الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ (وآذِنْ) بِمَعْنى أعْلِمْ. المسألة الثّانِيَةُ: في المَأْمُورِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ هو إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالُوا: لَمّا فَرَغَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن بِناءِ البَيْتِ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾ قالَ: يا رَبِّ وما يَبْلُغُ صَوْتِي ؟ قالَ: عَلَيْكَ الأذانُ وعَلَيَّ البَلاغُ. فَصَعِدَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ الصَّفا وفي رِوايَةٍ أُخْرى أبا قُبَيْسٍ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَلى المَقامِ، قالَ إبْراهِيمُ: كَيْفَ أقُولُ ؟ قالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: قُلْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَهو أوَّلُ مَن لَبّى. وفي رِوايَةٍ أُخْرى أنَّهُ صَعِدَ الصَّفا فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكم حَجَّ البَيْتِ العَتِيقِ فَسَمِعَهُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَما بَقِيَ شَيْءٌ سَمِعَ صَوْتَهُ إلّا أقْبَلَ يُلَبِّي يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وفي رِوايَةٍ أُخْرى: إنَّ اللَّهَ يَدْعُوكم إلى حَجِّ البَيْتِ الحَرامِ لِيُثِيبَكم بِهِ الجَنَّةَ ويُخْرِجَكم مِنَ النّارِ، فَأجابَهُ يَوْمَئِذٍ مَن كانَ في أصْلابِ الرِّجالِ وأرْحامِ النِّساءِ، وكُلُّ مَن وصَلَ إلَيْهِ صَوْتُهُ مِن حَجَرٍ أوْ شَجَرٍ ومَدَرٍ وأكَمَةٍ أوْ تُرابٍ، قالَ مُجاهِدٌ: فَما حَجَّ إنْسانٌ ولا يَحُجُّ أحَدٌ حَتّى تَقُومَ السّاعَةُ إلّا وقَدْ أسْمَعَهُ ذَلِكَ النِّداءَ، فَمَن أجابَ مَرَّةً حَجَّ مَرَّةً، ومَن أجابَ مَرَّتَيْنِ أوْ أكْثَرَ. فالحَجُّ مَرَّتَيْنِ أوْ أكْثَرَ عَلى ذَلِكَ المِقْدارِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: لَمّا أُمِرَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالأذانِ تَواضَعَتْ لَهُ الجِبالُ وخَفَضَتْ وارْتَفَعَتْ لَهُ القُرى. قالَ القاضِي عَبْدُ الجَبّارِ: يَبْعُدُ قَوْلُهم إنَّهُ أجابَهُ الصَّخْرُ والمَدَرُ؛ لِأنَّ الإعْلامَ لا يَكُونُ إلّا لِمَن يُؤْمَرُ بِالحَجِّ دُونَ الجَمادِ، فَأمّا مَن يَسْمَعُ مِن أهْلِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ نِداءَهُ فَلا يَمْتَنِعُ إذا قَوّاهُ اللَّهُ تَعالى ورَفَعَ المَوانِعَ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ في زَمانِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَأْمُورَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأذِّنْ﴾ هو مُحَمَّدٌ ﷺ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ واخْتِيارُ أكْثَرِ المُعْتَزِلَةِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأنَّ ما جاءَ في القُرْآنِ وأُمْكِنَ حَمْلُهُ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هو المُخاطَبُ بِهِ فَهو أوْلى، وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿وإذْ بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦] أيْ واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ ﴿وإذْ بَوَّأْنا﴾ فَهو في حُكْمِ المَذْكُورِ، فَإذا قالَ تَعالى: ﴿وأذِّنْ﴾ فَإلَيْهِ يَرْجِعُ الخِطابُ، وعَلى هَذا القَوْلِ ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأذِّنْ﴾ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِأنْ يُعْلِمَ النّاسَ بِالحَجِّ. وثانِيها: قالَ الجُبّائِيُّ: أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يُعْلِنَ التَّلْبِيَةَ فَيُعْلِمَ النّاسَ أنَّهُ حاجٌّ فَيَحُجُّوا مَعَهُ قالَ: وفي قَوْلِهِ: ﴿يَأْتُوكَ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ أنْ يَحُجَّ فَيُقْتَدى بِهِ. وثالِثُها: أنَّهُ ابْتِداءُ فَرْضِ الحَجِّ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِلرَّسُولِ ﷺ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: الرِّجالُ المُشاةُ واحِدُهم راجِلٌ، كَنِيامٍ ونائِمٍ وقُرِئَ رُجالٌ بِضَمِّ الرّاءِ مُخَفَّفَ الجِيمِ ومُثَقَّلَهُ، ورِجالٌ كَعِجالٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وقَوْلُهُ: ﴿وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ أيْ رُكْبانًا والضُّمُورُ الهُزالُ (p-٢٦)ضَمُرَ يَضْمُرُ ضُمُورًا، والمَعْنى أنَّ النّاقَةَ صارَتْ ضامِرَةً لِطُولِ سَفَرِها. وإنَّما قالَ: ﴿يَأْتِينَ﴾ أيْ جَماعَةُ الإبِلِ وهي الضَّوامِرُ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ مَعْناهُ عَلى إبِلٍ ضامِرَةٍ فَجُعِلَ الفِعْلُ بِمَعْنى كُلٍّ، ولَوْ قالَ: يَأْتِي عَلى اللَّفْظِ صَحَّ وقُرِئَ يَأْتُونَ صِفَةً لِلرِّجالِ والرُّكْبانِ، والفَجُّ الطَّرِيقُ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ في سائِرِ الطُّرُقِ اتِّساعًا، والعَمِيقُ البَعِيدُ، قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ ”مَعِيقٍ“ يُقالُ: بِئْرٌ بَعِيدَةُ العُمْقِ والمَعْقِ. المسألة الثّانِيَةُ: المَعْنى: وأذِّنْ لِيَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ، أيْ وأذِّنْ لِيَأْتُوكَ عَلى هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، أوْ يَكُونُ المُرادُ: وأذِّنْ فَإنَّهم يَأْتُوكَ عَلى هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. المسألة الثّالِثَةُ: بَدَأ اللَّهُ بِذِكْرِ المُشاةِ تَشْرِيفًا لَهم، ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِإسْنادِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ الحاجَّ الرّاكِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوها راحِلَتُهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً ولِلْماشِي سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِن حَسَناتِ الحَرَمِ، قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ وما حَسَناتُ الحَرَمِ ؟ قالَ: الحَسَنَةُ بِمِائَةِ ألْفِ حَسَنَةٍ» . المسألة الرّابِعَةُ: إنَّما قالَ: ﴿يَأْتُوكَ رِجالًا﴾ لِأنَّهُ هو المُنادِي فَمَن أتى بِمَكَّةَ حاجًّا فَكَأنَّهُ أتى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ يُجِيبُ نِداءَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب