الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا خَيْرًا﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ المُتَّقِينَ إذا سُئِلُوا عَمّا أنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ﷺ، قالُوا: أنْزَلَ عَلَيْهِ خَيْرًا؛ أيْ: رَحْمَةً وهُدًى وبَرَكَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ وآمَنَ بِهِ. ويُفْهَمُ مِن صِفَةِ أهْلِ هَذا الجَوابِ (p-٣٧٠)بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ - أنَّ غَيْرَ المُتَّقِينَ يُجِيبُونَ جَوابًا غَيْرَ هَذا. وقَدْ صَرَّحَ تَعالى بِهَذا المَفْهُومِ في قَوْلِهِ عَنْ غَيْرِ المُتَّقِينَ وهُمُ الكُفّارُ: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [النحل: ٢٤]، كَما تَقَدَّمَ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ مَن أحْسَنَ عَمَلَهُ في هَذِهِ الدّارِ الَّتِي هي الدُّنْيا كانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الجَزاءُ الحَسَنُ في الآخِرَةِ. وأوْضَحَ هَذا المَعْنى في آياتٍ كَثِيرَةٍ؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ﴾ الآيَةَ [يونس: ٢٦]، والحُسْنى: الجَنَّةُ. والزِّيادَةُ: النَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ.
• وقَوْلِهِ: ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ [النجم: ٣١]،
• وقَوْلِهِ: ﴿هَلْ جَزاءُ الإحْسانِ إلّا الإحْسانُ﴾ [الرحمن: ٦٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنها﴾ [القصص: ٨٤]،
وقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: حَسَنَةٌ، أيْ: مُجازاةٌ حَسَنَةٌ بِالجَنَّةِ ونَعِيمِها. والآياتُ في مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ دارَ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِن دارِ الدُّنْيا. وكَرَّرَ هَذا المَعْنى في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ،
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ويْلَكم ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ الآيَةَ [القصص: ٨٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأبْرارِ﴾،
• وقَوْلِهِ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَياةَ الدُّنْيا والآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقى﴾،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ [الضحى: ٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ قُلْ أؤُنَبِّئُكم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٤ - ١٥]، وقَوْلُهُ، خَيْرٌ [النحل: ٣٠]،
صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، حُذِفَتْ هَمْزَتُها؛ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ تَخْفِيفًا.
وَإلَيْهِ أشارَ ابْنُ مالِكٍ في الكافِيَةِ بِقَوْلِهِ:
؎وَغالِبًا أغْناهُمُ خَيْرٌ وشَرْ عَنْ قَوْلِهِمْ أخْيَرُ مِنهُ وأشَرْ
وَإنَّما قِيلَ لِتِلْكَ الدّارِ: الدّارُ الآخِرَةُ؛ لِأنَّها هي آخِرُ المَنازِلِ، فَلا انْتِقالَ عَنْها البَتَّةَ إلى دارٍ أُخْرى.
والإنْسانُ قَبْلَ الوُصُولِ إلَيْها يَنْتَقِلُ مِن مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ. فَأوَّلُ ابْتِدائِهِ مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِن أصْلِ التُّرابِ إلى أصْلِ النُّطْفَةِ، ثُمَّ إلى العَلَقَةِ، ثُمَّ إلى المُضْغَةِ، ثُمَّ إلى العِظامِ، ثُمَّ (p-٣٧١)كَسا اللَّهُ العِظامَ لَحْمًا، وأنْشَأها خَلْقًا آخَرَ، وأخْرَجَهُ لِلْعالَمِ في هَذِهِ الدّارِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى القَبْرِ، ثُمَّ إلى المَحْشَرِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا﴾ [الزلزلة: ٦]، فَسالِكٌ ذاتَ اليَمِينِ إلى الجَنَّةِ، وسالِكٌ ذاتَ الشِّمالِ إلى النّارِ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَهم في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا ولِقاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ في العَذابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الروم: ١٤ - ١٦] .
فَإذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهْلُ النّارِ النّارَ - فَعِنْدَ ذَلِكَ تُلْقى عَصا التَّسْيارِ، ويُذْبَحُ المَوْتُ، ويُقالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ويَبْقى ذَلِكَ دائِمًا لا انْقِطاعَ لَهُ، ولا تَحَوُّلَ عَنْهُ إلى مَحَلٍّ آخَرَ.
فَهَذا مَعْنى وصْفِها بِالآخِرَةِ؛ كَما أوْضَحَهُ - جَلَّ وعَلا - بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ ثُمَّ إنَّكم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٦] .
تَنْبِيهٌ.
أضافَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الدّارَ إلى الآخِرَةِ، مَعَ أنَّ الدّارَ هي الآخِرَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَلَدارُ الآخِرَةِ﴾ الآيَةَ [النحل: ٣٠]، بِتَعْرِيفِ الدّارِ ونَعْتِها بِالآخِرَةِ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. وعَلى مُقْتَضى قَوْلِ ابْنِ مالِكٍ في الخُلاصَةِ:
؎وَلا يُضافُ اسْمٌ لِما بِهِ اتَّحَدْ ∗∗∗ مَعْنًى وأوِّلْ مُوهِمًا إذا ورَدْ
فَإنَّ لَفْظَ ”الدّارِ“ يُؤَوَّلُ بِمُسَمّى الآخِرَةِ. وقَدْ بَيَّنّا في كِتابِنا (دَفْعَ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ) في ”سُورَةِ فاطِرٍ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ”وَمَكْرَ السَّيِّئِ“ [فاطر: ٤٣]: أنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنا أنَّ إضافَةَ الشَّيْءِ إلى نَفْسِهِ بِلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ - أُسْلُوبٌ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ؛ لِتَنْزِيلِ التَّغايُرِ في اللَّفْظِ مَنزِلَةَ التَّغايُرِ في المَعْنى. وبَيَّنّا كَثْرَتَهُ في القُرْآنِ، وفي كَلامِ العَرَبِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَنِعْمَ دارُ المُتَّقِينَ﴾، مَدَحَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - دارَ المُتَّقِينَ الَّتِي هي الجَنَّةُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؛ لِأنَّ ”نِعْمَ“، فِعْلٌ جامِدٌ لِإنْشاءِ المَدْحِ. وكَرَّرَ الثَّناءَ عَلَيْها في آياتٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأنَّ فِيها ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ. كَما (p-٣٧٢)قالَ تَعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ الآيَةَ [السجدة: ١٧]، وقالَ: ﴿وَإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: ٢٠]، والآياتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
{"ayah":"۞ وَقِیلَ لِلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ مَاذَاۤ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُوا۟ خَیۡرࣰاۗ لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۚ وَلَدَارُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق