبلَ عقودٍ قريبةٍ في مصرَ والشامِ والعراقِ واليمنِ فضلًا عن جزيرةِ العربِ.
وقد بَيَّنْتُ أحكامَ الاختلاطِ في رسالةٍ مستقلةٍ فتُنظَرُ، ويأتي مزيدُ نظرٍ في هذا الاختلاطِ عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿تَعالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦١]، وقولِهِ: ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهُمْ ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ﴾ [الحجرات: ١١]، وقولِهِ تعالى في قصةِ موسى في القَصَصِ: ﴿ووَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ﴾ [القصص: ٢٣]، وفي قولِهِ في هودٍ: ﴿وامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾ [هود: ٧١]، وفي قولِه في طه والقصصِ: ﴿فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ [طه: ١٠]، ﴿قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ [القصص: ٢٩]، وتقدَّمَ الإشارةُ إلى ذلك في قولِه: ﴿فَرَجُلٌ وامْرَأَتانِ مِمَن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
ثانيًا: أنّ المرأةَ تحيضُ ولا تَجِدُ دومًا ما تَسْتَثْفِرُ وتتحفَّظُ به، فيتنجَّسُ المسجدُ إذا أدامَتِ الاعتكافَ فيه بلا انقطاعٍ، وبهذا قال قتادةُ والربيعُ وعِكْرِمةُ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٥/٣٣٧ ـ ٣٣٨).]].
وفي الحديثِ: دليلٌ على فضلِ المساجدِ وصيانتِها وتَطْيِيبِها، فعن عائشةَ، قالتْ: «أمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ ببناءِ المساجدِ في الدُّورِ، وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ»[[أخرجه أبو داود (٤٥٥) (١/١٢٤)، والترمذي (٥٩٤) (٢/٤٩٠).]].
مرورُ الحائضِ في المسجدِ:
ويجوزُ للحائضِ العُبُورُ للحاجةِ في المسجدِ إذا أمِنَتِ التنجيسَ، قياسًا على الجُنُبِ: ﴿ولا جُنُبًا إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ﴾ [النساء: ٤٣]، قال به الشافعيُّ وأحمدُ في المشهورِ عنه، وهذا على القولِ بأنّ المرادَ بما يَجْتَنِبُهُ الجُنُبُ هو مَوْضِعُ الصلاةِ.
ومنهم مَن قال: المنعُ لقُرْبِ الصلاةِ، لا موضعِها.
وهما قولانِ للمُفسِّرينَ مِن السلفِ، ويأتي بيانُه في سورةِ النساءِ بإذن الله.
ومنَعَ مِن المرورِ الحنفيَّةُ، لأنّ الحيضَ أشدُّ مِن الجنابةِ، فلا يرَوْنَهُ يُقاسُ عليه.
مكثُ الحائضِ في المسجِدِ:
وأمّا مُكْثُ الحائضِ في المسجدِ، فقد اختَلَفَ فيه العلماءُ على قولينِ:
الأولُ: المنعُ، وهو قولُ الأكثرِ، وهو الأَشْهَرُ، ومَن منَعَ مِن العبورِ فيَمنَعُ مِن المُكْثِ مِن بابِ أوْلى.
الثاني: الجوازُ عندَ أمْنِ تنجيسِ المسجدِ، وذلك لأنّ النبيَّ ﷺ قال لعائشةَ لمّا حاضَتْ في حجِّها: (اصْنَعِي ما يَصْنَعُ الحاجُّ، غَيْرَ أنْ لا تَطُوفِي بِالبَيْتِ) [[أخرجه أبو داود (١٧٨٦) (٢/١٥٥).]]، وظاهرُ الحديثِ: أنّ لها أنْ تدخُلَ البيتَ بلا طوافٍ، فلم يمنَعْها مِن دخولِه، وخَصَّ المنعَ بالطوافِ.
ولأنّ المسلمَ لا ينجُسُ كما في الحديثِ، ومنعُ الجُنُبِ توقيفيٌّ، وأمّا الحائضُ فنجاستُها في حيضِها، فإنْ تحفَّظَتْ واسْتَثْفَرَتْ وأَمِنَتْ مِن تنجيسِ المسجدِ، جازَ مُكْثُها فيه.
وبهذا قال مالكٌ في قولٍ، وأحمدُ في روايةٍ، والمزنيُّ وابنُ المُنذِرِ وغيرُهم.
وأمّا حديثُ: (لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحائِضٍ ولا جُنُبٍ) [[أخرجه أبو داود (٢٣٢) (١/٦٠).]]، فقد رواهُ أبو داودَ، مِن حديثِ جَسْرَةَ بِنْتِ دجاجَةَ، عن عائشةَ، ولا يصحُّ، أنْكَرَهُ أحمدُ والبخاريُّ والبيهقيُّ وغيرُهم.
وفي «الصحيحِ»، عن عائشةَ: أنّ وليدةً كانت سوداءَ لحيٍّ مِن العربِ، فأَعْتَقُوها فأسلَمتْ، قالتْ عائشةُ: «فكان لها خِباءٌ في المسجدِ أو حِفْشٌ»[[أخرجه البخاري (٤٣٩) (١/٩٥).]].
ولم يُذكَرْ منعُها أو سؤالُها عن حالِها، وحيضُ النساءِ أطولُ زمنًا مِن الجنابةِ، فهو بالأيامِ، والجنابةُ عارضةٌ تُرفَعُ بالاختيارِ، ويجبُ رفعُها عندَ دخولِ الصلاةِ، بخلافِ الحيضِ، فهو باقٍ لا يَنْزِلُ ولا يُرفَعُ بالاختيارِ، فالحاجةُ لبيانِ حكمِ دخولِ الحائضِ ومُكثِها في المسجدِ ظاهرةٌ، كالجنابةِ أو قريبًا منها، ولكنْ غشيانُ الرجالِ للمساجدِ أكثرُ مِن النساءِ، والمرأةُ لا تَقْصِدُ المسجدَ عادةً إلا لصلاةٍ، والصلاةُ مرفوعةٌ عن الحائض، ولا تَبِيتُ فيه كالرِّجالِ، ولكنْ قد تقصدُهُ لغيرِ صلاةٍ كنظافتِه وتَطْيِيبِهِ، فقد كان لمسجدِ رسولِ اللهِ ﷺ امرأةٌ سوداءُ تَقُمُّ المسجدَ، كما في «الصحيحينِ»[[أخرجه البخاري (٤٦٠) (١/٩٩)، ومسلم (٩٥٦) (٢/٦٥٩).]].
واحتجَّ المانِعونَ والمُجِيزونَ بما روَتْهُ عائشةُ، قالتْ: قال لي رسولُ اللهِ ﷺ: (ناوِلِينِي الخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ)، قالتْ: فقلتُ: إنِّي حائضٌ! فقال: (إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ) [[أخرجه مسلم (٢٩٨) (١/٢٤٤).]].
فمَن أخَذَ منه التحريمَ، قال: إنّ النبيَّ ﷺ أقَرَّها على منعِ دخولِها، لعِلمِها به مِن قبلُ، ولكنَّه أذِنَ لها في التناوُلِ لا المُكْثِ.
ومَن استدَلَّ بالجوازِ أخَذَه مِن قولِه: (إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ) على مَعْنَيَيْهِ: إمّا أنّكِ لا تَملِكِينَ حيضَكِ، فهو مِن اللهِ فلا يَمْنَعُكِ شيئًا، وإمّا أنّ الحيضَ في الفَرْجِ لا في اليدِ، قالوا: ويَظهَرُ مِن كِلا المعنيَيْنِ الإذنُ في الدخولِ، ولم يُقيَّدْ بزمنٍ، ولا حالِ ما أُمِنَ تنجيسُ المكانِ.
وقد روى أبو حفصٍ وابنُ بَطَّةَ، مِن حديثِ عبدِ الرزّاقِ، حدَّثَنا الثوريُّ، عنِ المِقْدامِ بنِ شُرَيْحٍ، عن أبيهِ، عن عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ: «كُنَّ المُعْتَكِفاتُ إذا حِضْنَ، أمَرَ رَسُولُ اللهِ بِإخْراجِهِنَّ مِنَ المَسْجِدِ، وأَنْ يَضْرِبْنَ الأَخْبِيَةَ فِي رَحْبَةِ المَسْجِدِ، حَتّى يَطْهُرْنَ»[[أورده ابن قدامة في «المغني» (٣/٢٠٦)، وابن مفلح في «الفروع» (٥/١٦٧).]].
وهذا الخبرُ لا أعلَمُهُ إلا في كتُبِ الأصحابِ من الحنابلةِ، وجوَّدَ إسنادَهُ ابنُ مُفْلِحٍ، ولا أعلَمُهُ يُروى إلا مِن حديثِ عبدِ الرزّاقِ تفرَّدَ به عن الثوريِّ.
وقد حُمِلَ هذا على حفظِ المسجدِ مِن التنجيسِ، لانعدامِ ما يَتوقّى به نساءُ ذلك الزمنِ، ولأنّ الحيضَ يطولُ فيصعُبُ الاحترازُ مِن تنجيسِ المسجدِ به.
وأمَرَ النبيُّ ﷺ النساءَ الحُيَّضَ أنْ يَعْتَزِلْنَ مُصلّى العيدِ، فذلك حتى لا يقطَعْنَ صفوفَ صلاةِ النساءِ، ولم يكونوا يُصَلُّونَ في مسجدٍ، وإنّما كانت صلاتُهم في فَلاةٍ.
وأمّا عَرَقُ الجُنُبِ والحائضِ، فلا خلافَ في طهارتِهِ، ويأتي مزيدُ بيانٍ في المسألةِ في سورةِ النساءِ، في قولِهِ تعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى﴾ الآيةَ [٤٣].
زمنُ تسميةِ المولودِ:
وفي قولِهِ: ﴿وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾: تسميةُ المولودِ عندَ ولادتِهِ فيما يَظهَرُ، وذلك أنّها سمَّتْهُ عندَما عرَفتْ جنسَهُ ذَكَرًا أم أنثى، وقرينةُ تأكيدِ ذلك قولُها: ﴿وإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ﴾، فسمَّتْها وعوَّذَتْها، والتعويذُ يكونُ في أولِ الولادةِ غالبًا.
وقد كان النبيُّ ﷺ يُسمِّي المولودَ عندَ تحنيكِهِ، كما ثبَتَ في «الصحيحِ»، عن أنسٍ وغيرِهِ، وقد سمّى ولدَهُ إبراهيمَ يومَ ولادتِه، كما في «صحيحِ مسلمٍ»، قال رسولُ اللهِ ﷺ: (وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبي إبْراهِيمَ) [[أخرجه مسلم (٢٣١٥) (٤/ ١٨٠٧).]].
والتسميةُ قبلَ الولادةِ لا بأسَ بها، عندَ معرفةِ جنسِ المولودِ، أو يُسمِّيهِ إنْ كان ذَكَرًا ففلانٌ، وإن كانت أنثى ففلانةُ، وقد بَشَّرَ اللهُ مريمَ بعيسى، وسمّاهُ لها قبلَ ولادتِهِ، قال تعالى: ﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٥].
وفي بشارةِ اللهِ لزكريّا بولدِه وتسميتِه له يَحْيى قبلَ حَمْلِ أمِّه به: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى﴾ [آل عمران: ٣٩].
وقد بشَّرَ اللهُ إبراهيمَ وزَوْجَهُ بابنِهما، وسمّاهُ إسحاقَ، وبابنِ الابنِ قبلَ ولادةِ الابنِ، وسمّاهُ يعقوبَ، قال اللهُ: ﴿فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: ٧١].
وقد جاء في «المسنَدِ»، مِن حديثِ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ، وأَبانَ العَطّارِ، كلاهُما عن قتادةَ، عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: (كلُّ غُلامٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سابِعِهِ، ويُحْلَقُ رَأْسُهُ، ويُسَمّى) [[أخرجه أحمد (٢٠١٣٩) (٥/ ٧).]].
ورواهُ همامٌ، عن قتادةَ، به، لكنْ قال: «ويُدَمّى»، بدلًا مِن «ويُسمّى»، أخرَجَهُ أبو داودَ، وقال: وهِمَ همامٌ، وليس يُؤخَذُ بهذا[[أخرجه أبو داود (٢٨٣٧) (٣ / ١٠٦).]].
وحديثُ سَمُرَةَ ليس بصريحٍ في أنّ التسميةَ تكونُ في السابعِ، وإنّما هو صريحٌ في العقيقةِ، وما في «الصحيحينِ» أصرَحُ وأصحُّ.
وفي تعويذِ امرأةِ عِمْرانَ: استحبابُ الدعاءِ للأحفادِ مع الأولادِ قبلَ مجيءِ الأولادِ.
{"ayahs_start":35,"ayahs":["إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَ ٰنَ رَبِّ إِنِّی نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِی بَطۡنِی مُحَرَّرࣰا فَتَقَبَّلۡ مِنِّیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ","فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّی وَضَعۡتُهَاۤ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّی سَمَّیۡتُهَا مَرۡیَمَ وَإِنِّیۤ أُعِیذُهَا بِكَ وَذُرِّیَّتَهَا مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ ٱلرَّجِیمِ"],"ayah":"إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَ ٰنَ رَبِّ إِنِّی نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِی بَطۡنِی مُحَرَّرࣰا فَتَقَبَّلۡ مِنِّیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق