الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى [[عند هذا انتهى الخرم الذي ذكرناه في ص: ٧٧ وبدأنا المخطوطة.]] ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) ﴾ يعني بقوله: ﴿ثم بعثناكم﴾ ثم أحييناكم. * * * وأصل"البعث" إثارة الشيء من محله. ومنه قيل:"بعث فلان راحلته" إذا أثارها من مبركها للسير، كما قال الشاعر: فأبعثها وهيَّ صنيعُ حول ... كركن الرَّعنِ، ذِعْلِبَةً وَقاحا [[لم أجد البيت في مكان. وقوله: "هي" بتشديد الياء، وهي لغة همدان، يشددون الواو من"هو" كقول القائل. وإن لساني شُهدة يشتفى بها ... وهوَّ، على من صبه الله، علقم ويشدد الياء من"هي" كقول القائل: والنفس ما أمرت بالعنف آبيه ... وهي - إن أمرت باللطف تأتمر والضمير في"أبعثها"إلى ناقته. وقوله:"صنيع حول" أي قد رعت حولا - عاما - حتى سمنت وقويت. يقال صنع فرسه صنعا وصنعة، فهو فرس صنيع، والأنثى بغير هاء: إذا أحسن القيام عليه فغذاه وعلفه وسمنه. وكل ما تعهدته حتى جاد فهو صنيع. والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما. شبه ناقته في جلالها وقوتها بركن الجبل. ذعلبة: ناقة سريعة باقية على السير. وقاح: صلبة صبور، الذكر والأنثى سواء.]] و"الرعن": منقطع أنف الجبل، و"الذعلبة": الخفيفة، و"الوقاح": الشديدة الحافر أو الخف. ومن ذلك قيل:"بعثت فلانا لحاجتي"، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها. ومن ذلك قيل ليوم القيامة:"يوم البعث"، لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب. * * * يعني بقوله: ﴿من بعد موتكم﴾ ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم. * * * وقوله: ﴿لعلكم تشكرون﴾ ، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم. وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: ﴿ثم بعثناكم﴾ ثم أحييناكم. * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿ثم بعثناكم﴾ ، أي بعثناكم أنبياء. ٩٥٥ - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي. * * * قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم، ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون. وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. ٩٥٦ - حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي. وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته. والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله: ﴿لعلكم تشكرون﴾ ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء. * * * وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ ، ما:- ٩٥٧ - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، [[في المخطوطة: "وذراه في البحر".]] اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال له السبعون -فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه: [[في المطبوعة: " للقاء الله"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. وفي المخطوطة بعد قوله: "ربه": "لموسى"، وأما التاريخ، فلم يذكر"يا موسى"، ولا"لموسى".]] يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، [[في المطبوعة: "لنسمع كلام. . " وفي التاريخ: "اطلب لنا نسمع كلام ربنا" بحذف"إلى ربك".]] قال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله، [[في المطبوعة: "وقع عليه الغمام"، وفي التاريخ: "وقع عليه عمود الغمام".]] ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. [[في المطبوعة: "فلما فرغ من أمره"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفيها أيضًا: "وانكشف"بزيادة الواو، وهو خطأ.]] فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ ، فأخذتهم الرجفة -وهي الصاعقة-[فافتلتت أرواحهم] فماتوا جميعا. [[الذي بين القوسين زيادة من تاريخ الطبري، وهي هناك: "فانفلتت أرواحهم"، والصواب ما أثبته. يقال: "افتلتت نفسه" (بالبناء للمجهول) ، مات فلتة، أي بغتة، وفي الحديث: أن رجلا أتى رسول الله ﷺ فقال: إن أمي افتلتت نفسها، فماتت ولم توص، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم.]] وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ [[في التاريخ: "قد سفهوا، فيهلك من ورائي. . . إن هذا لهم هلاك"، بحذف"أي".]] -أي: إن هذا لهم هلاك، اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ ﴿إنا هدنا إليك﴾ . فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه، [[قوله: "ويسأله" ليست في المطبوعة.]] حتى رد إليهم أرواحهم، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. [[الأثر: ٩٥٧ - في تاريخ الطبري ١: ٢٢٠ - ٢٢١.]] . ٩٥٨ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا:"لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: ﴿إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [إلى قوله] ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٥-١٥٦] . [يقول تبنا إليك] . [[الزيادة التي بين الأقواس من تاريخ الطبري، والأولى منهما زيادة لا بد منها.]] وذلك قوله: ﴿وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة﴾ . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك، فادعه يجعلنا أنبياء! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: ﴿ثم بعثناكم من بعد موتكم﴾ ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا. [[الأثر: ٩٥٨ في تاريخ الطبري ١: ٢٢١. وقوله: "قدم حرفا وأخر حرفا"، هو ما ذكره في تأويل الآية على ما ذهب إليه السدي (ص: ٨٥) "فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم. .)]] ٩٥٩ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم -، [[في المطبوعة: "فقال: إن هذه الألواح. . "]] : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا [[في المطبوعة: "يطلع الله علينا".]] فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، [[في المطبوعة: "كما يكلمك أنت". وسيأتي على الصواب في رقم: ١١١٥.]] فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ ، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله تعالى: ﴿ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون﴾ . فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل فوقهم. [[الأثر: ٩٥٩ - سيأتي أيضًا رقم: ١١١٥، وفيه تمام الخبر نتقوا الجبل: اقتلعوه من أصله ورفعوه فوقهم.]] ٩٦٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم﴾ ، قال: أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم. ٩٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: ﴿فأخذتهم الصاعقة﴾ ، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ . قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: ﴿ثم بعثناكم من بعد موتكم﴾ ، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم، فبعثوا لبقية آجالهم. * * * فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له. [[في المطبوعة: "فسلم لهم"، وهو خطأ وتعبير فاسد. وإنما أراد التسليم للخبر الصحيح عن رسول الله ﷺ. وهذا الذي قاله الطبري دليل على صحة ما ذكرنا من أنه لم يستدل بهذه الأخبار إلا للبيان عن بعض المعاني، وإن كانت لا تقوم بها الحجة في التفسير، كما قلنا في التذكرة التي كتبناها في الجزء الأول: ٤٥٣ - ٤٥٤. وانظر بقية كلام الطبري في هذه الفقرة. فإنه كلام بليغ الدلالة، مفيد في معرفة أسلوب الطبري في تفسيره.]] وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة، فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: ﴿يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد ﷺ، وقد قامت حجته على من احتج به عليه، ولا حاجة لمن انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب