الباحث القرآني
﴿وإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبًا﴾ ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا﴾ ﴿فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ ﴿قالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ ﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ﴿قالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ ﴿قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ ﴿قالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا رَكِبا في السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا﴾ [الكهف: ٧١] ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٢] ﴿قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولا تُرْهِقْنِي مِن أمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: ٧٣] ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ [الكهف: ٧٤] ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٥] ﴿قالَ إنْ سَألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا﴾ [الكهف: ٧٦] ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها فَأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ فَأقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ [الكهف: ٧٧] ﴿قالَ هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: ٧٩] بَرِحَ: زالَ مُضارِعُ يَزُولُ، ومُضارِعُ يَزالُ فَتَكُونُ مِن أخَواتِ كانَ النّاقِصَةِ. الحِقَبُ: السُّنُونُ واحِدُها حِقْبَةٌ. قالَ الشّاعِرُ:
؎فَإنْ تَنْأ عَنْها حِقْبَةً لا تُلاقِها فَإنَّكَ مِمّا أحْدَثَتْ بِالمُجَرِّبِ
وقالَ الفَرّاءُ: الحُقُبُ سَنَةٌ، ويَأْتِي قَوْلُ أهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ. السَّرَبُ: المَسْلَكُ في جَوْفِ الأرْضِ. النَّصَبُ: التَّعَبُ والمَشَقَّةُ. الصَّخْرَةُ مَعْرُوفَةٌ وهي حَجَرٌ كَبِيرٌ. السَّفِينَةُ مَعْرُوفَةٌ وتُجْمَعُ عَلى سُفُنٍ وعَلى سَفائِنَ، وتُحْذَفُ التّاءُ فَيُقالُ سَفِينَةٌ وسَفِينٌ وهو مِمّا بَيْنَهُ وبَيْنَ مُفْرَدِهِ تاءُ التَّأْنِيثِ، وهو كَثِيرٌ في المَخْلُوقِ نادِرٌ في المَصْنُوعِ، نَحْوُ غَمامَةٍ وغَمامٍ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎مَتى تَأْتِهِ تَأْتِ لُجَّ بَحْرٍ ∗∗∗ تَقاذَفُ في غَوارِبِهِ السَّفِينُ
الإمْرُ البَشِعُ مِنَ الأُمُورِ كالدّاهِيَةِ والإدِّ ونَحْوِهِ. الجِدارُ مَعْرُوفٌ ويُجْمَعُ عَلى جُدُرٍ وجُدْرانٍ. انْقَضَّ: سَقَطَ، ومِن أبْياتِ مُعاياتِ الأعْرابِ.
؎مَرَّ كَما انْقَضَّ عَلى كَوْكَبٍ ∗∗∗ عِفْرِيتُ جِنٍّ في الدُّجى الأجْدَلِ
عابَ الرَّجُلَ: ذَكَرَ وصْفًا فِيهِ يُذَمُّ بِهِ، وعابَ السَّفِينَةَ: أحْدَثَ فِيها ما تَنْقُصُ بِهِ.
(p-١٤٢)﴿وإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبًا﴾ ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا﴾ ﴿فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ ﴿قالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ ﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ﴿قالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ ﴿قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ ﴿قالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكْرًا﴾ .
(p-١٤٣)مُوسى المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، ولَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ في كِتابِهِ مُوسى غَيْرَهُ، ومَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ غَيْرُهُ وهو مُوسى بْنُ مِيشا بْنِ يُوسُفَ، أوْ مُوسى بْنِ إفْراثِيمَ بْنِ يُوسُفَ فَقَوْلٌ لا يَصِحُّ، بَلِ الثّابِتُ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ وفي التَّوارِيخِ أنَّهُ مُوسى بْنُ عِمْرانَ نَبِيُّ بَنِي إسْرائِيلَ، والمُرْسَلُ هو وأخُوهُ هارُونُ إلى فِرْعَوْنَ، وفَتاهُ هو يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ إفْراثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والفَتى الشّابُّ، ولَمّا كانَ الخَدَمُ أكْثَرَ ما يَكُونُونَ فِتْيانًا، قِيلَ لِلْخادِمِ: فَتًى عَلى جِهَةِ حُسْنِ الأدَبِ، ونَدَبَتِ الشَّرِيعَةُ إلى ذَلِكَ. فَفي الحَدِيثِ: «لا يَقُلْ أحَدُكم عَبْدِي ولا أمَتِي ولْيَقُلْ فَتايَ وفَتاتِي» . وقالَ: (لِفَتاهُ) لِأنَّهُ كانَ يَخْدِمُهُ ويَتْبَعُهُ. وقِيلَ: كانَ يَأْخُذُ مِنهُ العِلْمَ. ويُقالُ: إنَّ يُوشَعَ كانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وسَبَبُ هَذِهِ القِصَّةِ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - جَلَسَ يَوْمًا في مَجْلِسٍ لِبَنِي إسْرائِيلَ وخَطَبَ فَأبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ هَلْ تَعْلَمُ أحَدًا أعْلَمَ مِنكَ ؟ قالَ: لا، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ أنْ يَسِيرَ بِطُولِ سَيْفِ البَحْرِ حَتّى يَبْلُغَ ﴿مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ فَإذا فَقَدَ الحُوتَ فَإنَّهُ هُنالِكَ فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وقالَ لِفَتاهُ عَلى جِهَةِ إمْضاءِ العَزِيمَةِ: لا أبْرَحُ أسِيرُ، أيْ: لا أزالُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإنَّما قالَ هَذِهِ المَقالَةَ وهو سائِرٌ. ومِن هَذا قَوْلُ الفَرَزْدَقِ:
؎فَما بَرِحُوا حَتّى تَهادَتْ نِساؤُهم ∗∗∗ بِبَطْحاءِ ذِي قارٍ عِيابَ اللَّطائِمِ
انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ حَذْفُ خَبَرِ ﴿لا أبْرَحُ﴾ وهي مِن أخَواتِ كانَ، ونَصَّ أصْحابُنا عَلى أنَّ حَذْفَ خَبَرِ كانَ وأخَواتِها لا يَجُوزُ وإنْ دَلَّ عَلى حَذْفِهِ إلّا ما جاءَ في الشِّعْرِ مِن قَوْلِهِ:
؎لَهَفِي عَلَيْكَ لِلَهْفَةٍ مِن خائِفٍ ∗∗∗ يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
أيْ حِينَ لَيْسَ في الدُّنْيا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ﴿لا أبْرَحُ﴾ إنْ كانَ بِمَعْنى لا أزُولُ مِن بَرِحَ المَكانَ فَقَدْ دَلَّ عَلى الإقامَةِ عَلى السَّفَرِ، وإنْ كانَ بِمَعْنى لا أزالُ فَلا بُدَّ مِنَ الخَبَرِ قُلْتُ: هو بِمَعْنى لا أزالُ وقَدْ (p-١٤٤)حُذِفَ الخَبَرُ لِأنَّ الحالَ والكَلامَ مَعًا يَدُلّانِ عَلَيْهِ، أمّا الحالُ فَلِأنَّها كانَتْ حالَ سَفَرٍ، وأمّا الكَلامُ فَلِأنَّ قَوْلَهُ ﴿حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ غايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي ما هي غايَةٌ لَهُ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ المَعْنى لا يَبْرَحُ مَسِيرِي ﴿حَتّى أبْلُغَ﴾ عَلى أنَّ ﴿حَتّى أبْلُغَ﴾ هو الخَبَرُ، فَلَمّا حُذِفَ المُضافُ أُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ وهو ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ، فانْقَلَبَ الفِعْلُ عَنْ ضَمِيرِ الغائِبِ إلى لَفْظِ المُتَكَلِّمِ وهو وجْهٌ لِطَيْفٌ انْتَهى. وهُما وجْهانِ خَلَطَهُما الزَّمَخْشَرِيُّ: أمّا الأوَّلُ: فَجَعَلَ الفِعْلَ مُسْنَدًا إلى المُتَكَلِّمِ لَفْظًا وتَقْدِيرًا، وجَعَلَ الخَبَرَ مَحْذُوفًا كَما قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ و﴿حَتّى أبْلُغَ﴾ فَضْلَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالخَبَرِ المَحْذُوفِ وغايَةٌ لَهُ. والوَجْهُ الثّانِي جَعَلَ ﴿لا أبْرَحُ﴾ مُسْنَدًا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ إلى المُتَكَلِّمِ، ومِن حَيْثُ المَعْنى إلى ذَلِكَ المُقَدَّرِ المَحْذُوفِ وجَعَلَهُ ﴿لا أبْرَحُ﴾ هو ﴿حَتّى أبْلُغَ﴾ فَهو عُمْدَةٌ إذْ أصْلُهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ لِأنَّهُ خَبَرُ (أبْرَحُ) .
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. أيْضًا: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى ﴿لا أبْرَحُ﴾ ما أنا عَلَيْهِ بِمَعْنى ألْزَمُ المَسِيرَ والطَّلَبَ ولا أتْرُكُهُ ولا أُفارِقُهُ ﴿حَتّى أبْلُغَ﴾ كَما تَقُولُ لا أبْرَحُ المَكانَ انْتَهى. يَعْنِي إنَّ بَرِحَ يَكُونُ بِمَعْنى فارَقَ فَيَتَعَدّى إذْ ذاكَ إلى مَفْعُولٍ ويَحْتاجُ هَذا إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا ظَهَرَ مُوسى وقَوْمُهُ عَلى مِصْرَ أنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ، فَلَمّا اسْتَقَرَّتِ الحالُ خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَّرَ بِآلاءِ اللَّهِ وأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ ذَكَرَ ما هو عَلَيْهِ مِن أنَّهُ لا يَعْلَمُ أحَدًا أعْلَمَ مِنهُ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وما يُرى قَطُّ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ إلّا في هَذا الكَلامِ، وما أراهُ يَصِحُّ بَلِ المُتَظاهِرُ أنَّ مُوسى ماتَ بِفَحْصِ التِّيهِ قَبْلَ فَتْحِ دِيارِ الجَبّارِينَ، وهَذا المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقالَ: رُوِيَ أنَّهُ لَمّا ظَهَرَ مُوسى عَلى مِصْرَ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ واسْتَقَرُّوا بَعْدَ هَلاكِ القِبْطِ أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ النِّعْمَةَ فَقامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وقالَ: إنَّ اللَّهَ اصْطَفى نَبِيَّكم وكَلَّمَهُ فَقالُوا لَهُ: قَدْ عَلِمْنا هَذا فَأيُّ النّاسِ أعْلَمُ ؟ قالَ: أنا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلى اللَّهِ فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ بَلْ أعْلَمُ مِنكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ وهو الخَضِرُ، كانَ الخَضِرُ في أيّامِ أفْرِيدُونَ قَبْلَ مُوسى، وكانَ عَلى مَقْدُمَةِ ذِي القَرْنَيْنِ الأكْبَرِ وبَقِيَ إلى أيّامِ مُوسى، وذَكَرَ أيْضًا في أسْئِلَةِ مُوسى أنَّهُ قالَ: إنْ كانَ في عِبادِكَ مَن هو أعْلَمُ مِنِّي فادْلُلْنِي عَلَيْهِ، قالَ: أعْلَمُ مِنكَ الخَضِرُ انْتَهى. وهَذا مُخالِفٌ لِما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن أنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ أحَدٌ أعْلَمُ مِنكَ ؟ قالَ: لا.
و﴿مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: هو مُجْتَمَعُ بَحْرِ فارِسَ وبَحْرِ الرُّومِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو ذِراعٌ يَخْرُجُ مِنَ البَحْرِ المُحِيطِ مِن شَمالٍ إلى جَنُوبٍ في أرْضِ فارِسَ مِن وراءِ أذْرَبِيجانَ، فالرُّكْنُ الَّذِي لِاجْتِماعِ البَحْرَيْنِ مِمّا يَلِي بَرَّ الشّامِ هو مُجْتَمَعُ البَحْرَيْنِ عَلى هَذا القَوْلِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهم مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: هو عِنْدَ طَنْجَةَ حَيْثُ يَجْتَمِعُ البَحْرُ المُحِيطُ والبَحْرُ الخارِجُ مِنهُ مِن دَبُورٍ إلى صِبا. وعَنْ أُبَيٍّ بِإفْرِيقِيَّةَ. وقِيلَ: هو بَحْرُ الأنْدَلُسِ، والقَرْيَةُ الَّتِي أبَتْ أنْ تُضِيفَهُما هي الجَزِيرَةُ الخَضْراءُ. وقِيلَ: ﴿مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ بَحْرٌ مِلْحٌ وبَحْرٌ عَذْبٌ فَيَكُونُ الخَضِرُ عَلى هَذا عِنْدَ مَوْقِعِ نَهْرٍ عَظِيمٍ في البَحْرِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: البَحْرانِ كِنايَةٌ عَنْ مُوسى والخَضِرُ لِأنَّهُما بَحْرا عِلْمٍ. وهَذا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الباطِنِيَّةِ وغُلاةِ الصُّوفِيَّةِ، والأحادِيثُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُما بَحْرا ماءٍ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن بِدَعِ التَّفاسِيرِ أنَّ البَحْرَيْنِ مُوسى والخَضِرُ لِأنَّهُما كانا بَحْرَيْنِ في العِلْمِ انْتَهى. وقِيلَ: بَحْرُ القُلْزُمِ. وقِيلَ: بَحْرُ الأزْرَقِ. وقَرَأ الضَّحّاكُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ (مَجْمِعَ) بِكَسْرِ المِيمِ الثّانِيَةِ والنَّضْرُ عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ في كِلا الحَرْفَيْنِ وهو شاذٌّ، وقِياسُهُ مِن يَفْعَلُ فَتْحُ المِيمِ كَقِراءَةِ الجُمْهُورِ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ هو اسْمُ مَكانِ جَمْعِ البَحْرَيْنِ. وقِيلَ: مَصْدَرٌ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الحُقُبُ الدَّهْرُ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وأبُو هُرَيْرَةَ: ثَمانُونَ سَنَةً. وقالَ الحَسَنُ: سَبْعُونَ. وقِيلَ: سَنَةٌ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ ذَكَرَهُ الفَرّاءُ. وقِيلَ: وقْتٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ قالَهُ أبُو (p-١٤٥)عُبَيْدَةَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿أوْ أمْضِيَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى (أبْلُغَ) فَغَيّا بِأحَدِ الأمْرَيْنِ، إمّا بِبُلُوغِهِ المَجْمَعِ، وإمّا بِمُضِيِّهِ ﴿حُقُبًا﴾ . وقِيلَ: هي تَغْيِيَةٌ لِقَوْلِهِ ﴿لا أبْرَحُ﴾ كَقَوْلِكَ لا أُفارِقُكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، فالمَعْنى ﴿لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ إلى أنْ أمْضِيَ زَمانًا أتَيَقَّنُ مَعَهُ فَواتَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ. وقَرَأ الضَّحّاكُ ﴿حُقْبًا﴾ بِإسْكانِ القافِ والجُمْهُورُ بِضَمِّها.
﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾ ثُمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ فَسارا ﴿فَلَمّا بَلَغا﴾، أيْ: مُوسى وفَتاهُ ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾، أيْ: بَيْنَ البَحْرَيْنِ ﴿نَسِيا حُوتَهُما﴾ وكانَ مِن أمْرِ الحُوتِ وقِصَّتِهِ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - حِينَ أُوحِيَ إلَيْهِ إنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أعْلَمُ مِنكَ. قالَ مُوسى: يا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ ؟ قالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُما فَقَدْتَ الحُوتَ فَهو ثَمَّ، فَأخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ في مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وانْطَلَقَ مَعَهُ فَتاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتّى أتَيا الصَّخْرَةَ وضَعا رُءُوسَهُما فَنامَ مُوسى واضْطَرَبَ الحُوتُ في المِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنهُ فَسَقَطَ ﴿فِي البَحْرِ سَرَبًا﴾ وأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جِرْيَةَ الماءِ فَصارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطّاقِ. قِيلَ: وكانَ الحُوتُ مالِحًا. وقِيلَ: مَشْوِيًّا. وقِيلَ: طَرِيًّا. وقِيلَ: جَمَعَ يُوشَعُ الحُوتَ والخُبْزَ في مِكْتَلٍ فَنَزَلا لَيْلَةً عَلى شاطِئِ عَيْنٍ تُسَمّى عَيْنَ الحَياةِ ونامَ مُوسى، فَلَمّا أصابَ السَّمَكَةَ رَوْحُ الماءِ وبَرْدُهُ عاشَتْ. ورُوِيَ أنَّهُما أكَلا مِنها. وقِيلَ: تَوَضَّأ يُوشَعُ مِن تِلْكَ العَيْنِ فانْتَضَحَ الماءُ عَلى الحُوتِ فَعاشَ ووَقَعَ في الماءِ، والظّاهِرُ نِسْبَةُ النِّسْيانِ إلى مُوسى وفَتاهُ.
وقِيلَ: كانَ النِّسْيانُ مِن أحَدِهِما وهو فَتى مُوسى، نَسِيَ أنْ يُعْلِمَ مُوسى أمْرَ الحُوتِ إذْ كانَ نائِمًا، وقَدْ أحَسَّ يُوشَعُ بِخُرُوجِهِ مِنَ المِكْتَلِ إلى البَحْرِ ورَآهُ قَدِ اتَّخَذَ السَّرَبَ فَأشْفَقَ أنْ يُوقِظَ مُوسى. وقالَ أُؤَخِّرُ إلى أنْ يَسْتَيْقِظَ ثُمَّ نَسِيَ أنْ يُعْلِمَهُ حَتّى ارْتَحَلا و﴿جاوَزا﴾ وقَدْ يُسْنَدُ الشَّيْءُ إلى الجَماعَةِ وإنْ كانَ الَّذِي فَعَلَهُ واحِدٌ مِنهم. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: نَسِيَ أحَدُهُما. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:، أيْ: (نَسِيا) تَفَقُّدَ أمْرِهِ وما يَكُونُ مِنهُ مِمّا جُعِلَ أمارَةً عَلى الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ. وقِيلَ: نَسِيَ يُوشَعُ أنْ يُقَدِّمَهُ، ونَسِيَ مُوسى أنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِشَيْءٍ انْتَهى. وشُبِّهَ بِالسَّرَبِ مَسْلَكُ الحُوتِ في الماءِ حِينَ لَمْ يَنْطَبِقِ الماءُ بَعْدَهُ بَلْ بَقِيَ كالطّاقِ، هَذا الَّذِي ورَدَ في الحَدِيثِ. وقالَ الجُمْهُورُ: بَقِيَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ فارِغًا. وقالَ قَتادَةُ: ماءً جامِدًا، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: حَجَرًا صَلْدًا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّما اتَّخَذَ سَبِيلَهُ سَرَبًا في البَرِّ حَتّى وصَلَ إلى البَحْرِ ثُمَّ عامَ عَلى العادَةِ كَأنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿سَرَبًا﴾ تَصَرُّفًا وجَوَلانًا مِن قَوْلِهِمْ: فَحْلٌ سارِبٌ، أيْ: مُهْمَلٌ يَرْعى حَيْثُ شاءَ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ [الرعد: ١٠]، أيْ: مُتَصَرِّفٌ. وقالَ قَوْمٌ: اتَّخَذَ ﴿سَرَبًا﴾ في التُّرابِ مِنَ المِكْتَلِ، وصادَفَ في طَرِيقِهِ حَجَرًا فَنَقَبَهُ. والظّاهِرُ أنَّ السَّرَبَ كانَ في الماءِ، ولا يُفَسَّرُ إلّا بِما ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ الماءَ صارَ عَلَيْهِ كالطّاقِ وهو مُعْجِزَةٌ لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أوِ الخَضِرِ إنْ قُلْنا أنَّهُ نَبِيٌّ وإلّا تَكُنْ كَرامَةً.
وقِيلَ: عادَ مَوْضِعَ سُلُوكِ الحُوتِ حَجَرًا طَرِيقًا وأنَّ مُوسى مَشى عَلَيْهِ مُتَّبِعًا لِلْحُوتِ حَتّى أفْضى بِهِ ذَلِكَ إلى جَزِيرَةٍ في البَحْرِ وفِيها وجَدَ الخَضِرَ ﴿فَلَمّا جاوَزا﴾، أيْ: مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَوْعِدَ وهو الصَّخْرَةُ. قِيلَ: سارا بَعْدَ مُجاوَزَةِ الصَّخْرَةِ اللَّيْلَةَ والغَدَ إلى الظُّهْرِ وأُلْقِيَ عَلى مُوسى النَّصَبُ والجُوعُ حِينَ جاوَزَ المَوْعِدَ ولَمْ يَنْصَبْ ولا جاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَ الحُوتَ وطَلَبَهُ. وقَوْلُهُ ﴿مِن سَفَرِنا هَذا﴾ إشارَةٌ إلى مَسِيرِهِما وراءَ الصَّخْرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿نَصَبًا﴾ بِفَتْحَتَيْنِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِضَمَّتَيْنِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ وهي إحْدى اللُّغاتِ الأرْبَعِ الَّتِي فِيها.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ نَسِيَ يُوشَعُ ذَلِكَ ومِثْلُهُ لا يُنْسى لِكَوْنِهِ أمارَةً لَهُما عَلى الطِّلْبَةِ الَّتِي تَناهَضا مِن أجْلِها ولِكَوْنِهِ مُعْجِزَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ، وهُما حَياةُ السَّمَكَةِ المَمْلُوحَةِ المَأْكُولِ مِنها، وقِيلَ: ما كانَتْ إلّا شِقَّ سَمَكَةٍ وقِيامُ الماءِ وانْتِصابُهُ مِثْلُ الطّاقِ، ونُفُوذُها في مِثْلِ السَّرَبِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيانُ حَتّى خَلَّفا المَوْعِدَ وسارا مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إلى ظُهْرِ الغَدِ، وحَتّى طَلَبَ مُوسى - عَلَيْهِ (p-١٤٦)السَّلامُ - الحُوتَ قُلْتُ: قَدْ شَغَلَهُ الشَّيْطانُ بِوَساوِسِهِ فَذَهَبَ بِفِكْرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ حَتّى اعْتَراهُ النِّسْيانُ، وانْضَمَّ إلى ذَلِكَ أنَّهُ ضَرِيَ بِمُشاهَدَةِ أمْثالِهِ عِنْدَ مُوسى مِنَ العَجائِبِ، واسْتَأْنَسَ بِأخَواتِهِ فَأعانَ الإلْفَ عَلى قِلَّةِ الِاهْتِمامِ انْتَهى. قالَ أبُو بَكْرٍ غالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ والدّانِيُّ عَبْدُ الحَقِّ المُفَسِّرُ: سَمِعْتُ أبا الفَضْلِ الجَوْهَرِيَّ يَقُولُ في وعْظِهِ: مَشى مُوسى إلى المُناجاةِ فَبَقِيَ أرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَحْتَجْ إلى طَعامٍ، ولَمّا مَشى إلى بَشَرٍ لَحِقَهُ الجُوعُ في بَعْضِ يَوْمٍ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (أرَأيْتَ) بِمَعْنى أخْبِرْنِي فَإنْ قُلْتَ: فَما وجْهُ التِئامِ هَذا الكَلامِ فَإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن (أرَأيْتَ) و﴿إذْ أوَيْنا﴾ و﴿فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ لا مُتَعَلِّقَ لَهُ ؟ قُلْتُ: لَمّا طَلَبَ مُوسى الحُوتَ ذَكَرَ يُوشَعُ ما رَأى مِنهُ وما اعْتَراهُ مِن نِسْيانِهِ إلى تِلْكَ الغايَةِ فَدُهِشَ فَطَفِقَ يَسْألُ مُوسى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، كَأنَّهُ قالَ: (أرَأيْتَ) ما دَهانِي ﴿إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ فَحُذِفَ ذَلِكَ انْتَهى. وكَوْنُ أرَأيْتُكَ بِمَعْنى أخْبِرْنِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ: وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ في ذَلِكَ في سُورَةِ الأنْعامِ وفي شَرْحِنا لِكِتابِ التَّسْهِيلِ.
وأمّا ما يَخْتَصُّ بِأرَأيْتَ في هَذا المَوْضِعِ فَقالَ أبُو الحَسَنِ الأخْفَشُ: إنَّ العَرَبَ أخْرَجَتْها عَنْ مَعْناها بِالكُلِّيَّةِ فَقالُوا: أرَأيْتُكَ وأرَيْتُكَ بِحَذْفِ الهَمْزَةِ إذا كانَتْ بِمَعْنى أخْبِرْنِي، وإذا كانَتْ بِمَعْنى أبْصَرْتُ لَمْ تُحْذَفْ هَمْزَتُها، قالَ: وشَذَّتْ أيْضًا فَألْزَمَتْها الخِطابَ عَلى هَذا المَعْنى، ولا تَقُولُ فِيها أبَدًا أرانِي زَيْدٌ عَمْرًا ما صَنَعَ، وتَقُولُ هَذا عَلى مَعْنى أعْلَمُ. وشَذَّتْ أيْضًا فَأخْرَجَتْها عَنْ مَوْضِعِها بِالكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الفاءِ ألا تَرى قَوْلَهُ ﴿أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ فَما دَخَلَتِ الفاءُ إلّا وقَدْ أُخْرِجَتْ لِمَعْنى أمّا أوْ تَنَبَّهْ، والمَعْنى أمّا ﴿إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ﴾ فالأمْرُ كَذا، وقَدْ أخْرَجَتْها أيْضًا إلى مَعْنى أخْبِرْنِي كَما قَدَّمْنا، وإذا كانَتْ بِمَعْنى أخْبِرْنِي فَلا بُدَّ بَعْدَها مِنَ الِاسْمِ المُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وتَلْزَمُ الجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَها الِاسْتِفْهامَ، وقَدْ يَخْرُجُ لِمَعْنى أمّا ويَكُونُ أبَدًا بَعْدَها الشَّرْطُ وظَرْفُ الزَّمانِ فَقَوْلُهُ ﴿فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ مَعْناهُ أمّا ﴿إذْ أوَيْنا﴾ ﴿فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ أوْ تَنَبَّهْ ﴿إذْ أوَيْنا﴾ ولَيْسَتِ الفاءُ إلّا جَوابًا لِأرَأيْتَ، لِأنَّ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يُجازى بِها إلّا مَقْرُونَةً بِما بَلا خِلافٍ انْتَهى كَلامُ الأخْفَشِ. وفِيهِ إنَّ (أرَأيْتَ) إذا كانَتْ بِمَعْنى أخْبِرْنِي فَلا بُدَّ بَعْدَها مِنَ الِاسْمِ المُسْتَخْبَرِ عَنْهُ، وتَلْزَمُ الجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَها الِاسْتِفْهامَ وهَذانِ مَفْقُودانِ في تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ (أرَأيْتَ) هُنا بِمَعْنى أخْبِرْنِي، ومَعْنى ﴿نَسِيتُ الحُوتَ﴾ نَسِيتُ ذِكْرَ ما جَرى فِيهِ لَكَ.
وفِي قَوْلِهِ ﴿وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ﴾ حُسْنُ أدَبٍ سَبَّبَ النِّسْيانَ إلى المُتَسَبِّبِ فِيهِ بِوَسْوَسَتِهِ و﴿أنْ أذْكُرَهُ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ الضَّمِيرِ العائِدِ عَلى الحُوتِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ عائِدٌ عَلى الحُوتِ كَما عادَ في قَوْلِهِ (واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا) وهو مِن كَلامِ يُوشَعَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى مُوسى، أيْ: اتَّخَذَ مُوسى. ومَعْنى (عَجَبًا)، أيْ: تَعَجُّبٌ مِن ذَلِكَ أوِ اتِّخاذًا (عَجَبًا) وهو أنَّ أثَرَهُ بَقِيَ إلى حَيْثُ سارَ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبِيلَهُ عَجَبًا، وهو كَوْنُهُ شَبِيهَ السَّرَبِ قالَ: أوْ قالَ (عَجَبًا) في آخِرِ كَلامٍ تَعَجُّبًا مِن حالِهِ في رُؤْيَةِ تِلْكَ العَجِيبَةِ ونِسْيانِهِ لَها، أوْ مِمّا رَأى مِنَ المُعْجِزَتَيْنِ وقَوْلُهُ: ﴿وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وقِيلَ: إنَّ (عَجَبًا) حِكايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسى ولَيْسَ بِذَلِكَ انْتَهى.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ يُوشَعَ لِمُوسى، أيِ: اتَّخَذَ الحُوتُ سَبِيلًا عَجَبًا لِلنّاسِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ﴾ تَمامَ الخَبَرِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّعَجُّبَ فَقالَ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ (عَجَبًا) لِهَذا الأمْرِ، ومَوْضِعُ العَجَبِ أنْ يَكُونَ حُوتٌ قَدْ ماتَ وأكَلَ شِقَّهُ ثُمَّ حَيى بَعْدَ ذَلِكَ.
قالَ أبُو شُجاعٍ في كِتابِ الطَّبَرِيِّ رَأيْتُهُ أتَيْتُ بِهِ فَإذا هو شَقُّ حُوتٍ وعَيْنٌ واحِدَةٌ وشَقٌّ آخَرُ لَيْسَ فِيهِ شَئٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأنا رَأيْتُهُ والشِّقُّ الَّذِي فِيهِ شَيٌّ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ لَيْسَتْ تَحْتَها شَوْكَةٌ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ﴾ الآيَةَ إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى وذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ: إمّا أنْ (p-١٤٧)يُخْبِرَ عَنْ مُوسى أنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَ الحُوتِ مِنَ البَحْرِ (عَجَبًا)، أيْ: تَعَجَّبَ مِنهُ، وإمّا أنْ يُخْبِرَ عَنِ الحُوتِ أنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ (عَجَبًا) لِلنّاسِ انْتَهى. وقَرَأ حَفْصٌ: ﴿وما أنْسانِيهُ﴾ بِضَمِّ الهاءِ وفي الفَتْحِ عَلَيْهِ اللَّهُ وذَلِكَ في الوَصْلِ، وأمالَ الكِسائِيُّ فَتْحَةَ السِّينِ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وقِراءَتِهِ ﴿أنْ أذْكُرَهُ﴾ ﴿إلّا الشَّيْطانَ﴾ . وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: واتِّخاذُ سَبِيلِهِ عَطْفٌ عَلى المَصْدَرِ عَلى ضَمِيرِ المَفْعُولِ في ﴿أذْكُرَهُ﴾ والإشارَةُ بِقَوْلِهِ (ذَلِكَ) إلى أمْرِ الحُوتِ وفَقْدِهِ واتِّخاذِهِ سَبِيلًا في البَحْرِ؛ لِأنَّهُ أمارَةُ الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ مِن لِقاءِ ذَلِكَ العَبْدِ الصّالِحِ و(ما) مَوْصُولَةٌ والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ: نَبْغِيهِ. وقُرِئَ نَبْغِ بِغَيْرِ ياءٍ في الوَصْلِ وإثْباتُها أحْسَنُ، وهي قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو والكِسائِيِّ ونافِعٍ، وأمّا الوَقْفُ فالأكْثَرُ فِيهِ طَرْحُ الياءِ اتِّباعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ، وأثْبَتَها في الحالَيْنِ ابْنُ كَثِيرٍ.
﴿فارْتَدّا﴾ رَجَعا عَلى أدْراجِهِما مِن حَيْثُ جاءا.
﴿قَصَصًا﴾، أيْ: يَقُصّانِ الأثَرَ ﴿قَصَصًا﴾ فانْتَصَبَ عَلى المَصْدَرِيَّةِ بِإضْمارِ يَقُصّانِ، أوْ يَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُقْتَصِّينَ فَيُنْصَبُ بِقَوْلِهِ ﴿فارْتَدّا﴾ (فَوَجَدا)، أيْ: مُوسى والفَتى ﴿عَبْدًا مِن عِبادِنا﴾ هَذِهِ إضافَةُ تَشْرِيفٍ واخْتِصاصٍ، وجَداهُ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي فَقَدَ الحُوتَ عِنْدَها وهو مُسَجّى في ثَوْبِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلى الأرْضِ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ فَرَفَعَ رَأسَهُ، وقالَ: أنّى بِأرْضِكَ السَّلامُ، ثُمَّ قالَ لَهُ: مَن أنْتَ ؟ قالَ: أنا مُوسى، قالَ: مُوسى بَنِي إسْرائِيلَ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ لَهُ: ألَمْ يَكُنْ لَكَ في بَنِي إسْرائِيلَ ما يَشْغَلُكَ عَنِ السَّفَرِ إلى هُنا ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنْ أحْبَبْتُ لِقاءَكَ وأنْ أتَعَلَّمَ مِنكَ، قالَ لَهُ: إنِّي عَلى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أعْلَمُهُ أنا. والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ الخَضِرُ وخالَفَ مَن لا يُعْتَدُّ بِخِلافِهِ فَزَعَمَ أنَّهُ عالِمٌ آخَرُ. وقِيلَ: اليَسَعُ. وقِيلَ: إلْياسُ. وقِيلَ: خَضِرُونُ بْنُ قابِيلَ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قِيلَ: واسْمُ الخَضِرِ بَلْيا بْنُ مَلْكانَ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ الخَضِرَ نَبِيٌّ وكانَ عِلْمُهُ مَعْرِفَةَ بَواطِنَ قَدْ أُوحِيَتْ إلَيْهِ، وعِلْمُ مُوسى الأحْكامَ والفُتْيا بِالظّاهِرِ. ورُوِيَ أنَّهُ وُجِدَ قاعِدًا عَلى ثَبَجِ البَحْرِ. وفي الحَدِيثِ سُمِّيَ خَضِرًا؛ لِأنَّهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بالِيَةٍ فاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْراءَ. وقِيلَ: كانَ إذا صَلّى اخْضَرَّ ما حَوْلَهُ. وقِيلَ: جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضاءَ وهي الأرْضُ المُرْتَفِعَةُ. وقِيلَ: الصَّلْبَةُ واهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْراءَ. وقِيلَ: كانَتْ أُمُّهُ رُومِيَّةً، وأبُوهُ فارِسِيٌّ. وقِيلَ: كانَ ابْنَ مَلِكٍ مِنَ المُلُوكِ أرادَ أبُوهُ أنْ يَسْتَخْلِفَهُ مِن بَعْدِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنهُ ولَحِقَ بِجَزائِرَ البَحْرِ فَطَلَبَهُ أبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ ماتَ.
وقالَ شَرَفُ الدِّينِ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي الفَضْلِ المَرْسِيُّ: أمّا خَضِرُ مُوسى بْنِ عِمْرانَ فَلَيْسَ بِحَيٍّ لِأنَّهُ لَوْ كانَ حَيًّا لَلَزِمَهُ المَجِيءُ إلى النَّبِيِّ ﷺ والإيمانُ بِهِ واتِّباعُهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «لَوْ كانَ مُوسى وعِيسى حَيَّيْنِ لَمْ يَسَعْهُما إلّا اتِّباعِي» . انْتَهى هَكَذا أُورِدَ الحَدِيثُ ومَذْهَبُ المُسْلِمِينَ أنَّ عِيسى حَيٌّ، وأنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، ولَعَلَّ الحَدِيثَ: «لَوْ كانَ مُوسى حَيًّا لَمْ يَسَعْهُ إلّا اتِّباعِي» .
والرَّحْمَةُ الَّتِي آتاهُ اللَّهُ إيّاها هي الوَحْيُ والنُّبُوَّةُ. وقِيلَ: الرِّزْقُ. (وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا)، أيْ: مِن عِنْدِنا، أيْ: مِمّا يَخْتَصُّ بِنا مِنَ العِلْمِ وهو الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ. وقَرَأ أبُو زَيْدٍ عَنْ أبِي عَمْرٍو (مِن لَدُنا) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وهي لُغَةٌ في لَدُنْ وهي الأصْلُ.
قِيلَ: وقَدْ أُولِعَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلى الصَّلاحِ بِادِّعاءِ هَذا العِلْمِ ويُسَمُّونَهُ العِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وأنَّهُ يُلْقى في رَوْعِ الصّالِحِ مِنهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ حَتّى يُخْبِرَ بِأنَّ مَن كانَ مِن أصْحابِهِ هو مِن أهْلِ الجَنَّةِ عَلى سَبِيلِ القَطْعِ، وأنَّ بَعْضَهم يَرى الخَضِرَ. وكانَ قاضِي القُضاةِ أبُو الفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُطِيعٍ القُشَيْرِيُّ - المَعْرُوفُ بِابْنِ دَقِيقِ العِيدِ - يُخْبِرُ عَنْ شَيْخٍ لَهُ أنَّهُ رَأى الخَضِرَ وحَدَّثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَن أعْلَمَهُ أنَّهُ الخَضِرُ ؟ ومِن أيْنَ عَرِفَ ذَلِكَ ؟ فَسَكَتَ. وبَعْضُهم يَزْعُمُ أنَّ الخَضِرِيَّةَ رُتْبَةٌ يَتَوَلّاها بَعْضُ الصّالِحِينَ عَلى قَدَمِ الخَضِرِ، وسَمِعْنا (p-١٤٨)الحَدِيثَ عَنْ شَيْخٍ، يُقالُ لَهُ عَبْدُ الواحِدِ العَبّاسِيُّ الحَنْبَلِيُّ وكانَ أصْحابُهُ الحَنابِلَةُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أنَّهُ يَجْتَمِعُ بِالخَضِرِ.
(قالَ لَهُ مُوسى) في الكَلامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمّا التَقَيا وتَراجَعا الكَلامَ وهو الَّذِي ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ﴾ وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى التَّواضُعِ لِلْعالِمِ، وفي هَذِهِ القِصَّةِ دَلِيلٌ عَلى الحَثِّ عَلى الرِّحْلَةِ في طَلَبِ العِلْمِ وعَلى حُسْنِ التَّلَطُّفِ والِاسْتِنْزالِ والأدَبِ في طَلَبِ العِلْمِ. بِقَوْلِهِ ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ﴾ وفِيهِ المُسافَرَةُ مَعَ العالِمِ لِاقْتِباسِ فَوائِدِهِ، والمَعْنى هَلْ يَخِفُّ عَلَيْكَ ويَتَّفِقُ لَكَ وانْتَصَبَ (رُشْدًا) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِقَوْلِهِ ﴿تُعَلِّمُنِي﴾ أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، وذُو الحالِ الضَّمِيرُ في ﴿أتَّبِعُكَ﴾ .
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (عِلْمًا) ذا رُشْدٍ أُرْشَدُ بِهِ في دِينِي، قالَ: فَإنْ قُلْتَ: أما دَلَّتْ حاجَتُهُ إلى التَّعَلُّمِ مِن آخَرَ في عَهْدِهِ أنَّهُ كَما قِيلَ مُوسى بْنُ مِيشا لا مُوسى بْنُ عِمْرانَ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أعْلَمَ أهْلِ زَمانِهِ وإمامَهُمُ المَرْجُوعَ إلَيْهِ في أبْوابِ الدِّينِ ؟ قُلْتُ: لا غَضاضَةَ بِالنَّبِيِّ في أخْذِ العِلْمِ مِن نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وإنَّما يَغُضُّ مِنهُ أنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ دُونَهُ.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ نُوفًا ابْنَ امْرَأةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أنَّ الخَضِرَ لَيْسَ بِصاحِبِ مُوسى، وأنَّ مُوسى هو مُوسى بْنُ مِيشا، فَقالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ انْتَهى.
وقَرَأ الحَسَنُ والزُّهْرِيُّ وأبُو بَحْرِيَّةَ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ مُناذِرٍ ويَعْقُوبُ وأبُو عُبَيْدٍ واليَزِيدِيُّ (رَشَدًا) بِفَتْحَتَيْنِ وهي قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ الرّاءِ وإسْكانِ الشِّينِ، ونَفى الخَضِرُ اسْتِطاعَةَ الصَّبْرِ مَعَهُ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَأنَّها مِمّا لا يَصِحُّ ولا يَسْتَقِيمُ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّهُ يَتَوَلّى أُمُورًا هي في ظاهِرِها يُنْكِرُها الرَّجُلُ الصّالِحُ فَكَيْفَ النَّبِيُّ فَلا يَتَمالَكُ أنْ يَشْمَئِزَّ لِذَلِكَ، ويُبادِرَ بِالإنْكارِ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ﴾، أيْ: إنَّ صَبْرَكَ عَلى ما لا خِبْرَةَ لَكَ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ، وفِيهِ إبْداءُ عُذْرٍ لَهُ حَيْثُ لا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ لِما يَرى مِن مُنافاةِ ما هو عَلَيْهِ مِن شَرِيعَتِهِ. وانْتَصَبَ (خُبْرًا) عَلى التَّمْيِيزِ، أيْ: مِمّا لَمْ يُحِطْ بِهِ خُبْرُكَ فَهو مَنقُولٌ مِنَ الفاعِلِ أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأنَّ مَعْنى ﴿بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النمل: ٢٢] لَمْ تُخْبَرْهُ. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ هُرْمُزَ (خُبُرًا) بِضَمِّ الباءِ.
﴿قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا﴾ وعَدَهُ بِوِجْدانِهِ (صابِرًا) وقَرَنَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عِلْمًا مِنهُ بِشِدَّةِ الأمْرِ وصُعُوبَتِهِ، إذْ لا يَصْبِرُ إلّا عَلى ما يُنافِي ما هو عَلَيْهِ إذا رَآهُ ﴿ولا أعْصِي﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (صابِرًا)، أيْ: صابِرًا وغَيْرَ عاصٍ فَيَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبِ عَطْفِ الفِعْلِ عَلى الِاسْمِ إذا كانَ في مَعْناهُ كَقَوْلِهِ ﴿صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩]، أيْ: وقابِضاتٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (سَتَجِدُنِي) فَلا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ ولا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالمَشِيئَةِ لَفْظًا.
وقالَ القُشَيْرِيُّ: وعَدَ مُوسى مِن نَفْسِهِ بِشَيْئَيْنِ: بِالصَّبْرِ وقَرَنَهُ بِالِاسْتِثْناءِ بِالمَشِيئَةِ، فَصَبَرَ حِينَ وجَدَ عَلى يَدَيِ الخَضِرِ فِيما كانَ مِنهُ مِنَ الفِعْلِ، وبِأنْ لا يَعْصِيَهُ فَأطْلَقَ ولَمْ يُقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْناءِ فَعَصاهُ حَيْثُ قالَ لَهُ (فَلا تَسْألْنِي) فَكانَ يَسْألُهُ فَما قَرَنَ بِالِاسْتِثْناءِ لَمْ يُخالِفْ فِيهِ وما أطْلَقَهُ وقَعَ فِيهِ الخُلْفُ انْتَهى. وهَذا مِنهُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ ﴿ولا أعْصِي﴾ مَعْطُوفًا عَلى (سَتَجِدُنِي) فَلَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ المَشِيئَةِ.
﴿قالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي﴾، أيْ: إذا رَأيْتَ مِنِّي شَيْئًا خَفِيَ عَلَيْكَ وجْهُ صِحَّتِهِ فَأنْكَرْتَ في نَفْسِكَ فَلا تُفاتِحْنِي بِالسُّؤالِ حَتّى أكُونَ أنا الفاتِحَ عَلَيْكَ، وهَذا مِن أدَبِ المُتَعَلِّمِ مَعَ العالِمِ المَتْبُوعِ. وقَرَأها نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ (فَلا تَسْألْنِي) وعَنْ أبِي جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ واللّامِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ مُشَدِّدَةَ النُّونِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالهَمْزِ وسُكُونِ اللّامِ وتَخْفِيفِ النُّونِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ. كُلُّهم بِياءٍ في الحالَيْنِ انْتَهى. وعَنِ ابْنِ عامِرٍ في حَذْفِ الياءِ خِلافٌ غَرِيبٌ.
{"ayahs_start":60,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَاۤ أَبۡرَحُ حَتَّىٰۤ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ أَوۡ أَمۡضِیَ حُقُبࣰا","فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَیۡنِهِمَا نَسِیَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ سَرَبࣰا","فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَاۤءَنَا لَقَدۡ لَقِینَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَبࣰا","قَالَ أَرَءَیۡتَ إِذۡ أَوَیۡنَاۤ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّی نَسِیتُ ٱلۡحُوتَ وَمَاۤ أَنسَىٰنِیهُ إِلَّا ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ عَجَبࣰا","قَالَ ذَ ٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰۤ ءَاثَارِهِمَا قَصَصࣰا","فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا","قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدࣰا","قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا","وَكَیۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرࣰا","قَالَ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ صَابِرࣰا وَلَاۤ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرࣰا","قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِی فَلَا تَسۡـَٔلۡنِی عَن شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرࣰا"],"ayah":"فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق