الباحث القرآني
(p-٣٦٨)﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ﴿قالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ ﴿قالَ سَتَجِدُنِيَ إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ ﴿قالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألَنِّي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكْرًا﴾ .
”قالَ ذَلِكَ“ إلَخْ جَوابٌ عَنْ كَلامِهِ، ولِذَلِكَ فُصِلَتْ كَما بَيَّناهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
والإشارَةُ بِـ ”ذَلِكَ“ إلى ما تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الفَتى مِن فَقْدِ الحُوتِ، ومَعْنى كَوْنِهِ المُبْتَغى أنَّهُ وسِيلَةُ المُبْتَغى، وإنَّما المُبْتَغى هو لِقاءُ العَبْدِ الصّالِحِ في المَكانِ الَّذِي يُفْقَدُ فِيهِ الحُوتُ.
وكُتِبَ ”نَبْغِ“ في المُصْحَفِ بِدُونِ ياءٍ في آخِرِهِ، فَقِيلَ: أرادَ الكاتِبُونَ مُراعاةَ حالَةِ الوَقْفِ؛ لِأنَّ الأحْسَنَ في الوَقْفِ عَلى ياءِ المَنقُوصِ أنْ يُوقَفَ بِحَذْفِها، وقِيلَ: أرادُوا التَّنْبِيهَ عَلى أنَّها رُوِيَتْ مَحْذُوفَةً في هَذِهِ الآيَةِ، والعَرَبُ يَمِيلُونَ إلى التَّخْفِيفِ، فَقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ بِحَذْفِ الياءِ في الوَقْفِ وإثْباتِها في الوَصْلِ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، وابْنُ عامِرٍ بِحَذْفِ الياءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ويَعْقُوبُ بِإثْباتِها في الحالَيْنِ، والنُّونُ نُونُ المُتَكَلِّمِ المُشارِكِ، أيْ ما أبْغِيهِ أنا وأنْتَ، وكِلاهُما يَبْغِي مُلاقاةَ العَبْدِ الصّالِحِ.
والِارْتِدادُ: مُطاوِعُ الرَّدِّ كَأنَّ رادًّا رَدَّهُما، وإنَّما رَدَّتْهُما إرادَتُهُما، أيْ رَجَعا عَلى آثارِ سَيْرِهِما، أيْ رَجَعا عَلى طَرِيقِهِما الَّذِي أتَيا مِنهُ.
(p-٣٦٩)والقَصَصُ: مَصْدَرُ قَصَّ الأثَرَ، إذا تَوَخّى مُتابَعَتَهُ كَيْلا يُخْطِئا الطَّرِيقَ الأوَّلَ.
والمُرادُ بِالعَبْدِ: الخَضِرُ، ووُصِفَ بِأنَّهُ مِن عِبادِ اللَّهِ؛ تَشْرِيفًا لَهُ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] .
وعَدَلَ عَنِ الإضافَةِ إلى التَّنْكِيرِ والصِّفَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ما يَقْتَضِي تَعْرِيفَهُ، ولِلْإشارَةِ إلى أنَّ هَذا الحالَ الغَرِيبَ العَظِيمَ الَّذِي ذُكِرَ مِن قِصَّتِهِ ما هو إلّا مِن أحْوالِ عِبادٍ كَثِيرِينَ لِلَّهِ تَعالى، وما مِنهم إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.
وإيتاءُ الرَّحْمَةِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: أنَّهُ جَعَلَ مَرْحُومًا، وذَلِكَ بِأنْ رَفَقَ اللَّهُ بِهِ في أحْوالِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَعَلْناهُ سَبَبَ رَحْمَةٍ بِأنْ صَرَّفَهُ تَصَرُّفًا يَجْلِبُ الرَّحْمَةَ العامَّةَ، والعِلْمُ مِن لَدُنِ اللَّهِ: هو الإعْلامُ بِطَرِيقِ الوَحْيِ.
و(عِنْدَ) و(لَدُنْ) كِلاهُما حَقِيقَتُهُ اسْمُ مَكانٍ قَرِيبٍ، ويُسْتَعْمَلانِ مَجازًا في اخْتِصاصِ المُضافِ إلَيْهِ بِمَوْصُوفِهِما.
و(مِنِ) ابْتِدائِيَّةٌ، أيْ آتَيْناهُ رَحْمَةً صَدَرَتْ مِن مَكانِ القُرْبِ، أيِ الشَّرَفِ، وهو قُرْبُ تَشْرِيفٍ بِالِانْتِسابِ إلى اللَّهِ، وعِلْمًا صَدَرَ مِنهُ أيْضًا، وذَلِكَ أنَّ ما أُوتِيهِ مِنَ الوَلايَةِ أوِ النُّبُوءَةِ رَحْمَةٌ عَزِيزَةٌ، أوْ ما أُوتِيهِ مِنَ العِلْمِ عَزِيزٌ، فَكَأنَّهُما مِمّا يُدَّخَرُ عِنْدَ اللَّهِ في مَكانِ القُرْبِ التَّشْرِيفِيِّ مِنَ اللَّهِ فَلا يُعْطى إلّا لِلْمُصْطَفَيْنَ.
والمُخالَفَةُ بَيْنَ ”مِن عِنْدِنا“ وبَيْنَ ”مِن لَدُنّا“ لِلتَّفَنُّنِ تَفادِيًا مِن إعادَةِ الكَلِمَةِ، وجُمْلَةُ ”فَقالَ لَهُ مُوسى“ ابْتِداءُ مُحاوَرَةٍ، فَهو اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعْبِيرُ بِـ (قالَ) مُجَرَّدَةً عَنِ العاطِفِ.
والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ”هَلْ أتْبَعُكَ“ مُسْتَعْمَلٌ في العَرْضِ بِقَرِينَةِ أنَّهُ اسْتِفْهامٌ عَنْ عَمَلِ نَفْسِ المُسْتَفْهِمِ، والِاتِّباعُ: مَجازٌ في المُصاحَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ [الأنعام: ١١٦] .
(p-٣٧٠)و(عَلى) مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى الِاشْتِراطِ؛ لِأنَّهُ اسْتِعْلاءٌ مَجازِيٌّ، جُعِلَ الِاتِّباعُ كَأنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فَوْقَ التَّعْلِيمِ؛ لِشِدَّةِ المُقارَنَةِ بَيْنَهُما، فَصِيغَةُ: أفْعَلُ كَذا عَلى كَذا، مِن صِيَغِ الِالتِزامِ والتَّعاقُدِ.
ويُؤْخَذُ مِنَ الآيَةِ جَوازُ التَّعاقُدِ عَلى تَعْلِيمِ القُرْآنِ والعِلْمِ، كَما في حَدِيثِ تَزْوِيجِ المَرْأةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَها عَلى النَّبِيءِ ﷺ فَلَمْ يَقْبَلْها، فَزَوَّجَها مَن رَغِبَ فِيها عَلى أنْ يُعَلِّمَها ما مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ.
وفِيهِ أنَّهُ التِزامٌ يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ، وقَدْ تَفَرَّعَ عَنْ حُكْمِ لُزُومِ الِالتِزامِ أنَّ العُرْفَ فِيهِ يَقُومُ مَقامَ الِاشْتِراطِ، فَيَجِبُ عَلى المُنْتَصِبِ لِلتَّعْلِيمِ أنْ يُعامِلَ المُتَعَلِّمِينَ بِما جَرى عَلَيْهِ عُرْفُ أقالِيمِهِمْ.
وذَكَرَ عِياضٌ في بابِ صِفَةِ مَجْلِسِ مالِكٍ لِلْعِلْمِ مِن كِتابِ المَدارِكِ: أنَّ رَجُلًا خُراسانِيًّا جاءَ مِن خُراسانَ إلى المَدِينَةِ لِلسَّماعِ مِن مالِكٍ فَوَجَدَ النّاسَ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ وهو يَسْمَعُ، ولا يَسْمَعُونَ قِراءَةً مِنهُ عَلَيْهِمْ، فَسَألَهُ أنْ يَقْرَأ عَلَيْهِمْ فَأبى مالِكٌ، فاسْتَدْعى الخُراسانِيُّ قاضِيَ المَدِينَةِ، وقالَ: جِئْتُ مِن خُراسانَ ونَحْنُ لا نَرى العَرْضَ وأبى مالِكٌ أنْ يَقْرَأ عَلَيْنا، فَحَكَمَ القاضِي عَلى مالِكٍ: أنْ يَقْرَأ لَهُ، فَقِيلَ لِمالِكٍ: أأصابَ القاضِي الحَقَّ ؟ قالَ: نَعَمْ.
وفِيهِ أيْضًا إشارَةٌ إلى أنَّ حَقَّ المُعَلِّمِ عَلى المُتَعَلِّمِ اتِّباعُهُ والِاقْتِداءُ بِهِ.
وانْتَصَبَ ”رُشْدًا“ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِـ ”تُعَلِّمَنِي“ أيْ ما بِهِ الرُّشْدُ، أيِ الخَيْرُ.
وهَذا العِلْمُ الَّذِي سَألَ مُوسى تَعَلُّمَهُ هو مِنَ العِلْمِ النّافِعِ الَّذِي لا يَتَعَلَّقُ بِالتَّشْرِيعِ لِلْأُمَّةِ الإسْرائِيلِيَّةِ، فَإنَّ مُوسى مُسْتَغْنٍ في عِلْمِ التَّشْرِيعِ عَنِ الِازْدِيادِ إلّا مِن وحْيِ اللَّهِ إلَيْهِ مُباشَرَةً؛ لِأنَّهُ لِذَلِكَ أرْسَلَهُ، وما عَدا ذَلِكَ لا تَقْتَضِي الرِّسالَةُ عِلْمَهُ، «وقَدْ قالَ النَّبِيءُ ﷺ في قِصَّةِ الَّذِينَ وجَدَهم يَأْبِرُونَ النَّخْلَ - أنْتُمْ أعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْياكم»، ورَجَعَ يَوْمَ بَدْرٍ «إلى قَوْلِ المُنْذِرِ بْنِ الحارِثِ في أنَّ المَنزِلَ الَّذِي نَزَلَهُ جَيْشُ المُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ أوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ الألْيَقَ بِالحَرْبِ» .
(p-٣٧١)وإنَّما رامَ مُوسى أنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ العِلْمِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ الخَضِرَ؛ لِأنَّ الِازْدِيادَ مِنَ العُلُومِ النّافِعَةِ هو مِنَ الخَيْرِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى تَعْلِيمًا لِنَبِيِّهِ ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، وهَذا العِلْمُ الَّذِي أُوتِيهِ الخَضِرُ هو عِلْمُ سِياسَةٍ خاصَّةٍ، غَيْرِ عامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنِينَ؛ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ، أوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِحَسَبِ ما تُهَيِّئُهُ الحَوادِثُ والأكْوانُ، لا بِحَسَبِ ما يُناسِبُ المَصْلَحَةَ العامَّةَ، فَلَعَلَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ لِنَفْعِ مُعَيَّنِينَ مِن عِنْدِهِ، كَما جَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ رَحْمَةً عامَّةً لِكافَّةِ النّاسِ، ومِن هُنا فارَقَ سِياسَةَ التَّشْرِيعِ العامَّةِ، ونَظِيرُهُ مَعْرِفَةُ النَّبِيءِ ﷺ أحْوالَ بَعْضِ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ، وتَحَقُّقُهُ أنَّ أُولَئِكَ المُشْرِكِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهو مَعَ ذَلِكَ يَدْعُوهم دَوْمًا إلى الإيمانِ، وتَحَقُّقُهُ أنَّ أُولَئِكَ المُنافِقِينَ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ وهو يُعامِلُهم مُعامَلَةَ المُؤْمِنِينَ، وكانَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ يَعْرِفُهم بِأعْيانِهِمْ بِإخْبارِ النَّبِيءِ ﷺ إيّاهُ بِهِمْ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”رُشْدًا“ بِضَمِّ الرّاءِ وسُكُونِ الشِّينِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ الرّاءِ وفَتْحِ الشِّينِ مِثْلَ اللَّفْظَيْنِ السّابِقَيْنِ، وهُما لُغَتانِ كَما تَقَدَّمَ.
وأكَّدَ جُمْلَةَ ”إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا“ بِحَرْفِ (إنَّ) وبِحَرْفِ (لَنْ) تَحْقِيقًا لِمَضْمُونِها مِن تَوَقُّعِ ضِيقِ ذَرْعِ مُوسى عَنْ قَبُولِ ما يُبْدِيهِ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ تَصْدُرُ مِنهُ أفْعالٌ ظاهِرُها المُنْكَرُ، وباطِنُها المَعْرُوفُ، ولَمّا كانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ أقامَهُمُ اللَّهُ لِإجْراءِ الأحْكامِ عَلى الظّاهِرِ عَلِمَ أنَّهُ سَيُنْكِرُ ما يُشاهِدُهُ مِن تَصَرُّفاتِهِ؛ لِاخْتِلافِ المَشْرَبَيْنِ؛ لِأنَّ الأنْبِياءَ لا يُقِرُّونَ المُنْكَرَ.
وهَذا تَحْذِيرٌ مِنهُ لِمُوسى، وتَنْبِيهٌ عَلى ما يَسْتَقْبِلُهُ مِنهُ حَتّى يُقْدِمَ عَلى مُتابَعَتِهِ - إنْ شاءَ - عَلى بَصِيرَةٍ وعَلى غَيْرِ اغْتِرارٍ، ولَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ الإخْبارَ، فَمَناطُ التَّأْكِيداتِ في جُمْلَةِ ”إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا“ إنَّما هو تَحْقِيقُ خُطُورَةِ أعْمالِهِ وغَرابَتِها في المُتَعارَفِ بِحَيْثُ لا تُتَحَمَّلُ، ولَوْ كانَ خَبَرًا عَلى أصْلِهِ لَمْ يَقْبَلْ فِيهِ المُراجَعَةَ، ولَمْ يُجِبْهُ مُوسى بِقَوْلِهِ ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا﴾ .
(p-٣٧٢)وفِي هَذا أصْلٌ مِن أُصُولِ التَّعْلِيمِ أنْ يُنَبِّهَ المُعَلِّمُ المُتَعَلِّمَ بِعَوارِضِ مَوْضُوعاتِ العُلُومِ المُلَقَّنَةِ، لاسِيَّما إذا كانَتْ في مُعالَجَتِها مَشَقَّةٌ.
وزادَها تَأْكِيدًا عُمُومُ الصَّبْرِ المَنفِيِّ؛ لِوُقُوعِهِ نَكِرَةً في سِياقِ النَّفْيِ، وأنَّ المَنفِيَّ اسْتِطاعَتُهُ الصَّبْرُ المُفِيدُ أنَّهُ لَوْ تَجَشَّمَ أنْ يَصْبِرَ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ، فَأفادَ هَذا التَّرْكِيبُ نَفْيَ حُصُولِ الصَّبْرِ مِنهُ في المُسْتَقْبَلِ عَلى آكَدِ وجْهٍ.
وزِيادَةُ ”مَعِيَ“ إيماءٌ إلى أنَّهُ يَجِدُ مِن أعْمالِهِ ما لا يَجِدُ مِثْلَهُ مَعَ غَيْرِهِ، فانْتِفاءُ الصَّبْرِ عَلى أعْمالِهِ أجْدَرُ.
وجُمْلَةُ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِنِ اسْمِ (إنَّ) أوْ مِن ضَمِيرِ ”تَسْتَطِيعَ“، فالواوُ واوُ الحالِ، ولَيْسَتْ واوَ العَطْفِ؛ لِأنَّ شَأْنَ هَذِهِ الجُمْلَةِ أنْ لا تُعْطَفَ عَلى الَّتِي قَبْلَها؛ لِأنَّ بَيْنَهُما كَمالَ الِاتِّصالِ؛ إذِ الثّانِيَةُ كالعِلَّةِ لِلْأُولى، وإنَّما أُوثِرَ مَجِيئُها في صُورَةِ الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ، دُونَ أنْ تُفْصَلَ عَنِ الجُمْلَةِ الأُولى فَتَقَعَ عِلَّةً مَعَ أنَّ التَّعْلِيلَ هو المُرادُ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ مَضْمُونَها عِلَّةٌ مُلازِمَةٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَها إذْ هي حالٌ مِنَ المُسْنَدِ إلَيْهِ في الجُمْلَةِ قَبْلَها.
و(كَيْفَ) لِلِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ في مَعْنى النَّفْيِ، أيْ: وأنْتَ لا تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تَحُطْ بِهِ خُبْرًا.
والخُبْرُ بِضَمِّ الخاءِ وسُكُونِ الباءِ: العِلْمُ، وهو مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الإحاطَةِ في قَوْلِهِ ”ما لَمْ تُحِطْ بِهِ“ أيْ إحاطَةً مِن حَيْثُ العِلْمِ.
والإحاطَةُ: مَجازٌ في التَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا لِقُوَّةِ تَمَكُّنِ الِاتِّصافِ بِتَمَكُّنِ الجِسْمِ المُحِيطِ بِما أحاطَ بِهِ.
وقَوْلُهُ ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا﴾ أبْلَغُ في ثُبُوتِ الصَّبْرِ مِن نَحْوِ: سَأصْبِرُ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ صَبْرٍ ظاهِرٍ لِرَفِيقِهِ ومَتْبُوعِهِ، وظاهِرٌ أنَّ مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ هُنا هو الصَّبْرُ عَلى ما مِن شَأْنِهِ أنْ يُثِيرَ الجَزَعَ أوِ الضَّجَرَ مِن تَعَبٍ في (p-٣٧٣)المُتابَعَةِ، ومِن مُشاهَدَةِ ما لا يَتَحَمَّلُهُ إدْراكُهُ، ومِن تَرَقُّبِ بَيانِ الأسْبابِ والعِلَلِ والمَقاصِدِ.
ولَمّا كانَ هَذا الصَّبْرُ الكامِلُ يَقْتَضِي طاعَةَ الآمِرِ فِيما يَأْمُرُهُ بِهِ؛ عَطَفَ عَلَيْهِ ما يُفِيدُ الطّاعَةَ؛ إبْلاغًا في الِاتِّسامِ بِأكْمَلِ أحْوالِ طالِبِ العِلْمِ.
فَجُمْلَةُ ﴿ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ سَتَجِدُنِي، أوْ هو مِن عَطْفِ الفِعْلِ عَلى الِاسْمِ المُشْتَقِّ عَطْفًا عَلى ”صابِرًا“ فَيُئَوَّلُ بِمَصْدَرٍ، أيْ وغَيْرَ عاصٍ، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ أهَمَّ ما يَتَّسِمُ بِهِ طالِبُ العِلْمِ هو الصَّبْرُ والطّاعَةُ لِلْمُعَلِّمِ.
وفِي تَأْكِيدِهِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيقِ عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ - اسْتِعانَةً بِهِ، وحِرْصًا عَلى تَقَدُّمِ التَّيْسِيرِ؛ تَأدُّبًا مَعَ اللَّهِ - إيذانٌ بِأنَّ الصَّبْرَ والطّاعَةَ مِنَ المُتَعَلِّمِ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ أعْسَرُ مِن صَبْرِ وطاعَةِ المُتَعَلِّمِ السّاذِجِ؛ لِأنَّ خُلُوَّ ذِهْنِهِ مِنَ العِلْمِ لا يُخْرِجُهُ مِن مُشاهَدَةِ الغَرائِبِ، إذْ لَيْسَ في ذِهْنِهِ مِنَ المَعارِفِ ما يُعارِضُ قَبُولَها، فالمُتَعَلِّمُ الَّذِي لَهُ نَصِيبٌ مِنَ العِلْمِ، وجاءَ طالِبًا الكَمالَ في عُلُومِهِ إذا بَدا لَهُ مِن عُلُومِ أُسْتاذِهِ ما يُخالِفُ ما تَقَرَّرَ في عِلْمِهِ يُبادِرُ إلى الِاعْتِراضِ والمُنازَعَةِ، وذَلِكَ قَدْ يُثِيرُ النَّفْرَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أُسْتاذِهِ، فَلِتَجَنُّبِ ذَلِكَ خَشِيَ الخَضِرُ أنْ يَلْقى مِن مُوسى هَذِهِ المُعامَلَةَ فَقالَ لَهُ ﴿إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾، فَأكَّدَ لَهُ مُوسى أنَّهُ يَصْبِرُ ويُطِيعُ أمْرَهُ إذا أمَرَهُ، والتِزامُ مُوسى ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى ثِقَتِهِ بِعِصْمَةِ مَتْبُوعِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ أخْبَرَهُ بِأنَّهُ آتاهُ عِلْمًا.
والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَإنِ اتَّبَعْتَنِي﴾ تَفْرِيعٌ عَلى وعْدِ مُوسى إيّاهُ بِأنَّهُ يَجِدُهُ صابِرًا، فَفَرَّعَ عَلى ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنِ السُّؤالِ عَنْ شَيْءٍ مِمّا يُشاهِدُهُ مِن تَصَرُّفاتِهِ حَتّى يُبَيِّنَهُ لَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ.
وأكَّدَ النَّهْيَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ؛ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ أكْمَلِ أحْوالِ المُتَعَلِّمِ مَعَ المُعَلِّمِ؛ لِأنَّ السُّؤالَ قَدْ يُصادِفُ وقْتَ اشْتِغالِ المَسْئُولِ بِإكْمالِ عَمَلِهِ فَتَضِيقُ لَهُ نَفْسُهُ، (p-٣٧٤)فَرُبَّما كانَ الجَوابُ عَنْهُ بِدُونِ شَرَهِ نَفْسٍ، ورُبَّما خالَطَهُ بَعْضُ القَلَقِ فَيَكُونُ الجَوابُ غَيْرَ شافٍ، فَأرادَ الخَضِرُ أنْ يَتَوَلّى هو بَيانَ أعْمالِهِ في الإبّانِ الَّذِي يَراهُ مُناسِبًا؛ لِيَكُونَ البَيانُ أبْسَطَ، والإقْبالُ أبْهَجَ؛ فَيَزِيدُ الِاتِّصالَ بَيْنَ القَرِينَيْنِ.
والذِّكْرُ هُنا: ذِكْرُ اللِّسانِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، أعْنِي بَيانَ العِلَلِ والتَّوْجِيهاتِ، وكَشْفَ الغَوامِضِ.
وإحْداثُ الذِّكْرِ: إنْشاؤُهُ وإبْرازُهُ، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
؎أحْدَثْنا لِخالِقِها شُكْرا
وقَرَأ نافِعٌ (فَلا تَسْألَنِّي) بِالهَمْزِ، وبِفَتْحِ اللّامِ، وتَشْدِيدِ النُّونِ عَلى أنَّهُ مُضارِعُ (سَألَ) المَهْمُوزِ مُقْتَرِنًا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الخَفِيفَةِ المُدْغَمَةِ في نُونِ الوِقايَةِ، وبِإثْباتِ ياءِ المُتَكَلِّمِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ مِثْلَهُ، لَكِنْ بِحَذْفِ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وقَرَأ البَقِيَّةُ ”تَسْألْنِي“ بِالهَمْزِ وسُكُونِ اللّامِ وتَخْفِيفِ النُّونِ، وأثْبَتُوا ياءَ المُتَكَلِّمِ.
{"ayahs_start":64,"ayahs":["قَالَ ذَ ٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰۤ ءَاثَارِهِمَا قَصَصࣰا","فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا","قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدࣰا","قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا","وَكَیۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرࣰا","قَالَ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ صَابِرࣰا وَلَاۤ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرࣰا","قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِی فَلَا تَسۡـَٔلۡنِی عَن شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرࣰا"],"ayah":"فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق