الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾
الأذانُ في اللُّغَةِ: الإعْلامُ: ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ﴾ وقَوْلُ الحارْثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
؎آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسْماءُ رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنهُ الثَّواءُ
والحَجُّ في اللُّغَةِ: القَصْدُ وكَثْرَةُ الِاخْتِلافِ والتَّرَدُّدِ، تَقُولُ العَرَبُ: حَجَّ بَنُو فُلانٍ فُلانًا: إذا قَصَدُوهُ وأطالُوا الِاخْتِلافَ إلَيْهِ والتَّرَدُّدَ عَلَيْهِ. ومِنهُ قَوْلُ المُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ:
؎ألَمْ تَعْلَمِي يا أُمَّ أسْعَدَ أنَّما ∗∗∗ تَخاطَأنِي رَيْبُ المَنُونِ لِأكْبَرا
؎(p-٢٩٩)وَأشْهَدُ مَن عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ∗∗∗ يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقانِ المُزَعْفَرا
قَوْلُهُ: يَحُجُّونَ، يَعْنِي: يُكْثِرُونَ قَصْدَهُ والِاخْتِلافَ إلَيْهِ والتَّرَدُّدَ عَلَيْهِ. والسِّبُّ بِالكَسْرِ: العِمامَةُ. وعَنى بِكَوْنِهِمْ يَحُجُّونَ عِمامَتَهُ: أنَّهم يَحُجُّونَهُ، فَكَنّى عَنْهُ بِالعِمامَةِ.
والرِّجالُ في الآيَةِ: جَمْعُ راجِلٍ، وهو الماشِي عَلى رِجْلَيْهِ، والضّامِرُ: البَعِيرُ ونَحْوُهُ، المَهْزُولُ الَّذِي أتْعَبَهُ السَّفَرُ. وقَوْلُهُ ”يَأْتِينَ“ يَعْنِي: الضَّوامِرَ المُعَبَّرَ عَنْها بِلَفْظِ: كُلِّ ضامِرٍ؛ لِأنَّهُ في مَعْنى: وعَلى ضَوامِرَ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ لِأنَّ لَفْظَةَ ”كُلِّ“ صِيغَةُ عُمُومٍ، يَشْمَلُ ضَوامِرَ كَثِيرَةً، والفَجُّ: الطَّرِيقُ، وجَمْعُهُ: فِجاجٌ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا فِيها فِجاجًا سُبُلًا لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣١] والعَمِيقُ: البَعِيدُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎إذا الخَيْلُ جاءَتْ مِن فِجاجٍ عَمِيقَةٍ ∗∗∗ يَمُدُّ بِها في السَّيْرِ أشْعَثُ شاحِبُ
وَأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ العُمْقُ في البُعْدِ سُفْلًا، تَقُولُ: بِئْرٌ عَمِيقَةٌ؛ أيْ: بَعِيدَةُ القَعْرِ، والخِطابُ في قَوْلِهِ: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧] لِإبْراهِيمَ كَما هو ظاهِرٌ مِنَ السِّياقِ. وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّ الخِطابَ لِنَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى إبْراهِيمَ وسَلَّمَ، ومِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ الحَسَنُ، ومالَ إلَيْهِ القُرْطُبِيُّ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾؛ أيْ: وأمَرْنا إبْراهِيمَ أنْ أذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ؛ أيْ: أعْلِمْهم، ونادِ فِيهِمْ بِالحَجِّ؛ أيْ: بِأنَّ اللَّهَ أوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَجَّ بَيْتِهِ الحَرامِ.
وَذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّهُ لَمّا أمَرَهُ رَبُّهُ أنْ يُؤَذِّنَ في النّاسِ بِالحَجِّ قالَ: يا رَبِّ، كَيْفَ أُبَلِّغُ النّاسَ وصَوْتِي لا يُنْفِذُهم، فَقالَ: نادِ وعَلَيْنا البَلاغُ، فَقامَ عَلى مَقامِهِ. وقِيلَ: عَلى الحَجَرِ. وقِيلَ: عَلى الصَّفا. وقِيلَ: عَلى أبِي قُبَيْسٍ، وقالَ: يا أيُّها النّاسُ، إنَّ رَبَّكم قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقالُ: إنَّ الجِبالَ تَواضَعَتْ، حَتّى بَلَغَ الصَّوْتُ أرْجاءَ الأرْضِ وأسْمَعَ مَن في الأرْحامِ والأصْلابِ، وأجابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِن حَجَرٍ ومَدَرٍ وشَجَرٍ، ومَن كَتَبَ اللَّهُ أنَّهُ يَحُجُّ إلى يَوْمِ القِيامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا الكَلامَ: هَذا مَضْمُونُ ما ورَدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وغَيْرِ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ واللَّهُ أعْلَمُ، وأوْرَدَها ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مُطَوَّلَةً. انْتَهى مِنهُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجالًا﴾ مَجْزُومٌ في جَوابِ الطَّلَبِ، وهو عِنْدَ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ (p-٣٠٠)مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، دَلَّ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عَلى الأصَحِّ؛ أيْ: إنْ تُؤَذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ. وإنَّما قالَ ”يَأْتُوكَ“ لِأنَّ المَدْعُوَّ يَتَوَجَّهُ نَحْوَ الدّاعِي، وإنْ كانَ إتْيانُهم في الحَقِيقَةِ لِلْحَجِّ؛ لِأنَّ نِداءَ إبْراهِيمَ لِلْحَجِّ؛ أيْ: يَأْتُوكَ مُلَبِّينَ دَعْوَتَكَ، حاجِّينَ بَيْتَ اللَّهِ الحَرامَ، كَما نادَيْتَهم لِذَلِكَ.
وَعَلى قَوْلِ الحَسَنِ الَّذِي ذُكِرَ عَنْهُ أنَّ الخِطابَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ الحَجِّ، وعَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، فَوُجُوبُ الحَجِّ بِها عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا، كَما أوْضَحْناهُ في سُورَةِ المائِدَةِ، مَعَ أنَّهُ دَلَّتْ آياتٌ أُخَرُ عَلى أنَّ الإيجابَ المَذْكُورَ عَلى لِسانِ إبْراهِيمَ وقَعَ مِثْلُهُ أيْضًا عَلى لِسانِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨] .
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ الآيَةَ. قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن ذَهَبَ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ الحَجَّ ماشِيًا لِمَن قَدَرَ عَلَيْهِ أفْضَلُ مِنَ الحَجِّ راكِبًا؛ لِأنَّهُ قَدَّمَهم في الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلى الِاهْتِمامِ بِهِمْ وقُوَّةِ هِمَمِهِمْ. وقالَ وكِيعٌ، عَنْ أبِي العُمَيْسِ، عَنْ أبِي حَلْحَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما آسى عَلى شَيْءٍ إلّا أنِّي ودِدْتُ أنِّي كُنْتُ حَجَجْتُ ماشِيًا؛ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ ﴿يَأْتُوكَ رِجالًا﴾ .
والَّذِي عَلَيْهِ الأكْثَرُونَ: أنَّ الحَجَّ راكِبًا أفْضَلُ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإنَّهُ حَجَّ راكِبًا مَعَ كَمالِ قُوَّتِهِ ﷺ . انْتَهى مِنهُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: اعْلَمْ أنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ: أنَّ مَنشَأ الخِلافِ في هَذِهِ المَسْألَةِ الَّتِي هي: هَلِ الرُّكُوبُ في الحَجِّ أفْضَلُ أوِ المَشْيُ، ونَظائِرُها - كَوْنُ أفْعالِ النَّبِيِّ ﷺ بِالنَّظَرِ إلى الجِبِلَّةِ والتَّشْرِيعِ ثَلاثَةَ أقْسامٍ:
القِسْمُ الأوَّلُ: هو الفِعْلُ الجِبِلِّيُّ المَحْضُ: أعْنِي الفِعْلَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الجِبِلَّةُ البَشَرِيَّةُ بِطَبِيعَتِها؛ كالقِيامِ، والقُعُودِ، والأكْلِ، والشُّرْبِ، فَإنَّ هَذا لَمْ يُفْعَلْ لِلتَّشْرِيعِ والتَّأسِّي، فَلا يَقُولُ أحَدٌ: أنا أجْلِسُ وأقُومُ تَقَرُّبًا لِلَّهِ واقْتِداءً بِنَبِيِّهِ ﷺ لِأنَّهُ كانَ يَقُومُ ويَجْلِسُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ والتَّأسِّي. وبَعْضُهم يَقُولُ: فِعْلُهُ الجِبِلِّيُّ يَقْتَضِي الجَوازَ، وبَعْضُهم (p-٣٠١)يَقُولُ: يَقْتَضِي النَّدْبَ. والظّاهِرُ ما ذَكَرْنا مِن أنَّهُ لَمْ يُفْعَلْ لِلتَّشْرِيعِ، ولَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلى الجَوازِ.
القِسْمُ الثّانِي: هو الفِعْلُ التَّشْرِيعِيُّ المَحْضُ. وهو الَّذِي فُعِلَ لِأجْلِ التَّأسِّي والتَّشْرِيعِ، كَأفْعالِ الصَّلاةِ وأفْعالِ الحَجِّ مَعَ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَما رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» وقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» .
القِسْمُ الثّالِثُ: وهو المَقْصُودُ هُنا هو الفِعْلُ المُحْتَمِلُ لِلْجِبِلِّيِّ والتَّشْرِيعِيِّ. وضابِطُهُ: أنْ تَكُونَ الجِبِلَّةُ البَشَرِيَّةُ تَقْضِيهِ بِطَبِيعَتِها، ولَكِنَّهُ وقَعَ مُتَعَلِّقًا بِعِبادَةٍ بِأنْ وقَعَ فِيها أوْ في وسِيلَتِها، كالرُّكُوبِ في الحَجِّ، فَإنَّ رُكُوبَهُ ﷺ في حَجِّهِ مُحْتَمِلٌ لِلْجِبِلَّةِ؛ لِأنَّ الجِبِلَّةَ البَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي الرُّكُوبَ، كَما كانَ يَرْكَبُ ﷺ في أسْفارِهِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ بِذَلِكَ الرُّكُوبِ، بَلْ لِاقْتِضاءِ الجِبِلَّةِ إيّاهُ، ومُحْتَمِلٌ لِلشَّرْعِيِّ؛ لِأنَّهُ ﷺ فَعَلَهُ في حالِ تَلَبُّسِهِ بِالحَجِّ، وقالَ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» . ومِن فُرُوعِ هَذِهِ المَسْألَةِ: جِلْسَةُ الِاسْتِراحَةِ في الصَّلاةِ، والرُّجُوعُ مِن صَلاةِ العِيدِ في طَرِيقٍ أُخْرى غَيْرِ الَّتِي ذَهَبَ فِيها إلى صَلاةِ العِيدِ، والضِّجْعَةُ عَلى الشِّقِّ الأيْمَنِ، بَيْنَ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ وصَلاةِ الصُّبْحِ، ودُخُولُ مَكَّةَ مِن كَداءٍ - بِالفَتْحِ والمَدِّ - والخُرُوجُ مِن كُدًى - بِالضَّمِّ والقَصْرِ - والنُّزُولُ بِالمُحَصَّبِ بَعْدَ النَّفْرِ مِن مِنًى، ونَحْوُ ذَلِكَ.
فَفِي كُلِّ هَذِهِ المَسائِلِ خِلافٌ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ؛ لِاحْتِمالِها لِلْجِبِلِّيِّ والتَّشْرِيعِيِّ، وإلى هَذِهِ المَسْألَةِ أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
؎وَفِعْلُهُ المَرْكُوزُ في الجِبِلَّهْ ∗∗∗ كالأكْلِ والشُّرْبِ فَلَيْسَ مِلَّهْ
؎مِن غَيْرِ لَمْحِ الوَصْفِ والَّذِي احْتَمَلْ ∗∗∗ شَرْعًا فَفِيهِ قُلْ تَرَدُّدٌ حَصَلْ
؎فالحَجُّ راكِبًا عَلَيْهِ يَجْرِي ∗∗∗ كَضِجْعَةٍ بَعْدَ صَلاةِ الفَجْرِ
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ: أنَّ الرُّكُوبَ في الحَجِّ أفْضَلُ، إلّا في الطَّوافِ والسَّعْيِ، فالمَشْيُ فِيهِما واجِبٌ.
وَقالَ سَنَدٌ واللَّخْمِيُّ مِنَ المالِكِيَّةِ: إنَّ المَشْيَ أفْضَلُ لِلْمَشَقَّةِ، ورُكُوبُهُ ﷺ جِبِلِّيٌّ لا تَشْرِيعِيٌّ.
وَما ذَكَرْنا عَنْ مالِكٍ مِن أنَّ الرُّكُوبَ في الحَجِّ أفْضَلُ مِنَ المَشْيِ، هو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ وغَيْرُهُما.
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ الصَّحِيحَ في مَذْهَبِنا أنَّ الرُّكُوبَ أفْضَلُ. (p-٣٠٢)قالَ العَبْدَرِيُّ: وبِهِ قالَ أكْثَرُ الفُقَهاءِ، وقالَ داوُدُ: ماشِيًا أفْضَلُ، واحْتَجَّ بِحَدِيثِ عائِشَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِعائِشَةَ: ”وَلَكِنَّها عَلى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أوْ: نَصَبِكِ“» رَواهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ، وفي رِوايَةٍ صَحِيحَةٍ: ”عَلى قَدْرِ عَنائِكِ ونَصَبِكِ“ ورَوى البَيْهَقِيُّ بِإسْنادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما آسِي عَلى شَيْءٍ ما آسِي أنِّي لَمْ أحُجَّ ماشِيًا، وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما نَدِمْتُ عَلى شَيْءٍ فاتَنِي في شَبابِي، إلّا أنِّي لَمْ أحُجَّ ماشِيًا، ولَقَدْ حَجَّ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وعِشْرِينَ حَجَّةً ماشِيًا. وإنَّ النَّجائِبَ لَتُقادُ مَعَهُ، ولَقَدْ قاسَمَ اللَّهَ تَعالى مالَهُ ثَلاثَ مَرّاتٍ، حَتّى كانَ يُعْطِي الخُفَّ، ويُمْسِكُ النَّعْلَ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ، والحَدِيثُ المَرْفُوعُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في فَضْلِ الحَجِّ ماشِيًا: ضَعِيفٌ، وحَدِيثُ عائِشَةَ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ النَّوَوِيُّ يُقَوِّي حُجَّةَ مَن قالَ بِأنَّ المَشْيَ في الحَجِّ أفْضَلُ مِنَ الرُّكُوبِ؛ لِأنَّهُ أكْثَرُ نَصَبًا وعَناءً. ولَفْظُ البُخارِيِّ: ”وَلَكِنَّها عَلى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أوْ نَصَبِكِ“، ولَفْظُ مُسْلِمٍ: ”وَلَكِنَّها عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ“، أوْ قالَ: ”نَفَقَتِكِ“ والنَّصَبُ: التَّعَبُ والمَشَقَّةُ.
* * *
مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ
المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجْماعُ المُسْلِمِينَ عَلى وُجُوبِ الحَجِّ مَرَّةً واحِدَةً في العُمُرِ، وهو إحْدى الدَّعائِمِ الخَمْسِ، الَّتِي بُنِيَ عَلَيْها الإسْلامُ إجْماعًا.
أمّا دَلِيلُ وُجُوبِهِ مِن كِتابِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] .
وَأمّا السُّنَّةُ فالأحادِيثُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، ومِن ذَلِكَ ما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: قالَ: «خَطَبَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ”أيُّها النّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا“، فَقالَ رَجُلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ؟ فَسَكَتَ حَتّى قالَها ثَلاثًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ ولَما اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قالَ: ذَرُونِي ما تَرَكْتُكم، فَإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ، واخْتِلافِهِمْ عَلى أنْبِيائِهِمْ، فَإذا أمَرْتُكم بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ“» . انْتَهى مِنهُ.
وَمَحَلُّ الشّاهِدِ مِن هَذا الحَدِيثِ قَوْلُهُ ﷺ: «أيُّها النّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا»، ونَحْوُهُ أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ، واسْتُدِلَّ بِهَذا الحَدِيثِ عَلى أنَّ الأمْرَ المُجَرَّدَ مِنَ القَرائِنِ لا يَقْتَضِي التَّكْرارَ كَما هو مُقَرَّرٌ في الأُصُولِ.
(p-٣٠٣)والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ إحْدى الدَّعائِمِ الخَمْسِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْها الإسْلامُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إلَهُ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضانَ» هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ.
وَقَدْ ورَدَتْ في فَضْلِ الحَجِّ والتَّرْغِيبِ فِيهِ أحادِيثُ كَثِيرَةٌ: فَمِن ذَلِكَ حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ ؟ قالَ ”إيمانٌ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ ماذا ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ ماذا ؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ“» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيْضًا قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أيْضًا، وعَنْهُ أيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفّارَةٌ لِما بَيْنَهُما، والحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزاءٌ إلّا الجَنَّةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أيْضًا، «وَعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، نَرى الجِهادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفَلا نُجاهِدُ ؟ قالَ: ”لَكِنَّ أفْضَلَ الجِهادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ“» رَواهُ البُخارِيُّ، وعَنْها أيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «ما مِن يَوْمٍ أكْثَرُ مِن أنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النّارِ مِن يَوْمِ عَرَفَةَ، وإنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهِي بِهِمُ المَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: ما أرادَ هَؤُلاءِ» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِهَذا اللَّفْظِ. والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ. وفَضْلُ الحَجِّ وكَوْنُهُ مِنَ الدَّعائِمِ الخَمْسِ مَعْرُوفٌ.
* * *
واعْلَمْ: أنَّ وُجُوبَ الحَجِّ المَذْكُورَ تُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطٌ، وهي: العَقْلُ، والبُلُوغُ، والإسْلامُ، والحُرِّيَّةُ، والِاسْتِطاعَةُ. ولا خِلافَ في ذَلِكَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ، أمّا العَقْلُ فَكَوْنُهُ شَرْطًا في وُجُوبِ كُلِّ تَكْلِيفٍ، واضِحٌ لِأنَّ غَيْرَ العاقِلِ لا يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ بِحالٍ. وأمّا اشْتِراطُ البُلُوغِ فَواضِحٌ؛ لِأنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعٌ عَنْهُ القَلَمُ حَتّى يَحْتَلِمَ، فالبُلُوغُ والعَقْلُ كِلاهُما شَرْطُ وُجُوبٍ، وأمّا الإسْلامُ: فالظّاهِرُ أنَّهُ عَلى القَوْلِ بِأنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَهو شَرْطُ صِحَّةٍ لا شَرْطُ وُجُوبٍ، وعَلى أنَّهم غَيْرُ مُخاطَبِينَ بِها، فَهو شَرْطُ وُجُوبٍ، والأصَحُّ خِطابُ الكُفّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَما أوْضَحْنا أدِلَّتَهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، فَيَكُونُ الإسْلامُ شَرْطَ صِحَّةٍ في حَقِّهِمْ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ عَلى أنَّهُ شَرْطُ وُجُوبٍ، فَهو شَرْطُ صِحَّةٍ أيْضًا؛ لِأنَّ بَعْضَ شُرُوطِ الوُجُوبِ يَكُونُ شَرْطًا في الصِّحَّةِ أيْضًا؛ كالوَقْتِ لِلصَّلاةِ، فَإنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِها وصِحَّتِها أيْضًا، وقَدْ يَكُونُ شَرْطُ الوُجُوبِ لَيْسَ شَرْطًا في الصِّحَّةِ؛ كالبُلُوغِ، والحُرِّيَّةِ، فَإنَّ الصَّبِيَّ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ، مَعَ أنَّهُ يَصِحُّ مِنهُ لَوْ فَعَلَهُ، وكَذَلِكَ العَبْدُ، إلّا أنَّهُ لا يُجْزِئُ عَنْ (p-٣٠٤)حَجَّةِ الإسْلامِ، إلّا إذا كانَ بَعْدَ البُلُوغِ وبَعْدَ الحُرِّيَّةِ. وأمّا الحُرِّيَّةُ: فَهي شَرْطُ وُجُوبٍ، فَلا يَجِبُ الحَجُّ عَلى العَبْدِ، واسْتَدَلَّ العُلَماءُ عَلى عَدَمِ وُجُوبِ الحَجِّ عَلى العَبْدِ بِأمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: إجْماعُ أهْلِ العِلْمِ عَلى ذَلِكَ. ولَكِنَّهُ إذا حَجَّ صَحَّ حَجُّهُ، ولَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الإسْلامِ، فَإنْ عُتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإسْلامِ.
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَلْزَمُهُ الحَجُّ؛ لِأنَّ مَنافِعَهُ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَيْسَ هو مُسْتَطِيعًا. ويَصِحُّ مِنهُ الحَجُّ بِإذْنِ سَيِّدِهِ وبِغَيْرِ إذْنِهِ بِلا خِلافٍ عِنْدَنا. قالَ القاضِي أبُو الطَّيِّبِ: وبِهِ قالَ الفُقَهاءُ كافَّةً، وقالَ داوُدُ: لا يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
الأمْرُ الثّانِي: حَدِيثٌ جاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ وهو أنَّهُ ﷺ جاءَ عَنْهُ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «أيُّما صَبِيٌّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإسْلامِ، وأيُّما عَبْدٌ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإسْلامِ» قالَ ابْنُ حَجَرٍ في التَّلْخِيصِ في هَذا الحَدِيثِ: رَواهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ والإسْماعِيلِيُّ في مُسْنَدِ الأعْمَشِ، والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ وابْنُ حَزْمٍ وصَحَّحَهُ، والخَطِيبُ في التّارِيخِ مِن حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ المِنهالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي ظَبْيانَ عَنْهُ. قالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ، بَلْ خَرَّجَهُ كَذَلِكَ مِن رِوايَةِ ابْنِ أبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ، وقالَ البَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ مُحَمَّدُ بْنُ المِنهالِ، ورَواهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ شُعْبَةَ مَوْقُوفًا.
قُلْتُ: لَكِنْ هو عِنْدَ الإسْماعِيلِيِّ والخَطِيبِ عَنِ الحارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مُتابَعَةً لِمُحَمَّدِ بْنِ المِنهالِ. ويُؤَيِّدُ صِحَّةَ رَفْعِهِ ما رَواهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ: أنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنْ أبِي ظَبْيانَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: احْفَظُوا عَنِّي ولا تَقُولُوا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ فَذَكَرَهُ، وهَذا ظاهِرٌ أنَّهُ أرادَ أنَّهُ مَرْفُوعٌ؛ فَلِذا نَهاهم عَنْ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ. وفي البابِ عَنْ جابِرٍ أخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِلَفْظِ: «لَوْ حَجَّ صَغِيرٌ حَجَّةً لَكانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ إذا بَلَغَ» الحَدِيثَ، وسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وأخْرَجَهُ أبُو داوُدَ في المَراسِيلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ مُرْسَلًا، وفِيهِ راوٍ مُبْهَمٌ. انْتَهى مِنَ التَّلْخِيصِ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ: وأخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ المُقْرِيُّ: ثَنا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ: ثَنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ: ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المِنهالِ: ثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمانَ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي ظَبْيانَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيُّما صَبِيٌّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الحِنْثَ فَعَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرى، وأيُّما أعْرابِيٌّ حَجَّ ثُمَّ هاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرى، وأيُّما عَبْدٌ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرى»، ثُمَّ ساقَ الحَدِيثَ بِسَنَدٍ آخَرَ مَوْقُوفًا عَلى (p-٣٠٥)ابْنِ عَبّاسٍ، وسَكَتَ ولَمْ يُبَيِّنْ هَلِ المَوْقُوفُ أصَحُّ أوِ المَرْفُوعُ ؟ وقالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ في هَذا الحَدِيثِ:
رَواهُ البَيْهَقِيُّ في البابِ الأوَّلِ مِن كِتابِ الحَجِّ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ ؟ ورَواهُ أيْضًا مَوْقُوفًا، ولا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ. ورِوايَةُ المَرْفُوعِ قَوِيَّةٌ، ولا يَضُرُّ تَفَرُّدُ مُحَمَّدِ بْنِ المِنهالِ بِها، فَإنَّهُ ثِقَةٌ مَقْبُولٌ ضابِطٌ. رَوى عَنْهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِما. اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِن كَلامِ ابْنِ حَجَرٍ: أنَّ ابْنَ المِنهالِ تابَعَهُ عَلى رَفْعِ الحَدِيثِ المَذْكُورِ الحارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، فَقَدْ زالَ التَّفَرُّدُ. والظّاهِرُ أنَّ الحارِثَ المَذْكُورَ هو ابْنُ سُرَيْجٍ النَّقّالُ، ولا يُحْتَجُّ بِهِ لِضَعْفِهِ. وبِما ذَكَرْنا تَعَلَمُ أنَّ الحَدِيثَ المَذْكُورَ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجاجِ، ووَجْهُ الدَّلالَةِ مِنهُ عَلى أنَّ الحُرِّيَّةَ شَرْطٌ في وُجُوبِ الحَجِّ أنَّهُ لَوْ حَجَّ وهو مَمْلُوكٌ، ثُمَّ أُعْتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَتْهُ حَجَّةُ الإسْلامِ، فَلَوْ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ في حالِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أجْزَأهُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الإسْلامِ كَما هو ظاهِرٌ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَقالَ أبُو عِيسى التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما نَصُّهُ:
وَقَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ: أنَّ الصَّبِيَّ إذا حَجَّ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَ فَعَلَيْهِ الحَجُّ إذا أدْرَكَ لا تُجْزِئُ عَنْهُ تِلْكَ الحَجَّةُ عَنْ حَجَّةِ الإسْلامِ، وكَذَلِكَ المَمْلُوكُ إذا حَجَّ في رِقِّهِ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ الحَجُّ إذا وجَدَ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا، ولا يُجْزِئُ عَنْهُ ما حَجَّ في حالِ رِقِّهِ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ وإسْحاقَ.
* * *
وَأمّا الِاسْتِطاعَةُ: فَقَدْ نَصَّ تَعالى عَلى اشْتِراطِها في قَوْلِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، ومَعْنى الِاسْتِطاعَةِ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مَعْرُوفٌ، وتَفْسِيرُ الِاسْتِطاعَةِ في الآيَةِ اخْتَلَفَ فِيهِ العُلَماءُ.
فالِاسْتِطاعَةُ في مَشْهُورِ مَذْهَبِ مالِكٍ الَّذِي بِهِ الفَتْوى: هي إمْكانُ الوُصُولِ بِلا مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ زائِدَةٍ عَلى مَشَقَّةِ السَّفَرِ العادِيَّةِ مَعَ الأمْنِ عَلى النَّفْسِ والمالِ، ولا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الزّادُ والرّاحِلَةُ، بَلْ يَجِبُ الحَجُّ عِنْدَهم عَلى القادِرِ عَلى المَشْيِ، إنْ كانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ يُحَصِّلُ مِنها قُوتَهُ في الطَّرِيقِ؛ كالجَمّالِ، والخَرّازِ، والنَّجّارِ، ومَن أشْبَهُهم.
وَقالَ الشَّيْخُ الحَطّابُ في كَلامِهِ عَلى قَوْلِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ: ووَجَبَ بِاسْتِطاعَةٍ بِإمْكانِ الوُصُولِ بِلا مَشَقَّةٍ عَظُمَتْ، وأمْنٍ عَلى نَفْسٍ ومالٍ ما نَصُّهُ: وقالَ مالِكٌ في كِتابِ مُحَمَّدٍ، وفي سَماعِ أشْهَبَ لَمّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] أذَلِكَ الزّادُ والرّاحِلَةُ ؟ قالَ: لا واللَّهِ، ما ذَلِكَ إلّا طاقَةُ النّاسِ، الرَّجُلُ يَجِدُ (p-٣٠٦)الزّادَ والرّاحِلَةَ، ولا يَقْدِرُ عَلى المَسِيرِ، وآخَرُ يَقْدِرُ أن يَمْشِيَ عَلى رِجْلَيْهِ، ولا صِفَةَ في هَذا أبيَنُ مِمّا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، وزادَ في كِتابِ مُحَمَّدٍ: ورُبَّ صَغِيرٍ أجَلَدُ مِن كَبِيرٍ، ونَقَلَ في المُقَدِّماتِ كَلامَ مالِكٍ ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: فَمَن قَدَرَ عَلى الوُصُولِ إلى مَكَّةَ، إمّا راجِلًا بِغَيْرِ كَبِيرِ مَشَقَّةٍ، أوْ راكِبًا بِشِراءٍ أوْ كِراءٍ، فَقَدْ وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ، ونَقَلَهُ في التَّوْضِيحِ. انْتَهى مِنَ الحَطّابِ.
واعْلَمْ أنَّ بَعْضَ المالِكِيَّةِ يَشْتَرِطُونَ في الصَّنْعَةِ المَذْكُورَةِ ألّا تَكُونَ مُزْرِيَةً بِهِ.
واعْلَمْ أنَّ المالِكِيَّةَ اخْتَلَفُوا في الفَقِيرِ الَّذِي عادَتُهُ سُؤالُ النّاسِ في بَلَدِهِ، وعادَةُ النّاسِ إعْطاؤُهُ، وذَلِكَ السُّؤالُ هو الَّذِي مِنهُ عِيشَتُهُ، إذا عَلِمَ أنَّهُ إنْ خَرَجَ حاجًّا وسَألَ، أعْطاهُ النّاسُ ما يَعِيشُ بِهِ كَما كانُوا يُعْطُونَهُ في بَلَدِهِ، هَلْ سُؤالُهُ النّاسَ وإعْطاؤُهم إيّاهُ يَكُونُ بِسَبَبِهِ مُسْتَطِيعًا لِقُدْرَتِهِ عَلى الزّادِ بِذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ بِذَلِكَ، أوْ لا يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؟
فَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ ذَلِكَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الحَجُّ، ولا يُعَدُّ اسْتِطاعَةً، وبِهَذا القَوْلِ جَزَمَ خَلِيلُ بْنُ إسْحاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قالَ في تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِما بِهِ الفَتْوى، وذَلِكَ في قَوْلِهِ فِيما لا تَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِطاعَةُ: لا بِدَيْنٍ أوْ عَطِيَّةٍ أوْ سُؤالٍ مُطْلَقًا.
وَمَعْنى كَلامِهِ أنَّ مَن لَمْ يُمْكِنْهُ الوُصُولُ إلى مَكَّةَ إلّا بِتَحَمُّلِ دَيْنٍ في ذَلِكَ، أوْ قَبُولِ عَطِيَّةٍ مِمَّنْ أعْطاهُ مالًا أوْ سُؤالِ النّاسِ مُطْلَقًا، أنَّهُ لا يُعَدُّ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا، ولا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ، وقَوْلُهُ: أوْ سُؤالٍ مُطْلَقًا يَعْنِي بِالإطْلاقِ، سَواءٌ كانَ السُّؤالُ عادَتَهُ في بَلَدِهِ أوْ لا، وسَواءٌ كانَتْ عادَةُ النّاسِ إعْطاءَهُ أوْ لا، أمّا إذا كانَتْ عادَةُ النّاسِ عَدَمَ إعْطائِهِ، فالحَجُّ حَرامٌ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إلْقاءٌ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ، سَواءٌ كانَ السُّؤالُ عادَتَهُ في بَلَدِهِ أوْ لا، وأمّا إنْ كانَتْ عادَةُ النّاسِ إعْطاءَهُ، ولَمْ يَكُنِ السُّؤالُ عادَتَهُ في بَلَدِهِ، فَلا خِلافَ في أنَّهُ لا يُعَدُّ مُسْتَطِيعًا ولا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ، وأمّا إنْ كانَتْ عادَتُهُ السُّؤالَ في بَلَدِهِ، ومِنهُ عِيشَتُهُ، وعادَةُ النّاسِ إعْطاؤُهُ، فَهو مَحَلُّ الخِلافِ، وقَدْ ذَكَرْنا آنِفًا قَوْلَ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ، ولا يُعَدُّ مُسْتَطِيعًا بِسُؤالِ النّاسِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: أوْ بِسُؤالٍ مُطْلَقًا، وقالَ الشَّيْخُ المَوّاقُ في شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وسُؤالٍ مُطْلَقًا، وقالَ خَلِيلٌ في مَنسِكِهِ: وظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّهُ لا يَجِبُ عَلى مَن عادَتُهُ السُّؤالُ، إذا كانَتِ العادَةُ إعْطاءَهُ، ويُكْرَهُ لَهُ المَسِيرُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ عادَتُهُ السُّؤالَ، أوْ لَمْ تَكُنِ العادَةُ إعْطاءَهُ سَقَطَ الحَجُّ بِالِاتِّفاقِ، وقالَ الشَّيْخُ الحَطّابَ في كَلامِهِ عَلى قَوْلِ خَلِيلٍ: أوْ سُؤالٍ مُطْلَقًا ما نَصُّهُ: وأمّا الصُّورَةُ الرّابِعَةُ: وهي ما إذا كانَتْ عادَتُهُ في بَلَدِهِ السُّؤالَ، ومِنهُ عَيْشُهُ، والعادَةُ إعْطاؤُهُ، فَقالَ المُصَنِّفُ في تَوْضِيحِهِ ومَنسِكِهِ: إنَّ (p-٣٠٧)ظاهِرَ المَذْهَبِ أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ، ويُكْرَهُ لَهُ الخُرُوجُ، وجَزَمَ بِهِ هُنا، وقالَ في الشّامِلِ: إنَّهُ المَشْهُورُ، وأقَرَّ في شُرُوحِهِ كَلامَ المُؤَلِّفِ عَلى إطْلاقِهِ، وكَذَلِكَ البِساطِيُّ والشَّيْخُ زَرُّوقٌ، ولَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ ابْنُ غازِيٍّ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ. وقالَ الحَطّابُ أيْضًا: وذَكَرَ ابْنُ الحاجِبِ القَوْلَيْنِ مِن غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وقَبِلَهُما ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ، والمُصَنِّفُ في التَّوْضِيحِ وابْنُ فَرْجُونٍ، وصاحِبُ الشّامِلِ، ومَن بَعْدَهم، ورَجَّحُوا القَوْلَ بِالسُّقُوطِ، وصَرَّحَ بَعْضُهم بِتَشْهِيرِهِ، وكَذَلِكَ شُرّاحُ المُخْتَصَرِ. اهـ مَحَلَّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَمَعْنى قَوْلِهِ: ورَجَّحُوا القَوْلَ بِالسُّقُوطِ، يَعْنِي: سُقُوطَ وُجُوبِ الحَجِّ عَمَّنْ عادَتُهُ السُّؤالُ والإعْطاءُ.
القَوْلُ الثّانِي مِن قَوْلَيِ المالِكِيَّةِ: أنَّ الفَقِيرَ الَّذِي عادَتُهُ السُّؤالُ في بَلَدِهِ وعادَةُ النّاسِ إعْطاؤُهُ، إذا كانَتْ عادَتُهم إعْطاءَهُ في سَفَرِ الحَجِّ كَما كانُوا يُعْطُونَهُ في بَلَدِهِ، أنَّهُ يُعَدُّ بِذَلِكَ مُسْتَطِيعًا، وأنَّ تَحْصِيلَهُ زادَهُ بِذَلِكَ السُّؤالِ يُعَدُّ اسْتِطاعَةً، وعَلى هَذا القَوْلِ أكْثَرُ المالِكِيَّةِ.
وَقالَ الحَطّابُ في كَلامِهِ عَلى قَوْلِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ: أوْ سُؤالٍ مُطْلَقًا، بَعْدَ أنْ ذَكَرَ القَوْلَ بِأنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ والإعْطاءَ لا يُعَدُّ اسْتِطاعَةً، ولا يَجِبُ بِهِ الحَجُّ، بَلْ يُكْرَهُ الخُرُوجُ في تِلْكَ الحالِ، ما نَصُّهُ:
قُلْتُ: ونُصُوصُ أهْلِ المَذْهَبِ الَّتِي وقَفْتُ عَلَيْها مُصَرِّحَةٌ بِخِلافِ ذَلِكَ، وأنَّ الحَجَّ واجِبٌ عَلى مَن عادَتُهُ السُّؤالُ، إذا كانَتِ العادَةُ إعْطاءَهُ، ثُمَّ سَرَدَ كَثِيرًا مِن نُقُولِ عُلَماءِ المالِكِيَّةِ مُصَرِّحَةً بِوُجُوبِ الحَجِّ عَلَيْهِ، وأهْلُ هَذا القَوْلِ مِن عُلَماءِ المالِكِيَّةِ، وهُمُ الأكْثَرُونَ، وجَّهُوهُ بِأنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى الفَقِيرِ الَّذِي يُباحُ لَهُ السُّؤالُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلى كَسْبِ ما يَعِيشُ بِهِ، وأنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ لَمّا كانَ جائِزًا لَهُ، وصارَ عَيْشُهُ مِنهُ في الحَضَرِ، فَهو بِذَلِكَ السُّؤالِ والإعْطاءِ قادِرٌ عَلى الوُصُولِ إلى مَكَّةَ. قالُوا: ومَن قَدَرَ عَلى ذَلِكَ بِوَجْهٍ جائِزٍ لَزِمَهُ الحَجُّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ مِن قَوْلَيِ المالِكِيَّةِ في هَذِهِ المَسْألَةِ: هو القَوْلُ الأوَّلُ؛ وهو أنَّ الحَجَّ لا يَجِبُ عَلى مَن يَعِيشُ في طَرِيقِهِ بِتَكَفُّفِ النّاسِ، وأنَّ سُؤالَ النّاسِ لا يُعَدُّ اسْتِطاعَةً.
وَمِنَ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿وَلا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ الآيَةَ [التوبة: ٩١]، وقَدْ قَدَّمْنا في هَذا الكِتابِ المُبارَكِ مِرارًا أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ (p-٣٠٨)الألْفاظِ، لا بِخُصُوصِ الأسْبابِ، وبَيَّنّا أدِلَّةَ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِرَفْعِ الحَرَجِ عَنِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ. ولا شَكَّ أنَّ الَّذِي يَتَكَفَّفُ النّاسَ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ داخِلٌ في عُمُومِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ، وقَدْ صَرَّحَ تَعالى بِنَفْيِ الحَرَجِ عَنْهم، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ نَفْيُ الحَرَجِ عَنْهُ في وُجُوبِ الحَجِّ، وهو واضِحٌ، وقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ ابْنُ القاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ المَذْكُورَةِ عَلى ما ذَكَرْنا.
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِن مُتَأخِّرِي عُلَماءِ المالِكِيَّةِ حَمَلُوا قَوْلَ ابْنِ القاسِمِ الَّذِي احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالآيَةِ المَذْكُورَةِ، عَلى مَن لَيْسَ عادَتُهُ السُّؤالَ في بَلَدِهِ، قالُوا: فَلَمْ يَتَناوَلْ قَوْلُهُ مَحَلَّ النِّزاعِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: ظاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ العُمُومُ في جَمِيعِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ، فَتَخْصِيصُها بِمَن لَيْسَ عادَتُهُ السُّؤالَ بِدُونِ دَلِيلٍ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ، لا يَصِحُّ ولا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَخْصِيصُ العامِّ إلّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، سَواءٌ كانَ مِنَ المُخَصِّصاتِ المُتَّصِلَةِ، أوِ المُنْفَصِلَةِ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ هَذا في الجُمْلَةِ ما ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنا شَبّابَةُ، عَنْ ورْقاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ، ولا يَتَزَوَّدُونَ، ويَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإذا قَدِمُوا المَدِينَةَ سَألُوا النّاسَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى﴾ [البقرة: ١٩٧] ورَواهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. انْتَهى مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ في الكَلامِ عَلى هَذا الحَدِيثِ: قالَ المُهْلَّبُ: في هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ أنَّ تَرْكَ السُّؤالِ مِنَ التَّقْوى، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَن لَمْ يَسْألِ النّاسَ إلْحافًا، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى﴾ [البقرة: ١٩٧]؛ أيْ: تَزَوَّدُوا، واتَّقُوا أذى النّاسِ بِسُؤالِكم إيّاهم والإثْمِ في ذَلِكَ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ ظاهِرٌ عَلى حُرْمَةِ خُرُوجِ الإنْسانِ حاجًّا بِلا زادٍ لِيَسْألَ النّاسَ، وظاهِرُها العُمُومُ في كُلِّ حاجٍّ يَسْألُ النّاسَ، فَقِيرًا كانَ أوْ غَنِيًّا، كانَتْ عادَتُهُ السُّؤالَ في بَلَدِهِ أوْ لا، وحَمْلُ النُّصُوصِ عَلى ظَواهِرِها واجِبٌ إلّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، ومِمّا يُؤَيِّدُ هَذا أنَّ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ في كِتابِهِ، بِتَرْكِهِمْ سُؤالَ النّاسِ، كانُوا مَن أفْقَرِ الفُقَراءِ كَما هو مَعْلُومٌ، وقَدْ صَرَّحَ تَعالى بِأنَّهم فُقَراءُ، وأشارَ لِشِدَّةِ فَقْرِهِمْ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهم بِسِيماهم لا يَسْألُونَ النّاسَ إلْحافًا﴾ (p-٣٠٩)الآيَةَ [البقرة: ٢٧٣] فَصَرَّحَ بِأنَّهم فُقَراءُ، وأثْنى عَلَيْهِمْ بِالتَّعَفُّفِ وعَدَمِ السُّؤالِ.
وَوَجْهُ إشارَةِ الآيَةِ إلى شِدَّةِ فَقْرِهِمْ هو ما فَسَّرَها بِهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣]؛ أيْ: بِظُهُورِ آثارِ الفَقْرِ والحاجَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقالَ ابْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ، بَعْدَ أنْ ذَكَرَ القَوْلَ بِأنَّ المُرادَ بِسِيماهم: عَلامَةُ فَقْرِهِمْ مِن ظُهُورِ آثارِ الجُوعِ، والفاقَةِ عَلَيْهِمْ، والقَوْلَ الآخَرَ: أنَّ المُرادَ بِسِيماهم: عَلامَتُهُمُ الَّتِي هي التَّخَشُّعُ والتَّواضُعُ، ما نَصُّهُ.
وَأوْلى الأقْوالِ في ذَلِكَ بِالصَّوابِ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أخْبَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أنَّهُ يَعْرِفُهم بِعَلاماتِهِمْ وآثارِ الحاجَةِ فِيهِمْ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَقالَ صاحِبُ الدُّرِّ المَنثُورِ في التَّفْسِيرِ بِالمَأْثُورِ: وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ: ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣] يَقُولُ: تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمُ الجَهْدَ مِنَ الحاجَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ قالَ: رَثاثَةُ ثِيابِهِمْ. انْتَهى. ومِثْلُ هَذا كَثِيرٌ في كَلامِ المُفَسِّرِينَ.
فالآيَةُ الكَرِيمَةُ: تَدُلُّ بِمَنطُوقِها عَلى الثَّناءِ عَلى الفَقِيرِ الصّابِرِ المُتَعَفِّفِ عَنْ مَسْألَةِ النّاسِ، وتَدُلُّ بِمَفْهُومِها عَلى ذَمِّ سُؤالِ النّاسِ، والأحادِيثُ الوارِدَةُ في ذَمِّ السُّؤالِ مُطْلَقًا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أنَّ سُؤالَ النّاسِ لَيْسَ اسْتِطاعَةً عَلى رُكْنٍ مِن أرْكانِ الإسْلامِ، وأنَّ قَوْلَ بَعْضِ المالِكِيَّةِ: إنَّهُ لا يُعَدُّ اسْتِطاعَةً، هو الصَّوابُ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ. ومِمَّنْ ذَهَبَ إلَيْهِ: الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وأبُو حَنِيفَةَ، ونَقَلَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ومُجاهِدٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وأحْمَدَ، وإسْحاقَ. وبِهِ قالَ بَعْضُ أصْحابِ مالِكٍ. قالَ البَغَوِيُّ: وهو قَوْلُ العُلَماءِ ا هـ.
قالَهُ النَّوَوِيُّ.
والِاسْتِطاعَةُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ: الزّادُ والرّاحِلَةُ. فَلَوْ كانَ يَقْدِرُ عَلى المَشْيِ وعادَتُهُ سُؤالُ النّاسِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الحَجُّ عِنْدَهُ كَما قَدَّمْناهُ قَرِيبًا.
والِاسْتِطاعَةُ في مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ: الزّادُ والرّاحِلَةُ، بِشَرْطِ أنْ يَجِدَهُما بِثَمَنِ المِثِلِ، فَإنْ لَمْ يَجِدْهُما إلّا بِأكْثَرَ مِنَ المِثِلِ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ الحَجِّ. ويُشْتَرَطُ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ أيْضًا: وُجُودُ الماءِ في أماكِنِ النُّزُولِ، وهَذا شَرْطٌ لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدِ الماءَ (p-٣١٠)هَلَكَ، ويُشْتَرَطُ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ أيْضًا: أنْ يَكُونَ صَحِيحًا لا مَرِيضًا، ولا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ في أنَّ المَرَضَ القَوِيَّ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ السَّفَرُ مَشَقَّةً فادِحَةً مُسْقِطٌ لِوُجُوبِ الحَجِّ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشّافِعِيِّ أيْضًا: أنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا مِن غَيْرِ خِفارَةٍ. والخِفارَةُ مُثَلَّثَةُ الخاءِ: هي المالُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلى الحاجِّ. ويُشْتَرَطُ عِنْدَ الشّافِعِيِّ أيْضًا: أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الوَقْتِ ما يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ السَّيْرِ والأداءِ. وهَذِهِ الشُّرُوطُ في المُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ لا فِيما يُسَمُّونَهُ المُسْتَطِيعَ بِغَيْرِهِ، فَإنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ مَسافَةً تُقْصَرُ فِيها الصَّلاةُ، وكانَ قادِرًا عَلى المَشْيِ عَلى رِجْلَيْهِ، ولَمْ يَجِدْ راحِلَةً، أوْ وجَدَها بِأكْثَرَ مِن ثَمَنِ المِثْلِ، أوْ أُجْرَةِ المِثْلِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الحَجُّ عِنْدَهم، ولا تُعَدُّ قُدْرَتُهُ عَلى المَشْيِ اسْتِطاعَةً عِنْدَهم، لِحَدِيثِ الزّادِ والرّاحِلَةِ في تَفْسِيرِ الِاسْتِطاعَةِ، وإنْ لَمْ يَجِدْ ما يَصْرِفُهُ في الزّادِ والماءِ، ولَكِنَّهُ كَسُوبٌ ذُو صَنْعَةٍ يَكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ ما يَكْفِيهِ، فَفي ذَلِكَ عِنْدَ الشّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ حَكاهُ إمامُ الحَرَمَيْنِ عَنِ العِراقِيِّينَ مِنَ الشّافِعِيَّةِ، وهو: أنَّهُ إنْ كانَ لا يَكْتَسِبُ في اليَوْمِ إلّا كِفايَةَ يَوْمٍ واحِدٍ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الحَجُّ؛ لِأنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنِ الكَسْبِ في أيّامِ الحَجِّ، وإنْ كانَ يَكْتَسِبُ في اليَوْمِ كِفايَةَ أيّامٍ لَزِمَهُ الحَجُّ. قالَ الإمامُ: وفِيهِ احْتِمالٌ، فَإنَّ القُدْرَةَ عَلى الكَسْبِ يَوْمَ العِيدِ لا تُجْعَلُ كَمِلْكِ الصّاعِ في وُجُوبِ الفِطْرَةِ، هَكَذا ذَكَرَهُ الإمامُ وحَكاهُ الرّافِعِيُّ وسَكَتَ عَلَيْهِ، انْتَهى مِنَ النَّوَوِيِّ، ومُرادُهُ بِالإمامِ: إمامُ الحَرَمَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وفِيهِ احْتِمالٌ، يَعْنِي أنَّهُ يَحْتَمِلُ عَدَمَ وُجُوبِ الحَجِّ بِذَلِكَ مُطْلَقًا.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلى القاعِدَةِ المَعْرُوفَةِ المُخْتَلَفِ فِيها، وهي هَلِ القُدْرَةُ عَلى التَّحْصِيلِ بِمَنزِلَةِ التَّحْصِيلِ أوْ لا، والأظْهَرُ أنَّ القُدْرَةَ عَلى التَّحْصِيلِ بِمَنزِلَةِ التَّحْصِيلِ بِالفِعْلِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
والِاسْتِطاعَةُ عِنْدَ أحْمَدَ وأصْحابِهِ: هي الزّادُ والرّاحِلَةُ. قالَ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي: والِاسْتِطاعَةُ المُشْتَرَطَةُ: مِلْكُ الزّادِ والرّاحِلَةِ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والشّافِعِيُّ، وإسْحاقُ. قالَ التِّرْمِذِيُّ: والعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: هي الصِّحَّةُ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
* * *
وَإذا عَلِمْتَ أقْوالَ أهْلِ العِلْمِ في مَعْنى الِاسْتِطاعَةِ المَذْكُورَة في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] فَهَذِهِ أدِلَّتُهم.
أمّا الأكْثَرُونَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الِاسْتِطاعَةَ بِالزّادِ والرّاحِلَةِ، فَحُجَّتُهُمُ الأحادِيثُ الوارِدَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِتَفْسِيرِ الِاسْتِطاعَةِ في الآيَةِ بِالزّادِ والرّاحِلَةِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، ومِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومِن حَدِيثِ أنَسٍ، ومِن حَدِيثِ عائِشَةَ، ومِن حَدِيثِ (p-٣١١)جابِرٍ، ومِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، ومِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ا هـ.
أمّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ مِن طَرِيقِ إبْراهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الخُوزِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرِ المَخْزُومِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وقالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أنْ ساقَهُ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ والعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ: أنَّ الرَّجُلَ إذا مَلَكَ زادًا وراحِلَةً وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ. وإبْراهِيمُ بْنُ يَزِيدَ هو الخُوزِيُّ المَكِّيُّ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن قِبَلِ حِفْظِهِ. انْتَهى مِنَ التِّرْمِذِيِّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: تَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذا الحَدِيثِ لا وجْهَ لَهُ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ الخُوزِيَّ المَذْكُورُ مَتْرُوكٌ لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، كَما جَزَمَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ. وقَدْ نَقَلَ الزَّيْلَعِيُّ في نَصْبِ الرّايَةِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ: أنَّهُ لَمّا ساقَ الحَدِيثَ المَذْكُورَ، قالَ فِيهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ إبْراهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الخُوزِيِّ. وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن قِبَلِ حِفْظِهِ. ا هـ.
وَمُقْتَضى ما نَقَلَ الزَّيْلَعِيُّ عَنْهُ أنَّهُ لَمْ يُحَسِّنْهُ، وإنَّما وصَفَهُ بِالغَرابَةِ، وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ إبْراهِيمَ الخُوزِيَّ لا يُحْتَجُّ بِهِ. فَلا يَكُونُ حَدِيثٌ هو في إسْنادِهِ حَسَنًا.
قالَ صاحِبُ نَصْبِ الرّايَةِ: ولَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عِنْدَ الدّارَقُطْنِيِّ في سُنَنِهِ أخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَجّاجِ المُصْفَرُّ، ثَنا جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، ومُحَمَّدُ بْنُ الحَجّاجِ المُصْفَرُّ ضَعِيفٌ. اهـ. وهو كَما قالَ الزَّيْلَعِيُّ ضَعِيفٌ. قالَ في المِيزانِ فِيهِ: رَوى عَبّاسٌ عَنْ يَحْيى لَيْسَ بِثِقَةٍ. وقالَ أحْمَدُ: قَدْ تَرَكْنا حَدِيثَهُ. وقالَ البُخارِيُّ عَنْ شُعْبَةَ: سَكَتُوا عَنْهُ، وقالَ النَّسائِيُّ: مَتْرُوكٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ عَجائِبِهِ، وعَلى كُلِّ حالٍ فَهو لا يُحْتَجُّ بِهِ.
واعْلَمْ أنَّ إبْراهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الخُوزِيَّ كَما تابَعَهُ في هَذِهِ الرِّوايَةِ جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَجّاجِ المُصْفَرِّ الَّذِي ذَكَرْنا آنِفًا، أنَّهُ لا يُحْتَجُّ بِهِ، فَقَدْ تابَعَهُ أيْضًا فِيها غَيْرُهُ مِنَ الضُّعَفاءِ.
قالَ الزَّيْلَعِيُّ في نَصْبِ الرّايَةِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ حَدِيثَ إبْراهِيمَ الخُوزِيِّ المَذْكُورِ، عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وابْنِ ماجَهْ: ورَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِما.
قالَ الدّارَقُطْنِيُّ: وقَدْ تابَعَ إبْراهِيمَ بْنَ يَزِيدَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، (p-٣١٢)فَرَواهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبّادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَذَلِكَ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي أشارَ إلَيْهِ رَواهُ ابْنُ عَدِيٍّ في الكامِلِ وأعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ، وأسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنِ النَّسائِيِّ وابْنِ مَعِينٍ ثُمَّ قالَ: والحَدِيثُ مَعْرُوفٌ بِإبْراهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الخُوزِيِّ، وهو مِن هَذِهِ الطَّرِيقِ غَرِيبٌ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ البَيْهَقِيِّ تَضْعِيفَ إبْراهِيمَ المَذْكُورِ. قالَ: ورُوِيَ مِن أوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّها ضَعِيفَةٌ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن قَوْلِهِ: ورُوِّيناهُ مِن أوْجُهٍ صَحِيحَةٍ، عَنِ الحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا، وفِيهِ قُوَّةٌ لِهَذا السَّنَدِ. انْتَهى. ثُمَّ قالَ الزَّيْلَعِيُّ بَعْدَ هَذا الكَلامِ الَّذِي نَقَلْناهُ عَنْهُ: قالَ الشَّيْخُ في الإمامِ قَوْلَهُ: فِيهِ قُوَّةٌ، فِيهِ نَظَرٌ. لِأنَّ المَعْرُوفَ عِنْدَهم: أنَّ الطَّرِيقَ إذا كانَ واحِدًا، ورَواهُ الثِّقاتُ مُرْسَلًا، وانْفَرَدَ ضَعِيفٌ بِرَفْعِهِ، أنْ يُعَلِّلُوا المُسْنَدَ بِالمُرْسَلِ، ويَحْمِلُوا الغَلَطَ عَلى رِوايَةِ الضَّعِيفِ. فَإذا كانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِضَعْفِ المُسْنَدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَقْوِيَةً لَهُ. اهـ. وهو كَما قالَ، كَما هو مَعْرُوفٌ في الأُصُولِ وعِلْمِ الحَدِيثِ. ثُمَّ قالَ الزَّيْلَعِيُّ: قالَ - يَعْنِي الشَّيْخَ - في الإمامِ: والَّذِي أشارَ إلَيْهِ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، رَواهُ أبُو بَكْرِ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنا عِلّانُ بْنُ المُغِيرَةِ، ثَنا أبُو صالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعاوِيَةُ بْنُ صالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قَوْلُهُ. والمُرْسَلُ رَواهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ في سُنَنِهِ، حَدَّثَنا هِشامُ، ثَنا يُونُسُ عَنِ الحَسَنِ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما السَّبِيلُ ؟ قالَ ﷺ ”زادٌ وراحِلَةٌ“» . انْتَهى.
حَدَّثَنا الهَيْثَمُ، ثَنا مَنصُورٌ، عَنِ الحَسَنِ مِثْلَهُ.
حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الحَسَنِ مِثْلَهُ. قالَ: وهَذِهِ أسانِيدٌ صَحِيحَةٌ إلّا أنَّها مُرْسَلَةٌ. وقالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لا يَثْبُتُ الحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الزّادِ والرّاحِلَةِ مُسْنَدًا، والصَّحِيحُ رِوايَةُ الحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا، وأمّا المُسْنَدُ فَإنَّما رَواهُ إبْراهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، وهو مَتْرُوكٌ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وغَيْرُهُ. اهـ. مِن نَصْبِ الرّايَةِ.
وَبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ المَذْكُورَ لَمْ يُسْنَدْ مِن وجْهٍ صَحِيحٍ، ولَمْ يَثْبُتْ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ الخُوزِيَّ مَتْرُوكٌ، ومُحَمَّدَ بْنَ الحَجّاجِ المُصْفَرَّ الَّذِي ذَكَرْنا أنَّ إبْراهِيمَ تابَعَهُ عَلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ مِن طَرِيقِهِ لا يُحْتَجُّ بِهِ كَما بَيَّنّاهُ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ مُتابَعَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ لا تُقَوِّيهِ؛ لِأنَّهُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ النَّسائِيُّ، وأعَلَّ الحَدِيثَ بِهِ ابْنُ عَدِيٍّ في الكامِلِ. وقالَ الذَّهَبِيُّ في المِيزانِ: ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وقالَ البُخارِيُّ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ. وقالَ النَّسائِيُّ: مَتْرُوكٌ. . اهـ مِنهُ.
(p-٣١٣)وَأمّا مُرْسَلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ المَذْكُورُ، وإنْ كانَ إسْنادُهُ صَحِيحًا إلى الحَسَنِ، فَلا يُحْتَجُّ بِهِ؛ لِأنَّ مَراسِيلَ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يُحْتَجُّ بِها.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ في تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: وقالَ الدّارَقُطْنِيُّ: مَراسِيلُ الحَسَنِ فِيها ضَعْفٌ. وقالَ في تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أيْضًا: وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كانَ الحَسَنُ جامِعًا عالِمًا رَفِيعًا فَقِيهًا ثِقَةً، مَأْمُونًا، عابِدًا، ناسِكًا، كَثِيرَ العِلْمِ، فَصِيحًا، جَمِيلًا، وسِيمًا، وكانَ ما أسْنَدَ مِن حَدِيثِهِ ورَوى عَمَّنْ سَمِعَ مِنهُ، فَهو حُجَّةٌ، وما أرْسَلَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَقالَ صاحِبُ تَدْرِيبِ الرّاوِي في شَرْحِ تَقْرِيبِ النَّواوِيِّ: وقالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مُرْسَلاتُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ أصَحُّ المُرْسَلاتِ، ومُرْسَلاتُ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ لا بَأْسَ بِها، ولَيْسَ في المُرْسَلاتِ أضْعَفُ مِن مُرْسَلاتِ الحَسَنِ وعَطاءٍ؛ فَإنَّهُما كانا يَأْخُذانِ عَنْ كُلِّ واحِدٍ. انْتَهى. ثُمَّ قالَ بَعْدَ هَذا الكَلامِ: وقالَ العِراقِيُّ: مَراسِيلُ الحَسَنِ عِنْدَهم شِبْهُ الرِّيحِ، وعَدَمُ الِاحْتِجاجِ بِمَراسِيلِ الحَسَنِ هو المَشْهُورُ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: هي صِحاحٌ إذا رَواها عَنْهُ الثِّقاتُ. قالَ ابْنُ حَجَرٍ في تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: وقالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: مُرْسَلاتُ الحَسَنِ إذا رَواها عَنْهُ الثِّقاتُ صِحاحٌ، ما أقَلَّ ما يَسْقُطُ مِنها. وقالَ أبُو زُرْعَةَ: كُلُّ شَيْءٍ يَقُولُ الحَسَنُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ، وجَدْتُ لَهُ أصْلًا ثابِتًا ما خَلا أرْبَعَةَ أحادِيثَ. اهـ.
فَهَذا هو جُمْلَةُ الكَلامِ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ فَسَّرَ الِاسْتِطاعَةَ بِالزّادِ والرّاحِلَةِ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِن وجْهٍ صَحِيحٍ، بِحَسَبَ صِناعَةِ عِلْمِ الحَدِيثِ، وأمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ، فَرَواهُ ابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنا هِشامُ بْنُ سُلَيْمانَ القُرَشِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ، وأخْبَرَنِيهِ أيْضًا، عَنِ ابْنِ عَطاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «الزّادُ والرّاحِلَةُ» يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] وهَذا الإسْنادُ فِيهِ هِشامُ بْنُ سُلَيْمانَ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خالِدِ بْنِ العاصِ القُرَشِيُّ المَخْزُومِيُّ قالَ فِيهِ أبُو حاتِمٍ: مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ، ومَحَلُّهُ الصِّدْقُ، ما أرى بِهِ بَأْسًا. وقالَ العُقَيْلِيُّ: في حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ جُرَيْجٍ وهْمٌ، وقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: مَقْبُولٌ. اهـ.
وَقَدْ أخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وقالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ في البُيُوعِ: وقالَ لِي إبْراهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ: أنْبَأنا هِشامٌ، أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ ابْنَ أبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ نافِعٍ مَوْلى ابْنِ عُمَرَ (p-٣١٤)قالَ: ”أيُّما ثَمَرَةٍ بِيعَتْ، ثُمَّ أُبِّرَتْ“ وذَكَرَ الحَدِيثَ مِن قَوْلِهِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أيْضًا مِن رِجالِ البُخارِيِّ. وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا الكَلامَ الَّذِي ذَكَرْنا: وأمّا كَوْنُ المُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ في رِجالِ البُخارِيِّ؛ فَلِأنَّ البُخارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ سِوى هَذا المَوْضِعِ في المُتابَعاتِ، وأوْرَدَهُ بِألْفاظِ الشَّواهِدِ. انْتَهى مِنهُ.
وَبِما ذَكَرْنا تَعْلَمُ أنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ هَذا عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الحَسَنِ، مَعَ أنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِما تَقَدَّمَ، وبِما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وَقالَ الزَّيْلَعِيُّ في نَصْبِ الرّايَةِ: وأخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورَ الدّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ، عَنْ داوُدَ بْنِ الزِّبْرِقانِ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ حُصَيْنِ بْنِ المُخارِقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خالِدٍ، عَنْ سِماكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ، الحَجُّ كُلَّ عامٍ ؟ قالَ ”لا بَلْ حَجَّةٌ“، قِيلَ: ”فَما السَّبِيلُ إلَيْهِ ؟ قالَ: الزّادُ والرّاحِلَةُ“» . انْتَهى.
ثُمَّ قالَ: وداوُدُ وحُصَيْنٌ كِلاهُما ضَعِيفانِ. اهـ. وداوُدُ بْنُ الزِّبْرِقانِ المَذْكُورُ قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ، وكَذَّبَهُ الأزْدِيُّ، وحُصَيْنُ بْنُ مُخارِقٍ المَذْكُورُ قالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ في المِيزانِ: قالَ الدّارَقُطْنِيُّ: يَضَعُ الحَدِيثَ، ونَقَلَ ابْنُ الجَوْزِيِّ أنَّ ابْنَ حِبّانَ قالَ: لا يَجُوزُ الِاحْتِجاجُ بِهِ. اهـ.
وَهَذا حاصِلُ ما في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورِ. وأمّا حَدِيثُ أنَسٍ فَقَدْ أخْرَجَهُ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ: حَدَّثَنا أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حازِمٍ الحافِظُ بِالكُوفَةِ، وأبُو سَعِيدٍ إسْماعِيلُ بْنُ أحْمَدَ التّاجِرُ، قالا: ثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبّاسِ بْنِ الوَلِيدِ البَجَلِيُّ، ثَنا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الكِنْدِيُّ، ثَنا ابْنُ أبِي زائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما السَّبِيلُ ؟ قالَ ”الزّادُ والرّاحِلَةُ“» ثُمَّ قالَ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ولَمْ يُخَرِّجاهُ. وقَدْ تابَعَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ سَعِيدًا عَلى رِوايَتِهِ عَنْ قَتادَةَ، حَدَّثَناهُ أبُو نَصْرٍ أحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ الفَقِيهُ بِبُخارى، ثَنا صالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الحافِظُ، ثَنا أبُو أُمَيَّةَ عَمْرُو بْنُ هِشامٍ الحَرّانِيُّ، ثَنا أبُو قَتادَةَ، ثَنا حَمّادُ بْن سَلَمَةَ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] فَقِيلَ: ما السَّبِيلُ ؟ قالَ: ”الزّادُ والرّاحِلَةُ“» ثُمَّ قالَ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ. ولَمْ يُخَرِّجاهُ. انْتَهى مِنَ المُسْتَدْرَكِ. وأقَرَّهُ عَلى (p-٣١٥)تَصْحِيحِ الطَّرِيقَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ الحافِظُ الذَّهَبِيُّ، فَحَدِيثُ أنَسٍ هَذا صَحِيحٌ كَما تَرى، وقالَ صاحِبُ نَصْبِ الرّايَةِ: ورَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ بِالإسْنادَيْنِ. اهـ.
وَأمّا حَدِيثُ عائِشَةَ فَقَدْ قالَ صاحِبُ نَصْبِ الرّايَةِ: أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عَتّابِ بْنِ أعْيَنَ، عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «سَألَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ قالَ ”السَّبِيلُ: الزّادُ والرّاحِلَةُ“» . انْتَهى. رَواهُ العُقَيْلِيُّ في كِتابِ الضُّعَفاءِ، وأعَلَّهُ بِعَتّابٍ وقالَ: إنَّ في حَدِيثِهِ وهْمًا. انْتَهى.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ المَعْرِفَةِ: ولَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، ثُمَّ أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي داوُدَ الحَفَرِيِّ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الحَسَنِ، قالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ السَّبِيلِ ؟ فَقالَ ”الزّادُ والرّاحِلَةُ“» . اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمّا ذَكَرْنا: أنَّ حَدِيثَ عائِشَةَ المَذْكُورَ أعَلَّهُ العُقَيْلِيُّ بِعَتّابِ بْنِ أعْيَنَ، وقالَ: إنَّ في حَدِيثِهِ وهْمًا، وأنَّ البَيْهَقِيَّ قالَ: لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وقَدْ قالَ الذَّهَبِيُّ في المِيزانِ في عَتّابٍ المَذْكُورِ، قالَ العُقَيْلِيُّ: في حَدِيثِهِ وهْمٌ. رَوى عَنْهُ هِشامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدِيثًا خُولِفَ في سَنَدِهِ. انْتَهى مِنهُ.
وَأمّا مُرْسَلُ الحَسَنِ الَّذِي أشارَ لَهُ، فَقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى قَرِيبًا.
وَأمّا حَدِيثُ جابِرٍ، فَقَدْ قالَ صاحِبُ نَصْبِ الرّايَةِ: أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ أوْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما بِلَفْظِ حَدِيثِ عائِشَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ تَرَكُوهُ، وأجْمَعُوا عَلى ضَعْفِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ، وقَدْ قَدَّمْنا أنْ مُحَمَّدًا المَذْكُورَ لا يُحْتَجُّ بِهِ. وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ حَدِيثَ جابِرٍ المَذْكُورَ لا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجاجِ.
وَأمّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ قالَ صاحِبُ نَصْبِ الرّايَةِ: أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ، عَنْ بَهْلُولِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ حَمّادِ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ، عَنْ إبْراهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِنَحْوِهِ. وبَهْلُولُ بْنُ عُبَيْدٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: ذاهِبُ الحَدِيثِ. اهـ.
وَقالَ الذَّهَبِيُّ في المِيزانِ في بَهْلُولٍ المَذْكُورِ: قالَ أبُو حاتِمٍ: ضَعِيفُ الحَدِيثِ ذاهِبٌ. وقالَ أبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وقالَ ابْنُ حِبّانَ: يَسْرِقُ الحَدِيثَ. انْتَهى مِنهُ.
وَبِما ذُكِرَ تَعَلَمُ أنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ المَذْكُورَ لَيْسَ بِصالِحٍ لِلِاحْتِجاجِ، وأمّا حَدِيثُ (p-٣١٦)عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، فَقَدْ قالَ صاحِبُ نَصْبِ الرّايَةِ أيْضًا: أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ أيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، ومُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العَرْزَمِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِنَحْوِهِ. وابْنُ لَهِيعَةَ والعَرْزَمِيُّ ضَعِيفانِ. قالَ الشَّيْخُ في الإمامِ: وقَدْ أخْرَجَ الدّارَقُطْنِيُّ هَذا الحَدِيثَ عَنْ جابِرٍ، وأنَسٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وعائِشَةَ، ولَيْسَ فِيها إسْنادٌ يُحْتَجُّ بِهِ. انْتَهى مِنهُ.
هَذا هو حاصِلُ رِواياتِ الأحادِيثِ الوارِدَةِ بِتَفْسِيرِ السَّبِيلِ في الآيَةِ بِالزّادِ والرّاحِلَةِ. وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: إنَّ هَذا الحَدِيثَ لا يَثْبُتُ مُسْنَدًا، وأنَّهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ، إلّا الطَّرِيقُ الَّتِي أرْسَلَها الحَسَنُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّ حَدِيثَ الزّادِ والرّاحِلَةِ المَذْكُورَ ثابِتٌ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجاجِ؛ لِأنَّ الطَّرِيقَيْنِ اللَّتَيْنِ أخْرَجَهُما بِهِ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنْ أنَسٍ قالَ: كِلْتاهُما صَحِيحَةُ الإسْنادِ، وأقَرَّ تَصْحِيحَهُما الحافِظُ الذَّهَبِيُّ، ولَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِشَيْءٍ، والدَّعْوى عَلى سَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ وحَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ في رِوايَتِهِما الحَدِيثَ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّها غَلَطٌ، وأنَّ الصَّحِيحَ عَنْ قَتادَةَ عَنِ الحَسَنِ مُرْسَلًا - دَعْوى لا مُسْتَنَدَ لَها، بَلْ هي تَغْلِيطٌ وتَوْهِيمٌ لِلْعُدُولِ المَشْهُورِينَ مِن غَيْرِ اسْتِنادٍ إلى دَلِيلٍ.
والصَّحِيحُ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ مِنَ الأُصُولِيِّينَ والمُحَدِّثِينَ: أنَّ الحَدِيثَ إذا جاءَ مِن طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وجاءَ مِن طُرُقٍ أُخْرى غَيْرِ صَحِيحَةٍ، فَلا تَكُونُ تِلْكَ الطُّرُقُ عِلَّةً في الصَّحِيحَةِ، إذا كانَ رُواتُها لَمْ يُخالِفُوا جَمِيعَ الحُفّاظِ، بَلِ انْفِرادُ الثِّقَةِ العَدْلِ بِما لَمْ يُخالِفْ فِيهِ غَيْرَهُ مَقْبُولٌ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ.
فَرِوايَةُ سَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ وحَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ الحَدِيثَ المَذْكُورَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا لَمْ يُخالِفُوا فِيها غَيْرَهم، بَلْ حَفِظُوا ما لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهم، ومَن حَفِظَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْ، فادِّعاءُ الغَلَطِ عَلَيْهِما بِلا دَلِيلٍ غَلَطٌ، وقَوْلُ النَّوَوِيِّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: ورَوى الحاكِمُ حَدِيثَ أنَسٍ، وقالَ: وهو صَحِيحٌ، ولَكِنَّ الحاكِمَ مُتَساهِلٌ كَما سَبَقَ بَيانُهُ مَرّاتٍ. واللَّهُ أعْلَمُ.
يُجابُ عَنْهُ بِأنّا لَوْ سَلَّمْنا أنَّ الحاكِمَ مُتَساهِلٌ في التَّصْحِيحِ، لا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ لا يُقْبَلُ لَهُ تَصْحِيحٌ مُطْلَقًا. ورُبَّ تَصْحِيحٍ لِلْحاكِمِ مُطابِقٌ لِلْواقِعِ في نَفْسِ الأمْرِ، وتَصْحِيحُهُ لِحَدِيثِ أنَسٍ المَذْكُورِ لَمْ يَتَساهَلْ فِيهِ؛ ولِذا لَمْ يُبْدِ النَّوَوِيُّ وجْهًا لِتَساهُلِهِ فِيهِ، ولَمْ يَتَكَلَّمْ (p-٣١٧)فِي أحَدٍ مِن رُواتِهِ بَلْ هو تَصْحِيحٌ مُطابِقٌ.
فَإنْ قِيلَ: مُتابَعَةُ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ لِسَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ المَذْكُورَةُ، راوِيها عَنْ حَمّادٍ هو أبُو قَتادَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ واقِدٍ الحَرّانِيُّ، وهو مَتْرُوكٌ، لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، كَما جَزَمَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ بِالرِّجالِ. وقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ، فَقَدْ تَساهَلَ الحاكِمُ في قَوْلِهِ: إنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ، مَعَ أنَّ في إسْنادِها أبا قَتادَةَ المَذْكُورَ.
فالجَوابُ: أنَّ أبا قَتادَةَ المَذْكُورَ، وإنْ ضَعَّفَهُ الأكْثَرُونَ، فَقَدْ وثَّقَهُ الإمامُ أحْمَدُ وأثْنى عَلَيْهِ، وناهِيكَ بِتَوْثِيقِ الإمامِ أحْمَدَ وثَنائِهِ، وذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ والذَّهَبِيُّ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أحْمَدَ قالَ لِأبِيهِ: إنَّ يَعْقُوبَ بْنَ إسْماعِيلَ بْنِ صُبَيْحٍ ذَكَرَ أنَّ أبا قَتادَةَ المَذْكُورَ كانَ يَكْذِبُ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ جِدًّا، وأثْنى عَلَيْهِ وقالَ: إنَّهُ يَتَحَرّى الصِّدْقَ. قالَ: ولَقَدْ رَأيْتُهُ يُشْبِهُ أصْحابَ الحَدِيثِ. وقالَ أحْمَدُ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ما بِهِ بَأْسٌ، رَجُلٌ صالِحٌ، يُشْبِهُ أهْلَ النُّسُكِ رُبَّما أخْطَأ. وفي إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أنَّهُ قالَ: أبُو قَتادَةَ الحَرّانِيُّ ثِقَةٌ. ذَكَرَها عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ والذَّهَبِيُّ، وقَوْلُ مَن قالَ: لَعَلَّهُ كَبُرَ فاخْتَلَطَ، تَخْمِينٌ وظَنٌّ لا يَثْبُتُ بِهِ اخْتِلاطُهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ المُقَرَّرَ في الأُصُولِ وعُلُومِ الحَدِيثِ: أنَّ الصَّحِيحَ أنَّ التَّعْدِيلَ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، والتَّجْرِيحَ لا يُقْبَلُ إلّا مُفَصَّلًا، مَعَ أنَّ رِوايَةَ سَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أنَسٍ لَيْسَ في أحَدٍ مِن رُواتِها كَلامٌ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مُوافَقَةُ الحافِظِ النَّقّادَةِ الذَّهَبِيِّ لِلْحاكِمِ عَلى تَصْحِيحِ مُتابِعَةِ حَمّادٍ، مَعَ أنَّ حَدِيثَ أنَسٍ الصَّحِيحَ المَذْكُورَ مُعْتَضِدٌ بِمُرْسَلِ الحَسَنِ، ولا سِيَّما عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ مَراسِيلَهُ صِحاحٌ، إذا رَوَتْها عَنْهُ الثِّقاتُ كابْنِ المَدِينِيِّ وغَيْرِهِ، كَما قَدَّمْناهُ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، وأحْمَدَ الِاحْتِجاجُ بِالمُرْسَلِ كَما قَدَّمْناهُ مِرارًا، ويُؤَيِّدُهُ أيْضًا الأحادِيثُ المُتَعَدِّدَةُ الَّتِي ذَكَرْنا، وإنْ كانَتْ ضِعافًا؛ لِأنَّها تُقَوِّي غَيْرَها، ولا سِيَّما حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ، فَإنّا قَدْ ذَكَرْنا سَنَدَهُ، وبَيَّنّا أنَّهُ لا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجاجِ.
وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في نَيْلِ الأوْطارِ: ولا يَخْفى أنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ يُقَوِّي بَعْضُها بَعْضًا، فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجاجِ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ الحَدِيثَ المَذْكُورَ أنَّ أكْثَرَ أهْلِ العِلْمِ عَلى العَمَلِ بِهِ، كَما قَدَّمْنا عَنْ أبِي عِيسى التِّرْمِذِيِّ أنَّهُ قالَ في حَدِيثِ: الزّادُ والرّاحِلَةُ، والعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ (p-٣١٨)قَوْلُ الأكْثَرِينَ، مِنهُمُ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ.
أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ.
فالحاصِلُ: أنَّ حَدِيثَ الزّادِ والرّاحِلَةِ، لا يَقِلُّ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ عَنْ دَرَجَةِ القَبُولِ والِاحْتِجاجِ.
وَأظْهَرُ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي أنَّ المُعْتَبَرَ في ذَلِكَ ما يُبِلِّغُهُ ذِهابًا وإيابًا.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّ حَدِيثَ الزّادِ والرّاحِلَةِ، وإنْ كانَ صالِحًا لِلِاحْتِجاجِ لا يَلْزَمُ مِنهُ أنَّ القادِرَ عَلى المَشْيِ عَلى رِجْلَيْهِ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فادِحَةٍ لا يَلْزَمُهُ الحَجُّ، إنْ كانَ عاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ الرّاحِلَةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الحَجُّ؛ لِأنَّهُ يَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا، كَما أنَّ صاحِبَ الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ مِنها قُوتَهُ في سَفَرِ الحَجِّ، يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ؛ لِأنَّ قُدْرَتَهُ عَلى تَحْصِيلِ الزّادِ في طَرِيقِهِ كَتَحْصِيلِهِ بِالفِعْلِ.
* * *
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِهِ عَلى القادِرِ عَلى المَشْيِ عَلى رِجْلَيْهِ، دُونَ الرّاحِلَةِ مَعَ اعْتِرافِكم بِقَبُولِ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ﷺ السَّبِيلَ بِالزّادِ والرّاحِلَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَشْيَ عَلى الرِّجْلَيْنِ لَيْسَ مِنَ السَّبِيلِ المَذْكُورِ في الآيَةِ.
فالجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الظّاهِرَ المُتَبادِرَ أنَّهُ ﷺ فَسَّرَ الآيَةَ بِأغْلَبِ حالاتِ الِاسْتِطاعَةِ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّ أكْثَرَ الحُجّاجِ أفاقِيُّونَ، قادِمُونَ مِن بِلادٍ بَعِيدَةٍ، والغالِبُ عَجْزُ الإنْسانِ عَنِ المَشْيِ عَلى رِجْلَيْهِ في المَسافاتِ الطَّوِيلَةِ، وعَدَمُ إمْكانِ سَفَرِهِ بِلا زادٍ، فَفَسَّرَ ﷺ الآيَةَ بِالأغْلَبِ، والقاعِدَةُ المُقَرَّرَةُ في الأُصُولِ: أنَّ النَّصَّ إذا كانَ جارِيًا عَلى الأمْرِ الغالِبِ، لا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ مُخالَفَةٍ، ولِأجْلِ هَذا مَنَعَ جَماهِيرُ العُلَماءِ تَزْوِيجَ الرَّجُلِ رَبِيبَتَهُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ في حِجْرِهِ قائِلِينَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿اللّاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] جَرى عَلى الغالِبِ، فَلا مَفْهُومَ مُخالَفَةٍ لَهُ كَما قَدَّمْناهُ مِرارًا، وإذا كانَ أغْلَبُ حالاتِ الِاسْتِطاعَةِ الزّادَ والرّاحِلَةَ، وجَرى الحَدِيثُ عَلى ذَلِكَ فَلا مَفْهُومَ مُخالَفَةٍ لَهُ، فَيَجِبُ الحَجُّ عَلى القادِرِ عَلى المَشْيِ عَلى رِجْلَيْهِ، إمّا لِعَدَمِ طُولِ المَسافَةِ، وإمّا لِقُوَّةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلى المَشْيِ، وكَذَلِكَ يَجِبُ عَلى ذِي الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ مِنها قُوتَهُ في سَفَرِهِ، لِأنَّهُ في حُكْمِ واجِدِ الزّادِ في المَعْنى، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا سَوّى في كِتابِهِ بَيْنَ الحاجِّ الرّاكِبِ والحاجِّ الماشِي عَلى رِجْلَيْهِ. وقَدَّمَ الماشِيَ عَلى الرّاكِبِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: (p-٣١٩)﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: ٢٧] .
وَقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مُسْتَوْفًى، هَذا هو حاصِلُ ما يَتَعَلَّقُ بِالمُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ.
* * *
وَأمّا ما يُسَمُّونَهُ المُسْتَطِيعَ بِغَيْرِهِ فَهو نَوْعانِ:
الأوَّلُ مِنهُما: هو مَن لا يَقْدِرُ عَلى الحَجِّ بِنَفْسِهِ، لِكَوْنِهِ زَمِنًا، أوْ هَرِمًا ونَحْوَ ذَلِكَ، ولَكِنَّهُ لَهُ مالٌ يَدْفَعُهُ إلى مَن يَحُجُّ عَنْهُ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الحَجُّ نَظَرًا إلى أنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ، فَيَدْخُلُ في عُمُومِ: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] ؟ أوْ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَجُّ؛ لِأنَّهُ عاجِزٌ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِالنَّظَرِ إلى نَفْسِهِ، فَلا يَدْخُلُ في عُمُومِ الآيَةِ ؟
وَبِالقَوْلِ الأوَّلِ قالَ الشّافِعِيُّ وأصْحابُهُ؛ فَيَلْزَمُهُ عِنْدَهم أُجْرَةُ أجِيرٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِشَرْطِ أنْ يَجِدَ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ المِثْلِ. قالَ النَّوَوِيُّ: وبِهِ قالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ، مِنهم عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وداوُدُ. وقالَ مالِكٌ: لا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ولا يَجِبُ إلّا أنْ يَقْدِرَ عَلى الحَجِّ بِنَفْسِهِ، واحْتَجَّ مالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، وهَذا لا يَسْتَطِيعُ بِنَفْسِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ المُسْتَطِيعِ، وبِأنَّها عِبادَةٌ لا تَصِحُّ فِيها النِّيابَةُ مَعَ القُدْرَةِ، فَكَذَلِكَ مَعَ العَجْزِ كالصَّلاةِ، واحْتَجَّ الأكْثَرُونَ القائِلُونَ بِوُجُوبِ الحَجِّ عَلَيْهِ بِأحادِيثَ رَواها الجَماعَةُ.
مِنها: ما رَواهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا أبُو عاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: أنَّ امْرَأةً (ح) حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنا ابْنُ شِهابٍ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «جاءَتِ امْرَأةٌ مَن خَثْعَمَ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أدْرَكَتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْتَوِيَ عَلى الرّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أنْ أحُجَّ عَنْهُ ؟ قالَ: ”نَعَمْ“» . وفي رِوايَةٍ في صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فَقالَتْ: «إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أدْرَكَتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلى الرّاحِلَةِ، أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ: ”نَعَمْ“»، وذَلِكَ في حَجَّةِ الوَداعِ.
وَفِي لَفْظٍ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ في الحَجِّ (p-٣٢٠)أدْرَكَتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلى الرّاحِلَةِ؛ أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ: ”نَعَمْ“» وذَلِكَ في حَجَّةِ الوَداعِ. اهـ.
وَقالَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قالَ: قَرَأْتُ عَلى مالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ: «أنَّهُ كانَ الفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجاءَتِ امْرَأةٌ مَن خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْها وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصْرِفُ وجْهَ الفَضْلِ إلى الشِّقِّ الآخَرِ، قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ في الحَجِّ أدْرَكَتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَثْبُتَ عَلى الرّاحِلَةِ، أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ: " نَعَمْ» . وذَلِكَ في حَجَّةِ الوَداعِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ في الحَجِّ، وهو لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْتَوِيَ عَلى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”فَحُجِّي عَنْهُ“» . اهـ.
وَهَذا الحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخانِ أخْرَجَهُ باقِي الجَماعَةِ، إلّا أنَّ بَعْضَهم يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وهو عَبْدُ اللَّهِ، وبَعْضُهم يَرْوِيهِ عَنْ أخِيهِ الفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
وَقالَ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، ومُسْلِمُ بْنُ إبْراهِيمَ بِمَعْناهُ قالا: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ سالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أوْسٍ، عَنْ أبِي رَزِينٍ - قالَ حَفْصٌ في حَدِيثِهِ: «رَجُلٌ مِن بَنِي عامِرٍ - أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَسْتَطِيعُ الحَجَّ، ولا العُمْرَةَ، ولا الظَّعْنَ. قالَ: ”احْجُجْ عَنْ أبِيكَ واعْتَمِرْ“» وقالَ أبُو عِيسى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ عِيسى، نا وكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ سالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أوْسٍ، عَنْ أبِي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ أنَّهُ أتى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ. إلى آخِرِ الحَدِيثِ كَلَفْظِ أبِي داوُدَ الَّذِي ذَكَرْنا، ثُمَّ قالَ: قالَ أبُو عِيسى: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وإنَّما ذُكِرَتِ العُمْرَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ: أنْ يَعْتَمِرَ الرَّجُلُ عَنْ غَيْرِهِ، وأبُو رَزِينٍ العُقَيْلِيُّ اسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عامِرٍ. انْتَهى مِنهُ.
وَحَدِيثُ أبِي رَزِينٍ هَذا أخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ أبِي شَيْبَةَ، وعَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قالَ: حَدَّثَنا وكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ نَحْوَ ما تَقَدَّمَ. وأخْرَجَهُ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وقالَ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ولَمْ يُخَرِّجاهُ.
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الحَدِيثَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ في قِصَّةِ اسْتِفْتاءِ الخَثْعَمِيَّةِ ما نَصُّهُ: وقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في هَذا البابِ غَيْرُ حَدِيثٍ. والعَمَلُ عَلى هَذا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِن (p-٣٢١)أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ وغَيْرِهِمْ، وبِهِ يَقُولُ الثَّوْرِيُّ، وابْنُ المُبارَكِ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، يَرَوْنَ أنْ يُحَجَّ عَنِ المَيِّتِ.
وَقالَ مالِكٌ: إذا أوْصى أنْ يُحَجَّ عَنْهُ حُجَّ عَنْهُ، وقَدْ رَخَّصَ بَعْضُهم أنْ يُحَجَّ عَنِ الحَيِّ، إذا كانَ كَبِيرًا أوْ بِحالٍ لا يَقْدِرُ أنْ يَحُجَّ، وهو قَوْلُ ابْنِ المُبارَكِ والشّافِعِيِّ. انْتَهى مِن سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ.
وَقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، قالَ: أنْبَأنا وكِيعٌ، قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ سالِمٍ إلى آخِرِ السَّنَدِ والمَتْنِ، كَما ذَكَرْناهُ آنِفًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. اهـ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ جاءَتْهُ امْرَأةٌ شابَّةٌ مَن خَثْعَمَ فَقالَتْ: إنَّ أبِي كَبِيرٌ، وقَدْ أفْنَدَ وأدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ في الحَجِّ، ولا يَسْتَطِيعُ أداءَها فَيُجْزِئُ عَنْهُ أنْ أُؤَدِّيَها عَنْهُ ؟ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”نَعَمْ“» رَواهُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ. انْتَهى مِنهُما بِواسِطَةِ نَقْلِ المُجِدِّ في المُنْتَقى والنَّوَوِيِّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ.
وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في نَيْلِ الأوْطارِ: وحَدِيثُ عَلِيٍّ أخْرَجَهُ أيْضًا البَيْهَقِيُّ. اهـ. وقَوْلُهُ في هَذا الحَدِيثِ: وقَدْ أفْنَدَ؛ أيْ: خَرِفَ وضَعُفَ عَقْلُهُ مِنَ الهِرَمِ.
وَقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، قالَ: أنْبَأنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ مُجاهِدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قالَ: «جاءَ رَجُلٌ مَن خَثْعَمَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنْ أبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ، وأدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ في الحَجِّ فَهَلْ يُجْزِئُ أنْ أحُجَّ عَنْهُ ؟ قالَ ”أنْتَ أكْبَرُ ولَدِهِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أكُنْتَ تَقْضِيهِ ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَحُجَّ عَنْهُ“» وفي لَفْظٍ لِلنَّسائِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، إنَّ أبِي ماتَ ولَمْ يَحُجَّ، أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ ”أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلى أبِيكَ دَيْنٌ أكُنْتَ قاضِيَهُ ؟“ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أحَقُّ ”» وفي لَفْظٍ عِنْدَ النَّسائِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبِيَّ ﷺ: إنَّ أبِي أدْرَكَهُ الحَجُّ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَثْبُتُ عَلى راحِلَتِهِ، فَإنْ شَدَدْتُهُ خَشِيتُ أنْ يَمُوتَ، أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ“ أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أكانَ مُجْزِئًا ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَحُجَّ عَنْ أبِيكَ "» . اهـ مِن سُنَنِ النَّسائِيِّ.
وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي ذَكَرْناهُ آنِفًا عِنْدَ النَّسائِيِّ قالَ المُجِدُّ في المُنْتَقى: رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ بِمَعْناهُ.
وَقالَ الشَّوْكانِيُّ: قالَ الحافِظُ: إنَّ إسْنادَهُ صالِحٌ. انْتَهى. والأحادِيثُ بِمِثْلِ هَذا كَثِيرَةٌ.
(p-٣٢٢)وَأمّا النَّوْعُ الثّانِي مِن نَوْعَيِ المُسْتَطِيعِ بِغَيْرِهِ، فَهو مَن لا يَقْدِرُ عَلى الحَجِّ بِنَفْسِهِ، ولَيْسَ لَهُ مالٌ يَدْفَعُهُ لِمَن يَحُجُّ عَنْهُ، ولَكِنْ لَهُ ولَدٌ يُطِيعُهُ إذا أمَرَهُ بِالحَجِّ والوَلَدُ مُسْتَطِيعٌ، فَهَلْ يَجِبُ الحَجُّ عَلى الوالِدِ، ويَلْزَمُهُ أمْرُ الوَلَدِ بِالحَجِّ عَنْهُ لِأنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ ؟ فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ.
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: فَرْعٌ في مَذاهِبِهِمْ في المَعْضُوبِ إذا لَمْ يَجِدْ ما لا يُحِجُّ بِهِ غَيْرَهُ، فَوَجَدَ مَن يُطِيعُهُ؛ قَدْ ذَكَرْنا أنَّ مَذْهَبَنا وُجُوبُ الحَجِّ عَلَيْهِ. وقالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ وأحْمَدُ: لا يَجِبُ عَلَيْهِ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ مالِكًا احْتَجَّ في مَسْألَةِ العاجِزِ الَّذِي لَهُ مالٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] وبِأنَّهُ عاجِزٌ بِنَفْسِهِ فَهو غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ إلى الحَجِّ سَبِيلًا، إلى آخِرِ ما تَقَدَّمَ، وبِأنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنصُورٍ وغَيْرَهُ رَوَوْا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ: أنَّهُ لا يَحُجُّ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ، ونَحْوَهُ عَنِ اللَّيْثِ ومالِكٍ، وأنَّ الَّذِينَ خالَفُوهُ احْتَجُّوا بِالأحادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنا، وفِيها ألْفاظٌ ظاهِرُها الوُجُوبُ، كَتَشْبِيهِهِ بِدَيْنِ الآدَمِيِّ، وكَقَوْلِ السّائِلِ: يُجْزِئُ عَنْهُ أنْ أحُجَّ عَنْهُ ؟ والإجْزاءُ دَلِيلُ المُطالَبَةِ، وفي بَعْضِ رِواياتِها أنَّ السّائِلَ يَقُولُ: إنَّ عَلَيْهِ فَرِيضَةَ الحَجِّ، ويَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ في الحَجِّ عَنْهُ، وهو ﷺ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أنَّ الحَجَّ سَقَطَ عَنْهُ بِزَمانَتِهِ وعَجْزِهِ عَنِ الثُّبُوتِ عَلى الرّاحِلَةِ، وبِقَوْلِهِ لِلْوَلَدِ ”أنْتَ أكْبَرُ ولَدِهِ“ وأمْرِهِ بِالحَجِّ عَنْهُ.
وَأمّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ وُجُودِ المَعْضُوبِ مالًا فَأوْجَبُوا عَلَيْهِ الحَجَّ، وبَيْنَ وُجُودِهِ ولَدًا يُطِيعُهُ فَلَمْ يُوجِبُوهُ عَلَيْهِ؛ فَلِأنَّ المالَ مِلْكُهُ، فَعَلَيْهِ أنْ يَسْتَأْجِرَ بِهِ، والوَلَدُ مُكَلَّفٌ آخَرُ لَيْسَ مُلْزَمًا بِفَرْضٍ عَلى شَخْصٍ آخَرَ، ولِأنَّهُ وإنْ كانَ لَهُ ولَدٌ فَلَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ بِبَدَنٍ، ولا بِزادٍ وراحِلَةٍ، ولَوْ وجَدَ إنْسانًا غَيْرَ الوَلَدِ يُطِيعُهُ في الحَجِّ عَنْهُ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الوَلَدِ ؟ فِيهِ خِلافٌ مَعْرُوفٌ. وفي فُرُوعِ الشّافِعِيَّةِ تَوْجِيهُ كُلِّ قَوْلٍ مِنها، فانْظُرْهُ في النَّوَوِيِّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ، وأظْهَرُها أنَّهُ كالوَلَدِ.
* * *
* تَنْبِيهٌ
إذا ماتَ الشَّخْصُ، ولَمْ يَحُجَّ، وكانَ الحَجُّ قَدْ وجَبَ عَلَيْهِ لِاسْتِطاعَتِهِ بِنَفْسِهِ أوْ بِغَيْرِهِ عِنْدَ مَن يَقُولُ بِذَلِكَ، وكانَ قَدْ تَرَكَ مالًا، فَهَلْ يَجِبُ أنْ يُحَجَّ ويُعْتَمَرَ عَنْهُ مِن مالِهِ ؟ في ذَلِكَ خِلافٌ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ، فَقالَ بَعْضُهم: يَجِبُ أنْ يُحُجَّ عَنْهُ، ويُعْتَمَرَ عَنْهُ مِن تَرِكَتِهِ، سَواءٌ ماتَ مُفَرِّطًا أوْ غَيْرَ مُفْرِّطٍ؛ لِكَوْنِ المَوْتِ عاجَلَهُ عَنِ الحَجِّ فَوْرًا. وبِهَذا قالَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ.
(p-٣٢٣)قالَ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي: وبِهَذا قالَ الحَسَنُ وطاوُسٌ والشّافِعِيُّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومالُكٌ: يَسْقُطُ بِالمَوْتِ، فَإنْ أوْصى بِذَلِكَ، فَهو في الثُّلُثِ، وبِهَذا قالَ الشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ لِأنَّهُ عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِالمَوْتِ كالصَّلاةِ، واحْتَجُّوا أيْضًا بِأنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] مُقَدَّمٌ عَلى ظاهِرِ الأحادِيثِ، بَلْ عَلى صَرِيحِها؛ لِأنَّهُ أصَحُّ مِنها. وأجابَ المُخالِفُونَ بِأنَّ الأحادِيثَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ القُرْآنِ، وبِأنَّ المَعْضُوبَ وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ بِسَعْيِهِ، بِتَقْدِيمِ المالِ وأُجْرَةِ مَن يَحُجُّ عَنْهُ. فَهَذا مِن سَعْيِهِ، وأجابُوا عَنْ قِياسِهِ عَلى الصَّلاةِ بِأنَّها لا تَدْخُلُها النِّيابَةُ، بِخِلافِ الحَجِّ، والَّذِينَ قالُوا: يَجِبُ أنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِن رَأْسِ مالِهِ اسْتَدَلُّوا بِأحادِيثَ جاءَتْ في ذَلِكَ، تَقْتَضِي أنَّ مَن ماتَ وقَدْ وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ، أنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ.
مِنها: ما رَواهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ، حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ، عَنْ أبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «أنَّ امْرَأةً مِن جُهَيْنَةَ جاءَتْ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتّى ماتَتْ، أفَأحُجُّ عَنْها ؟ قالَ: ”نَعَمْ، حُجِّي عَنْها، أرَأيْتِ لَوْ كانَ عَلى أُمِّكِ دَيْنٌ أكُنْتِ قاضِيَتَهُ ؟ اقْضُوا اللَّهَ فاللَّهُ أحَقُّ بِالوَفاءِ“» . اهـ.
والحَجُّ في هَذا الحَدِيثِ وإنْ كانَ مَنذُورًا فَإيجابُ اللَّهِ لَهُ عَلى عِبادِهِ في كِتابِهِ أقْوى مِن إيجابِهِ بِالنَّذْرِ. واسْتَدَلَّ بِالحَدِيثِ المَذْكُورِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ عَلى صِحَّةِ نَذْرِ الحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ: فَإذا حَجَّ أجْزَأهُ عَنْ حَجَّةِ الإسْلامِ، عِنْدَ الجُمْهُورِ، وعَلَيْهِ الحَجُّ عَنِ النَّذْرِ. وقِيلَ: يُجْزِئُ عَنِ النَّذْرِ، ثُمَّ يَحُجُّ حَجَّةَ الإسْلامِ. وقِيلَ: يُجْزِئُ عَنْهُما.
وَقالَ البُخارِيُّ أيْضًا في كِتابِ الأيْمانِ والنُّذُورِ: حَدَّثَنا آدَمُ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ أبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «أتى رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ لَهُ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ، وإنَّها ماتَتْ ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”لَوْ كانَ عَلَيْها دَيْنٌ أكُنْتَ قاضِيَهُ ؟“ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ”فاقْضِ اللَّهَ فَهو أحَقُّ بِالقَضاءِ“» . اهـ.
وَقالَ المُجِدُّ في المُنْتَقى بَعْدَ أنْ أشارَ لِحَدِيثِ البُخارِيِّ هَذا: وهو يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ الحَجِّ عَنِ المَيِّتِ مِنَ الوارِثِ وغَيْرِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أوارِثٌ هو أوْ لا ؟ وشَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ. انْتَهى.
(p-٣٢٤)وَقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ: أنَّ عَدَمَ الِاسْتِفْصالِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؛ أيْ: طَلَبَ التَّفْصِيلِ في أحْوالِ الواقِعَةِ، يَنْزِلُ مَنزِلَةَ العُمُومِ القَوْلِيِّ، وإلَيْهِ أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
؎وَنَزِّلَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصالِ مَنزِلَةَ العُمُومِ في الأقْوالِ
وَخالَفَ في هَذا الأصْلِ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَما هو مُقَرَّرٌ في الأُصُولِ، مَعَ بَيانِ الخِلافِ في المَسائِلِ الفِقْهِيَّةِ، تَبَعًا لِلْخِلافِ في هَذا الأصْلِ المَذْكُورِ.
وَمِنها: ما رَواهُ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ، أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ أبِي بِشْرٍ قالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ امْرَأةً نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ فَماتَتْ، فَأتى أخُوها النَّبِيَّ ﷺ فَسَألَهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقالَ ”أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلى أُخْتِكَ دَيْنٌ أكُنْتَ قاضِيَهُ ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ:“ فاقْضُوا اللَّهَ، فَهو أحَقُّ بِالوَفاءِ "» . انْتَهى.
وَهَذِهِ الأحادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنا في نَذْرِ الحَجِّ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ إيجابَ اللَّهِ فَرِيضَةَ الحَجِّ أعْظَمُ مِن إيجابِها بِالنَّذْرِ، مَعَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِقَضائِها وشَبَّهَها بِدَيْنِ الآدَمِيِّ، وسَنَذْكُرُ أيْضًا إنْ شاءَ اللَّهُ أحادِيثَ لَيْسَ فِيها نَذْرُ الحَجِّ.
قالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا أبُو عاصِمٍ خُشَيْشُ بْنُ أصْرَمَ النَّسائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزّاقِ، قالَ: أنْبَأنا مَعْمَرٌ عَنِ الحَكَمِ بْنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أبِي ماتَ ولَمْ يَحُجَّ، أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ ”أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلى أبِيكَ دَيْنٌ أكُنْتَ قاضِيَهُ ؟“ قالَ: نَعَمْ. قالَ: ”فَدَيْنُ اللَّهِ أحَقُّ“» . اهـ.
وَرِجالُ هَذا الإسْنادِ ثِقاتٌ مَعْرُوفُونَ، لا كَلامَ في أحَدٍ مِنهم، إلّا الحَكَمَ بْنَ أبانٍ العَدَنِيَّ. وقَدْ قالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ، والنَّسائِيُّ: ثِقَةٌ. وقالَ أبُو زُرْعَةَ: صالِحٌ. وقالَ العِجْلِيُّ: ثِقَةٌ صاحِبُ سُنَّةٍ. قالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أتَيْتُ عَدَنَ، فَلَمْ أرَ مِثْلَ الحَكَمِ بْنِ أبانٍ، وعَدَّهُ ابْنُ حِبّانَ في الثِّقاتِ. وقالَ: رُبَّما أخْطَأ. وإنَّما وقَعَ المَناكِيرُ في رِوايَتِهِ، مِن رِوايَةِ ابْنِهِ إبْراهِيمَ عَنْهُ، وإبْراهِيمُ ضَعِيفٌ. وحَكى ابْنُ خَلْفُونٍ تَوْثِيقَهُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وابْنِ المَدِينِيِّ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. اهـ. وقالَ ابْنُ عَدِيٍّ: فِيهِ ضَعْفٌ. وقالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ: تَكَلَّمَ أهْلُ المَعْرِفَةِ بِالحَدِيثِ في الِاحْتِجاجِ بِخَبَرِهِ. وبِما ذُكِرَ تَعْلَمُ صِحَّةَ الِاحْتِجاجِ بِالحَدِيثِ المَذْكُورِ، ولَيْسَ فِيهِ نَذْرُ الحَجِّ.
وَقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ أيْضًا: أخْبَرَنا عِمْرانُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الوارِثِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو التَّيّاحِ، قالَ: حَدَّثَنِي مُوسى بْنُ سَلَمَةَ الهُذَلِيُّ، أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: «أمَرَتِ (p-٣٢٥)امْرَأةُ سِنانِ بْنِ سَلَمَةَ الجُهَنِيَّ، أنْ يَسْألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أنَّ أُمَّها ماتَتْ ولَمْ تَحُجَّ، أفَيُجْزِئُ عَنْ أُمِّها أنْ تَحُجَّ عَنْها ؟ قالَ: ”نَعَمْ، لَوْ كانَ عَلى أُمِّها دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْها ألَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْها ؟ فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّها“»، وهَذا الإسْنادُ صَحِيحٌ. وفي لَفْظٍ عِنْدَ النَّسائِيِّ أيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، بِإسْنادٍ آخَرَ: «أنَّ امْرَأةً سَألَتِ النَّبِيَّ ﷺ، عَنْ أبِيها، ماتَ ولَمْ يَحُجَّ. قالَ: ”حُجِّي عَنْ أبِيكِ“» وإسْنادُهُ صَحِيحٌ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ نَحْوَهُ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ بِإسْنادٍ آخَرَ صَحِيحٍ.
وَقالَ المُجِدُّ في المُنْتَقى: وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «أتى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ، فَقالَ: إنَّ أبِي ماتَ وعَلَيْهِ حَجَّةُ الإسْلامِ، أفَأحُجُّ عَنْهُ ؟ قالَ ”أرَأيْتَ لَوْ أنَّ أباكَ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ أقَضَيْتَهُ عَنْهُ ؟“ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ”فاحْجُجْ عَنْ أبِيكَ“» رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ. انْتَهى مِنَ المُنْتَقى.
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى، نا عَبْدُ الرَّزّاقِ، عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطاءٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبِيهِ قالَ: «جاءَتِ امْرَأةٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ: إنَّ أُمِّي ماتَتْ ولَمْ تَحُجَّ، أفَأحُجُّ عَنْها ؟ قالَ ”نَعَمْ، حُجِّي عَنْها“» . اهـ. ثُمَّ قالَ: قالَ أبُو عِيسى: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ.
وَقالَ الشّافِعِيُّ في مُسْنَدِهِ: أخْبَرَنا سَعِيدُ بْنُ سالِمٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ، سَمِعْتُ طاوُسًا يَقُولُ: «أتَتِ النَّبِيَّ ﷺ امْرَأةٌ، فَقالَتْ: إنَّ أُمِّي ماتَتْ، وعَلَيْها حَجٌّ، قالَ: ”حُجِّي عَنْ أُمِّكِ“» ولا يَخْفى أنَّ حَدِيثَ الشّافِعِيِّ هَذا مُرْسَلٌ، ولَكِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِما تَقَدَّمَ مِنَ الأحادِيثِ، وبِما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَحِيحِهِ: وحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أبُو الحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: «بَيْنا أنا جالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إذْ أتَتْهُ امْرَأةٌ فَقالَتْ: إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلى أُمِّي بِجارِيَةٍ، وإنَّها ماتَتْ قالَ: فَقالَ ”وَجَبَ أجْرُكِ ورَدَّها عَلَيْكِ المِيراثُ، قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ كانَ عَلَيْها صَوْمُ شَهْرٍ أفَأصُومُ عَنْها ؟ قالَ: صُومِي عَنْها، قالَتْ: إنَّها لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أفَأحُجُّ عَنْها ؟ قالَ: حُجِّي عَنْها»“ . انْتَهى مِن صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
فَهَذِهِ الأحادِيثُ وأمْثالُها: هي حُجَّةُ مَن قالَ: إنَّ مَن وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ في الحَياةِ، وتَرَكَ مالًا وجَبَ أنْ يُحَجَّ عَنْهُ، ولَيْسَتْ كُلُّها ظاهِرَةً في ذَلِكَ. ولَكِنَّ بَعْضَها ظاهِرٌ فِيهِ (p-٣٢٦)كَتَشْبِيهِهِ بِدَيْنِ الآدَمِيِّ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا تَقَدَّمَ. وأجابَ المُخالِفُونَ بِأنَّ الحَجَّ أعْمالٌ بَدَنِيَّةٌ، وإنْ كانَتْ تَحْتاجُ إلى مالٍ. والأعْمالُ البَدَنِيَّةُ تَسْقُطُ بِالمَوْتِ، فَلا وُجُوبَ لِعَمَلٍ بَعْدَ المَوْتِ، والَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ مُتَطَوِّعٌ، وفاعِلٌ خَيْرًا. قالُوا: ووَجْهُ تَشْبِيهِهِ بِالدَّيْنِ انْتِفاعُ كُلٍّ مِنهُما بِذَلِكَ الفِعْلِ، فالمَدِينُ يَنْتَفِعُ بِقَضاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، والمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِالحَجِّ عَنْهُ، ولا يَلْزَمُ مِن قَضاءِ الدَّيْنِ عَنْ أحَدٍ، أنَّ القَضاءَ عَنْهُ واجِبٌ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَضاؤُهُ عَنْهُ غَيْرَ واجِبٍ عَلَيْهِ.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِأنَّ جَمِيعَ الأحادِيثِ الوارِدَةِ بِالحَجِّ عَنِ المَيِّتِ: وارِدَةٌ بَعْدَ الِاسْتِئْذانِ في الحَجِّ عَنْهُ، قالُوا: والأمْرُ بَعْدَ الِاسْتِئْذانِ كالأمْرِ بَعْدَ الحَظْرِ، فَهو لِلْإباحَةِ؛ لِأنَّ الِاسْتِئْذانَ والحَظْرَ الأوَّلَ كِلاهُما قَرِينَةٌ عَلى صَرْفِ الأمْرِ عَنِ الوُجُوبِ إلى الإباحَةِ.
قالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ في جَمْعِ الجَوامِعِ في مَبْحَثِ الأمْرِ: فَإنْ ورَدَ بَعْدَ حَظْرٍ - قالَ الإمامُ: أوِ اسْتِئْذانٍ - فَلِلْإباحَةِ. وقالَ أبُو الطَّيِّبِ، والشِّيرازِيُّ، والسَّمْعانِيُّ والإمامُ: لِلْوُجُوبِ، وتَوَقَّفَ إمامُ الحَرَمَيْنِ. انْتَهى مِنهُ. فَتَراهُ صَدَّرَ بِأنَّ الأمْرَ بَعْدَ الِاسْتِئْذانِ لِلْإباحَةِ، والخِلافُ في المَسْألَةِ مَعْرُوفٌ، وقَدْ ذَكَرْنا فِيهِ أقْوالَ أهْلِ العِلْمِ، في أبْياتِ مَراقِي السُّعُودِ في أوَّلِ سُورَةِ المائِدَةِ.
وَمِن أمْثِلَةِ كَونِ الأمْرِ بَعْدَ الِاسْتِئْذانِ لِلْإباحَةِ: أنَّ الصَّحابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لَمّا سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ عَمّا اصْطادُوهُ بِالجَوارِحِ، واسْتَأْذَنُوهُ في أكْلِهِ، نَزَلَ في ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤] فَصارَ هَذا الأمْرُ بِالأكْلِ لِلْإباحَةِ؛ لِأنَّهُ وارِدٌ بَعْدَ سُؤالٍ واسْتِئْذانٍ.
وَمِن أمْثِلَتِهِ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ مُسْلِمٍ: «أأُصَلِّي في مَرابِضِ الغَنَمِ ؟ قالَ ”نَعَمْ“» الحَدِيثَ، فَإنَّ مَعْنى ”نَعَمْ“ هُنا: صَلِّ فِيها. وهَذا الأمْرُ بِالصَّلاةِ فِيها لِلْإباحَةِ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِئْذانِ، وخِلافُ أهْلِ الأُصُولِ في مَسْألَةِ الأمْرِ بَعْدَ الحَظْرِ أوِ الِاسْتِئْذانِ مَعْرُوفٌ.
هَذا هو حاصِلُ كَلامِهِمْ في المُسْتَطِيعِ بِغَيْرِهِ، ووُجُوبِ الحَجِّ عَمَّنْ وجَبَ عَلَيْهِ في الحَياةِ، وماتَ قَبْلَ أنْ يَحُجَّ وتَرَكَ مالًا، وقَدْ عَلِمْتَ أدِلَّتَهم ومُناقَشَتَها.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الأحادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنا تَدُلُّ قَطْعًا عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الحَجِّ عَنِ المَعْضُوبِ والمَيِّتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ الأظْهَرَ عِنْدَنا وُجُوبُ الحَجِّ فَوْرًا، وعَلَيْهِ فَلَوْ فَرَّطَ، وهو قادِرٌ عَلى (p-٣٢٧)الحَجِّ حَتّى ماتَ مُفَرِّطًا مَعَ القُدْرَةِ، أنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِن رَأْسِ مالِهِ، إنْ تَرَكَ مالًا؛ لِأنَّ فَرِيضَةَ الحَجِّ تَرَتَّبَتْ في ذِمَّتِهِ، فَكانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وقَضاءُ دَيْنِ اللَّهِ صَرَّحَ النَّبِيُّ ﷺ في الأحادِيثِ المَذْكُورَةِ بِأحَقِّيَّتِهِ حَيْثُ قالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضى» .
أمّا مَن عاجَلَهُ المَوْتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، فَماتَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ، فالظّاهِرُ لَنا أنَّهُ لا إثْمَ عَلَيْهِ، ولا دَيْنَ لِلَّهِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن أداءِ الفِعْلِ حَتّى يَتَرَتَّبَ في ذِمَّتِهِ، ولَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ نَفَسًا إلّا وُسْعَها، وقَدْ دَلَّتِ الأحادِيثُ المَذْكُورَةُ عَلى جَوازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ المَرْأةِ وعَكْسِهِ، وعَلَيْهِ عامَّةُ العُلَماءِ، ولَمْ يُخالِفْ فِيهِ إلّا الحَسَنُ بْنُ صالِحِ بْنِ حَيٍّ.
والأحادِيثُ المَذْكُورَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ مالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ ومَن وافَقُوهُ، لَمْ يَعْمَلُوا بِظاهِرِ هَذِهِ الأحادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنا مَعَ كَثْرَتِها وصِحَّتِها؛ لِأنَّها مُخالِفَةٌ عِنْدَهم لِظاهِرِ القُرْآنِ في قَوْلِهِ: ﴿وَأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] . وقَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧] والمَعْضُوبُ والمَيِّتُ لَيْسَ واحِدٌ مِنهُما بِمُسْتَطِيعٍ؛ لِصِدْقِ قَوْلِكَ: إنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ.
واعْلَمْ أنَّ ما اشْتُهِرَ عَنْ مالِكٍ مِن أنَّهُ يَقُولُ: لا يَحُجُّ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ؛ مَعْناهُ عِنْدَهُ: أنَّ الصَّحِيحَ القادِرَ لا يَصِحُّ الحَجُّ عَنْهُ في الفَرْضِ.
والمَعْضُوبُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقادِرٍ، وأحْرى المَيِّتُ، فالحَجُّ عَنْهُما مِن مالِهِما لا يَلْزَمُ عِنْدَهُ إلّا بِوَصِيَّةٍ، فَإنْ أوْصى بِهِ صَحَّ مِنَ الثُّلُثِ، وتَطَوُّعُ ولَيِّهِ بِالحَجِّ عَنْهُ، خِلافُ الأوْلى عِنْدَهُ، بَلْ مَكْرُوهٌ.
والأفْضَلُ عِنْدَهُ أنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ المالُ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ في غَيْرِ الحَجِّ، كَأنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ أوْ يُعْتِقَ بِهِ عَنْهُ ونَحْوَ ذَلِكَ، فَإنْ أحْرَمَ بِالحَجِّ عَنْهُ انْعَقَدَ إحْرامُهُ وصَحَّ حَجُّهُ عَنْهُ.
والحاصِلُ: أنَّ النِّيابَةَ عَنِ الصَّحِيحِ في الفَرْضِ عِنْدَهُ مَمْنُوعَةٌ، وفي غَيْرِ الفَرْضِ مَكْرُوهَةٌ، والعاجِزُ عِنْدَهُ لا فَرْضَ عَلَيْهِ أصْلًا لِلْحَجِّ.
قالَ خَلِيلُ بْنُ إسْحاقَ في مُخْتَصَرِهِ: ومُنِعَ اسْتِنابَةُ صَحِيحٍ في فَرْضٍ، وإلّا كُرِهَ. اهـ.
وَقالَ شارِحُهُ الخَطّابُ: ويَدْخُلُ في قَوْلِ المُصَنِّفِ: وإلّا كُرِهَ، بِحَسَبِ الظّاهِرِ ثَلاثُ صُوَرٍ: اسْتِنابَةُ الصَّحِيحِ في النَّفْلِ، واسْتِنابَةُ العاجِزِ في الفَرْضِ وفي النَّفْلِ، لَكِنْ في التَّحْقِيقِ لَيْسَ هُنا إلّا صُورَتانِ؛ لِأنَّ العاجِزَ لا فَرِيضَةَ عَلَيْهِ. اهـ.
واعْلَمْ أنَّ بَعْضَ المالِكِيَّةِ حَمَلَ الكَراهَةَ المَذْكُورَةَ عَلى التَّحْرِيمِ، والأحادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنا حُجَّةٌ عَلى مالِكٍ ومَن وافَقَهُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق