الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾، هَذا العَبْدُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ هو الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإجْماعِ العُلَماءِ، ودَلالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَلى ذَلِكَ مِن كَلامِ النَّبِيِّ ﷺ، وهَذِهِ الرَّحْمَةُ والعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ اللَّذانِ ذَكَرَ اللَّهُ امْتِنانَهُ عَلَيْهِ بِهِما لَمْ يُبَيِّنْ هُنا هَلْ هُما رَحْمَةُ النُّبُوَّةِ وعِلْمُها، أوْ رَحْمَةُ الوَلايَةِ وعِلْمُها، والعُلَماءُ مُخْتَلِفُونَ في الخَضِرِ: هَلْ هو نَبِيٌّ، أوْ رَسُولٌ، أوْ ولِيٌّ، كَما قالَ الرّاجِزُ:
؎واخْتَلَفَتْ في خَضِرٍ أهْلُ العُقُولِ قِيلَ نَبِيٌّ أوْ ولِيٌّ أوْ رَسُولُ
وَقِيلَ مَلَكٌ، ولَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِن بَعْضِ الآياتِ أنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ المَذْكُورَةَ هُنا رَحْمَةُ نُبُوَّةٍ، وأنَّ هَذا العِلْمَ اللَّدُنِّيَّ عِلْمُ وحْيٍ، مَعَ العِلْمِ بِأنَّ في الِاسْتِدْلالِ بِها عَلى ذَلِكَ مُناقَشاتٍ مَعْرُوفَةً عِنْدَ العُلَماءِ.
اعْلَمْ أوَّلًا أنَّ الرَّحْمَةَ تَكَرَّرَ إطْلاقُها عَلى النُّبُوَّةِ في القُرْآنِ، وكَذَلِكَ العِلْمُ المُؤْتى (p-٣٢٣)مِنَ اللَّهِ تَكَرَّرَ إطْلاقُهُ فِيهِ عَلى عِلْمِ الوَحْيِ، فَمِن إطْلاقِ الرَّحْمَةِ عَلى النُّبُوَّةِ قَوْلُهُ تَعالى في ”الزُّخْرُفِ“: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [الزخرف: ٣١]، أيْ: نُبُوَّتَهُ حَتّى يَتَحَكَّمُوا في إنْزالِ القُرْآنِ عَلى رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ، وقَوْلُـهُ تَعالى في سُورَةِ ”الدُّخانِ“: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ أمْرًا مِن عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [الدخان: ٤ - ٥]، وقَوْلُـهُ تَعالى في آخِرِ ”القَصَصِ“: ﴿وَما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [القصص: ٨٦]، ومِن إطْلاقِ إيتاءِ العِلْمِ عَلى النُّبُوَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]، وقَوْلُهُ: ﴿وَإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ﴾ الآيَةَ [يوسف: ٦٨]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ الرَّحْمَةَ وإيتاءَ العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ أعَمُّ مِن كَوْنِ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وغَيْرِها، والِاسْتِدْلالُ بِالأعَمِّ عَلى الأخَصِّ فِيهِ أنَّ وُجُودَ الأعَمِّ لا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الأخَصِّ كَما هو مَعْرُوفٌ، ومِن أظْهَرِ الأدِلَّةِ في أنَّ الرَّحْمَةَ والعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ اللَّذَيْنِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِما عَلى عَبْدِهِ الخَضِرِ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ والوَحْيِ قَوْلُهُ تَعالى عَنْهُ: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، أيْ: وإنَّما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِ اللَّهِ جَلَّ وعَلا، وأمْرُ اللَّهِ إنَّما يَتَحَقَّقُ عَنْ طَرِيقِ الوَحْيِ، إذْ لا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِها أوامِرُ اللَّهِ ونَواهِيهِ إلّا الوَحْيَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وعَلا، ولا سِيَّما قَتْلُ الأنْفُسِ البَرِيئَةِ في ظاهِرِ الأمْرِ، وتَعْيِيبُ سُفُنِ النّاسِ بِخَرْقِها؛ لِأنَّ العُدْوانَ عَلى أنْفُسِ النّاسِ وأمْوالِهِمْ لا يَصِحُّ إلّا عَنْ طَرِيقِ الوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وقَدْ حَصَرَ تَعالى طُرُقَ الإنْذارِ في الوَحْيِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما أُنْذِرُكم بِالوَحْيِ﴾ [الأنبياء: ٤٥]، و ”إنَّما“ صِيغَةُ حَصْرٍ، فَإنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الإلْهامِ ؟ فالجَوابُ أنَّ المُقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ الإلْهامَ مِنَ الأوْلِياءِ لا يَجُوزُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى شَيْءٍ، لِعَدَمِ العِصْمَةِ، وعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلى الِاسْتِدْلالِ بِهِ، بَلْ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلى عَدَمِ جَوازِ الِاسْتِدْلالِ بِهِ، وما يَزْعُمُهُ بَعْضُ المُتَصَوِّفَةِ مِن جَوازِ العَمَلِ بِالإلْهامِ في حَقِّ المُلْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وما يَزْعُمُهُ بَعْضُ الجَبْرِيَّةِ أيْضًا مِنَ الِاحْتِجاجِ بِالإلْهامِ في حَقِّ المُلْهَمِ وغَيْرِهِ جاعِلِينَ الإلْهامَ كالوَحْيِ المَسْمُوعِ مُسْتَدِلِّينَ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، وبِخَبَرِ «اتَّقُوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» كُلُّهُ باطِلٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ اعْتِضادِهِ بِدَلِيلٍ، وغَيْرُ المَعْصُومِ لا ثِقَةَ بِخَواطِرِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَأْمَنُ دَسِيسَةَ الشَّيْطانِ، وقَدْ ضُمِنَتِ الهِدايَةُ في اتِّباعِ الشَّرْعِ، ولَمْ تُضْمَن في اتِّباعِ الخَواطِرِ والإلْهاماتِ، والإلْهامُ في الِاصْطِلاحِ: إيقاعُ شَيْءٍ (p-٣٢٤)فِي القَلْبِ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ مِن غَيْرِ اسْتِدْلالٍ بِوَحْيٍ ولا نَظَرٍ في حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، يَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَن يَشاءُ مَن خَلْقِهِ، أمّا ما يُلْهَمُهُ الأنْبِياءُ مِمّا يُلْقِيهِ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ فَلَيْسَ كَإلْهامِ غَيْرِهِمْ، لِأنَّهم مَعْصُومُونَ بِخِلافِ غَيْرِهِمْ، قالَ في مَراقِي السُّعُودِ في كِتابِ الِاسْتِدْلالِ:
وَيُنْبَذُ الإلْهامُ بِالعَراءِ أعْنِي بِهِ إلْهامَ الأوْلِياءِ وقَدْ رَآهُ بَعْضُ مَن تَصَوَّفا وعِصْمَةُ النَّبِيِّ تُوجِبُ اقْتَفا وبِالجُمْلَةِ، فَلا يَخْفى عَلى مَن لَهُ إلْمامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الإسْلامِ أنَّهُ لا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِها أوامِرُ اللَّهِ ونَواهِيهِ، وما يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِهِ مِن فِعْلٍ وتَرْكٍ إلّا عَنْ طَرِيقِ الوَحْيِ، فَمَنِ ادَّعى أنَّهُ غَنِيٌّ في الوُصُولِ إلى ما يُرْضِي رَبَّهُ عَنِ الرُّسُلِ، وما جاءُوا بِهِ ولَوْ في مَسْألَةٍ واحِدَةٍ فَلا شَكَّ في زَنْدَقَتِهِ، والآياتُ والأحادِيثُ الدّالَّةُ عَلى هَذا لا تُحْصى، قالَ تَعالى: ﴿وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، ولَمْ يَقُلْ حَتّى نُلْقِيَ في القُلُوبِ إلْهامًا، وقالَ تَعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥]، وقالَ: ﴿وَلَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ﴾ الآيَةَ [طه: ١٣٤]، والآياتُ والأحادِيثُ بِمِثْلِ هَذا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وقَدْ بَيَّنّا طَرَفًا مِن ذَلِكَ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، وبِذَلِكَ تَعْلَمُ أنَّ ما يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الجَهَلَةِ المُدَّعِينَ التَّصَوُّفَ مِن أنَّ لَهم ولِأشْياخِهِمْ طَرِيقًا باطِنَةً تُوافِقُ الحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ ولَوْ كانَتْ مُخالِفَةً لِظاهِرِ الشَّرْعِ، كَمُخالَفَةِ ما فَعَلَهُ الخَضِرِ لِظاهِرِ العِلْمِ الَّذِي عِنْدَ مُوسى، زَنْدَقَةٌ، وذَرِيعَةٌ إلى الِانْحِلالِ بِالكُلِّيَّةِ مِن دِينِ الإسْلامِ، بِدَعْوى أنَّ الحَقَّ في أُمُورٍ باطِنَةٍ تُخالِفُ ظاهِرَهُ.
قالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِهِ ما نَصُّهُ: قالَ شَيْخُنا الإمامُ أبُو العَبّاسِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِن زَنادِقَةِ الباطِنِيَّةِ إلى سُلُوكِ طَرِيقٍ لا تَلْزَمُ مِنهُ هَذِهِ الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ فَقالُوا: هَذِهِ الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ العامَّةُ إنَّما يُحْكَمُ بِها عَلى الأنْبِياءِ والعامَّةِ، وأمّا الأوْلِياءُ وأهْلُ الخُصُوصِ فَلا يَحْتاجُونَ إلى تِلْكَ النُّصُوصِ، بَلْ إنَّما يُرادُ مِنهم ما يَقَعُ في قُلُوبِهِمْ، ويُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِما يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِن خَواطِرِهِمْ، وقالُوا: وذَلِكَ لِصَفاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الأكْدارِ، وخُلُوِّها عَنِ الأغْيارِ، فَتَتَجَلّى لَهُمُ العُلُومُ الإلَهِيَّةُ، والحَقائِقُ الرَّبّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلى أسْرارِ الكائِناتِ، ويَعْلَمُونَ أحْكامَ الجُزْئِيّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِها عَنْ أحْكامِ الشَّرائِعِ الكُلِّيّاتِ، كَما اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ فَإنَّهُ اسْتَغْنى بِما تَجَلّى لَهُ مِنَ العُلُومِ عَمّا كانَ عِنْدَ مُوسى مِن تِلْكَ الفُهُومِ، وقَدْ جاءَ فِيما (p-٣٢٥)يَنْقُلُونَ ”اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وإنْ أفْتاكَ المُفْتُونَ“، قالَ شَيْخُنا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ زَنْدَقَةٌ وكُفْرٌ، يُقْتَلُ قائِلُهُ ولا يُسْتَتابُ؛ لِأنَّهُ إنْكارُ ما عُلِمَ مِنَ الشَّرائِعِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أجْرى سُنَّتَهُ، وأنْفَذَ حِكْمَتَهُ بِأنَّ أحْكامَهُ لا تُعْلَمُ إلّا بِواسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَراءِ بَيْنَهُ وبَيْنَ خَلْقِهِ، وهُمُ المُبَلِّغُونَ عَنْهُ رِسالَتَهُ وكَلامَهُ، المُبَيِّنُونَ شَرائِعَهُ وأحْكامَهُ، اخْتارَهم لِذَلِكَ وخَصَّهم بِما هُنالِكَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: ٧٥]، وقالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، وقالَ تَعالى: ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾ [البقرة: ٢١٣]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَعَلى الجُمْلَةِ، فَقَدْ حَصَلَ العِلْمُ القَطْعِيُّ واليَقِينُ الضَّرُورِيُّ، واجْتِماعُ السَّلَفِ والخَلَفِ عَلى أنْ لا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي هي راجِعَةٌ إلى أمْرِهِ ونَهْيِهِ، ولا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنها إلّا مِن جِهَةِ الرُّسُلِ، فَمَن قالَ إنَّ هُناكَ طَرِيقًا أُخْرى يُعْرَفُ بِها أمْرُهُ ونَهْيُهُ غَيْرَ الرُّسُلِ حَيْثُ يَسْتَغْنِي عَنِ الرُّسُلِ فَهو كافِرٌ يُقْتَلُ ولا يُسْتَتابُ، ولا يُحْتاجُ مَعَهُ إلى سُؤالٍ وجَوابٍ، ثُمَّ هو قَوْلٌ بِإثْباتِ أنْبِياءَ بَعْدَ نَبِيِّنا ﷺ، الَّذِي قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ خاتَمَ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ، فَلا نَبِيَّ بَعْدَهُ ولا رَسُولَ.
وَبَيانُ ذَلِكَ أنَّ مَن قالَ: يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ، وأنَّ ما يَقَعُ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعالى، وأنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضاهُ، وأنَّهُ ولا يَحْتاجُ مَعَ ذَلِكَ إلى كِتابٍ ولا سُنَّةٍ فَقَدْ أثْبَتَ لِنَفْسِهِ خاصَّةَ النُّبُوَّةِ، فَإنَّ هَذا نَحْوُ ما قالَهُ ﷺ: ”«إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي» .“ الحَدِيثَ، انْتَهى مِن تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ.
وَما ذَكَرَهُ في كَلامِ شَيْخِهِ المَذْكُورِ مِن أنَّ الزِّنْدِيقَ لا يُسْتَتابُ هو مَذْهَبُ مالِكٍ ومَن وافَقَهُ، وقَدْ بَيَّنّا أقْوالَ العُلَماءِ في ذَلِكَ وأدِلَّتَهم، وما يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ في كِتابِنا ) دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ (في سُورَةِ ”آلِ عِمْرانَ“، وما يَسْتَدِلُّ بِهِ بَعْضُ الجَهَلَةِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّصَوُّفَ عَلى اعْتِبارِ الإلْهامِ مِن ظَواهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ كَحَدِيثِ «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وإنْ أفْتاكَ النّاسُ وأفْتَوْكَ» لا دَلِيلَ فِيهِ البَتَّةَ عَلى اعْتِبارِ الإلْهامِ: لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ أنَّ المُفْتِيَ الَّذِي تُتَلَقّى الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ مِن قِبَلِهِ القَلْبُ، بَلْ مِنَ الحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنَ الشُّبَهِ؛ لِأنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ والحَلالَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ لا يَعْلَمُها كُلُّ النّاسِ.
فَقَدْ يُفْتِيكَ المُفْتِي بِحِلِّيَّةِ شَيْءٍ وأنْتَ تَعْلَمُ مِن طَرِيقٍ أُخْرى أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حَرامًا، وذَلِكَ بِاسْتِنادٍ إلى الشَّرْعِ، فَإنَّ قَلْبَ المُؤْمِنِ لا يَطْمَئِنُّ لِما فِيهِ الشُّبْهَةُ، والحَدِيثُ، كَقَوْلِهِ «دَعْ ما (p-٣٢٦)يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ» وقَوْلِـهِ ﷺ: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ ما حاكَ في نَفْسِكَ وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النّاسُ» رَواهُ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «وَحَدِيثِ وابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المُشارِ إلَيْهِ قالَ: أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ”جِئْتَ تَسْألُ عَنِ البِرِّ“ ؟ قُلْتُ نَعَمْ: قالَ: ”اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ ما اطْمَأنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ واطْمَأنَّ إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ وإنْ أفْتاكَ النّاسُ وأفْتَوْكَ»“ قالَ النَّوَوِيُّ في) رِياضِ الصّالِحِينَ (: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَواهُ أحْمَدُ والدّارِمِيُّ في مُسْنَدَيْهِما، ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ بِهَذا الحَدِيثِ ونَحْوِهِ الحَثُّ عَلى الوَرَعِ وتَرْكِ الشُّبُهاتِ، فَلَوِ التَبَسَتْ مَثَلًا مَيِّتَةٌ بِمُذَكّاةٍ، أوِ امْرَأةٌ مَحْرَمٌ بِأجْنَبِيَّةٍ، وأفْتاكَ بَعْضُ المُفْتِينَ بِحِلِّيَّةِ إحْداهُما لِاحْتِمالِ أنْ تَكُونَ هي المُذَكّاةُ في الأوَّلِ، والأجْنَبِيَّةُ في الثّانِي، فَإنَّكَ إذا اسْتَفْتَيْتَ قَلْبَكَ عَلِمْتَ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هي المَيِّتَةُ أوِ الأُخْتُ، وأنَّ تَرْكَ الحَرامِ والِاسْتِبْراءَ لِلدِّينِ والعِرْضِ لا يَتَحَقَّقُ إلّا بِتَجَنُّبِ الجَمِيعِ؛ لِأنَّ ما لا يَتِمُّ تَرْكُ الحَرامِ إلّا بِتَرْكِهِ فَتَرْكُهُ واجِبٌ، فَهَذا يَحِيكُ في النَّفْسِ ولا تَنْشَرِحُ لَهُ، لِاحْتِمالِ الوُقُوعِ في الحَرامِ فِيهِ كَما تَرى، وكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ لا لِلْإلْهامِ.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا مِن كَلامِ أهْلِ الصُّوفِيَّةِ المَشْهُودِ لَهم بِالخَيْرِ والدِّينِ والصَّلاحِ قَوْلُ الشَّيْخِ أبِي القاسِمِ الجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الجُنَيْدِ الخَزّازِ القَوارِيرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (مَذْهَبُنا هَذا مُقَيَّدٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ)، نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ واحِدٍ مِمَّنْ تَرْجَمَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، كابْنِ كَثِيرٍ وابْنِ خِلِّكانَ وغَيْرِهِما، ولا شَكَّ أنَّ كَلامَهُ المَذْكُورَ هو الحَقُّ، فَلا أمْرَ ولا نَهْيَ إلّا عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبِهَذا كُلُّهُ تَعْلَمُ أنَّ قَتْلَ الخَضِرِ لِلْغُلامِ، وخَرْقَهُ لِلسَّفِينَةِ، وقَوْلَهُ: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾، دَلِيلٌ ظاهِرٌ عَلى نُبُوَّتِهِ. وعَزا الفَخْرُ الرّازِيُّ في تَفْسِيرِهِ القَوْلَ بِنُبُوَّتِهِ لِلْأكْثَرِينَ، ومِمّا يَسْتَأْنِسُ بِهِ لِلْقَوْلِ بِنُبُوَّتِهِ تَواضُعُ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَهُ في قَوْلِهِ: ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: ٦٦]، وقَوْلِـهِ: ﴿قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ [الكهف: ٦٩]، مَعَ قَوْلِ الخَضِرِ لَهُ ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾، [الكهف: ٦٨] .
* * *
* مَسْألَةٌ
اعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في الخَضِرِ: هَلْ هو حَيٌّ إلى الآنِ، أوْ هو غَيْرُ حَيٍّ، بَلْ مِمَّنْ ماتَ فِيما مَضى مِنَ الزَّمانِ ؟ فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ حَيٌّ، وأنَّهُ شَرِبَ مِن (p-٣٢٧)عَيْنٍ تُسَمّى عَيْنَ الحَياةِ، ومِمَّنْ نَصَرَ القَوْلَ بِحَياتِهِ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ، والنَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ، وابْنُ الصَّلاحِ، والنَّقّاشُ وغَيْرُهم، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأطْنَبَ النَّقّاشُ لَهُ هَذا المَعْنى، يَعْنِي حَياةَ الخَضِرِ وبَقاءَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وذِكَرَ في كِتابِهِ أشْياءَ كَثِيرَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وكُلُّها لا تَقُومُ عَلى ساقٍ انْتَهى بِواسِطَةِ نَقْلِ القُرْطُبِيِّ في تَفْسِيرِهِ.
وَحِكاياتُ الصّالِحِينَ عَنِ الخَضِرِ أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصَرَ، ودَعْواهم أنَّهُ يَحُجُّ هو وإلْياسُ كُلَّ سَنَةٍ، ويَرْوُونَ عَنْهُما بَعْضَ الأدْعِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، ومُسْتَنَدُ القائِلِينَ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأنَّ غالِبَهُ حِكاياتٌ عَنْ بَعْضِ مَن يُظَنُّ بِهِ الصَّلاحُ، ومَناماتٌ وأحادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أنَسٍ وغَيْرِهِ، وكُلُّها ضَعِيفٌ لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.
وَمِن أقْواهُ عِنْدَ القائِلِينَ بِهِ آثارُ التَّعْزِيَةِ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ، وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في تَمْهِيدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: لَمّا تُوَفِّي النَّبِيُّ ﷺ وسُجِّيَ بِثَوْبٍ هَتَفَ هاتِفٌ مِن ناحِيَةِ البَيْتِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ ولا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: السَّلامُ عَلَيْكم ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْكم أهْلَ البَيْتِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٨٥]، إنَّ في اللَّهِ خَلَفًا مِن كُلِّ هالِكٍ، وعِوَضًا مِن كُلِّ تالِفٍ، وعَزاءً مِن كُلِّ مُصِيبَةٍ فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وإيّاهُ فارْجُوا، فَإنَّ المُصابَ مَن حُرِمَ الثَّوابَ، فَكانُوا يَرَوْنَ أنَّهُ الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ، يَعْنِي أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ، انْتَهى بِواسِطَةِ نَقْلِ القُرْطُبِيِّ في تَفْسِيرِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: والِاسْتِدْلالُ عَلى حَياةِ الخَضِرِ بِآثارِ التَّعْزِيَةِ كَهَذا الأثَرِ الَّذِي ذَكَرْنا آنِفًا مَرْدُودٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: وحَكى النَّوَوِيُّ وغَيْرُهُ في بَقاءِ الخَضِرِ إلى الآنِ، ثُمَّ إلى يَوْمِ القِيامَةِ قَوْلَيْنِ، ومالَ هو وابْنُ الصَّلاحِ إلى بَقائِهِ، وذَكَرُوا في ذَلِكَ حِكاياتٍ عَنِ السَّلَفِ وغَيْرِهِمْ، وجاءَ ذِكْرُهُ في بَعْضِ الأحادِيثِ، ولا يَصِحُّ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، وأشْهَرُها حَدِيثُ التَّعْزِيَةِ وإسْنادُهُ ضَعِيفٌ ا هـ، مِنهُ.
الثّانِي: أنَّهُ عَلى فَرْضِ أنَّ حَدِيثَ التَّعْزِيَةِ صَحِيحٌ لا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ عَقْلًا ولا شَرْعًا ولا عِرْفانًا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المُعَزِّي هو الخَضِرُ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ الخَضِرِ مِن مُؤْمِنِي الجِنِّ؛ لِأنَّ الجِنَّ هُمُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿إنَّهُ يَراكم هو وقَبِيلُهُ مِن حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧]، ودَعْوى أنَّ ذَلِكَ المُعَزِّيَ هو الخَضِرُ تَحَكُّمٌ بِلا دَلِيلٍ، وقَوْلُـهم: كانُوا يَرَوْنَ أنَّهُ الخَضِرُ لَيْسَ حُجَّةً يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْها؛ لِاحْتِمالِ أنْ يُخْطِئُوا في ظَنِّهِمْ، ولا يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى (p-٣٢٨)إجْماعٍ شَرْعِيٍّ مَعْصُومٍ، ولا مُتَمَسَّكَ لَهم في دَعْواهم أنَّهُ الخَضِرُ كَما تَرى.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ في هَذِهِ المَسْألَةِ أنَّ الخَضِرَ لَيْسَ بِحَيٍّ بَلْ تُوُفِّيَ، وذَلِكَ لِعِدَّةِ أدِلَّةٍ:
الأوَّلُ: ظاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤]، فَقَوْلُهُ ”لِبَشَرٍ“ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ فَهي تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ نَفْيُ الخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ مِن قَبْلِهِ، والخَضِرُ بَشَرٌ مِن قَبْلِهِ، فَلَوْ كانَ شَرِبَ مِن عَيْنِ الحَياةِ وصارَ حَيًّا خالِدًا إلى يَوْمِ القِيامَةِ لَكانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لِذَلِكَ البَشَرِ الَّذِي هو الخَضِرُ مِن قَبْلِهِ الخُلْدَ.
الثّانِي: قَوْلُهُ ﷺ: «اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ مِن أهْلِ الإسْلامِ لا تُعْبَدُ في الأرْضِ» فَقَدْ قالَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا هَنّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ، حَدَّثَنِي سِماكٌ الحَنَفِيُّ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ ) ح (وحَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ واللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الحَنَفِيُّ، حَدَّثَنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ، حَدَّثَنِي أبُو زُمَيْلٍ هو زَمِيلٌ الحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ قالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قالَ: «لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى المُشْرِكِينَ وهم ألْفٌ وأصْحابُهُ ثَلاثُمِائَةٍ وتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ القِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: ”اللَّهُمَّ أنْجِزَ لِي ما وعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ مِن أهْلِ الإسْلامِ لا تُعْبَدُ في الأرْضِ“ فَما زالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ حَتّى سَقَطَ رِداؤُهُ عَنْ مَنكِبَيْهِ، فَأتاهُ أبُو بَكْرٍ فَأخَذَ رِداءَهُ فَألْقاهُ عَلى مَنكِبَيْهِ ثُمَّ التَزَمَهُ مِن ورائِهِ وقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ كَفاكَ مُناشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ ما وعَدَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكم فاسْتَجابَ لَكم أنِّي مُمِدُّكم بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: ٩]، فَأمَدَّهُ اللَّهُ بِالمَلائِكَةِ» . .، الحَدِيثَ، ومَحَلُّ الشّاهِدِ مِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: «لا تُعْبَدُ في الأرْضِ» فِعْلٌ في سِياقِ النَّفْيِ فَهو بِمَعْنى: لا تَقَعُ عِبادَةٌ لَكَ في الأرْضِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وعَنْ مَصْدَرٍ ونِسْبَةٍ وزَمَنٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ البَلاغِيِّينَ، فالمَصْدَرُ كامِنٌ في مَفْهُومِهِ إجْماعًا، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ النَّفْيُ فَيُؤَوَّلُ إلى النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ، وهي مِن صِيَغِ العُمُومِ كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ وإلى كَوْنِ الفِعْلِ في سِياقِ النَّفْيِ والشَّرْطِ مِن صِيَغِ العُمُومِ أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عاطِفًا عَلى ما يُفِيدُ العُمُومَ:(p-٣٢٩)
؎وَنَحْوُ لا شَرِبْتُ أوْ إنْ شَرِبا واتَّفَقُوا إنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبا
فَإذا عَلِمْتَ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ: «إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ لا تُعْبَدُ في الأرْضِ» أيْ: لا تَقَعُ عِبادَةٌ لَكَ في الأرْضِ.
فاعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ وُجُودَ الخَضِرِ حَيًّا في الأرْضِ؛ لِأنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ وجُودِهِ حَيًّا في الأرْضِ فَإنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ في الأرْضِ، ولَوْ عَلى فَرْضِ هَلاكِ تِلْكَ العِصابَةِ مِن أهْلِ الإسْلامِ؛ لِأنَّ الخَضِرَ ما دامَ حَيًّا فَهو يَعْبُدُ اللَّهَ في الأرْضِ، وقالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنا عَبْدُ الوَهّابِ، حَدَّثَنا خالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قالَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ: ”اللَّهُمَّ أنْشُدُكَ عَهْدَكَ ووَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ في الأرْضِ“ فَأخَذَ أبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقالَ: حَسْبُكَ ! فَخَرَجَ وهو يَقُولُ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾» [القمر: ٤٥]، فَقَوْلُهُ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ في الأرْضِ» أيْ: إنْ شِئْتَ إهْلاكَ هَذِهِ الطّائِفَةِ مِن أهْلِ الإسْلامِ لَمْ تُعْبَدْ في الأرْضِ، فَيَرْجِعُ مَعْناهُ إلى الرِّوايَةِ الَّتِي ذَكَرْنا عَنْ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقَدْ بَيَّنّا وجْهَ الِاسْتِدْلالِ بِالحَدِيثِ عَنْ وفاةِ الخَضِرِ.
الثّالِثُ: إخْبارُهُ ﷺ بِأنَّهُ عَلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيها بِالحَدِيثِ لَمْ يَبْقَ عَلى وجْهِ الأرْضِ أحَدٌ مِمَّنْ هو عَلَيْها تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَوْ كانَ الخَضِرُ حَيًّا في الأرْضِ لَما تَأخَّرَ بَعْدَ المِائَةِ المَذْكُورَةِ، قالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ: حَدَّثَنا، وقالَ عَبْدٌ: أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أخْبَرَنِي سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وأبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمانَ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قالَ: «صَلّى بِنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذاتَ لَيْلَةٍ صَلاةَ العِشاءِ في آخِرِ حَياتِهِ، فَلَمّا سَلَّمَ قامَ فَقالَ: ”أرَأيْتُكم لَيْلَتَكم هَذِهِ، فَإنَّ عَلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنها لا يَبْقى مِمَّنْ هو اليَوْمَ عَلى ظَهْرِها أحَدٌ“ . قالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهَلَ النّاسُ في مَقالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ فِيما يَتَحَدَّثُونَ مِن هَذِهِ الأحادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وإنَّما قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”لا يَبْقى مِمَّنْ هو اليَوْمَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ“، يُرِيدُ بِذَلِكَ أنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ القَرْنُ»، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدّارِمِيِّ، أخْبَرَنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ، ورَواهُ اللَّيْثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خالِدِ بْنِ مُسافِرٍ، كِلاهُما عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإسْنادِ مَعْمَرٍ كَمِثْلِ حَدِيثِهِ، حَدَّثَنِي هارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وحَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ قالا: حَدَّثَنا حَجّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قالَ: قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أخْبَرَنِي أبُو الزُّبَيْرِ أنَّهُ «سَمِعَ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: ”تَسْألُونِي (p-٣٣٠)عَنِ السّاعَةِ وإنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وأقْسَمَ اللَّهُ ما عَلى الأرْضِ مِن نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْها مِائَةُ سَنَةٍ»“ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حاتِمٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ بِهَذا الإسْنادِ ولَمْ يَذْكُرْ ”قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ“ .
حَدَّثَنِي يَحْيى بْنُ حَبِيبٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى، كِلاهُما عَنِ المُعْتَمِرِ قالَ ابْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، قالَ: سَمِعْتُ أبِي، حَدَّثَنا أبُو نَضْرَةَ «عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ: ”ما مِن نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ اليَوْمَ تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وهي حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ“»، وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صاحِبِ السِّقايَةِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وفَسَّرَها عَبْدُ الرَّحْمَنِ قالَ: نَقَصُ العُمُرِ، حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ، أخْبَرَنا سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ بِالإسْنادَيْنِ جَمِيعًا مِثْلَهُ.
حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبُو خالِدٍ عَنْ داوُدَ واللَّفْظُ لَهُ) ح (وحَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَيّانَ عَنْ داوُدَ عَنْ أبِي نَضْرَةَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: «لَمّا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِن تَبُوكَ سَألُوهُ عَنِ السّاعَةِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”لا تَأْتِي مِائَةٌ وعَلى الأرْضِ نَفْسٌ مَنفُوسَةٌ اليَوْمَ»“ حَدَّثَنِي إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، أخْبَرَنا أبُو الوَلِيدِ، أخْبَرَنا أبُو عَوانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سالِمٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”ما مِن نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ تَبْلُغُ مِائَةَ سَنَةٍ“ فَقالَ سالِمٌ: تَذاكَرْنا ذَلِكَ عِنْدَهُ: إنَّما هي كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ يَوْمَئِذٍ» ا هـ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
فَهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَواهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ابْنُ عُمَرَ، وجابِرٌ، وأبُو سَعِيدٍ فِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ ﷺ بِأنَّهُ لا تَبْقى نَفْسٌ مَنفُوسَةٌ حَيَّةً عَلى وجْهِ الأرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقَوْلُهُ ”نَفْسٌ مَنفُوسَةٌ“ ونَحْوُها مِنَ الألْفاظِ في رِواياتِ الحَدِيثِ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ فَهي تَعُمُّ كُلَّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ عَلى الأرْضِ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ العُمُومَ بِمُقْتَضى اللَّفْظِ يَشْمَلُ الخَضِرَ؛ لِأنَّهُ نَفْسٌ مَنفُوسَةٌ عَلى الأرْضِ، وقالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا أبُو اليَمانِ، أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: حَدَّثَنِي سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وأبُو بَكْرِ بْنُ أبِي حَثْمَةَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قالَ: «صَلّى النَّبِيُّ ﷺ صَلاةَ العِشاءِ في آخِرِ حَياتِهِ، فَلَمّا سَلَّمَ قامَ النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: ”أرَأيْتُكم لَيْلَتَكم هَذِهِ، فَإنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لا يَبْقى مِمَّنْ هو اليَوْمَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ“ فَوَهَلَ النّاسُ في مَقالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى ما يَتَحَدَّثُونَ مِن هَذِهِ الأحادِيثِ عَنْ مِائَةٍ سَنَةٍ: وإنَّما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”لا يَبْقى مِمَّنْ هو اليَوْمَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ“ يُرِيدُ بِذَلِكَ أنَّها تَخْرِمُ ذَلِكَ القَرْنَ» انْتَهى مِنهُ بِلَفْظِهِ، وقَدْ بَيَّنّا وجْهَ دَلالَتِهِ عَلى المُرادِ قَرِيبًا.
(p-٣٣١)الرّابِعُ: أنَّ الخَضِرَ لَوْ كانَ حَيًّا إلى زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَكانَ مِن أتْباعِهِ، ولَنَصَرَهُ وقاتَلَ مَعَهُ؛ لِأنَّهُ مَبْعُوثٌ إلى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الإنْسِ والجِنِّ، والآياتُ الدّالَّةُ عَلى عُمُومِ رِسالَتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وقَوْلِـهِ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْناكَ إلّا كافَّةً لِلنّاسِ﴾ [سبإ: ٢٨]، ويُوَضِّحُ هَذا أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في سُورَةِ ”آلِ عِمْرانَ“: أنَّهُ أخَذَ عَلى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ المِيثاقَ المُؤَكَّدَ أنَّهم إنْ جاءَهم نَبِيُّنا ﷺ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم أنْ يُؤْمِنُوا بِهِ ويَنْصُرُونَهُ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا قالَ فاشْهَدُوا وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ ﴿فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ٨١ - ٨٢] .
وَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ عَلى القَوْلِ بِأنَّ المُرادَ بِالرَّسُولِ فِيها نَبِيُّنا ﷺ، كَما قالَهُ ابْنُ العَبّاسِ وغَيْرُهُ فالأمْرُ واضِحٌ، وعَلى أنَّها عامَّةٌ فَهو ﷺ يَدْخُلُ في عُمُومِها دُخُولًا أوَّلِيًّا، فَلَوْ كانَ الخَضِرُ حَيًّا في زَمَنِهِ لَجاءَهُ ونَصَرَهُ وقاتَلَ تَحْتَ رايَتِهِ، ومِمّا يُوَضِّحُ أنَّهُ لا يُدْرِكُهُ نَبِيٌّ إلّا اتَّبَعَهُ ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ والبَزّارُ مِن حَدِيثِ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أتى النَّبِيَّ ﷺ بِكِتابٍ أصابَهُ مِن بَعْضِ أهْلِ الكِتابِ فَقَرَأهُ عَلَيْهِ فَغَضِبَ وقالَ: ”لَقَدْ جِئْتُكم بِها بَيْضاءَ نَقِيَّةً لا تَسْألُوهم عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكم بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أوْ باطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أنَّ مُوسى كانَ حَيًّا ما وسِعَهُ إلّا أنْ يَتَّبِعَنِي»“ ا هـ قالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ: ورِجالُهُ مُوَثَّقُونَ، إلّا أنَّ في مُجالِدٍ ضَعْفًا، وقالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تارِيخِهِ بَعْدَ أنْ ساقَ آيَةَ ”آلِ عِمْرانَ“ المَذْكُورَةِ آنِفًا مُسْتَدِلًّا بِها عَلى أنَّ الخَضِرَ لَوْ كانَ حَيًّا لَجاءَ النَّبِيَّ ﷺ ونَصَرَهُ ما نَصُّهُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنا إلّا أُخِذَ عَلَيْهِ المِيثاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ وهو حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولِيَنْصُرُنَّهُ، وأمَرُهُ أنْ يَأْخُذَ عَلى أُمَّتِهِ المِيثاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ وهم أحْياءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ويَنْصُرُونَهُ، ذَكَرَهُ البُخارِيُّ عَنْهُ.
فالخَضِرُ إنْ كانَ نَبِيًّا أوْ ولِيًّا فَقَدْ دَخَلَ في هَذا المِيثاقِ، فَلَوْ كانَ حَيًّا في زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَكانَ أشْرَفَ أحْوالِهِ أنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُؤْمِنُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ويَنْصُرُهُ أنْ يَصِلَ أحَدٌ مِنَ الأعْداءِ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ ولِيًّا فالصَّدِيقُ أفْضَلُ مِنهُ، وإنْ كانَ نَبِيًّا فَمُوسى أفْضَلُ مِنهُ.
(p-٣٣٢)وَقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمانِ، حَدَّثَنا هُشَيْمٌ أنْبَأنا مُجالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أنَّ مُوسى كانَ حَيًّا ما وسِعَهُ إلّا أنْ يَتْبَعَنِي»، وهَذا الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ ويُعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ: أنَّ الأنْبِياءَ كُلَّهم لَوْ فُرِضَ أنَّهم أحْياءٌ مُكَلَّفُونَ في زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَكانُوا كُلُّهم أتْباعًا لَهُ وتَحْتَ أوامِرِهِ، وفي عُمُومِ شَرْعِهِ، كَما أنَّ صَلَواتِ اللَّهِ وسَلامَهُ عَلَيْهِ لَمّا اجْتَمَعَ بِهِمُ الإسْراءُ رُفِعَ فَوْقَهم كُلِّهِمْ، ولَمّا هَبَطُوا مَعَهُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وحانَتِ الصَّلاةُ أمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أمْرِ اللَّهِ أنْ يَؤُمَّهم، فَصَلّى بِهِمْ في مَحَلِّ ولايَتِهِمْ ودارِ إقامَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ الإمامُ الأعْظَمُ، والرَّسُولُ الخاتَمُ المُبَجَّلُ المُقَدَّمُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
فَإذا عُلِمَ هَذا، وهو مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، عُلِمَ أنَّهُ لَوْ كانَ الخَضِرُ حَيًّا لَكانَ مِن جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ومِمَّنْ يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ لا يَسَعُهُ إلّا ذَلِكَ، هَذا عِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا نَزَلَ في آخِرِ الزَّمانِ يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ المُطَهَّرَةِ، لا يَخْرُجُ مِنها ولا يَحِيدُ عَنْها، وهو أحَدُ أُولِي العَزْمِ الخَمْسَةِ المُرْسَلِينَ، وخاتَمُ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ، والمَعْلُومُ أنَّ الخَضِرَ لَمْ يَنْقُلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ولا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَيْهِ أنَّهُ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في يَوْمٍ واحِدٍ، ولَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتالًا في مَشْهَدٍ مِنَ المَشاهِدِ، وهَذا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصّادِقُ المَصْدُوقُ فِيما دَعا بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ واسْتَنْصَرَهُ واسْتَفْتَحَهُ عَلى مَن كَفَرَهُ: «اللَّهُمَّ إنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ العِصابَةَ لا تُعْبَدُ بَعْدَها في الأرْضِ» وتِلْكَ العِصابَةُ كانَ تَحْتَها سادَةُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وسادَةُ المَلائِكَةِ حَتّى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَما قالَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ في قَصِيدَةٍ لَهُ في بَيْتٍ يُقالُ بِأنَّهُ أفْخَرُ بَيْتٍ قالَتْهُ العَرَبُ:
؎وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إذْ يَرُدُّ
؎وُجُوهَهم جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوائِنا ∗∗∗ ومُحَمَّدُ
فَلَوْ كانَ الخَضِرُ حَيًّا لَكانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرّايَةِ أشْرَفَ مَقاماتِهِ، وأعْظَمَ غَزَواتِهِ، قالَ القاضِي أبُو يَعْلى مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ الفَرّاءِ الحَنْبَلِيُّ: سُئِلَ بَعْضُ أصْحابِنا عَنِ الخَضِرِ هَلْ ماتَ ؟ فَقالَ: نَعَمْ، قالَ: وبَلَغَنِي مِثْلُ هَذا عَنْ أبِي طاهِرِ بْنِ العَبّادِيِّ قالَ: وكانَ يَحْتَجُّ بِأنَّهُ لَوْ كانَ حَيًّا لَجاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، نَقَلَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ في العُجالَةِ، فَإنْ قِيلَ: فَهَلْ يُقالُ إنَّهُ كانَ حاضِرًا في هَذِهِ المَواطِنِ كُلِّها ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَراهُ ؟
فالجَوابُ: أنَّ الأصْلَ عَدَمُ هَذا الِاحْتِمالِ البَعِيدِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنهُ تَخْصِيصُ العُمُوماتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّماتِ، ثُمَّ (p-٣٣٣)ما الحامِلُ لَهُ عَلى هَذا الِاخْتِفاءِ ؟ وظُهُورُهُ أعْظَمُ لِأجْرِهِ، وأعْلى في مَرْتَبَتِهِ، وأظْهَرُ لِمُعْجِزَتِهِ، ثُمَّ لَوْ كانَ باقِيًا بَعْدَهُ لَكانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الأحادِيثَ النَّبَوِيَّةَ، والآياتِ القُرْآنِيَّةَ، وإنْكارَهُ لِما وقَعَ مِنَ الأحادِيثِ المَكْذُوبَةِ، والرِّواياتِ المَقْلُوبَةِ، والآراءِ البِدْعِيَّةِ، والأهْواءِ العَصَبِيَّةِ، وقِتالُهُ مَعَ المُسْلِمِينَ في غَزَواتِهِمْ، وشُهُودُهُ جَمْعَهم وجَماعاتِهِمْ، ونَفْعُهُ إيّاهم، ودَفْعُهُ الضَّرَرَ عَنْهم مِمّا سِواهم، وتَسْدِيدُهُ العُلَماءَ والحُكّامَ، وتَقْرِيرُهُ الأدِلَّةَ والأحْكامَ أفْضَلَ مِمّا يُقالُ مِن كَوْنِهِ في الأمْصارِ، وجَوْبِهِ الفَيافِيَ والأقْطارَ، واجْتِماعِهِ بِعِبادٍ لا تُعْرَفُ أحْوالُ كَثِيرٍ مِنهم، وجَعْلِهِ كالنَّقِيبِ المُتَرْجِمِ عَنْهُمْ
وَهَذا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لا يَتَوَقَّفُ أحَدٌ فِيهِ بَعْدَ التَّفَهُّمِ، واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، انْتَهى مِنَ البِدايَةِ والنِّهايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
فَتَحَصَّلَ أنَّ الأحادِيثَ المَرْفُوعَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلى وُجُودِ الخَضِرِ حَيًّا باقِيًا لَمْ يَثْبُتْ مِنها شَيْءٌ، وأنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الأدِلَّةُ المَذْكُورَةُ عَلى وفاتِهِ، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ.
وَمِمَّنْ بَيَّنَ ضَعْفَ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى حَياةِ الخَضِرِ وبَقائِهِ ابْنُ كَثِيرٍ في تارِيخِهِ وتَفْسِيرِهِ، وبَيَّنَ كَثِيرًا مِن أوْجُهِ ضَعْفِها ابْنُ حَجَرٍ في الإصابَةِ، وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في البِدايَةِ والنِّهايَةِ بَعْدَ أنْ ساقَ الأحادِيثَ والحِكاياتِ الوارِدَةَ في حَياةِ الخَضِرِ: وهَذِهِ الرِّواياتُ والحِكاياتُ هي عُمْدَةُ مَن ذَهَبَ إلى حَياتِهِ إلى اليَوْمِ، وكُلٌّ مِنَ الأحادِيثِ المَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لا تَقُومُ بِمِثْلِها حُجَّةٌ في الدِّينِ.
والحِكاياتُ لا يَخْلُو أكْثَرُها مَن ضَعْفٍ في الإسْنادِ، وقُصاراها أنَّها صَحِيحَةٌ إلى مَن لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِن صَحابِيٍّ أوْ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الخَطَأُ) واللَّهُ أعْلَمُ (، إلى أنْ قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وقَدْ تَصَدّى الشَّيْخُ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتابِهِ ) عَجَلَةِ المُنْتَظِرِ في شَرْحِ حالَةِ الخَضِرِ ( لِلْأحادِيثِ الوارِدَةِ في ذَلِكَ مِنَ المَرْفُوعاتِ فَبَيَّنَ أنَّها مَوْضُوعاتٌ، ومِنَ الآثارِ عَنِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ فَمَن بَعْدَهم، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أسانِيدِها بِبَيانِ أحْوالِها، وجَهالَةِ رِجالِها، وقَدْ أجادَ في ذَلِكَ وأحْسَنَ الِانْتِقادَ ا هـ مِنهُ.
واعْلَمْ أنَّ جَماعَةً مِن أهْلِ العِلْمِ ناقَشُوا الأدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنا أنَّها تَدُلُّ عَلى وفاتِهِ، فَزَعَمُوا أنَّهُ لا يَشْمَلُهُ عُمُومُ ﴿وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ [الأنبياء: ٣٤]، ولا عُمُومُ حَدِيثِ: «أرَأيْتُكم لَيْلَتَكم هَذِهِ فَإنَّهُ عَلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَمْ يَبْقَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ مِمَّنْ هو عَلَيْها اليَوْمَ» كَما تَقَدَّمَ، قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: ولا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ يَعْنِي الحَدِيثَ المَذْكُورَ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ الخَضِرَ (p-٣٣٤)حَيٌّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ ”ما مِن نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ.“؛ لِأنَّ العُمُومَ وإنْ كانَ مُؤَكَّدَ الِاسْتِغْراقِ لَيْسَ نَصًّا فِيهِ، بَلْ هو قابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، فَكَما لَمْ يَتَناوَلْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ لَمْ يَمُتْ ولَمْ يُقْتَلْ، بَلْ هو حَيٌّ بِنَصِّ القُرْآنِ ومَعْناهُ، ولا يَتَناوَلُ الدَّجّالَ مَعَ أنَّهُ حَيٌّ بِدَلِيلِ حَدِيثٍ الجَسّاسَةِ: فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَناوَلِ الخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَيْسَ مُشاهَدًا لِلنّاسِ، ولا مِمَّنْ يُخالِطُهم حَتّى يَخْطُرَ بِبالِهِمْ حالَةَ مُخاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَمِثْلُ هَذا العُمُومِ لا يَتَناوَلُهُ، وقِيلَ: إنَّ أصْحابَ الكَهْفِ أحْياءٌ، ويَحُجُّونَ مَعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَما تَقَدَّمَ، وكَذَلِكَ فَتى مُوسى في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ كَما ذَكَرْنا ا هـ مِنهُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: كَلامُ القُرْطُبِيِّ هَذا ظاهِرُ السُّقُوطِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ إلْمامٌ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، فَإنَّهُ اعْتَرَفَ بِأنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ عامٌّ في كُلِّ نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ عُمُومًا مُؤَكَّدًا؛ لِأنَّ زِيادَةَ ”مِن“ قَبْلَ النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ تَجْعَلُها نَصًّا صَرِيحًا في العُمُومِ لا ظاهِرًا فِيهِ كَما هو مُقَرَّرٌ في الأُصُولِ، وقَدْ أوْضَحْناهُ في سُورَةِ ”المائِدَةِ“ .
وَلَوْ فَرَضْنا صِحَّةَ ما قالَهُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى مِن أنَّهُ ظاهِرٌ في العُمُومِ لا نَصَّ فِيهِ، وقَرَّرْنا أنَّهُ قابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ كَما هو الحَقُّ في كُلِّ عامٍّ، فَإنَّ العُلَماءَ مُجْمِعُونَ عَلى وُجُوبِ اسْتِصْحابِ عُمُومِ العامِّ حَتّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ صالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ سَنَدًا ومَتْنًا، فالدَّعْوى المُجَرَّدَةُ عَنْ دَلِيلٍ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ لا يَجُوزُ أنْ يُخَصَّصَ بِها نَصٌّ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ إجْماعًا.
وَقَوْلُـهُ: ”إنَّ عِيسى لَمْ يَتَناوَلْهُ عُمُومُ الحَدِيثِ“ فِيهِ أنَّ لَفْظَ الحَدِيثِ مِن أصْلِهِ لَمْ يَتَناوَلْهُ عِيسى؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ فِيهِ: «لَمْ يَبْقَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ مِمَّنْ هو بِها اليَوْمَ أحَدٌ»، فَخَصَّصَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الأرْضِ فَلَمْ يَتَناوَلِ اللَّفْظُ مَن في السَّماءِ، وعِيسى قَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الأرْضِ كَما صَرَّحَ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ [النساء: ١٥٨]، وهَذا واضِحٌ جِدًّا كَما تَرى.
وَدَعْوى حَياةِ أصْحابِ الكَهْفِ، وفَتى مُوسى ظاهِرَةُ السُّقُوطِ ولَوْ فَرَضْنا حَياتَهم فَإنَّ الحَدِيثَ يَدُلُّ عَلى مَوْتِهِمْ عِنْدَ المِائَةِ كَما تَقَدَّمَ، ولَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ يُعارِضُهُ.
وَقَوْلُـهُ ”إنَّ الخَضِرَ لَيْسَ مُشاهَدًا لِلنّاسِ، ولا مِمَّنْ يُخالِطُهم حَتّى يَخْطُرَ بِبالِهِمْ حالَةَ مُخاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا“ يُقالُ فِيهِ: إنَّ الِاعْتِراضَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِن جِهَتَيْنِ:
الأُولى: أنَّ دَعْوى كَوْنِ الخَضِرِ مَحْجُوبًا عَنْ أعْيُنِ النّاسِ كالجِنِّ والمَلائِكَةِ (p-٣٣٥)دَعْوى لا دَلِيلَ عَلَيْها والأصْلُ خِلافُها؛ لِأنَّ الأصْلَ أنَّ بَنِي آدَمَ يَرى بَعْضُهم بَعْضًا لِاتِّفاقِهِمْ في الصِّفاتِ النَّفْسِيَّةِ، ومُشابِهَتِهِمْ فِيما بَيْنَهم.
الثّانِيَةُ: أنّا لَوْ فَرَضْنا أنَّهُ لا يَراهُ بَنُو آدَمَ، فاللَّهُ الَّذِي أعْلَمَ النَّبِيَّ بِالغَيْبِ الَّذِي هو ”هَلاكُ كُلِّ نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ في تِلْكَ المِائَةِ“ عالِمٌ بِالخَضِرِ، وبِأنَّهُ نَفْسٌ مَنفُوسَةٌ، ولَوْ سَلَّمْنا جَدَلِيًّا أنَّ الخَضِرَ فَرْدٌ نادِرٌ لا تَراهُ العُيُونُ، وأنَّ مِثْلَهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالشُّمُولِيِّ في العُمُومِ فَأصَحُّ القَوْلَيْنِ عِنْدَ عُلَماءِ الأُصُولِ شُمُولُ العامِّ والمُطْلَقِ لِلْفَرْدِ النّادِرِ والفَرْدِ غَيْرِ المَقْصُودِ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّ الفَرْدَ النّادِرَ وغَيْرَ المَقْصُودِ لا يَشْمَلُهُما العامُّ ولا المُطْلَقُ.
قالَ صاحِبُ جَمْعِ الجَوامِعِ في ”مَبْحَثِ العامِّ“ ما نَصُّهُ: والصَّحِيحُ دُخُولُ النّادِرَةِ وغَيْرِ المَقْصُودَةِ تَحْتَهُ، فَقَوْلُهُ: ”النّادِرَةُ وغَيْرُ المَقْصُودَةِ“، يَعْنِي الصُّورَةَ النّادِرَةَ وغَيْرَ المَقْصُودَةِ، وقَوْلُـهُ: ”تَحْتَهُ“ يَعْنِي العامَّ، والحَقُّ أنَّ الصُّورَةَ النّادِرَةَ، وغَيْرَ المَقْصُودَةِ صُورَتانِ واحِدَةٌ، وبَيْنَهُما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مِن وجْهٍ عَلى التَّحْقِيقِ؛ لِأنَّ الصُّورَةَ النّادِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَقْصُودَةً وغَيْرَ مَقْصُودَةٍ، والصُّورَةُ غَيْرُ المَقْصُودَةِ قَدْ تَكُونُ نادِرَةً وغَيْرَ نادِرَةٍ، ومِنَ الفُرُوعِ الَّتِي تُبْنى عَلى دُخُولِ الصُّورَةِ النّادِرَةِ في العامِّ والمُطْلَقِ وعَدَمِ دُخُولِها فِيهِما اخْتِلافُ العُلَماءِ في جَوازِ دَفْعِ السَّبَقِ - بِفَتْحَتَيْنِ - في المُسابَقَةِ عَلى الفِيلِ، وإيضاحُهُ أنَّهُ جاءَ في الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ أصْحابُ السُّنَنِ والإمامُ أحْمَدُ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا سَبَقَ إلّا في خُفٍّ أوْ نَصْلٍ أوْ حافِرٍ» ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنُ ماجَهْ ”أوْ نَصْلٍ“ والفِيلُ ذُو خُفٍّ، وهو صُورَةٌ نادِرَةٌ، فَعَلى القَوْلِ بِدُخُولِ الصُّورَةِ النّادِرَةِ في العامِّ يَجُوزُ دَفْعُ السَّبَقِ - بِفَتْحَتَيْنِ - في المُسابَقَةِ عَلى الفِيَلَةِ، والسَّبَقُ المَذْكُورُ هو المالُ المَجْعُولُ لِلسّابِقِ، وهَذا الحَدِيثُ جَعَلَهُ بَعْضُ عُلَماءِ الأُصُولِ مِثالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النّادِرَةِ في المُطْلَقِ لا العامِّ، قالَ: لِأنَّ قَوْلَهُ: ”إلّا في خُفٍّ“ نَكِرَةٌ في سِياقِ الإثْباتِ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ ”إلّا“ مُثْبَتٌ، والنَّكِرَةُ في سِياقِ الإثْباتِ إطْلاقٌ لا عُمُومٌ، وجَعَلَهُ بَعْضُ أهْلِ الأُصُولِ مِثالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النّادِرَةِ في العامِّ.
قالَ الشَّيْخُ زَكَرِيّا: وجْهُ عُمُومِهِ مَعَ أنَّهُ نَكِرَةٌ في الإثْباتِ أنَّهُ في حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعْنًى، إذِ التَّقْدِيرُ: إلّا إذا كانَ في خُفٍّ، والنَّكِرَةُ في سِياقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ، وضابِطُ الصُّورَةِ النّادِرَةِ عِنْدَ أهْلِ الأُصُولِ هي: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الفَرْدُ لا يَخْطُرُ غالِبًا بِبالِ المُتَكَلِّمِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ، ومِن أمْثِلَةِ الِاخْتِلافِ في الصُّورَةِ النّادِرَةِ: هَلْ تَدْخُلُ في العامِّ والمُطْلَقِ أوْ لا ؟ ! اخْتِلافُ العُلَماءِ في وُجُوبِ الغُسْلِ مِن خُرُوجِ المَنِيِّ الخارِجِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، كَمَن تَلْدَغُهُ عَقْرَبٌ في ذَكَرِهِ فَيَنْزِلُ مِنهُ (p-٣٣٦)المَنِيُّ، وكَذَلِكَ الخارِجُ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتادَةٍ كالَّذِي يَنْزِلُ في ماءٍ حارٍّ أوْ تَهُزُّهُ دابَّةٌ فَيَنْزِلُ مِنهُ المَنِيُّ، فَنُزُولُ المَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتادَةٍ صُورَةٌ نادِرَةٌ، ووُجُوبُ الغُسْلِ مِنهُ يَجْرِي عَلى الخِلافِ المَدْخُولِ في دُخُولِ الصُّوَرِ النّادِرَةِ في العامِّ والمُطْلَقِ وعَدَمِ دُخُولِها فِيهِما، فَعَلى دُخُولِ تِلْكَ الصُّورَةِ النّادِرَةِ في عُمُومِ «إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ» فالغُسْلُ واجِبٌ، وعَلى العَكْسِ فَلا، ومِن أمْثِلَةِ ذَلِكَ في المُطْلَقِ ما لَوْ أوْصى رَجُلٌ بِرَأْسٍ مِن رَقِيقِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الخُنْثى أوْ لا ؟ فَعَلى دُخُولِ الصُّورَةِ النّادِرَةِ في المُطْلَقِ يَجُوزُ دَفْعُ الخُنْثى، وعَلى العَكْسِ فَلا، ومِن أمْثِلَةِ الِاخْتِلافِ في دُخُولِ الصُّورَةِ غَيْرِ المَقْصُودَةِ في الإطْلاقِ، ما لَوْ وكَّلَ رَجُلٌ آخَرَ عَلى أنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا لِيَخْدِمَهُ، فاشْتَرى الوَكِيلُ عَبْدًا يُعْتَقُ عَلى المُوَكِّلِ، فالمُوَكِّلُ لَمْ يَقْصِدْ مَن يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وإنَّما أرادَ خادِمًا يَخْدِمُهُ، فَعَلى دُخُولِ الصُّورَةِ غَيْرِ المَقْصُودَةِ في المُطْلَقِ يَمْضِي البَيْعُ ويُعْتَقُ العَبْدُ، وعَلى العَكْسِ فَلا، وإلى هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ أشارَ في المَراقِي بِقَوْلِهِ:
؎هَلْ نادِرٌ في ذِي العُمُومِ يَدْخُلْ ∗∗∗ ومُطْلَقٌ أوْ لا خِلافَ يُنْقَلْ
؎فَما لِغَيْرِ لَذَّةٍ والفِيلْ ∗∗∗ ومُشَبَّهٌ فِيهِ تَنافِي القِيلْ
؎وَما مِنَ القَصْدِ خَلا فِيهِ اخْتُلِفْ ∗∗∗ وقَدْ يَجِيءُ بِالمَجازِ مُتَّصِفْ
وَمِمَّنْ مالَ إلى عَدَمِ دُخُولِ الصُّوَرِ النّادِرَةِ وغَيْرِ المَقْصُودَةِ في العامِّ والمُطْلَقِ أبُو إسْحاقَ الشّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحانُهُ بِحَسَبِ المُقَرَّرِ في الأُصُولِ شُمُولُ العامِّ والمُطْلَقِ لِلصُّوَرِ النّادِرَةِ؛ لِأنَّ العامَّ ظاهِرٌ في عُمُومِهِ حَتّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ، وإذا تَقَرَّرَ أنَّ العامَّ ظاهِرٌ في عُمُومِهِ وشُمُولِهِ لِجَمِيعِ الأفْرادِ فَحُكْمُ الظّاهِرِ أنَّهُ لا يَعْدِلُ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ العَمَلُ بِهِ إلّا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ، وقَدْ كانَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم يَعْمَلُونَ بِشُمُولِ العُمُوماتِ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ في ذَلِكَ، وبِذَلِكَ تَعْلَمُ أنَّ دُخُولَ الخَضِرِ في عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ الآيَةَ [الأنبياء: ٣٤]، وعُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ: «أرَأيْتُكم لَيْلَتَكم هَذِهِ فَإنَّهُ عَلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقى عَلى وجْهِ الأرْضِ مِمَّنْ هو عَلَيْها اليَوْمَ أحَدٌ» هو الصَّحِيحُ، ولا يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِن تِلْكَ العُمُوماتِ إلّا بِمُخَصِّصٍ صالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ.
وَمِمّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أنَّ الخُنْثى صُورَةٌ نادِرَةٌ جِدًّا، مَعَ أنَّهُ داخِلٌ في عُمُومِ آياتِ المَوارِيثِ والقِصاصِ والعِتْقِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن عُمُوماتِ أدِلَّةِ الشَّرْعِ، وما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ مِن (p-٣٣٧)خُرُوجِ الدَّجّالِ مِن تِلْكَ العُمُوماتِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الجَسّاسَةِ لا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأنَّ الدَّجّالَ أخْرَجَهُ دَلِيلٌ صالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ، وهو الحَدِيثُ الَّذِي أشارَ لَهُ القُرْطُبِيُّ، وهو حَدِيثٌ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ تَمِيمٌ الدّارِيُّ، وأنَّهُ أعْجَبَهُ حَدِيثُ تَمِيمٍ المَذْكُورُ؛ لِأنَّهُ وافَقَ ما كانَ يُحَدِّثُ بِهِ أصْحابَهُ مِن خَبَرِ الدَّجّالِ، قالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا عَبْدُ الوارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الوارِثِ، وحَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ كِلاهُما عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ واللَّفْظُ لِعَبْدِ الوارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنا أبِي عَنْ جَدِّي عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوانَ، حَدَّثَنا ابْنُ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي عامِرُ بْنُ شَراحِيلَ الشَّعْبِيُّ شَعْبُ هَمْدانَ، أنَّهُ سَألَ فاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وكانَتْ مِنَ المُهاجِراتِ الأُوَلِ فَقالَ: حَدِّثِينِي حَدِيثًا سَمِعْتِهِ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لا تُسْنِدِيهِ إلى أحَدٍ غَيْرِهِ، فَقالَتْ لَئِنْ شِئْتَ لَأفْعَلَنَّ ؟ فَقالَ لَها: أجَلْ ؟ حَدِّثِينِي، فَقالَتْ: . . . ثُمَّ ساقَ الحَدِيثَ وفِيهِ طُولٌ، ومَحَلُّ الشّاهِدِ مِنهُ «قَوْلُ تَمِيمٍ الدّارِيِّ: فانْطَلَقْنا سِراعًا حَتّى دَخَلْنا الدَّيْرَ فَإذا فِيهِ أعْظَمُ إنْسانٍ رَأيْناهُ قَطُّ خَلْقًا، وأشَدُّهُ وثاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَداهُ إلى عُنُقِهِ ما بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إلى كَعْبَيْهِ بِالحَدِيدِ، قُلْنا: ويْلَكَ ! ما لَكَ ؟ ! الحَدِيثُ بِطُولِهِ إلى قَوْلِهِ وإنِّي مُخْبِرُكم عَنِّي، إنِّي أنا المَسِيحُ، وإنِّي أُوشِكُ أنْ يُؤْذَنَ لِي في الخُرُوجِ فَأخْرُجَ فَأسِيرَ في الأرْضِ، فَلا أدَعُ قَرْيَةً إلّا هَبَطْتُها في أرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وطِيبَةَ، فَهُما مُحَرَّمَتانِ عَلى كِلْتاهُما»، الحَدِيثَ.
فَهَذا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ في أنَّ الدَّجّالَ حَيٌّ مَوْجُودٌ في تِلْكَ الجَزِيرَةِ البَحْرِيَّةِ المَذْكُورَةِ في حَدِيثِ تَمِيمٍ الدّارِيِّ المَذْكُورِ، وإنَّهُ باقٍ وهو حَيٌّ حَتّى يَخْرُجَ في آخِرِ الزَّمانِ، وهَذا نَصٌّ صالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ يُخْرِجُ الدَّجّالَ مِن عُمُومِ حَدِيثِ مَوْتِ كُلِّ نَفْسٍ في تِلْكَ المِائَةِ، والقاعِدَةُ المُقَرَّرَةُ في الأُصُولِ: أنَّ العُمُومَ يَجِبُ إبْقاؤُهُ عَلى عُمُومِهِ، فَما أخْرَجَهُ نَصٌّ مُخَصِّصٌ خَرَجَ مِنَ العُمُومِ وبَقِيَ العامُّ حُجَّةً في بَقِيَّةِ الأفْرادِ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلى إخْراجِها دَلِيلٌ، كَما قَدَّمْناهُ مِرارًا وهو الحَقُّ ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وهو غالِبُ ما في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِنَ العُمُوماتِ يَخْرُجُ مِنها بَعْضُ الأفْرادِ بِنَصٍّ مُخَصِّصٍ، ويَبْقى العامُّ حُجَّةً في الباقِي، وإلى ذَلِكَ أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ في مَبْحَثِ التَّخْصِيصِ بِقَوْلِهِ:
؎وَهُوَ حُجَّةٌ لَدى الأكْثَرِ إنْ ∗∗∗ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيَّنًا يَبِنْ
وَبِهَذا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ أنَّ النُّصُوصَ الدّالَّةَ عَلى مَوْتِ كُلِّ إنْسانٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ في ظَرْفِ تِلْكَ المِائَةِ، ونَفْيِ الخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ قَبْلَهُ تَتَناوَلُ بِظَواهِرِها الخَضِرَ، ولَمْ يَخْرُجْ مِنها نَصٌّ (p-٣٣٨)صالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ كَما رَأيْتَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا اخْتِلافًا كَثِيرًا في نَسَبِ الخَضِرِ، فَقِيلَ: هو ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الإصابَةِ: وهَذا قَوْلٌ رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ في الأفْرادِ مِن طَرِيقِ رَوّادِ بْنِ الجَرّاحِ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ سُلَيْمانَ عَنِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورَوّادٌ ضَعِيفٌ، ومُقاتِلٌ مَتْرُوكٌ، والضَّحّاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقِيلَ: إنَّهُ ابْنُ قابِيلَ بْنِ آدَمَ قالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَهُ أبُو حاتِمٍ السِّجِسْتانِيُّ في كِتابِ المُعَمَّرِينَ، ثُمَّ ساقَ سَنَدَهُ وقالَ: هو مُعْضَلٌ وحَكى صاحِبُ هَذا القَوْلِ: أنَّهُ اسْمُهُ خَضِرُونَ وهو الخَضِرُ، وقِيلَ: اسْمُهُ عامِرٌ، ذَكَرَهُ أبُو الخَطّابِ بْنُ دِحْيَةَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ البَغْدادِيِّ، وقِيلَ: إنَّ اسْمَهُ بِلْيامُ بْنُ مَلْكانِ بْنُ فالِغِ بْنِ شالَخِ بْنِ أرْفَخْشَدَ بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ، ذَكَرَ هَذا القَوْلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في المَعارِفِ عَنْ وهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وغَيْرُهُ، وقِيلَ: إنَّ اسْمَهُ المُعَمِّرَ بْنُ مالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الأزْدِ، وهَذا قَوْلُ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي أُوَيْسٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُما.
وَقِيلَ: خَضْرُونُ بْنُ عَمائِيلَ مِن ذُرِّيَّةِ العِيصِ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ الخَلِيلِ: وهَذا القَوْلُ حَكاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أيْضًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ، وقِيلَ: إنَّهُ مِن سِبْطِ هارُونَ أخِي مُوسى، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أيْضًا ثُمَّ قالَ: وهو بَعِيدٌ، وأعْجَبُ مِنهُ قَوْلُ ابْنِ إسْحاقَ: إنَّهُ أرْمَيا بُنُ حَلْقِيا، وقَدْ رَدَّ ذَلِكَ أبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وقِيلَ: إنَّهُ ابْنُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، حَكاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أيُّوبَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
وَقِيلَ: ابْنُ فِرْعَوْنَ لِصُلْبِهِ، حَكاهُ النَّقّاشُ، وقِيلَ: إنَّهُ اليَسَعُ، حُكِيَ عَنْ مُقاتِلٍ، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ: إنَّهُ بَعِيدٌ، وقِيلَ: إنَّهُ مِن ولَدِ فارِسٍ، قالَ ابْنُ حَجَرٍ: جاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، أخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِن رِوايَةِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، وقِيلَ: إنَّهُ مَن ولَدِ بَعْضِ مَن كانَ آمَنَ بِإبْراهِيمَ وهاجَرَ مَعَهُ مِن أرْضِ بابِلَ، حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تارِيخِهِ، وقِيلَ: كانَ أبُوهُ فارِسِيًّا، وأُمُّهُ رُومِيَّةً، وقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ ا هـ، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الواقِعِ، وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ: «إنَّما سُمِّيَ الخَضِرُ لِأنَّهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضاءَ، فَإذا هي تَهْتَزُّ مِن خَلْفِهِ خَضْراءَ»، والفَرْوَةُ البَيْضاءُ: ما عَلى وجْهِ الأرْضِ مِنَ الحَشِيشِ الأبْيَضِ وشِبْهِهِ مِنَ الهَشِيمِ، وقِيلَ، الفَرْوَةُ: الأرْضُ البَيْضاءُ الَّتِي لا نَباتَ فِيها، وقِيلَ: هي الهَشِيمُ اليابِسُ.
وَمِن ذَلِكَ القَبِيلِ تَسْمِيَةُ جِلْدَةِ الرَّأْسِ فَرْوَةً، كَما قَدَّمْنا في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ في قَوْلِ الشّاعِرِ:(p-٣٣٩)
؎دَنِسُ الثِّيابِ كَأنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ ∗∗∗ غُرِسَتْ فَأنْبَتْ جانِباها فُلْفُلًا
{"ayah":"فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق