(وأذّن) أي ناد (في الناس بالحج) أي بدعوته والأمر به، وقرئ آذن بالمد والأذان الاعلام. وعن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فرغت، قال: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: " قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق " فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون، وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة؛ وبه قال جماعة من المفسرين، وزادوا: فعلا على المقام، فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال.
وقيل: علا على جبل أبي قبيس فلما صعده للنداء خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ونادى في الناس بالحج قال: يا أيها الناس إن ربكم بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من كتب له أن يحج ممن كان في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات، لبيك اللهم لبيك. قال القسطلاني: فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته. انتهى، قيل: أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً.
وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: (والركع السجود) وقيل إن خطابه انتهى عند قوله (مكان البيت)، وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول ذلك في حجة الوداع.
عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " فقال: " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " أخرجه مسلم [[مسلم 1337 - النسائي كتاب المناسك باب 1.]]، قال في المدارك: والأول أظهر وقرأ الجمهور بالحج بفتح الحاء، وابن إسحاق في كل القرآن بكسرها.
(يأتوك رجالاً) هذا جواب الأمر وعده الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل وقيل: جمع رجل، وقرئ بضم الراء رُجالاً، وقرئ على وزن كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، قال الكرخي: إذ للراكب بكل خطوة سبعون حسنة وللراجل سبعمائة من حسنات الحرم، كل حسنة مائة ألف حسنة، وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين، انتهى.
أقول: المعتمد في الباب أن الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - " حج راكباً كما في الروايات الصحيحة المشهورة، وفضيلة الاتباع تربو على غيره، وإن كان المشي فضيلة في نفسه سواء قدر على المشي أم لا قبل الإحرام وبعده، والحديث الذي ذكره الكرخي تبعاً للغزالي، والرافعي ضعيف على ما فيه، قاله ابن علان في مثير شوق الأنام إلى بيت الله الحرام، وممن ضعّفه ابن حجر المكي في شرح العباب وشرح المنهاج. والجواب عن التقديم أنه قد لا يفيد التفضيل قطعاً أو على الأصح، وقد يتقدم المفضول ويتأخر الأفضل، قال تعالى: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) وقال: (إن مع العسر يسراً) إلى غير ذلك من الآيات فليعلم، وقال: (يأتوك) وإن كانوا يأتون البيت لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه.
(وعلى كل ضامر) أي وركباناً على كل بعير، والضامر: البعير المهزول، الذي أتعبه السفر، يقال ضمر يضمر ضموراً؛ وضَمَر الفرس من باب دخل وضمُر أيضاً بالضم فهو ضامر فيهما، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضاً أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوماً، ووصف الضامر بقوله: (يأتين) باعتبار المعنى لأن ضامر في معنى ضوامر.
(من كل فج عميق) الفج الطريق الواسع، الجمع فجاج والعميق البعيد، قال النسفي: قدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشاة انتهى، وليس بشيء لأن الاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة في الحديث الصحيح شرط في فريضة الحج واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجب الحج على راكب البحر، وهو استدلال ضعيف، لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين بمشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها.
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{"ayah":"وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ"}