الباحث القرآني
﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى: لَمّا نَفى عَنْ أهْلِ الكِتابِ قَبائِحَ أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، وكانَ مِمّا ذَكَرَ أخِيرًا اشْتِراءَهم بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وما يَؤُولُ أمْرُهم إلَيْهِ في الآخِرَةِ، وإنَّ مِنهم مَن بَدَّلَ في كِتابِهِ وغَيَّرَ، وصَفَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ونَزَّهَ رَسُولَهُ عَنِ الأمْرِ بِأنْ يَعْبُدَ هو أوْ غَيْرُهُ، بَلْ تَفَرَّدَ اللَّهُ تَعالى بِالعِبادَةِ، أخَذَ تَعالى يُقِيمُ الحُجَّةَ عَلى أهْلِ الكِتابِ، وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أنْكَرَ نُبُوَّتَهُ ودِينَهُ، فَذَكَرَ أخْذَ المِيثاقِ عَلى أنْبِيائِهِمْ بِالإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ والتَّصْدِيقِ لَهُ، والقِيامِ بِنُصْرَتِهِ، وإقْرارِهِمْ بِذَلِكَ، وشَهادَتِهِمْ عَلى أنْفُسِهِمْ، وشَهادَتِهِ تَعالى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وهَذا العَهْدُ مَذْكُورٌ في كُتُبِهِمْ وشاهِدٌ بِذَلِكَ أنْبِياؤُهم.
وقَرَأ أُبَيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ: مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ، بَدَلَ: النَّبِيِّينَ، وكَذا هو في مُصْحَفَيْهِما. ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: هَكَذا هو القُرْآنُ، وإثْباتُ النَّبِيِّينَ خَطَأٌ مِنَ الكاتِبِ، وهَذا لا يَصِحُّ عَنْهُ؛ لِأنَّ الرُّواةَ الثِّقاتَ نَقَلُوا عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ ”النَّبِيِّينَ“ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وغَيْرِهِ، وإنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، فَهو خَطَأٌ مَرْدُودٌ بِإجْماعِ الصَّحابَةِ عَلى مُصْحَفِ عُثْمانَ.
والخِطابُ بِقَوْلِهِ: وإذْ أخَذَ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ أمَرَهُ أنْ يُذَكِّرَ أهْلَ الكِتابِ بِما هو في كُتُبِهِمْ مِن أخْذِ المِيثاقِ عَلى النَّبِيِّينَ، ويَجُوزُ أنْ يَتَوَجَّهَ إلى أهْلِ الكِتابِ أُمِرُوا أنْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ، وعَلى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ العامِلُ: اذْكُرْ، أوِ اذْكُرُوا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ العامِلُ في: إذْ، ”قالَ“ مِن قَوْلِهِ: ﴿قالَ أأقْرَرْتُمْ﴾ وهو حَسَنٌ، إذْ لا تَكَلُّفَ فِيهِ.
قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما تَقَدَّمَ مِن لَفْظِ ”إذْ“، والعامِلُ فِيها: اصْطَفى، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا. وظاهِرُ الكَلامِ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ هو الآخِذُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وطاوُسَ، والحَسَنِ، والسُّدِّيِّ: أنَّ الَّذِينَ أخَذَ مِيثاقَهم هُمُ الأنْبِياءُ دُونَ أُمَمِهِمْ، أخَذَ عَلَيْهِمْ أنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهم بَعْضًا، وأنْ يَنْصُرَ بَعْضُهم بَعْضًا، ونُصْرَةُ كُلِّ نَبِيٍّ لِمَن بَعْدَهُ تَوْصِيَةُ مَن آمَنَ بِهِ أنْ يَنْصُرَهُ إذا أدْرَكَ زَمانَهُ. ويَنْبُو عَنْ هَذا المَعْنى لَفْظُ: ﴿ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ﴾ إلى آخِرِ الكَلامِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا فِيما رُوِيَ عَنْهُ: (p-٥٠٩)أخَذَ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ وأُمَمِهِمْ عَلى الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ونَصْرِهِ، واجْتَزَأ بِذِكْرِ النَّبِيِّينَ مِن ذِكْرِ أُمَمِها؛ لِأنَّ الأُمَمَ أتْباعٌ لِلْأنْبِياءِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ: ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلّا أخَذَ عَلَيْهِ العَهْدَ في مُحَمَّدٍ ﷺ وأمَرَهُ بِأخْذِ العَهْدِ عَلى قَوْمِهِ فِيهِ، بِأنْ يُؤْمِنُوا بِهِ ويَنْصُرُوهُ إنْ أدْرَكُوا زَمانَهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِن صُلْبِهِ أخَذَ المِيثاقَ عَلى جَمِيعِ المُرْسَلِينَ أنْ يُقِرُّوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ . وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ﴾ عُنِيَ بِهِ واحِدٌ، وهو مُحَمَّدٌ ﷺ ولا يَكُونُ جِنْسًا. ويَبْعُدُ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ المِيثاقَ كانَ حِينَ أخْرَجَهم مِن ظَهْرِ آدَمَ كالذَّرِّ.
قَرَأ حَمْزَةُ: لَما آتَيْناكم، لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ ذَلِكَ كانَ بَعْدَ إيتاءِ الكِتابِ والحِكْمَةِ. ومِيثاقَ: مُضافٌ إلى النَّبِيِّينَ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّونَ هُمُ المُوَثِّقُونَ لِلْعَهْدِ عَلى أُمَمِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا هُمُ المُوَثَّقُ عَلَيْهِمْ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَ الآيَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧٩] الآيَةَ، وما بَعْدَها مِن قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥] أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ﴾ هو مُحَمَّدٌ ﷺ ولِذَلِكَ جاءَ مُصَدِّقًا لِما مَعَكم. وكَثِيرًا ما وُصِفَ بِهَذا الوَصْفِ في القُرْآنِ رَسُولُنا مُحَمَّدٌ ﷺ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﴿ولَمّا جاءَهم رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ [البقرة: ١٠١] ؟ وكَذَلِكَ وصْفُ كِتابِهِ بِأنَّهُ مُصَدِّقٌ لِما في كُتُبِهِمْ، وإذا تَقَرَّرَ هَذا كانَ المَجازُ في صَدْرِ الآيَةِ فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ أتْباعِ النَّبِيِّينَ مِن أهْلِ الكِتابِ، أوْ مِيثاقَ أوْلادِ النَّبِيِّينَ، فَيُوافِقُ صَدْرَ الآيَةِ ما بَعْدَها، وجَعَلَ ذَلِكَ مِيثاقًا لِلنَّبِيِّينَ عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِهَذا المِيثاقِ، أوْ يَكُونُ المَأْخُوذُ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ مُقَدَّرًا بَعْدَ النَّبِيِّينَ، التَّقْدِيرُ: وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عَلى أُمَمِهِمْ. ويُبَيِّنُ هَذا التَّأْوِيلَ قِراءَةُ أُبَيٍّ، وعَبْدِ اللَّهِ: مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ، ويُبَيِّنُ أيْضًا أنَّ المِيثاقَ كانَ عَلى الأُمَمِ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن تَوَلّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ٨٢] ومُحالٌ هَذا الفَرْضُ في حَقِّ النَّبِيِّينَ، وإنَّما ذَلِكَ في حَقِّ الأتْباعِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: لَما، بِفَتْحِ اللّامِ، وتَخْفِيفِ المِيمِ وقَرَأ حَمْزَةُ: لِما، بِكَسْرِ اللّامِ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ: لَمّا، بِتَشْدِيدِ المِيمِ. فَأمّا تَوْجِيهُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ فَفِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّ ما، شَرْطِيَّةٌ مَنصُوبَةٌ عَلى المَفْعُولِ بِالفِعْلِ بَعْدَها، واللّامُ قَبْلَها مُوَطِّئَةٌ لِمَجِيءِ ”ما“ بَعْدَها جَوابًا لِلْقَسَمِ، وهو ”أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ“ . و”مِن“ في قَوْلِهِ: مِن كِتابٍ، كَهي، في قَوْلِهِ: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] والفِعْلُ بَعْدَ ما، ماضٍ مَعْناهُ الِاسْتِقْبالُ لِتَقَدُّمِ ما الشَّرْطِيَّةِ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ: ثُمَّ جاءَكم، مَعْطُوفٌ عَلى الفِعْلِ بَعْدَ ما، فَهو في حَيِّزِ الشَّرْطِ، ويَلْزَمُ أنْ يَكُونَ في قَوْلِهِ: ثُمَّ جاءَكم، رابِطٌ يَرْبُطُها بِما عُطِفَتْ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ جاءَكم، مَعْطُوفٌ عَلى الفِعْلِ بَعْدَ ما، ولَتُؤْمِنُنَّ بِهِ: جَوابٌ لِقَوْلِهِ ﴿أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ﴾ ونَظِيرُهُ مِنَ الكَلامِ في التَّرْكِيبِ: أُقْسِمُ لَأيُّهم صَحِبْتُ، ثُمَّ أحْسَنَ إلَيْهِ رَجُلٌ تَمِيمِيٌّ، لَأُحْسِنَنَّ إلَيْهِ، تُرِيدُ لَأُحْسِنَنَّ إلى الرَّجُلِ التَّمِيمِيِّ. فَلَأُحْسِنَنَّ جَوابُ القَسَمِ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ؛ لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ في الآيَةِ جَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ، والضَّمِيرُ في: بِهِ، عائِدٌ عَلى: ”رَسُولٌ“ وهَذا القَوْلُ، وهو أنَّ ما شَرْطِيَّةٌ هو قَوْلُ الكِسائِيِّ. وسَألَ سِيبَوَيْهِ (p-٥١٠)الخَلِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ ما نَصُّهُ: ما، هَهُنا بِمَنزِلَةِ الَّذِي، ودَخَلَتِ اللّامُ كَما دَخَلَتْ عَلى إنْ، حِينَ قُلْتَ: واللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَأفْعَلَنَّ، فاللّامُ في ما، كَهَذِهِ الَّتِي في: إنْ، واللّامُ الَّتِي في الفِعْلِ كَهَذِهِ الَّتِي في الفِعْلِ هُنا انْتَهى. ثُمَّ قالَسِيبَوَيْهِ: ومِثْلُ ذَلِكَ ﴿لَمَن تَبِعَكَ مِنهم لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٨] إنَّما دَخَلَتِ اللّامُ عَلى نِيَّةِ اليَمِينِ انْتَهى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لَمْ يُرِدِ الخَلِيلُ بِقَوْلِهِ: بِمَنزِلَةِ الَّذِي أنَّها مَوْصُولَةٌ، بَلْ أنَّها اسْمٌ، كَما أنَّ الَّذِي اسْمٌ، وأقَرَّ أنْ تَكُونَ حَرْفًا كَما جاءَتْ حَرْفًا: ﴿كُلًّا لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١] وفي قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمّا مَتاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥] انْتَهى. وتَحَصَّلَ مِن كَلام الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ أنَّ ما، في: لَما آتَيْتُكم شَرْطِيَّةٌ، وقَدْ خَرَّجَها عَلى الشُّرْطِيَّةِ غَيْرُ هَؤُلاءِ: كالمازِنِيِّ، والزَّجّاجِ، وأبِي عَلِيٍّ، والزَّمَخْشَرِيِّ، وابْنِ عَطِيَّةَ، وفِيهِ خَدْشٌ لَطِيفٌ جِدًّا، وهو أنَّهُ: إذا كانَتْ شَرْطِيَّةً كانَ الجَوابُ مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالمَحْذُوفُ مِن جِنْسِ المُثْبَتِ، ومُتَعَلِّقاتُهُ مُتَعَلِّقاتُهُ، فَإذا قُلْتَ: واللَّهِ لَمَن جاءَنِي لَأُكْرِمَنَّهُ، فَجَوابُ: مَن، مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَن جاءَنِي أُكْرِمْهُ. وفي الآيَةِ اسْمُ الشَّرْطِ: ما، وجَوابُهُ مَحْذُوفٌ مِن جِنْسِ جَوابِ القَسَمِ، وهو الفِعْلُ المُقْسَمُ عَلَيْهِ، ومُتَعَلِّقُ الفِعْلِ هو ضَمِيرُ الرَّسُولِ بِواسِطَةِ حَرْفِ الجَرِّ لا ضَمِيرُ ما المُقَدَّرُ، فَجَوابُ ما، المُقَدَّرُ إنْ كانَ مِن جِنْسِ جَوابِ القَسَمِ فَلا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأنَّهُ تَعَدٍّ. والجُمْلَةُ الجَوابِيَّةُ إذْ ذاكَ مِن ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى اسْمِ (p-٥١١)الشَّرْطِ، وإنْ كانَ مِن غَيْرِ جِنْسِ جَوابِ القَسَمِ، فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوابُ القَسَمِ، وهو مِن غَيْرِ جِنْسِهِ، وهو لا يُحْذَفُ إلّا إذا كانَ مِن جِنْسِ جَوابِ القَسَمِ ؟ ألا تَرى أنَّكَ لَوْ قُلْتَ: واللَّهِ لَئِنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ لَأضْرِبَنَّهُ ؟ فَكَيْفَ تُقَدِّرُهُ: إنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ أضْرِبُهُ ؟ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: واللَّهِ إنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ أشْكُهُ لَأضْرِبَنَّهُ؛ لِأنَّ: لَأضْرِبَنَّهُ، لا يَدُلُّ عَلى أشْكُهُ، فَهَذا ما يَرُدُّ عَلى قَوْلِ مَن خَرَّجَ ما، عَلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ.
وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ولَتُؤْمِنُنَّ، سادٌّ مَسَدَّ جَوابِ القَسَمِ والشَّرْطِ جَمِيعًا، فَقَوْلٌ ظاهِرُهُ مُخالِفٌ لِقَوْلِ مَن جَعَلَ ما شَرْطِيَّةً؛ لِأنَّهم نَصُّوا عَلى أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إنْ عَنى أنَّهُ مِن حَيْثُ تَفْسِيرُ المَعْنى لا تَفْسِيرُ الإعْرابِ يَسُدُّ مَسَدَّهُما، فَيُمْكِنُ أنْ يُقالَ؛ وأمّا مِن حَيْثُ تَفْسِيرُ الإعْرابِ فَلا يَصِحُّ، لِأنَّ كُلًّا مِنهُما، أعْنِي الشَّرْطَ والقَسَمَ، يَطْلُبُ جَوابًا عَلى حِدَةٍ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هَذا مَحْمُولًا عَلَيْهِما؛ لِأنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِيهِ عَلى جِهَةِ العَمَلِ فِيهِ، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ جَزْمٍ، والقَسَمُ يَطْلُبُهُ عَلى جِهَةِ التَّعَلُّقِ المَعْنَوِيِّ بِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ فِيهِ، فَلا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ. ومُحالٌ أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الواحِدُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ ولا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ.
والقَوْلُ الثّانِي: قالَهُ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ وغَيْرُهُ، وهو: أنْ تَكُونَ: ما، مَوْصُولَةً مُبْتَدَأةً، وصِلَتُها: آتَيْناكم، والعائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آتَيْناكُمُوهُ، وثُمَّ جاءَكم: مَعْطُوفٌ عَلى الصِّلَةِ، والعائِدُ مِنها عَلى المَوْصُولِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ بِهِ، فَحُذِفَ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، هَكَذا خَرَّجُوهُ، وزَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وخَرَّجُوهُ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ: أنَّ الرَّبْطَ لِهَذِهِ الجُمْلَةِ العارِيَةِ عَنِ الضَّمِيرِ حَصَلَ بِقَوْلِهِ: لِما مَعَكم؛ لِأنَّهُ هو المَوْصُولُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَهُ، وقَدْ جاءَ الرَّبْطُ في الصِّلَةِ بِغَيْرِ الضَّمِيرِ، إلّا أنَّهُ قَلِيلٌ، رَوى مِن كَلامِهِمْ أبُو سَعِيدٍ الَّذِي رَوَيْتُ عَنِ الخُدْرِيِّ، يُرِيدُونَ: رَوَيْتُ عَنْهُ، وقالَ:
؎فَيا رَبَّ لَيْلى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ وأنْتَ الَّذِي في رَحْمَةِ اللَّهِ أطْمَعُ
يُرِيدُ: في رَحْمَتِهِ أطْمَعُ. وخَبَرُ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو ما، الجُمْلَةُ مِنَ القَسَمِ المَحْذُوفِ وجَوابِهِ، وهو: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، والضَّمِيرُ في: بِهِ، عائِدٌ عَلى المَوْصُولِ المُبْتَدَأِ، ولا يَعُودُ عَلى: ”رَسُولٌ“؛ لِئَلّا تَخْلُو الجُمْلَةُ الَّتِي وقَعَتْ خَبَرًا عَنِ المُبْتَدَأِ مِن رابِطٍ يَرْبُطُها بِهِ، والجُمْلَةُ الِابْتِدائِيَّةُ الَّتِي هي: لَما آتَيْناكم، إلى آخِرِهِ هي الجُمْلَةُ المُتَلَقِّي بِها ما أُجْرِيَ مَجْرى القَسَمِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ﴾ .
والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وهو أنْ تَكُونَ ما، مَوْصُولَةً مَفْعُولَةً بِفِعْلِ جَوابِ القَسَمِ، التَّقْدِيرُ: لَتَبْلُغُنَّ ما آتَيْناكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ، قالَ: إلّا أنَّهُ حَذَفَ: لَتَبْلُغُنَّ، لِدَلالَةٍ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ لامَ القَسَمِ إنَّما تَقَعُ عَلى الفِعْلِ، فَلَمّا دَلَّتْ هَذِهِ اللّامُ عَلى هَذا الفِعْلِ حُذِفَ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ﴾ وهو مُحَمَّدٌ ﷺ، ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ، انْتَهى. ويَعْنِي يَكُونُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، جَوابَ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا لا يُحْفَظُ مِن كَلامِهِمْ، واللَّهِ لَزَيْدًا تُرِيدُ، لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا.
والقَوْلُ الرّابِعُ: قالَهُ ابْنُ أبِي إسْحاقَ، وهو: أنْ يَكُونَ: لَما، تَخْفِيفَ لَمّا، والتَّقْدِيرُ: حِينَ آتَيْناكم، ويَأْتِي تَوْجِيهُ قِراءَةِ التَّشْدِيدِ. وأمّا تَوْجِيهُ قِراءَةِحَمْزَةَ: فاللّامُ هي لِلتَّعْلِيلِ، وما مَوْصُولَةٌ بِـ ”آتَيْناكم“، والعائِدُ مَحْذُوفٌ. وثُمَّ جاءَكم مَعْطُوفٌ عَلى الصِّلَةِ، والرّابِطُ لَها بِالمَوْصُولِ، إمّا إضْمارُ بِهِ، عَلى ما نُسِبَ إلى سِيبَوَيْهِ، وإمّا هَذا الظّاهِرُ الَّذِي هو لِما مَعَكم، لِأنَّهُ في المَعْنى هو المَوْصُولُ عَلى مَذْهَبِ أبِي الحَسَنِ.
وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَجَوابُ: أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، هو لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، والضَّمِيرُ في: بِهِ، عائِدٌ عَلى ”رَسُولٌ“، ويَجُوزُ الفَصْلُ بَيْنَ القَسَمِ والمُقْسَمِ عَلَيْهِ، بِمِثْلِ هَذا الجارِّ والمَجْرُورِ، لَوْ قُلْتَ: أقْسَمْتُ لِلْخَبَرِ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْ عُمَرَ ولَأُحْسِنَنَّ إلَيْهِ، جازَ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قِراءَةِ حَمْزَةَ أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً، وبَدَأ بِهِ في تَوْجِيهِ هَذِهِ القِراءَةِ، قالَ: ومَعْناهُ لِأجَلِ إيتائِي إيّاكم (p-٥١٢)بَعْضَ الكِتابِ والحِكْمَةِ، ثُمَّ لِمَجِيءِ رَسُولٍ مُصَدِّقٍ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، عَلى أنَّ ما مَصْدَرِيَّةٌ، والفِعْلانِ مَعَها أعْنِي آتَيْناكم وجاءَكم، في مَعْنى المَصْدَرَيْنِ، واللّامُ داخِلَةٌ لِلتَّعْلِيلِ عَلى مَعْنى: أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَهم، لِيُؤْمِنُنَّ بِالرَّسُولِ، ولِيَنْصُرُنَّهُ؛ لِأجْلِ أنَّ آتَيْتُكُمُ الحِكْمَةَ، وأنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أمَرْتُكم بِالإيمانِ بِهِ، ونَصَرْتُهُ مُوافِقٌ لَكم غَيْرُ مُخالِفٍ انْتَهى كَلامُهُ. إلّا أنَّ ظاهِرَ هَذا التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وهَذا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ، أنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْفِعْلِ المُقْسَمِ عَلَيْهِ، فَإنْ عُنِيَ هَذا الظّاهِرُ فَهو مُخالِفٌ لِظاهِرِ الآيَةِ؛ لِأنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِأخْذِ المِيثاقِ لا لِمُتَعَلَّقِهِ، وهو الإيمانُ. فاللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ”أخَذَ“، وعَلى ظاهِرِ تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، ويَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ اللّامَ المُتَلَقّى بِها القَسَمُ لا يَعْمَلُ ما بَعْدَها فِيما قَبْلَها. تَقُولُ: واللَّهِ لَأضْرِبَنَّ زَيْدًا، فَلا يَجُوزُ: واللَّهِ زَيْدًا لَأضْرِبَنَّ، فَعَلى هَذا لا يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ اللّامُ في لَما، بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. وقَدْ أجازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ في مَعْمُولِ الجَوابِ، إذا كانَ ظَرْفًا أوْ مَجْرُورًا، تَقَدَّمَهُ، وجُعِلَ مِن ذَلِكَ عِوَضُ ”لا نَتَفَرَّقُ“، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٠] فَعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وفي هَذِهِ المَسْألَةِ تَفْصِيلٌ يُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ.
وذَكَرَ السَّجاوَنْدِيُّ، عَنْ صاحِبِ النَّظْمِ أنَّ هَذِهِ اللّامَ في قِراءَةِ حَمْزَةَ هي بِمَعْنى بَعْدَ، كَقَوْلِ النّابِغَةِ:
؎تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَها فَعَرَفْتُها ∗∗∗ لِسِتَّةِ أعْوامٍ وذا العامُ سابِعُ
فَعَلى ذا لا تَكُونُ اللّامُ في: لَما، لِلتَّعْلِيلِ. وأمّا تَوْجِيهُ قِراءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والحَسَنِ: لَمّا، فَقالَ أبُو إسْحاقَ: أيْ: لَمّا آتاكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ أخَذَ المِيثاقَ، وتَكُونُ: لَمّا، تَؤُولُ إلى الجَزاءِ كَما تَقُولُ: لَمّا جِئْتَنِي أكْرَمْتُكَ انْتَهى كَلامُهُ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَظْهَرُ أنَّ لَمّا هَذِهِ هي الظَّرْفِيَّةُ، أيْ: لَمّا كُنْتُمْ بِهَذِهِ الحالِ رُؤَساءَ النّاسِ وأماثِلَهم، أخَذَ عَلَيْكُمُ المِيثاقَ، إذْ عَلى القادَةِ يُؤْخَذُ، فَيَجِيءُ عَلى هَذا المَعْنى كالمَعْنى في قِراءَةِ حَمْزَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمّا، بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنى: حِينَ آتَيْتُكم بَعْضَ الكِتابِ والحِكْمَةِ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ، وجَبَ عَلَيْكُمُ الإيمانُ بِهِ ونُصْرَتُهُ انْتَهى. فاتَّفَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ، والزَّمَخْشَرِيُّ عَلى أنَّ لَمّا ظَرْفِيَّةٌ، واخْتَلَفا في تَقْدِيرِ الجَوابِ العامِلِ في لَمّا، عَلى زَعْمِهِما. فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ القَسَمِ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن جَوابِ القَسَمِ، وكِلا قَوْلَيْهِما مُخالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ في لَمّا المُقْتَضِيَةِ جَوابًا، فَإنَّها عِنْدَ سِيبَوَيْهِ حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، ولَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً بِمَعْنى حِينَ، ولا بِمَعْنى غَيْرِهِ، وإنَّما ذَهَبَ إلى ظَرْفِيَّتِها أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ.
وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلى ذَلِكَ كَلامًا مُشَبَّعًا في كِتابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) وبَيَّنّا أنَّ الصَّحِيحَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وذَهَبَ ابْنُ جِنِّي في تَخْرِيجِ هَذِهِ القِراءَةِ إلى أنَّ أصْلَها: لَمِن ما، وزِيدَتْ مِن، في الواجِبِ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ كَما يَجِبُ في مِثْلِ هَذا، فَجاءَ: لَمَمّا، فَثَقُلَ اجْتِماعُ ثَلاثِ مِيماتٍ، فَحُذِفَتِ المِيمُ الأُولى فَبَقِيَ لَمّا.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَفْسِيرُ هَذِهِ القِراءَةِ عَلى هَذا التَّوْجِيهِ المُلْحَقِ تَفْسِيرَ لَما، بِفَتْحِ المِيمِ مُخَفَّفَةً، وقَدْ تَقَدَّمَ انْتَهى. وظاهِرُ كَلامِهِ أنَّ مِن، في قَوْلِهِ: لَمِن ما، زائِدَةٌ في الواجِبِ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، وقَدْ ذَكَرَ هَذا التَّقْدِيرَ في تَوْجِيهِ قِراءَةِ: لَمّا، بِالتَّشْدِيدِ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولَمْ يَنْسِبْهُ إلى أحَدٍ، فَقالَ: وقِيلَ أصْلُهُ لَمِن ما، فاسْتَثْقَلُوا اجْتِماعَ ثَلاثِ مِيماتٍ، وهي: المِيمانِ والنُّونُ المُنْقَلِبَةُ مِيمًا بِإدْغامِها في المِيمِ، فَحَذَفُوا إحْداها، فَصارَتْ: لَمّا، ومَعْناهُ: لَمِن أجْلِ ما آتَيْناكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وهَذا نَحْوٌ مِن قِراءَةِ حَمْزَةَ في المَعْنى انْتَهى كَلامُهُ. وهو مُخالِفٌ لِكَلامِ ابْنِ جِنِّي في: مِن، المُقَدَّرِ دُخُولُها عَلى ما، فَإنَّ ظاهِرَ كَلامِ ابْنِ جِنِّي أنَّها زائِدَةٌ، وظاهِرُ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّها لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ؛ لِأنَّهُ جَعَلَها لِلتَّعْلِيلِ.
وفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَحَذَفُوا إحْداها، إبْهامٌ في المَحْذُوفِ، وقَدْ عَيَّنَها ابْنُ جِنِّي: بِأنَّ المَحْذُوفَةَ هي الأُولى، وهَذا التَّوْجِيهُ في قِراءَةِ التَّشْدِيدِ في غايَةِ البُعْدِ، ويُنَزَّهُ كَلامُ العَرَبِ أنْ يَأْتِيَ فِيهِ مِثْلُهُ، فَكَيْفَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى ؟ وكانَ ابْنُ جِنِّي كَثِيرَ التَّحَمُّلِ في كَلامِ العَرَبِ. (p-٥١٣)ويَلْزَمُ في: لَمّا هَذِهِ، عَلى ما قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ تَكُونَ اللّامُ في: لَمِن ما آتَيْناكم، زائِدَةً، ولا تَكُونُ اللّامَ المُوَطِّئَةَ؛ لِأنَّ اللّامَ المُوَطَّئَةِ إنَّما تَدْخُلُ عَلى أدَواتِ الشَّرْطِ لا عَلى حَرْفِ الجَرِّ، لَوْ قُلْتَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَمِن أجْلِكَ لَأضْرِبَنَّ عَمْرًا، لَمْ يَجُزْ، وإنَّما سُمِّيَتْ مُوَطِّئَةً؛ لِأنَّها تُوَطِّئُ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلشَّرْطِ لِلْقَسَمِ، فَيَصِيرُ جَوابُ الشَّرْطِ إذْ ذاكَ مَحْذُوفًا، لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ.
وقَرَأ نافِعٌ: آتَيْناكم، عَلى التَّعْظِيمِ، وتَنْزِيلُ الواحِدِ مَنزِلَةَ الجَمْعِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: آتَيْتُكم، عَلى الإفْرادِ، وهو المُوافِقُ لِما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ، إذْ تَقَدَّمَهُ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ﴾ وجاءَ بَعْدَهُ ﴿إصْرِي﴾ .
وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: رَسُولٌ مُصَدِّقًا، نَصْبَهُ عَلى الحالِ، وهو جائِزٌ مِنَ النَّكِرَةِ، وإنْ تَقَدَّمَتِ النَّكِرَةُ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ سِيبَوَيْهِ قاسَهُ، ويُحَسِّنُ هَذِهِ القِراءَةَ أنَّهُ نَكِرَةٌ في اللَّفْظِ، مُعَرَّفَةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى؛ لِأنَّ المَعْنِيَّ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، وقَوْلُهُ: لَما آتَيْتُكم، إنْ أُرِيدَ جَمِيعَ الأنْبِياءِ، وهو ظاهِرُ اللَّفْظِ، فَإنْ أُرِيدَ بِالإيتاءِ الإنْزالَ فَلَيْسَ كُلُّهم أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ مِن خِطابِ الكُلِّ بِخِطابِ أشْرَفِ أنْواعِهِ، ويَكُونُ التَّعْمِيمُ في الأنْبِياءِ مَجازًا، وإنْ أُرِيدَ بِالإيتاءِ كَوْنُهُ مُهْتَدًى بِهِ، وداعِيًا إلى العَمَلِ بِهِ، صَحَّ ذَلِكَ في جَمِيعِ الأنْبِياءِ، ويَكُونُ التَّعْمِيمُ حَقِيقَةً. وكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ بِالأنْبِياءِ المَجازُ، وهو أُمَمُهم، يَكُونُ إيتاؤُهُمُ الكِتابَ كَوْنُهُ تَعالى جَعَلَهُ هادِيًا لَهم وداعِيًا.
* * *
﴿ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ﴾ أيْ: ثُمَّ جاءَ في زَمانِكم. ومَعْنى التَّصْدِيقِ كَوْنُهُ مُوافِقًا في التَّوْحِيدِ والنُّبُوّاتِ وأُصُولِ الشَّرائِعِ، وجَمِيعُهم مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ الحَقَّ في زَمانِ كُلِّ نَبِيٍّ شَرْعُهُ، وفي قَوْلِ: ”رَسُولٌ“، دَلالَةٌ عَلى أنَّ المِيثاقَ المَأْخُوذَ هو ما قُرِّرَ في العُقُولِ مِنَ الدَّلائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْقِيادَ لِأمْرِ اللَّهِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المِيثاقَ هو شَرْحُهُ لِصِفاتِ الرَّسُولِ في كُتُبِ الأنْبِياءِ، فَهَذانِ الوَجْهانِ مُحْتَمَلانِ، وأوْجَبَ الإيمانَ أوَّلًا، والنُّصْرَةَ ثانِيًا، وهو تَرْتِيبٌ ظاهِرٌ.
﴿قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي﴾ ظاهِرُهُ أنَّ الضَّمِيرَ في: قالَ، عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، وفي: أأقْرَرْتُمْ، خُوطِبَ بِهِ الأنْبِياءُ المَأْخُوذُ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ عَلى الخِلافِ، أهُوَ عَلى ظاهِرِهِ ؟ أمْ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ ؟ أمْ هو مِمّا حُذِفَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ، وتَقْدِيرُهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عَلى أُمَمِهِمْ ؟ لَمْ يَكْتَفِ بِأخْذِ المِيثاقِ حَتّى اسْتَنْطَقَهُ بِالإقْرارٍ بِالإيمانِ بِهِ، والنُّصْرَةِ لَهُ.
قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في: قالَ، عَلى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، أيْ: قالَ كُلُّ نَبِيٍّ لِأُمَّتِهِ: أأقْرَرْتُمْ ؟ ومَعْنى هَذا القَوْلِ عَلى هَذا الِاحْتِمالِ الإثْباتُ والتَّأْكِيدُ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى أخْذِ المِيثاقِ عَلى الأُمَمِ، بَلْ طالَبُوهم بِالإقْرارِ بِالقَبُولِ.
ويَكُونُ إصْرِي، عَلى الظّاهِرِ مُضافًا إلى اللَّهِ - تَعالى -، وعَلى هَذا القَوْلِ الثّانِي يَكُونُ مُضافًا إلى النَّبِيِّ. والإصْرُ: العَهْدُ؛ لِأنَّهُ مِمّا يُؤْصَرُ أيْ يُشَدُّ ويُعْقَدُ. وقُرِئَ بِضَمِّ الهَمْزَةِ، وهي مَرْوِيَّةٌ عَنْ أبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لُغَةً في: أصَرَّ، كَما قالُوا: ناقَةُ أسْفارٍ عُبْرٌ، وعُبْرُ أسْفارٍ، وهي المُعَدَّةُ لِلْأسْفارِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَمْعًا لِآصارٍ، كَإزارٍ وأُزُرٍ، ومَعْنى الأخْذِ هُنا القَبُولُ.
﴿قالُوا أقْرَرْنا﴾ مَعْناهُ أقْرَرْنا بِالإيمانِ بِهِ وبِنُصْرَتِهِ، وقَبِلْنا ذَلِكَ والتَزَمْناهُ. وثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ أيْ: أقْرَرْنا وأخَذْنا عَلى ذَلِكَ الإصْرَ، وحُذِفَتْ لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْها.
﴿قالَ فاشْهَدُوا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ تَعالى قالَ لِلنَّبِيِّينَ المَأْخُوذِ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ: فاشْهَدُوا، ومَعْناهُ مِنَ الشَّهادَةِ أيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ بِالإقْرارِ، وأخْذِ الإصْرِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وقِيلَ: فاشْهَدُوا هو خِطابٌ لِلْمَلائِكَةِ، قالَهُ ابْنُ المُسَيَّبِ. وقِيلَ: مَعْنى فاشْهَدُوا، بَيِّنُوا هَذا المِيثاقَ لِلْخاصِّ والعامِّ؛ لِكَيْلا يَبْقى لِأحَدٍ عُذْرٌ في الجَهْلِ بِهِ، وأصْلُهُ: أنَّ الشّاهِدَ هو الَّذِي يُبَيِّنُ صِدْقَ الدَّعْوى، قالَهُ الزَّجّاجُ، ويَكُونُ: اشْهَدُوا، بِمَعْنى أدُّوا، لا بِمَعْنى تَحَمَّلُوا. وقِيلَ: مَعْناهُ اسْتَيْقِنُوا ما قَرَّرْتُهُ عَلَيْكم مِن هَذا المِيثاقِ، وكُونُوا فِيهِ كالمُشاهِدِ لِلشَّيْءِ المُعايِنِ لَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: فاشْهَدُوا، خِطابٌ لِلْأنْبِياءِ إذا قُلْنا: إنَّ أخْذَ المِيثاقِ كانَ عَلى أتْباعِهِمْ، أُمِرُوا بِأنْ يَكُونُوا شاهِدِينَ عَلى أُمَمِهِمْ، ورُوِيَ هَذا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ.
(p-٥١٤)وعَلى القَوْلِ بِأنَّ المَعْنى في: قالَ أأقْرَرْتُمْ، أيْ قالَ كُلُّ نَبِيٍّ، يَكُونُ المَعْنى عَلى كُلِّ نَبِيٍّ لِأُمَّتِهِ، فاشْهَدُوا، أيْ: لِيَشْهَدْ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ. وقَوْلُهُ: فاشْهَدُوا، مَعْطُوفٌ عَلى مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ، قالَ: أأقْرَرْتُمْ فاشْهَدُوا، فالفاءُ دَخَلَتْ لِلْعَطْفِ. ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ألَقِيتَ زَيْدًا ؟ قالَ: لَقِيتُهُ، قالَ: فَأحْسِنْ إلَيْهِ. التَّقْدِيرُ: لَقِيتَ زَيْدًا فَأحْسِنْ إلَيْهِ، فَما فِيهِ الفاءُ بَعْضُ المَقُولِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كُلَّ المَقُولِ؛ لِأجْلِ الفاءِ، ألا تَرى قالَ أأقْرَرْتُمْ، وقَوْلُهُ: قالُوا أقْرَرْنا ؟ لَمّا كانَ كُلَّ المَقُولِ لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ.
﴿وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ يَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنافَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ جُمْلَةً حالِيَّةً.
{"ayah":"وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ لَمَاۤ ءَاتَیۡتُكُم مِّن كِتَـٰبࣲ وَحِكۡمَةࣲ ثُمَّ جَاۤءَكُمۡ رَسُولࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَ ٰلِكُمۡ إِصۡرِیۖ قَالُوۤا۟ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُوا۟ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق