الباحث القرآني
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب،"إذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين ="وميثاقهم"، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم ونهاهم.
* * *
وقد بينا أصل"الميثاق" باختلاف أهل التأويل فيه، بما فيه الكفاية. [[انظر ما سلف ١: ٤١٤ / ٢: ١٥٦، ١٥٧، ٢٨٨.]]
* * *
=:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، [[في المطبوعة: "اختلفت"، وأثبت ما في المخطوطة.]] فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بفتح"اللام" من"لما"، إلا أنهم اختلفوا في قراءة:"آتيتكم".
فقرأه بعضهم:"آتيتكم" على التوحيد.
وقرأه آخرون: ﴿آتينَاكم﴾ على الجمع.
* * *
ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" التي مع"ما" في أول الكلام"لام الابتداء"، نحو قول القائل:"لزيدٌ أفضل منك"، لأن"ما" اسم، والذي بعدها صلة لها، [[في المخطوطة: "لأن لما اسم ... "، وهو جيدًا أيضًا وتركت ما في المطبوعة على حاله.]] "واللام" التي في:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به = يؤكد في أول الكلام وفي آخره، كما يقال:"أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا"، وقد يستغنى عنها. فوكَّد في:"لتؤمنن به"، باللام في آخر الكلام. [[في المطبوعة: "فيؤكد في لتومنن به"، والصواب ما في المخطوطة. و"وكد" و"أكد" واحد.]] وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر"ما آتيتكم من كتاب وحكمة""لتؤمنن به". مثل:"لعبد الله والله لتأتينَّه". [[في المطبوعة: "لا يأتينه"، والصواب ما في المخطوطة.]] قال: وإن شئت جعلت خبر"ما""من كتاب"، يريد: لما آتيتكم، كتابٌ وحكمة = وتكون"من" زائدة.
* * *
وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال:"اللام" التي تدخل في أوائل الجزاء، تجابُ بجوابات الأيمان، يقال:"لَمَن قام لآتينّه"،"ولَمَن قام ما أحسن"، [[في المطبوعة: "اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا لا"، فلا يقال: لمن قام لا تتبعه، ولا: لمن قام ما أحسن"، أحدثوا في نص المخطوطة تغييرًا تامًا. فاضطرب الكلام اضطرابًا شديدًا، واختلفت معانيه.]] فإذا وقع في جوابها"ما" و"لا"، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى، لأنه يوضع موضعها"ما" و"لا"، فتكون كالأولى، [[يعني"ما" و"لا" التي يتلقى بها القسم.]] وهي جواب للأولى. قال: وأما قوله:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، بمعنى إسقاط"من"، غلطٌ. لأن"منْ" التي تدخل وتخرج، لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع في الخبر أيضًا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. [[انظر ذلك فيما سلف ٢: ١٢٦، ١٢٧، ٤٤٢، ٤٧٠.]]
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح"اللام" - بالصواب: أن يكون قوله:"لما" بمعنى"لمهما"، وأن تكون"ما" حرف جزاء أدخلت عليها"اللام"، وصيِّر الفعل معها على"فَعَل"، [[قوله: "على فعل"، يعني على الفعل الماضي، لا المضارع.]] ثم أجيبت بما تجاب به الأيمان، فصارت"اللام" الأولى يمينًا، إذ تُلقِّيت بجواب اليمين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: ﴿لِمَا آتَيْتكُمْ﴾ "بكسر"اللام" من"لما"، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.
* * *
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم = فـ"ما" على هذه القراءة. بمعنى"الذي" عندهم. وكان تأويل الكلام: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة = ثم"جاءكم رسول"، يعني: ثم إنْ جاءكم رسول، يعني: ذكر محمد في التوراة ="لتؤمنن به"، أي: ليكونن إيمانكم به، للذي عندكم في التوراة من ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر"اللام" من"لما": وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل قوله:"لتؤمنن به" من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في الكلام:"أخذتُ ميثاقك لتفعلن". لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسولٌ مصدق لما معهم، ليؤمننّ به ولينصرنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأ:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بفتح"اللام". لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أن منهم من أنزل عليه الكتابَ، وأنّ منهم من لم ينزل عليه الكتاب = كان بينًا أن قراءة من قرأ ذلك:"لمِا آتيتكم"، بكسر"اللام"، بمعنى: من أجل الذي آتيتكم من كتاب، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد، وانتزاع عميق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رُسل الله مصدّقًا لما معه.
فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه". قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما الرسل، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها المحتاجةُ إلى المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لم يكن غيرُها وغيرُ الأمم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه بنصرته؟
* ذكر من قال ذلك:
٧٣٢٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود:"وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب". [[بمثل هذا الأثر، يستدل من يستدل من جهله المستشرقين وأشياعهم، على الخطأ والتحريف في كتاب الله المحفوظ. وهم لم يكونوا أول من قال به، بل سبقهم إليه أسلافهم من غلاة الرافضة وأشباههم من الملحدة. ولم يقصر علماء أهل الإسلام في بيان ما قالوه، وفي تعقب آرائهم وبيان فسادها، ووهن حجتها. ومن أعظم ما قرأت في ذلك، كتاب"الانتصار لنقل القرآن"، للقاضي الباقلاني، وهو كتاب مخطوط لا يزال، وهي في ملك أخي السيد أحمد صقر، وهو أمين على نشره. وقد عقد القاضي بابًا، بل أبوابًا، في تعلق القائلين بذلك، بالشواذ من القراءات، والزيادات المروية عن السلف رواية الآحاد، وكشف عن فساد تعلقهم بذلك فيما راموه من الطعن في نقل المصحف. وقد أطال في ذلك واستوعب، وذكرها مفصلة، وذكر الروايات التي رويت في ذلك. ومما قال في باب منه: "وأما نحن، وإن كنا نوثق جميع من ذكرنا من السلف وأتباعهم، فإنا لا نعتقد تصديق جميع ما يروى عنهم، بل نعتقد أن فيه كذبًا كثيرًا قد قامت الدلالة على أنه موضوع عليهم، وأن فيه ما يمكن أن يكون حقًا عنهم، وما يمكن أن يكون باطلا، ولا يثبت عليهم من طريق العلم البتات، بأخبار الآحاد. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه القراءات والكلمات المروية عن جماعة منهم، المخالفة لما في مصحفنا، مما لا نعلم صحتها وثبوتها، وكنا مع ذلك نعلم اجتماعهم على تسليم مصحف عثمان، وقراءتهم وإقراءهم ما فيه، والعمل به دون غيره = لم يجب أن نحفل بشيء من هذه الروايات عنهم، لأجل ما ذكرنا".
قلت: والقول الذي ذكره مجاهد، أنه: "خطأ من الكاتب"، إنما عنى به أن قراءة ابن مسعود هي القراءة التي كانت في العرضة الأخيرة، وأن الكاتب كتب القراءة التي كانت قبل العرضة الأخيرة، وأنه كان عليه أن يكتب ما كان في العرضة الأخيرة، فأخطأ وكتب القراءة الأولى. ولم يرد بقوله: "خطأ من الكاتب"، أنه وضع ذلك من عند نفسه. كيف؟ والقرآن متلقى بالرواية والوراثة عن رسول الله ﷺ، لا بما هو مكتوب في الصحف!! هذا بيان قد تعجلته، ولتفصيل هذا موضع غير الذي نحن فيه.]]
٧٣٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٧٣٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، إنما هي أهل الكتاب. [[في المخطوطة والمطبوعة: "إنما هي أهل الكتاب"، ولها وجه ضعيف، والصواب ما أثبت.]] قال: وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول:"ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه؟ يقول: لتؤمنن بمحمد ﷺ ولتنصرنه. قال: هم أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك، الأنبياءُ دون أممها.
* ذكر من قال ذلك:
٧٣٢٦ - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
٧٣٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، أن يصدّق بعضُهم بعضًا.
٧٣٢٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم" الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء، ليصدقن وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم.
٧٣٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عُمر، [[في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، والصواب ما أثبت من المخطوطة: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه، قال ابن عدي: "بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث. اتهم بالزندقة". وقال الحاكم: "اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط".]] عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا، آدمَ فمن بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد: لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرَنّه = ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه، فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية.
٧٣٣٠ - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب"، الآية: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويصدّقوه وينصروه.
٧٣٣١ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية. قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء.
٧٣٣٢ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور قال، سألت الحسن عن قوله:"وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلِّغن آخرُكم أولكم، ولا تختلفوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم = فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء. [[في المطبوعة: "هم تباع الأنبياء"، زاد"هم" بلا ضرورة. والصواب ما في المخطوطة.]]
* ذكر من قال ذلك:
٧٣٣٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد ﷺ - إذا جاءَهم، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة" إلى آخر الآية. [[الأثران: ٧٣٣٣، ٧٣٣٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٣، وهما تتمة الآثار التي آخرها رقم: ٧٢٩٦، ٧٢٩٧.]]
٧٣٣٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها = وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله، بجحودها نبوّته = مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم.
* * *
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين، فسواءٌ قال قائل:"لم يأخذ ذلك منها ربها" أو قال:"لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت"، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها: أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما، جازَ في الآخر.
* * *
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض، وتصديقُ بعضها بعضًا، نُصرةٌ من بعضها بعضًا.
* * *
تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه".
فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك، هم الأنبياء، أخذت مواثيقهم أن يصدّق بعضهم بعضًا وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله. [[انظر ما سلف من رقم: ٧٣٢٦-٧٣٣٢.]]
* * *
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، أمروا بتصديق محمد ﷺ إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله. [[انظر ما سلف من رقم: ٧٣٢٣-٧٣٢٥.]]
* * *
وقال آخرون = ممن قال: الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء = قوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"، معنيٌّ به أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
٧٣٣٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال أخذَ الله ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا، ثم قال:"ثم جاءكم رسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه"، قال: فهذه الآية لأهل الكتاب، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه.
٧٣٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم: أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى عباده، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم، فيما بلَّغتهم رسلهم -: أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويصدّقوه وينصروه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية: أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممها إليه، [[في المطبوعة: "دعاء أممهم"، وفي المخطوطة"أممها" كما أثبته، والمخالفة بين الضمائر في هذا الموضع سياق صحيح، فرددتها إلى أصل المخطوطة.]] والإقرار به. لأن ابتداء الآية خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم فقال: هو كذا وهو كذا.
وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به، لأنها أرسلت لتدعو عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها، من تصديق رسل الله، على ما قدمنا البيانَ قبل.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب، إذ أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم، أيها النبيون، من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم، لتؤمنن به = يقول: لتصدقنه = ولتنصرنه.
* * *
وقد قال السديّ في ذلك بما:-
٧٣٣٧ - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لما آتيتكم"، يقول لليهود: أخذت ميثاقَ النبيين بمحمد ﷺ، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم.
* * *
فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه: واذكروا، يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم، أيها اليهود، من كتاب وحكمة. [[في المخطوطة والمطبوعة: "لما آتيتكم" باللام، والسياق دال على خلافه، وعلى صواب ما أثبت.]]
وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ، [[في المطبوعة: "كان تأويلا لا وجه غيره"، وهو تصويب لما جاء في المخطوطة: "كان تأويلا لا وجه له"، وهي عبارة لا تستقيم. ورأيت أن الناسخ عجل فكتب"لا وجه له" مكان"له وجه"، فرددتها إلى هذا، وخالفت المطبوعة.]] لو كان التنزيل:"بما آتيتكم"، ولكن التنزيل باللام"لما آتيتكم". وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال:"أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بمعنى: بما آتيتكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه: [[في المخطوطة والمطبوعة: "أقررتم ... " بحذف ألف الاستفهام، وهو فساد.]] من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم ="لتؤمنن به ولتنصرنه" ="وأخذتم على ذلك إصري"؟ يقول: وأخذتم = على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم ="إصري". يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه.
* * *
و"الأخذ": هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى، من قولهم:"أخذ الوالي عليه البيعة"، بمعنى: بايعه وقبل ولايته ورَضي بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإصر" باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف في هذا الجزء: ٦: ١٣٥-١٣٨.]]
* * *
وحذفت"الفاء" من قوله:"قال أأقررتم"، لأنه ابتداء كلام، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. [[انظر ما سلف ٢: ١٨٣.]]
* * *
وأما قوله:"قالوا أقررنا"، فإنه يعني به: قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقرَرْنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك، وبنصرتهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله: فاشهدوا، أيها النبيون، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونُصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك، كما:-
٧٣٣٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، قال، أخبرنا سيف بن عمر، [[في المطبوعة هنا أيضًا"سيف بن عمرو"، مخالفًا لما في المخطوطة وهو الصواب. وقد سلف تصويب ذلك في الأثر رقم: ٧٣٢٩. وسيأتي خطأ فيما يلي، في مواضع كثيرة، سوف أصححه دون إشارة إليه.]] عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله:"قال فاشهدوا"، يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك ="وأنا معكم من الشاهدين"، عليكم وعليهم.
{"ayah":"وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ لَمَاۤ ءَاتَیۡتُكُم مِّن كِتَـٰبࣲ وَحِكۡمَةࣲ ثُمَّ جَاۤءَكُمۡ رَسُولࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَ ٰلِكُمۡ إِصۡرِیۖ قَالُوۤا۟ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُوا۟ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق