الباحث القرآني
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ العِلْمِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ العِلْمِ.
وَهَذِهِ المَنزِلَةُ إنْ لَمْ تَصْحَبِ السّالِكَ مِن أوَّلِ قَدَمٍ يَضَعُهُ في الطَّرِيقِ إلى آخِرِ قَدَمٍ يَنْتَهِي إلَيْهِ: فَسُلُوكُهُ عَلى غَيْرِ طَرِيقٍ. وهو مَقْطُوعٌ عَلَيْهِ طَرِيقُ الوُصُولِ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِ سُبُلُ الهُدى والفَلاحِ، مُغْلَقَةٌ عَنْهُ أبْوابُها. وهَذا إجْماعٌ مِنَ الشُّيُوخِ العارِفِينَ. ولَمْ يَنْهَ عَنْ العِلْمِ إلّا قُطّاعُ الطَّرِيقِ مِنهُمْ، ونُوّابُ إبْلِيسَ وشُرَطُهُ.
قالَ سَيِّدُ الطّائِفَةِ وشَيْخُهُمُ الجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطُّرُقُ كُلُّها مَسْدُودَةٌ عَلى الخَلْقِ إلّا عَلى مَنِ اقْتَفى آثارَ الرَّسُولِ ﷺ.
وَقالَ: مَن لَمْ يَحْفَظِ القُرْآنَ ويَكْتُبِ الحَدِيثَ، لا يُقْتَدى بِهِ في هَذا الأمْرِ، لِأنَّ عِلْمَنا مُقَيَّدٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ.
وَقالَ: مَذْهَبُنا هَذا مُقَيَّدٌ بِأُصُولِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
وَقالَ أبُو حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَن لَمْ يَزِنْ أفْعالَهُ وأحْوالَهُ في كُلِّ وقْتٍ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ. ولَمْ يَتَّهِمْ خَواطِرَهُ. فَلا يُعَدُّ في دِيوانِ الرِّجالِ.
وَقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رُبَّما يَقَعُ في قَلْبِيَ النُّكْتَةُ مِن نُكَتِ القَوْمِ أيْامًا. فَلا أقْبَلُ مِنهُ إلّا بِشاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ: الكِتابِ، والسُّنَّةِ.
وَقالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ العَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِداءٍ - طاعَةً كانَ أوْ مَعْصِيَةً - فَهو عَيْشُ النَّفْسِ، وكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ العَبْدُ بِالِاقْتِداءِ: فَهو عَذابٌ عَلى النَّفْسِ.
وَقالَ السَّرِيُّ: التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلاثَةِ مَعانٍ: لا يُطْفِئُ نُورَ مَعْرِفَتِهِ نُورُ ورَعِهِ، ولا يَتَكَلَّمُ بِباطِنٍ في عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظاهِرُ الكِتابِ، ولا تَحْمِلُهُ الكَراماتُ عَلى هَتْكِ أسْتارِ مَحارِمِ اللَّهِ.
وَقالَ أبُو يَزِيدَ: عَمِلْتُ في المُجاهَدَةِ ثَلاثِينَ سَنَةً، فَما وجَدْتُ شَيْئًا أشَدَّ عَلَيَّ مِنَ العِلْمِ ومُتابَعَتِهِ، ولَوْلا اخْتِلافُ العُلَماءِ لَبَقِيتُ، واخْتِلافُ العُلَماءِ رَحْمَةٌ، إلّا في تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ.
وَقالَ مَرَّةً لِخادِمِهِ: قُمْ بِنا إلى هَذا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نَفْسَهُ بِالصَّلاحِ لِنَزُورَهُ، فَلَمّا دَخَلا عَلَيْهِ المَسْجِدَ تَنَخَّعَ. ثُمَّ رَمى بِها نَحْوَ القِبْلَةِ، فَرَجَعَ ولَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ. وقالَ: هَذا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلى أدَبٍ مِن آدابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا عَلى ما يَدَّعِيهِ؟
وَقالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أسْألَ اللَّهَ تَعالى أنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ النِّساءِ. ثُمَّ قُلْتُ: كَيْفَ يَجُوزُ لِي أنْ أسْألَ اللَّهَ هَذا؟ ولَمْ يَسْألْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ ولَمْ أسْألْهُ.
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ كَفانِي مُؤْنَةَ النِّساءِ، حَتّى لا أُبالِيَ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأةٌ أوْ حائِطٌ.
وَقالَ: لَوْ نَظَرْتُمْ إلى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الكَراماتِ إلى أنْ يَرْتَفِعَ في الهَواءِ، فَلا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الأمْرِ والنَّهْيِ، وحِفْظِ الحُدُودِ، وأداءِ الشَّرِيعَةِ؟
وَقالَ أحْمَدُ بْنُ أبِي الحِوارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِن عَمِلَ عَمَلًا بِلا اتِّباعِ سُنَّةٍ، فَباطِلٌ عَمَلُهُ.
وَقالَ أبُو عُثْمانَ النَّيْسابُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ: بِحُسْنِ الأدَبِ، ودَوامِ الهَيْبَةِ والمُراقَبَةِ، والصُّحْبَةُ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ: بِاتِّباعِ سُنَّتِهِ، ولُزُومِ ظاهِرِ العِلْمِ. ومَعَ أوْلِياءِ اللَّهِ: بِالِاحْتِرامِ والخِدْمَةِ. ومَعَ الأهْلِ: بِحُسْنِ الخُلُقِ. ومَعَ الإخْوانِ: بِدَوامِ البِشْرِ. ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا. ومَعَ الجُهّالِ: بِالدُّعاءِ لَهم والرَّحْمَةِ.
زادَ غَيْرُهُ: ومَعَ الحافِظِينَ: بِإكْرامِهِما واحْتِرامِهِما، وإمْلائِهِما ما يَحْمَدانِكَ عَلَيْهِ. ومَعَ النَّفْسِ: بِالمُخالَفَةِ. ومَعَ الشَّيْطانِ: بِالعَداوَةِ.
وَقالَ أبُو عُثْمانَ أيْضًا: مَن أمَّرَ السُّنَّةَ عَلى نَفْسِهِ قَوْلًا وفِعْلًا: نَطَقَ بِالحِكْمَةِ، ومَن أمَّرَ الهَوى عَلى نَفْسِهِ قَوْلًا وفِعْلًا: نَطَقَ بِالبِدْعَةِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤].
وَقالَ أبُو الحُسَيْنِ النُّورِيُّ: مَن رَأيْتُمُوهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ حالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَلا تَقْرَبُوا مِنهُ.
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ البَلْخِيُّ مِن مَشايِخِ القَوْمِ الكِبارِ: ذَهابُ الإسْلامِ مِن أرْبَعَةٍ:
لا يَعْمَلُونَ بِما يَعْلَمُونَ، ويَعْمَلُونَ بِما لا يَعْلَمُونَ، ولا يَتَعَلَّمُونَ ما يَعْمَلُونَ، ويَمْنَعُونَ النّاسَ مِنَ التَّعَلُّمِ والتَّعْلِيمِ.
وَقالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ المَكِّيُّ: العِلْمُ قائِدٌ. والخَوْفُ سائِقٌ.
والنَّفْسُ حَرُونٌ بَيْنَ ذَلِكَ، جُمُوحٌ خَدّاعَةٌ رَوّاغَةٌ. فاحْذَرْها وراعِها بِسِياسَةِ العِلْمِ. وسُقْها بِتَهْدِيدِ الخَوْفِ: يَتِمُّ لَكَ ما تُرِيدُ.
وَقالَ أبُو سَعِيدٍ الخَرّازُ: كُلُّ باطِنٍ يُخالِفُهُ الظّاهِرُ فَهو باطِلٌ.
وَقالَ ابْنُ عَطاءٍ: مَن ألْزَمَ نَفْسَهُ آدابَ السُّنَّةِ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ المَعْرِفَةِ.
لا مَقامَ أشْرَفَ مِن مَقامِ مُتابَعَةِ الحَبِيبِ في أوامِرِهِ وأفْعالِهِ وأخْلاقِهِ.
وَقالَ: كُلُّ ما سَألْتَ عَنْهُ فاطْلُبْهُ في مَفازَةِ العِلْمِ. فَإنْ لَمْ تَجِدْهُ فَفي مَيْدانِ الحِكْمَةِ.
فَإنْ لَمْ تَجِدْهُ فَزِنْهُ بِالتَّوْحِيدِ. فَإنْ لَمْ تَجِدْهُ في هَذِهِ المَواضِعِ الثَّلاثَةِ فاضْرِبْ بِهِ وجْهَ الشَّيْطانِ.
وَأُلْقِيَ بَنانٌ الحَمّالُ بَيْنَ يَدَيِ السَّبُعِ. فَجَعَلَ السَّبُعُ يَشَمُّهُ لا يَضُرُّهُ فَلَمّا أُخْرِجَ قِيلَ لَهُ: ما الَّذِي كانَ في قَلْبِكَ حِينَ شَمَّكَ السَّبُعُ؟ قالَ: كُنْتُ أتَفَكَّرُ في اخْتِلافِ العُلَماءِ في سُؤْرِ السِّباعِ.
وَقالَ أبُو حَمْزَةَ البَغْدادِيُّ - مِن أكابِرِ الشُّيُوخِ. وكانَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ لَهُ في المَسائِلِ: ما تَقُولُ يا صُوفِيُّ - مَن عَلِمَ طَرِيقَ الحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ. ولا دَلِيلَ عَلى الطَّرِيقِ إلى اللَّهِ إلّا مُتابَعَةُ الرَّسُولِ ﷺ في أحْوالِهِ وأقْوالِهِ وأفْعالِهِ.
وَمَرَّ الشَّيْخُ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسى الواسِطِيُّ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلى الجامِعِ. فانْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ. فَأصْلَحَهُ لَهُ رَجُلٌ صَيْدَلانِيٌّ.
فَقالَ: تَدْرِي لِمَ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِي؟ فَقُلْتُ: لا. فَقالَ: لِأنِّي ما اغْتَسَلْتُ لِلْجُمُعَةِ.
فَقالَ: هاهُنا حَمّامٌ تَدْخُلُهُ؟ فَقالَ: نَعَمْ. فَدَخَلَ واغْتَسَلَ.
وَقالَ أبُو إسْحاقَ الرَّقِّيُّ، مِن أقْرانِ الجُنَيْدِ: عَلامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ:
إيثارُ طاعَتِهِ، ومُتابَعَةُ رَسُولِهِ ﷺ.
وَقالَ أبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ: أفْضَلُ الأحْوالِ: ما قارَنَ العِلْمَ.
وَقالَ أبُو القاسِمِ النَّصْراباذِيُّ شَيْخُ خُراسانَ في وقْتِهِ: أصْلُ التَّصَوُّفِ مُلازَمَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ. وتَرْكُ الأهْواءِ والبِدَعِ. وتَعْظِيمُ كَراماتِ المَشايِخِ، ورُؤْيَةُ أعْذارِ الخَلْقِ، والمُداوَمَةُ عَلى الأوْرادِ، وتَرْكُ ارْتِكابِ الرُّخَصِ والتَّأْوِيلاتِ.
وَقالَ أبُو بَكْرٍ الطَّمِسْتانِيُّ - مِن كِبارِ شُيُوخِ الطّائِفَةِ -: الطَّرِيقُ واضِحٌ والكِتابُ والسُّنَّةُ قائِمٌ بَيْنَ أظْهُرِنا.
وَفَضْلُ الصَّحابَةِ مَعْلُومٌ، لِسَبْقِهِمْ إلى الهِجْرَةِ ولِصُحْبَتِهِمْ، فَمَن صَحِبَ الكِتابَ والسُّنَّةَ، وتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وعَنِ الخَلْقِ، وهاجَرَ بِقَلْبِهِ إلى اللَّهِ: فَهو الصّادِقُ المُصِيبُ.
وَقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ: كُلُّ حالٍ لا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ فَإنَّ ضَرَرَهُ عَلى صاحِبِهِ أكْثَرُ مِن نَفْعِهِ.
وَقالَ: التَّصَوُّفُ: الصَّبْرُ تَحْتَ الأوامِرِ والنَّواهِي.
وَكانَ بَعْضُ أكابِرِ الشُّيُوخِ المُتَقَدِّمِينَ يَقُولُ: يا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ، لا تُفارِقُوا السَّوادَ في البَياضِ تَهْلِكُوا.
[شَرَفُ العِلْمِ وفَضْلُهُ]
وَأمّا الكَلِماتُ الَّتِي تُرْوى عَنْ بَعْضِهِمْ: مِنَ التَّزْهِيدِ في العِلْمِ، والِاسْتِغْناءِ عَنْهُ. كَقَوْلِ مَن قالَ: نَحْنُ نَأْخُذُ عِلْمَنا مِنَ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وأنْتُمْ تَأْخُذُونَهُ مِن حَيٍّ يَمُوتُ.
وَقَوْلِ الآخَرِ - وقَدْ قِيلَ لَهُ: ألا تَرْحَلُ حَتّى تَسْمَعَ مِن عَبْدِ الرَّزّاقِ - فَقالَ: ما يَصْنَعُ بِالسَّماعِ مِن عَبْدِ الرَّزّاقِ، مَن يَسْمَعُ مِنَ الخَلّاقِ؟
وَقَوْلِ الآخَرِ: العِلْمُ حِجابٌ بَيْنَ القَلْبِ وبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
وَقَوْلِ الآخَرِ: لَنا عِلْمُ الحَرْفِ. ولَكم عِلْمُ الوَرَقِ.
وَنَحْوِ هَذا مِنَ الكَلِماتِ الَّتِي أحْسَنُ أحْوالِ قائِلِها: أنْ يَكُونَ جاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ، أوْ شاطِحًا مُعْتَرَفًا بِشَطْحِهِ، وإلّا فَلَوْلا عَبْدُ الرَّزّاقِ وأمْثالُهُ، ولَوْلا أخْبَرَنا وحَدَّثَنا لَما وصَلَ إلى هَذا وأمْثالِهِ شَيْءٌ مِنَ الإسْلامِ.
وَمَن أحالَكَ عَلى غَيْرِ أخْبَرَنا وحَدَّثَنا فَقَدْ أحالَكَ: إمّا عَلى خَيالِ صُوفِيٍّ، أوْ قِياسِ فَلْسَفِيٍّ. أوْ رَأْيِ نَفْسِيٍّ. فَلَيْسَ بَعْدَ القُرْآنِ وأخْبَرَنا وحَدَّثَنا إلّا شُبَهاتُ المُتَكَلِّمِينَ. وآراءُ المُنْحَرِفِينَ، وخَيالاتُ المُتَصَوِّفِينَ، وقِياسُ المُتَفَلْسِفِينَ. ومَن فارَقَ الدَّلِيلَ، ضَلَّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. ولا دَلِيلَ إلى اللَّهِ والجَنَّةِ، سِوى الكِتابِ والسُّنَّةِ. وكُلُّ طَرِيقٍ لَمْ يَصْحَبْها دَلِيلُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فَهي مِن طُرُقِ الجَحِيمِ، والشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
والعِلْمُ ما قامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. والنّافِعُ مِنهُ: ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ.
والعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الحالِ: العِلْمُ حاكِمٌ. والحالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. والعِلْمُ هادٍ. والحالُ تابِعٌ. والعِلْمُ آمِرٌ ناهٍ.
والحالُ مَنفَذٌ قابِلٌ، والحالُ سَيْفٌ، إنْ لَمْ يَصْحَبْهُ العِلْمُ فَهو مِخْراقٌ في يَدِ لاعِبٍ.
الحالُ مَرْكِبٌ لا يُجارى. فَإنْ لَمْ يَصْحَبْهُ عِلْمٌ ألْقى صاحِبَهُ في المَهالِكِ والمَتالِفِ.
والحالُ كالمالِ يُؤْتاهُ البَرُّ والفاجِرُ. فَإنْ لَمْ يَصْحَبْهُ نُورُ العِلْمِ كانَ وبالًا عَلى صاحِبِهِ.
الحالُ بِلا عِلْمٍ كالسُّلْطانِ الَّذِي لا يَزَعُهُ عَنْ سَطْوَتِهِ وازِعٌ.
الحالُ بِلا عِلْمٍ كالنّارِ الَّتِي لا سائِسَ لَها.
نَفْعُ الحالِ لا يَتَعَدّى صاحِبَهُ. ونَفْعُ العِلْمِ كالغَيْثِ يَقَعُ عَلى الظِّرابِ والآكامِ وبُطُونِ الأوْدِيَةِ ومَنابِتِ الشَّجَرِ.
دائِرَةُ العِلْمِ تَسَعُ الدُّنْيا والآخِرَةَ. ودائِرَةُ الحالِ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ صاحِبِهِ. ورُبَّما ضاقَتْ عَنْهُ.
العِلْمُ هادٍ والحالُ الصَّحِيحُ مُهْتَدٍ بِهِ. وهو تَرِكَةُ الأنْبِياءِ وتُراثُهم. وأهْلُهُ عُصْبَتُهم ووُرّاثُهُمْ، وهو حَياةُ القُلُوبِ. ونُورُ البَصائِرِ. وشِفاءُ الصُّدُورِ. ورِياضُ العُقُولِ. ولَذَّةُ الأرْواحِ. وأنَسُ المُسْتَوْحِشِينَ. ودَلِيلُ المُتَحَيِّرِينَ.
وَهُوَ المِيزانُ الَّذِي بِهِ تُوزَنُ الأقْوالُ والأعْمالُ والأحْوالُ.
وَهُوَ الحاكِمُ المُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّكِّ واليَقِينِ، والغَيِّ والرَّشادِ، والهُدى والضَّلالِ.
بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ ويُعْبَدُ، ويُذْكَرُ ويُوَحَّدُ، ويُحْمَدُ ويُمَجَّدُ. وبِهِ اهْتَدى إلَيْهِ السّالِكُونَ.
وَمِن طَرِيقِهِ وصَلَ إلَيْهِ الواصِلُونَ. ومِن بابِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ القاصِدُونَ.
بِهِ تُعْرَفُ الشَّرائِعُ والأحْكامُ، ويَتَمَيَّزُ الحَلالُ مِنَ الحَرامِ. وبِهِ تُوصَلُ الأرْحامُ وبِهِ تُعْرَفُ مَراضِي الحَبِيبِ، وبِمَعْرِفَتِها ومُتابَعَتِها يُوصَلُ إلَيْهِ مِن قَرِيبٍ.
وَهُوَ إمامٌ، والعَمَلُ مَأْمُومٌ. وهو قائِدٌ، والعَمَلُ تابِعٌ. وهو الصّاحِبُ في الغُرْبَةِ والمُحَدِّثُ في الخَلْوَةِ، والأنِيسُ في الوَحْشَةِ. والكاشِفُ عَنِ الشُّبْهَةِ. والغِنى الَّذِي لا فَقْرَ عَلى مَن ظَفِرَ بِكَنْزِهِ. والكَنَفُ الَّذِي لا ضَيْعَةَ عَلى مَن آوى إلى حِرْزِهِ.
مُذَكَراتُهُ تَسْبِيحٌ. والبَحْثُ عَنْهُ جِهادٌ. وطَلَبُهُ قُرْبَةٌ. وبَذْلُهُ صَدَقَةٌ. ومُدارَسَتُهُ تَعْدِلُ بِالصِّيامِ والقِيامِ. والحاجَةُ إلَيْهِ أعْظَمُ مِنها إلى الشَّرابِ والطَّعامِ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: النّاسُ إلى العِلْمِ أحْوَجُ مِنهم إلى الطَّعامِ والشَّرابِ. لِأنَّ الرَّجُلَ يَحْتاجُ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ في اليَوْمِ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ. وحاجَتُهُ إلى العِلْمِ بِعَدَدِ أنْفاسِهِ.
وَرُوِّينا عَنِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: طَلَبُ العِلْمِ أفْضَلُ مِن صَلاةِ النّافِلَةِ.
وَنَصَّ عَلى ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقالَ ابْنُ وهْبٍ: كُنْتُ بَيْنَ يَدِي مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَوَضَعْتُ ألْواحِي وقُمْتُ أُصَلِّي. فَقالَ: ما الَّذِي قُمْتَ إلَيْهِ بِأفْضَلَ مِمّا قُمْتَ عَنْهُ.
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُ.
واسْتَشْهَدَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِأهْلِ العِلْمِ عَلى أجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وهو التَّوْحِيدُ وقَرَنَ شَهادَتَهم بِشَهادَتِهِ وشَهادَةِ مَلائِكَتِهِ. وفي ضِمْنِ ذَلِكَ تَعْدِيلُهم. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لا يَسْتَشْهِدُ بِمَجْرُوحٍ.
وَمِن هاهُنا - واللَّهُ أعْلَمُ - يُؤْخَذُ الحَدِيثُ المَعْرُوفُ «يَحْمِلُ هَذا العِلْمَ مِن كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ. يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالِينَ، وتَأْوِيلَ المُبْطِلِينَ».
وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ في أرْضِهِ. ونُورُهُ بَيْنَ عِبادِهِ. وقائِدُهم ودَلِيلُهم إلى جَنَّتِهِ. ومُدْنِيهِمْ مِن كَرامَتِهِ.
وَيَكْفِي في شَرَفِهِ: أنَّ فَضْلَ أهْلِهِ عَلى العِبادِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةِ البَدْرِ عَلى سائِرِ الكَواكِبِ. وأنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ لَهم أجْنِحَتَها، وتُظِلُّهم بِها، وأنَّ العالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ، حَتّى الحِيتانُ في البَحْرِ، وحَتّى النَّمْلُ في جُحْرِها، وأنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى مُعَلِّمِي النّاسِ الخَيْرَ.
وَلَقَدْ رَحَلَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ مُوسى بْنُ عِمْرانَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في طَلَبِ العِلْمِ هو وفَتاهُ، حَتّى مَسَّهُما النَّصَبُ في سَفَرِهِما في طَلَبِ العِلْمِ. حَتّى ظَفِرَ بِثَلاثِ مَسائِلَ.
وَهُوَ مِن أكْرَمِ الخَلْقِ عَلى اللَّهِ وأعْلَمِهِمْ بِهِ.
وَأمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يَسْألَهُ المَزِيدَ مِنهُ فَقالَ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
وَحَرَّمَ اللَّهُ صَيْدَ الجَوارِحِ الجاهِلَةِ، وإنَّما أباحَ لِلْأُمَّةِ صَيْدَ الجَوارِحِ العالِمَةِ.
فَهَكَذا جَوارِحُ الإنْسانِ الجاهِلِ لا يُجْدِي عَلَيْهِ صَيْدُها مِنَ الأعْمالِ شَيْئًا. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ تَعْرِيفُ العِلْمِ]
* فَصْلٌ
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ.
العِلْمُ ما قامَ بِدَلِيلٍ. ورَفَعَ الجَهْلَ.
يُرِيدُ: أنَّ لِلْعِلْمِ عَلامَةً قَبْلَهُ، وعَلامَةً بَعْدَهُ، فَعَلامَتُهُ قَبْلَهُ: ما قامَ بِهِ الدَّلِيلُ. وعَلامَتُهُ بَعْدَهُ: رَفْعُ الجَهْلِ.
[دَرَجاتُ العِلْمِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى عِلْمٌ جَلِيٌّ]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثٍ دَرَجاتُ. الدَّرَجَةُ الأُولى: عِلْمٌ جَلِيٌّ. بِهِ يَقَعُ العِيانُ. واسْتِفاضَةٌ صَحِيحَةٌ، أوْ صِحَّةُ تَجْرِبَةٍ قَدِيمَةٍ.
يُرِيدُ بِالجَلِيِّ: الظّاهِرَ، الَّذِي لا خَفاءَ بِهِ. وجَعَلَهُ ثَلاثَةَ أنْواعٍ.
أحَدُها: ما وقَعَ عَنْ عِيانٍ. وهو البَصَرُ.
والثّانِي: ما اسْتَنَدَ إلى السَّمْعِ. وهو عِلْمُ الِاسْتِفاضَةِ.
والثّالِثُ: ما اسْتَنَدَ إلى العَقْلِ. وهو عِلْمُ التَّجْرِبَةِ.
فَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلاثَةُ - وهي السَّمْعُ، والبَصَرُ، والعَقْلُ - هي طُرُقُ العِلْمِ وأبْوابُهُ ولا تَنْحَصِرُ طُرُقُ العِلْمِ فِيما ذَكَرَهُ. فَإنَّ سائِرَ الحَواسِّ تُوجِبُ العِلْمَ.
وَكَذا ما يُدْرَكُ بِالباطِنِ. وهي الوِجْدانِيّاتُ.
وَكَذا ما يُدْرَكُ بِخَبَرِ المُخْبِرِ الصّادِقِ، وإنْ كانَ واحِدًا.
وَكَذا ما يَحْصُلُ بِالفِكْرِ والِاسْتِنْباطِ. وإنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَجْرِبَةٍ.
فالعِلْمُ لا يَتَوَقَّفُ عَلى هَذِهِ الثَّلاثَةِ الَّتِي ذَكَرَها فَقَطْ.
والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَعْرِفَةِ مِن وُجُوهٍ ثَلاثَةٍ.
أحَدُها: أنَّ المَعْرِفَةَ لُبُّ العِلْمِ، ونِسْبَةُ العِلْمِ إلَيْها كَنِسْبَةِ الإيمانِ إلى الإحْسانِ. وهي عِلْمٌ خاصٌّ، مُتَعَلِّقُها أخْفى مِن مُتَعَلِّقِ العِلْمِ وأدَقُّ.
والثّانِي: أنَّ المَعْرِفَةَ هي العِلْمُ الَّذِي يُراعِيهِ صاحِبُهُ بِمُوجِبِهِ ومُقْتَضاهُ. فَهي عِلْمٌ تَتَّصِلُ بِهِ الرِّعايَةُ.
والثّالِثُ: أنَّ المَعْرِفَةَ شاهِدٌ لِنَفْسِها، وهي بِمَنزِلَةِ الأُمُورِ الوِجْدانِيَّةِ، الَّتِي لا يُمْكِنُ صاحِبُها أنْ يَشُكَّ فِيها، ولا يَنْتَقِلَ عَنْها.
وَكَشْفُ المَعْرِفَةِ أتَمُّ مِن كَشْفِ العِلْمِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ عِلْمٌ خَفِيٌّ]
* فَصْلٌ
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: عِلْمٌ خَفِيٌّ. يَنْبُتُ في الأسْرارِ الطّاهِرَةِ، مِنَ الأبْدانِ الزّاكِيَةِ، بِماءِ الرِّياضَةِ الخالِصَةِ، ويَظْهَرُ في الأنْفاسِ الصّادِقَةِ، لِأهْلِ الهِمَّةِ العالِيَةِ، في الأحايِينِ الخالِيَةِ، والأسْماعِ الصّاخِيَةِ. وهو عِلْمٌ يُظْهِرُ الغائِبَ، ويُغَيِّبُ الشّاهِدَ، ويُشِيرُ إلى الجَمْعِ.
يَعْنِي: أنَّ هَذا العِلْمَ خَفَّيٌّ عَلى أهْلِ الدَّرَجَةِ الأوْلى، وهو المُسَمّى بِالمَعْرِفَةِ عِنْدَ هَذِهِ الطّائِفَةِ.
قَوْلُهُ: يَنْبُتُ في الأسْرارِ الطّاهِرَةِ.
لَفْظُ السِّرِّ يُطْلَقُ في لِسانِهِمْ ويُرادُ بِهِ أُمُورٌ.
أحَدُها: اللَّطِيفَةُ المُودَعَةُ في هَذا القالَبِ، الَّتِي حَصَلَ بِها الإدْراكُ والمَحَبَّةُ والإرادَةُ والعِلْمُ. وذَلِكَ هو الرُّوحُ.
الثّانِي: مَعْنًى قائِمٌ بِالرُّوحِ. نِسْبِتُهُ إلى الرُّوحِ كَنِسْبَةِ الرُّوحِ إلى البَدَنِ.
وَغالِبًا ما يُرِيدُونَ بِهِ: هَذا المَعْنى.
وَعِنْدَهُمْ: أنَّ القَلْبَ أشْرَفُ ما في البَدَنِ، والرُّوحَ أشْرَفُ مِنَ القَلْبِ. والسِّرَّ ألْطَفُ مِنَ الرُّوحِ.
وَعِنْدَهُمْ: لِلسِّرِّ سِرٌّ آخَرُ. لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ الحَقِّ سُبْحانَهُ. وصاحِبُهُ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وإنِ اطَّلَعَ عَلى سِرِّهِ. فَيَقُولُونَ السِّرُّ ما لَكَ عَلَيْهِ إشْرافٌ، وسِرُّ السِّرِّ ما لا اطِّلاعَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الحَقِّ سُبْحانَهُ.
والمَعْنى الثّالِثُ: يُرادُ بِهِ ما يَكُونُ مَصُونًا مَكْتُومًا بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ، مِنَ الأحْوالِ والمَقاماتِ. كَما قالَ بَعْضُهُمْ: أسْرارُنا بِكْرٌ. لَمْ يَفْتَضَّها وهْمُ واهِمٍ.
وَيَقُولُ قائِلُهُمْ: لَوْ عَرَفَ زِرِّي سِرِّي لِطَرَحْتُهُ.
والمَقْصُودُ قَوْلُهُ: يَنْبُتُ في الأسْرارِ الطّاهِرَةِ.
يَعْنِي: الطّاهِرَةُ مِن كَدَرِ الدُّنْيا والِاشْتِغالِ بِها، وعَلائِقِها الَّتِي تَعُوقُ الأرْواحَ عَنْ دِيارِ الأفْراحِ.
فَإنَّ هَذِهِ أكْدارٌ، وتَنَفُّساتٌ في وجْهِ مِرْآةِ القَلْبِ والرُّوحِ. فَلا تَنْجَلِي فِيها صُوَرُ الحَقائِقِ كَما يَنْبَغِي. والنَّفْسُ تَنَفَّسُ فِيها دائِمًا بِالرَّغْبَةِ في الدُّنْيا والرَّهْبَةِ مِن فَوْتِها.
فَإذا جُلِيَتِ المِرْآةُ بِإذْهابِ هَذِهِ الأكْدارِ صَفَتْ. وظَهَرَتْ فِيها الحَقائِقُ والمَعارِفُ.
وَأمّا الأبْدانُ الزَّكِيَّةُ.
فَهِيَ الَّتِي زَكَتْ بِطاعَةِ اللَّهِ، ونَبَتَتْ عَلى أكْلِ الحَلالِ. فَمَتى خَلَصَتِ الأبْدانُ مِنَ الحَرامِ، وأدْناسِ البَشَرِيَّةِ، الَّتِي يَنْهى عَنْها العَقْلُ والدِّينُ والمُرُوءَةُ، وطَهُرَتِ الأنْفُسُ مِن عَلائِقِ الدُّنْيا: زَكَتْ أرْضُ القَلْبِ. فَقَبِلَتْ بَذْرَ العُلُومِ والمَعارِفِ. فَإنْ سُقِيَتْ - بَعْدَ ذَلِكَ - بِماءِ الرِّياضَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ - وهي الَّتِي لا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمٍ، ولا تَبْعُدُ عَنْ واجِبٍ ولا تُعَطِّلُ سُنَّةً - أنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِن عِلْمٍ وحِكْمَةٍ وفائِدَةٍ وتَعَرُّفٍ. فاجْتَنى مِنها صاحِبُها ومَن جالَسَهُ أنْواعَ الطُّرَفِ والفَوائِدِ، والثِّمارِ المُخْتَلِفَةِ الألْوانِ والأذْواقِ، كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذا عُقِدَتِ القُلُوبُ عَلى تَرْكِ المَعاصِي: جالَتْ في المَلَكُوتِ. ثُمَّ رَجَعَتْ إلى أصْحابِها بِأنْواعِ التُّحَفِ والفَوائِدِ.
قَوْلُهُ: وتَظْهَرُ في الأنْفاسِ الصّادِقَةِ يُرِيدُ بِالأنْفاسِ أمْرَيْنِ.
أحَدُهُما: أنْفاسُ الذِّكْرِ والمَعْرِفَةِ.
والثّانِي: أنْفاسُ المَحَبَّةِ والإرادَةِ. وما يَتَعَلَّقُ بِالمَعْرُوفِ المَذْكُورِ. وبِالمَحْبُوبِ المُرادِ مِنَ الذّاكِرِ والمُحِبِّ. وصِدْقُها خُلُوصُها مِن شَوائِبِ الأغْيارِ والحُظُوظِ.
وَقَوْلُهُ: لِأهْلِ الهِمَمِ العالِيَةِ فَهي الَّتِي لا تَقِفُ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. ولا تُعَرِّجُ في سَفَرِها عَلى شَيْءٍ سِواهُ. وأعْلى الهِمَمِ: ما تَعَلَّقَ بِالعَلِيِّ الأعْلى. وأوْسَعُها: ما تَعَلَّقَ بِصَلاحِ العِبادِ. وهي هِمَمُ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، ووَرَثَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: في الأحايِينِ الخالِيَةِ.
يُرِيدُ بِها: ساعاتِ الصَّفاءِ مَعَ اللَّهِ تَعالى، وأوْقاتِ النَّفَحاتِ الإلَهِيَّةِ، الَّتِي مَن تَعَرَّضَ لَها يُوشِكُ أنْ لا يُحْرَمَها. ومَن أعْرَضَ عَنْها فَهي عَنْهُ أشَدُّ إعْراضًا.
وَقَوْلُهُ: في الأسْماعِ الصّاخِيَةِ
فَهِيَ الَّتِي صَحَتْ مِن تَعَلُّقِها بِالباطِلِ واللَّغْوِ، وأصاخَتْ لِدَعْوَةِ الحَقِّ، ومُنادِي الإيمانِ. فَإنَّ الباطِلَ واللَّغْوَ خَمْرُ الأسْماعِ والعُقُولِ. فَصَحْوُها بِتَجَنُّبِهِ والإصْغاءِ إلى دَعْوَةِ الحَقِّ.
قَوْلُهُ: وهو عِلْمٌ يُظْهِرُ الغائِبَ أيْ يَكْشِفُ ما كانَ غائِبًا عَنِ العارِفِ.
قَوْلُهُ: ويُغَيِّبُ الشّاهِدَ أيْ يُغِيِّبَهُ عَنْ شُهُودِ ما سِوى مَشْهُودِهِ الحَقِّ.
وَيُشِيرُ إلى الجَمْعِ وهو مَقامُ الفَرْدانِيَّةِ، واضْمِحْلالُ الرُّسُومِ، حَتّى رَسْمِ الشّاهِدِ نَفْسِهِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ عِلْمٌ لَدُنِّيٌ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: عِلْمٌ لَدُنِّيٌ. إسْنادُهُ وُجُودُهُ، وإدْراكُهُ عِيانُهُ. ونَعْتُهُ حُكْمُهُ. لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الغَيْبِ حِجابٌ.
يُشِيرُ القَوْمُ بِالعِلْمِ اللَّدُنِّيِ إلى ما يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، بَلْ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ، وتَعْرِيفٍ مِنهُ لِعَبْدِهِ، كَما حَصَلَ لِلْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِغَيْرِ واسِطَةِ مُوسى، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥].
وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ والعِلْمِ. وجَعَلَهُما مِن عِنْدِهِ ومِن لَدُنْهُ إذْ لَمْ يَنُلْهُما عَلى يَدِ بِشْرٍ، وكانَ مِن لَدُنْهُ أخَصَّ وأقْرَبَ مِن عِنْدِهِ ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠] فالسُلْطانُ النَّصِيرُ الَّذِي مِن لَدُنْهُ سُبْحانَهُ: أخُصُّ وأقْرَبُ مِمّا عِنْدَهُ.
وَلِهَذا قالَ تَعالى ﴿واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠].
وَهُوَ الَّذِي أيَّدَهُ بِهِ. والَّذِي مِن عِنْدِهِ: نَصْرُهُ بِالمُؤْمِنِينَ، كَما قالَ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ٦٢].
والعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ ثَمَرَةُ العُبُودِيَّةِ والمُتابَعَةِ، والصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ، والإخْلاصِ لَهُ، وبَذْلِ الجُهْدِ في تَلَقِّي العِلْمِ مِن مِشْكاةِ رَسُولِهِ. وكَمالِ الِانْقِيادِ لَهُ. فَيَفْتَحُ لَهُ مِن فَهْمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ بِأمْرٍ يَخُصُّهُ بِهِ، كَما قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقَدْ سُئِلَ هَلْ خَصَّكم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ دُونَ النّاسِ؟ - فَقالَ: لا والَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأ النَّسْمَةَ. إلّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا في كِتابِهِ.
فَهَذا هو العِلْمُ اللَّدُنِّيُّ الحَقِيقِيُّ، وأمّا عِلْمُ مَن أعْرَضَ عَنِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِما: فَهو مِن لَدُنِ النَّفْسِ والهَوى، والشَّيْطانِ، فَهو لَدُنَّيٌّ. لَكِنْ مِن لَدُنْ مَن؟ وإنَّما يُعْرَفُ كَوْنُ العِلْمِ لَدُنَّيًّا رَحْمانِيًّا: بِمُوافَقَتِهِ لِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ.
فالعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ نَوْعانِ: لَدُنِّيٌّ رَحْمانِيٌّ، ولَدُنِّيٌّ شَيْطانِيٌّ بَطْناوِيٌّ. والمَحَكُّ: هو الوَحْيُ. ولا وحْيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَأمّا قِصَّةُ مُوسى مَعَ الخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلامُ: فالتَّعَلُّقُ بِها في تَجْوِيزِ الِاسْتِغْناءِ عَنِ الوَحْيِ بِالعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ إلْحادٌ، وكُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الإسْلامِ، مُوجِبٌ لِإراقَةِ الدَّمِ.
والفَرْقُ: أنَّ مُوسى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلى الخَضِرِ. ولَمْ يَكُنْ الخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتابَعَتِهِ. ولَوْ كانَ مَأْمُورًا بِها لَوَجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُهاجِرَ إلى مُوسى ويَكُونَ مَعَهُ. ولِهَذا قالَ لَهُ: أنْتَ مُوسى نَبِيُّ بَنِي إسْرائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ.
وَمُحَمَّدٌ ﷺ مَبْعُوثٌ إلى جَمِيعِ الثِّقْلَيْنِ. فَرِسالَتُهُ عامَّةٌ لِلْجِنِّ والإنْسِ، في كُلِّ زَمانٍ. ولَوْ كانَ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ حَيَّيْنِ لَكانا مِن أتْباعِهِ، وإذا نَزَلَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَإنَّما يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَمَنِ ادَّعى أنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ كالخَضِرِ مَعَ مُوسى. أوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأحَدٍ مِنَ الأُمَّةِ: فَلْيُجَدِّدْ إسْلامَهُ، ولْيَتَشَهَّدْ شَهادَةَ الحَقِّ. فَإنَّهُ بِذَلِكَ مُفارِقٌ لِدِينِ الإسْلامِ بِالكُلِّيَّةِ. فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ مِن خاصَّةِ أوْلِياءِ اللَّهِ. وإنَّما هو مِن أوْلِياءِ الشَّيْطانِ وخُلَفائِهِ ونُوّابِهِ.
وَهَذا المَوْضِعُ مَقْطَعٌ ومَفْرَقٌ بَيْنَ زَنادِقَةِ القَوْمِ، وبَيْنَ أهْلِ الِاسْتِقامَةِ مِنهُمْ، فَحَرِّكْ تَرَهُ.
قَوْلُهُ: إسْنادُهُ وُجُودُهُ.
يَعْنِي: أنَّ طَرِيقَ هَذا العِلْمِ: وِجْدانُهُ، كَما أنَّ طَرِيقَ غَيْرِهِ: هو الإسْنادُ.
وَإدْراكُهُ عِيانَهُ. أيْ إنَّ هَذا العِلْمَ لا يُؤْخَذُ بِالفِكْرِ والِاسْتِنْباطِ، وإنَّما يُؤْخَذُ عِيانًا وشُهُودًا.
وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ. يَعْنِي: أنَّ نُعُوتَهُ لا يُوصَلُ إلَيْها إلّا بِهِ، فَهي قاصِرَةٌ عَنْهُ، يَعْنِي أنَّ شاهِدَهُ مِنهُ، ودَلِيلَ وُجُودِهِ. وإنِّيَتَهُ لِمِّيَّتُهُ، فَبُرْهانُ الإنِّ فِيهِ. هو بُرْهانُ اللَّمِّ. فَهو الدَّلِيلُ. وهو المَدْلُولُ. ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ الغُيُوبِ حِجابٌ. بِخِلافِ ما دُونَهُ مِنَ العُلُومِ. فَإنَّ بَيْنَهُ وبَيْنَ العُلُومِ حِجابًا.
والَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ القَوْمُ: هو نُورٌ مِن جَنابِ المَشْهُودِ. يَمْحُو قُوى الحَواسِّ وأحْكامَها. ويَقُومُ لِصاحِبِها مَقامَها. فَهو المَشْهُودُ بِنُورِهِ، ويَفْنى ما سِواهُ بِظُهُورِهِ، وهَذا عِنْدَهم مَعْنى الأثَرِ الإلَهِيِّ فَإذا أحْبَبْتَهُ كُنْتَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، فَبِي يَسْمَعُ. وبِي يُبْصِرُ.
والعِلْمُ اللَّدُنِيُّ الرَّحْمانِيُّ: هو ثَمَرَةُ هَذِهِ المُوافَقَةِ، والمَحَبَّةِ الَّتِي أوْجَبَها التَّقَرُّبُ بِالنَّوافِلِ بَعْدَ الفَرائِضِ.
واللَّدُنِّيُّ الشَّيْطانِيُّ: ثَمَرَةُ الإعْراضِ عَنِ الوَحْيِ، وتَحْكِيمِ الهَوى والشَّيْطانِ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق