الباحث القرآني

﴿وإذْ قُلْتُمْ يامُوسى﴾: هَذِهِ مُحاوَرَةُ بَنِي إسْرائِيلَ لِمُوسى، وذَلِكَ بَعْدَ مُحاوَرَتِهِ لَهم في الآيَةِ قَبْلَ هَذا. والضَّمِيرُ في (قُلْتُمْ) قِيلَ لِلسَّبْعِينَ المُخْتارِينَ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وقَتادَةُ، وذُكِرَ في اخْتِيارِ السَّبْعِينَ كَيْفِيَّةٌ سَتَأْتِي، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، في مَكانِها في الأعْرافِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِسائِرِ بَنِي إسْرائِيلَ إلّا مَن عَصَمَهُ اللَّهِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقِيلَ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا مَعَ هارُونَ ولَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ. وقالَ بَعْضُ مَن جَمَعَ في التَّفْسِيرِ: تَظافَرَتْ أقْوالُ أئِمَّةِ التَّفْسِيرِ عَلى أنَّ الَّذِينَ أصابَتْهُمُ الصّاعِقَةُ هُمُ السَّبْعُونَ رَجُلًا الَّذِينَ اخْتارَهم مُوسى ومَضى بِهِمْ لِمِيقاتِ رَبِّهِ ومُناجاتِهِ، وما ذُكِرَ لا يُمْكِنُ مَعَ ذِكْرِ الِاخْتِلافِ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قُلْتُمْ﴾ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ القائِلَ ذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ أخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ، إلّا إنْ كانَ ذَلِكَ مِن تَلْوِينِ الخِطابِ، وهو هُنا بَعِيدٌ. وفي نِداءِ بَنِي إسْرائِيلَ لِنَبِيِّهِمْ بِاسْمِهِ سُوءُ أدَبٍ مِنهم مَعَهُ، إذْ لَمْ يَقُولُوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أوْ يا رَسُولَ اللَّهِ، أوْ يا كَلِيمَ اللَّهِ، أوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الألْفاظِ الَّتِي تُشْعِرُ بِصِفاتِ التَّعْظِيمِ، وهي كانَتْ عادَتُهم مَعَهُ: ﴿يامُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١]، ﴿يامُوسى اجْعَلْ لَنا إلَهًا﴾ [الأعراف: ١٣٨]، ﴿يامُوسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ [الأعراف: ١٣٤] وقَدْ قالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] . ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ قِيلَ: مَعْناهُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ فِيما جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْراةِ، ولَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الإيمانِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ (لَكَ) ولَمْ يَقُولُوا (بِكَ) نَحْوَ: ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ [يوسف: ١٧]، أيْ بِمُصَدِّقٍ. وقِيلَ مَعْناهُ: لَنْ نُقِرَّ لَكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الإقْرارِ بِالإيمانِ وعَدّاهُ بِاللّامِ، وقَدْ جاءَ ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا﴾ [آل عمران: ٨١] فَيَكُونُ المَعْنى: لَنْ نُقِرَّ لَكَ بِأنَّ التَّوْراةَ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ اللّامُ لِلْعِلَّةِ، أيْ لَنْ نُؤْمِنَ لِأجْلِ قَوْلِكَ بِالتَّوْراةِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ نَفْيُ الكَمالِ، أيْ لا يَكْمُلُ إيمانُنا لَكَ، كَما قِيلَ في قَوْلِهِ، ﷺ: «لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن نَفْسِهِ وأهْلِهِ والنّاسِ أجْمَعِينَ» . ﴿حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (حَتّى) هُنا حَرْفُ غايَةٍ، أخْبَرُوا بِنَفْيِ إيمانِهِمْ مُسْتَصْحَبًا إلى هَذِهِ الغايَةِ ومَفْهُومُها أنَّهم إذا رَأوُا اللَّهَ جَهْرَةً آمَنُوا، والرُّؤْيَةُ هُنا: هي البَصَرِيَّةُ، وهي الَّتِي لا حِجابَ دُونَها ولا ساتِرَ، وانْتِصابُ (جَهْرَةً) عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مُزِيلٌ لِاحْتِمالِ الرُّؤْيَةِ أنْ تَكُونَ مَنامًا أوْ عِلْمًا بِالقَلْبِ. والمَعْنى حَتّى نَرى اللَّهَ عِيانًا، وهو مَصْدَرٌ مِن قَوْلِكَ: جَهَرَ بِالقِراءَةِ وبِالدُّعاءِ، أيْ أعْلَنَ بِها. فَأُرِيدَ بِها نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فانْتِصابُها عَلى حَدِّ قَوْلِهِمْ: قَعَدَ القُرْفُصاءَ، وفي: نَصْبِ هَذا النَّوْعِ خِلافٌ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. والأصَحُّ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِالفِعْلِ السّابِقِ يُعَدّى إلى النَّوْعِ، كَما تَعَدّى إلى لَفْظِ المَصْدَرِ المُلاقى مَعَ الفِعْلِ (p-٢١١)فِي الِاشْتِقاقِ، وقِيلَ انْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى تَقْدِيرِ الحَذْفِ، أيْ ذَوِي جَهْرَةٍ، أوْ عَلى مَعْنى جاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ لا عَلى طَرِيقِ المُبالَغَةِ نَحْوَ: رَجُلٌ صَوْمٌ؛ لِأنَّ المُبالَغَةَ لا تُرادُ هُنا. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ تَكُونُ الجَهْرَةُ مِن صِفاتِ الرُّؤْيَةِ، وعَلى هَذا القَوْلِ تَكُونُ مِن صِفاتِ الرّائِينَ، وثَمَّ قَوْلٌ ثالِثٌ، وهو أنْ يَكُونَ راجِعًا لِمَعْنى القَوْلِ، أوِ القائِلِينَ، فَيَكُونُ المَعْنى: وإذْ قُلْتُمْ كَذا قَوْلًا جَهْرَةً أوْ جاهِرِينَ بِذَلِكَ القَوْلِ، لَمْ يُسِرُّوهُ ولَمْ يَتَكاتَمُوا بِهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِهِ وجَهَرُوا بِأنَّهم أخْبَرُوا بِانْتِفاءِ الإيمانِ مُغِيًّا بِالرُّؤْيَةِ. والقَوْلُ بِأنَّ الجَهْرَةَ راجِعٌ لِمَعْنى القَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي عُبَيْدَةَ، والظّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِالرُّؤْيَةِ لا بِالقَوْلِ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيبُ الفَصِيحُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَهَرَةً، بِفَتْحِ الهاءِ، وتَحْتَمِلُ هَذِهِ القِراءَةُ وجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ (جَهَرَةً) مَصْدَرًا كالغَلَبَةِ، فَتَكُونُ مَعْناها ومَعْنى (جَهْرَةً) المُسَكَّنَةِ الهاءِ سَواءً، ويَجْرِي فِيها مِنَ الإعْرابِ الوُجُوهُ الَّتِي سَبَقَتْ في (جَهْرَةً) . والثّانِي: أنْ يَكُونَ جَمْعًا لَجاهِرٍ، كَما تَقُولُ: فاسِقٌ وفَسَقَةٌ، فَيَكُونُ انْتِصابُهُ عَلى الحالِ، أيْ جاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي هَذا الكَلامِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - رادَّهم، وعَرَّفَهم أنَّ رُؤْيَةَ ما لا يَجُوزُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ في جِهَةٍ مُحالٌ، وأنَّ مَنِ اسْتَجازَ عَلى اللَّهِ الرُّؤْيَةَ، فَقَدْ جَعَلَهُ مِن جُمْلَةِ الأقْسامِ أوِ الإعْراضِ، فَرادُّوهُ بَعْدَ بَيانِ الحُجَّةِ ووُضُوحِ البُرْهانِ، ولَجُّوا فَكانُوا في الكُفْرِ كَعَبَدَةِ العِجْلِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصّاعِقَةَ، كَما سَلَّطَ عَلى أُولَئِكَ القَتْلَ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الكُفْرَيْنِ ودَلالَةً عَلى عِظَمِها بِعِظَمِ المِحْنَةِ، اهـ كَلامُهُ. وهو مُصَرِّحٌ بِاسْتِحالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى بِالأبْصارِ. وهَذِهِ المَسْألَةُ فِيها خِلافٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ. ذَهَبَتِ القَدَرِيَّةُ والمُعْتَزِلَةُ والنَّجّارِيَّةُ والجَهْمِيَّةُ ومَن شارَكَهم مِنَ الخَوارِجِ إلى اسْتِحالَةِ ذَلِكَ في حَقِّ البارِي سُبْحانَهُ وتَعالى، وذَهَبَ أكْثَرُ المُسْلِمِينَ إلى إثْباتِ الرُّؤْيَةِ. فَقالَ الكَرّامِيَّةُ: يُرى في جِهَةِ فَوْقَ ولَهُ تَحْتٌ، ويُرى جِسْمًا، وقالَتِ المُشَبِّهَةُ: يُرى عَلى صُورَةٍ، وقالَ أهْلُ السُّنَّةِ: لا مُقابِلًا، ولا مُحاذِيًا، ولا مُتَمَكِّنًا، ولا مُتَحَيِّزًا، ولا مُتَلَوِّنًا، ولا عَلى صُورَةٍ ولا هَيْئَةٍ، ولا عَلى اجْتِماعٍ وجِسْمِيَّةٍ، بَلْ يَراهُ المُؤْمِنُونَ، يَعْلَمُونَ أنَّهُ بِخِلافِ المَخْلُوقاتِ كَما عَلِمُوهُ كَذَلِكَ قَبْلُ. وقَدِ اسْتَفاضَتِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثّابِتَةُ في رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْها. وهَذِهِ المَسْألَةُ مِن أصْعَبِ مَسائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وقَدْ رَأيْتُ لِأبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِن فُضَلاءِ الإمامِيَّةِ فِيها مُجَلَّدَةً كَبِيرَةً، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ اسْتِحالَةِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنَّ عادَتَهُ تَحْمِيلُ الألْفاظِ ما لا تَدُلُّ عَلَيْهِ، خُصُوصًا ما يَجُرُّ إلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ العَصَبِيَّةِ فِيما لا يَنْبَغِي. وكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا في رُؤْيَةِ الحَقِّ نَفْسَهُ، فَذَهَبَ أكْثَرُ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّهُ لا يَرى نَفْسَهُ، وذَهَبَتْ طائِفَةٌ مِنهم إلى أنَّهُ يَرى نَفْسَهُ، وذَهَبَ الكَعْبِيُّ إلى أنَّهُ لا يَرى نَفْسَهُ ولا غَيْرَهُ، وهَذا مَذْهَبُ النَّجّارِ، وكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ في عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. ﴿فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ﴾: أيِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْكم وأحاطَتْ بِكم. وأصْلُ الأخْذِ: القَبْضُ بِاليَدِ. والصّاعِقَةُ هُنا: هَلْ هي نارٌ مِنَ السَّماءِ أحْرَقَتْهم، أوِ المَوْتُ، أوْ جُنْدٌ سَماوِيٌّ سَمِعُوا حِسَّهم فَماتُوا، أوِ الفَزَعُ فَدامَ حَتّى ماتُوا، أوْ غُشِيَ عَلَيْهِمْ، أوِ العَذابُ الَّذِي يَمُوتُونَ مِنهُ أوْ صَيْحَةٌ سَماوِيَّةٌ ؟ أقْوالٌ، أصَحُّها: أنَّها سَبَبُ المَوْتِ، لا المَوْتُ، وإنْ كانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا في السَّبَبِ، قالَهُ المُحَقِّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] . وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ المُدَّةَ مِنَ المَوْتِ أوِ الصَّعْقِ كانَتْ يَوْمًا ولَيْلَةً. وقِيلَ: أصابَ مُوسى ما أصابَهم، وقِيلَ صُعِقَ ولَمْ يَمُتْ، قالُوا: وهو الصَّحِيحُ؛ لِأنَّهُ جاءَ: (فَلَمّا أفاقَ) في حَقِّ مُوسى وجاءَ: (ثُمَّ بَعَثْناكم) في حَقِّهِمْ، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِ البَعْثِ في القُرْآنِ بَعْثُ الأمْواتِ. وقِيلَ: غُشِيَ عَلَيْهِمْ كَهو ولَمْ يَمُوتُوا، والصَّعْقُ يُطْلَقُ عَلى غَيْرِ المَوْتِ، وقالَ جَرِيرٌ: ؎وهَلْ كانَ الفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ أصابَتْهُ الصَّواعِقُ فاسْتَدارا (p-٢١٢)والظّاهِرُ أنَّ سَبَبَ أخْذِ الصّاعِقَةِ إيّاهم قَوْلُهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ إذْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ ويَسْألُوا الرُّؤْيَةَ إلّا عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وقِيلَ: سَبَبُ أخْذِ الصّاعِقَةِ إيّاهم هو غَيْرُ هَذا القَوْلِ مِن كُفْرِهِمْ بِمُوسى، أوْ تَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ لَمّا جاءَهم بِالتَّوْراةِ أوْ عِبادَةِ العِجْلِ. وقَرَأ عَمْرٌو عَلى الصَّعْقَةِ، واسْتَعْظَمَ سُؤالَ الرُّؤْيَةِ حَيْثُ وقَعَ؛ لِأنَّ رُؤْيَتَهُ لا تَحْصُلُ إلّا في الآخِرَةِ، فَطَلَبُها في الدُّنْيا هو مُسْتَنْكَرٌ، أوْ لِأنَّ حُكْمَ اللَّهِ أنْ يُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنِ العَبْدِ حالَ ما يَراهُ، فَكانَ طَلَبُها طَلَبًا لِإزالَةِ التَّكْلِيفِ، أوْ لِأنَّهُ لَمّا دَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلى صِدْقِ المُدَّعِي كانَ طَلَبُ الدَّلائِلِ الزّائِدَةِ تَعَنُّتًا ولِأنَّ في مَنعِ الرُّؤْيَةِ في الدُّنْيا ضَرْبًا مِنَ المَصْلَحَةِ المُهِمَّةِ لِلْخَلْقِ، فَلِذَلِكَ اسْتُنْكِرَ. ﴿وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، ومُتَعَلِّقُ النَّظَرِ: أخْذُ الصَّعْقَةِ إيّاكم، أيْ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى ما حَلَّ بِكم مِنها، أوْ بَعْضُكم إلى بَعْضٍ كَيْفَ يَخِرُّ مَيِّتًا، أوْ إلى الأحْياءِ، أوْ تَعْلَمُونَ أنَّها تَأْخُذُكم. فَعَبَّرَ بِالنَّظَرِ عَنِ العِلْمِ، أوْ إلى آثارِ الصّاعِقَةِ في أجْسامِكم بَعْدَ أنْ بُعِثْتُمْ، أوْ يَنْظُرَ كُلٌّ مِنكم إلى إحْياءِ نَفْسِهِ، كَما وقَعَ في قِصَّةِ العُزَيْرِ، قالُوا: حَيِيَ عُضْوًا بَعْدَ عُضْوٍ، أوْ إلى أوائِلِ ما كانَ يَنْزِلُ مِنَ الصّاعِقَةِ قَبْلَ المَوْتِ، أوْ أنْتُمْ يُقابِلُ بَعْضُكم بَعْضًا، مِن قَوْلِ العَرَبِ: دُورُ آلِ فُلانٍ تَتَراءى، أيْ يُقابِلُ بَعْضُها بَعْضًا، ولَوْ ذَهَبَ ذاهِبٌ إلى أنَّ المَعْنى ﴿وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إجابَةُ السُّؤالِ في حُصُولِ الرُّؤْيَةِ لَهم، لَكانَ وجْهًا مِن قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ الرَّجُلَ، أيِ انْتَظَرْتُهُ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎فَإنَّكُما إنْ تُنْظِرانِي ساعَةً ∗∗∗ مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدى أُمِّ جُنْدَبِ لَكِنَّ هَذا الوَجْهَ لَيْسَ بِمَنقُولٍ، فَلا أجْسُرُ عَلى القَوْلِ بِهِ، وإنْ كانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ. وقَدْ عَدَّ صاحِبُ المُنْتَخَبِ هَذا إنْعامًا سادِسًا، وذَكَرَ في كَوْنِهِ إنْعامًا وُجُوهًا، مِنها ما يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ بَنِي إسْرائِيلَ ومِنها ما يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، والمَقْصُودُ ذِكْرُ ما يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ ذَلِكَ إنْعامًا، وهو أنَّ إحْياءَهم لِأنْ يَتُوبُوا عَنِ التَّعَنُّتِ، ولِأنْ يَتَخَلَّصُوا مِن ألِيمِ العِقابِ ويَفُوزُوا بِجَزِيلِ الثَّوابِ مَن أعْظَمِ النِّعَمِ، ولا تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ قَوْلَهم هَذا بَعْدَ أنْ كُلِّفَ عَبَدَةُ العِجْلِ بِالقَتْلِ ولا قَبْلَهُ. وقَدْ قِيلَ بِكُلٍّ مِنَ القَوْلَيْنِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الجُمَلَ مَعْطُوفَةٌ بِالواوِ، والواوُ لا تَدُلُّ بِوَضْعِها عَلى التَّرْتِيبِ الزَّمانِيِّ. قالَ بَعْضُهم: لَمّا أحَلَّهُمُ اللَّهُ مَحَلَّ مُناجاتِهِ، وأسْمَعَهم لَذِيذَ خِطابِهِ، اشْرَأبَّتْ نُفُوسُهم لِلْفَخْرِ وعُلُوِّ المَنزِلَةِ، فَعامَلَهُمُ اللَّهُ بِنَقِيضِ ما حَصَلَ في أنْفُسِهِمْ بِالصَّعْقَةِ الَّتِي هي خُضُوعٌ وتَذَلُّلٌ تَأْدِيبًا لَهم وعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأبْصارِ﴾ [آل عمران: ١٣] . ﴿ثُمَّ بَعَثْناكم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾: مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ﴾ ودَلَّ العَطْفُ بِثُمَّ عَلى أنَّ بَيْنَ أخْذِ الصّاعِقَةِ والبَعْثِ زَمانًا تُتَصَوَّرُ فِيهِ المُهْلَةُ والتَّأْخِيرُ، هو زَمانُ ما نَشَأ عَنِ الصّاعِقَةِ مِنَ المَوْتِ، أوِ الغَشْيِ عَلى الخِلافِ الَّذِي مَرَّ. والبَعْثُ هُنا: الإحْياءُ، ذُكِرَ أنَّهم لَمّا ماتُوا لَمْ يَزَلْ مُوسى يُناشِدُ رَبَّهُ في إَحْيائِهِمْ ويَقُولُ: يا رَبِّ إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ يَقُولُونَ قَتَلْتَ خِيارَنا. حَتّى أحْياهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ، يَنْظُرُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ. وقِيلَ: مَعْنى البَعْثِ الإرْسالُ، أيْ أرْسَلْناكم. رُوِيَ أنَّهُ لَمّا أحْياهُمُ اللَّهُ سَألُوا أنْ يَبْعَثَهم أنْبِياءَ فَبَعَثَهم أنْبِياءَ. وقِيلَ: مَعْنى البَعْثِ: الإفاقَةُ مِنَ الغَشْيَةِ، ويَتَخَرَّجُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّهم صُعِقُوا ولَمْ يَمُوتُوا. وقِيلَ: البَعْثُ هُنا: القِيامُ بِسُرْعَةٍ مِن مَصارِعِهِمْ، ومِنهُ: ﴿قالُوا ياوَيْلَنا مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدِنا﴾ [يس: ٥٢] ؟ وقِيلَ مَعْنى البَعْثِ هُنا التَّعْلِيمُ، أيْ ثُمَّ عَلَّمْناكم مِن بَعْدِ جَهْلِكم، والمَوْتُ هُنا ظاهِرُهُ مُفارَقَةُ الرُّوحِ الجَسَدَ، وهَذا هو الحَقِيقَةُ، وكانَ إحْياؤُهم لِأجْلِ اسْتِيفاءِ أعْمارِهِمْ. ومَن قالَ: كانَ ذَلِكَ غَشْيًا وهُمُودًا كانَ المَوْتُ مَجازًا، قالَ تَعالى: ﴿ويَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكانٍ وما هو بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧]، والَّذِي أتاهُ مُقَدِّماتُهُ سُمِّيَتْ مَوْتًا عَلى سَبِيلِ المَجازِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وقُلْ لَهم بادِرُوا بِالعُذْرِ والتَمِسُوا ∗∗∗ قَوْلًا يُبَرِّئُكم إنِّي أنا المَوْتُ (p-٢١٣)جَعَلَ نَفْسَهُ المَوْتَ لَمّا كانَ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وكَذَلِكَ إذا حُمِلَ المَوْتُ عَلى الجَهْلِ كانَ مَجازًا، وقَدْ كَنى عَنِ العِلْمِ بِالحَياةِ، وعَنِ الجَهْلِ بِالمَوْتِ. قالَ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]، وقالَ الشّافِعِيُّ: ؎إنَّما النَّفْسُ كالزُّجاجَةِ والعِلْ ∗∗∗ مُ سِراجٌ وحِكْمَةُ اللَّهِ زَيْتُ ؎فَإذا أبْصَرْتَ فَإنَّكَ حَيٌّ ∗∗∗ وإذا أظْلَمْتَ فَإنَّكَ مَيْتُ وقالَ ابْنُ السَّيِّدِ: ؎أخُو العِلْمِ حَيٌّ خالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ∗∗∗ وأوْصالُهُ تَحْتَ التُّرابِ رَمِيمُ ؎وذُو الجَهْلِ مَيْتٌ وهو ماشٍ عَلى الثَّرى ∗∗∗ يُظَنُّ مِنَ الأحْياءِ وهو عَدِيمُ ولا يَدْخُلُ مُوسى عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ في خِطابِ ﴿ثُمَّ بَعَثْناكُمْ﴾؛ لِأنَّهُ خِطابُ مُشافَهَةٍ لِلَّذِينِ قالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾، ولِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أفاقَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، ولا يُسْتَعْمَلُ هَذا في المَوْتِ. وأخْطَأ ابْنُ قُتَيْبَةَ في زَعْمِهِ أنَّ مُوسى قَدْ ماتَ. ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾: وفي مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ أقْوالٌ يَنْبَنِي أكْثَرُها عَلى المُرادِ بِالبَعْثِ والمَوْتِ. فَمَن زَعَمَ أنَّهُما حَقِيقَةٌ قالَ: المَعْنى لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ نِعْمَتَهُ بِالإحْياءِ بَعْدَ المَوْتِ، أوْ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ وسائِرِ نِعَمِهِ الَّتِي أسْداها إلَيْهِمْ، ومَن جَعَلَ ذَلِكَ مَجازًا عَنْ إرْسالِهِمْ أنْبِياءَ، أوْ إثارَتِهِمْ مِنَ الغَشْيِ، أوْ تَعْلِيمِهِمْ بَعْدَ الجَهْلِ، جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ أحَدَ هَذِهِ المَجازاتِ. وقَدْ أبْعَدَ مَن جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ إنْزالَ التَّوْراةِ الَّتِي فِيها ذِكْرُ تَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ وتَفْصِيلِ شَرائِعِهِ، بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ شَرائِعُ. وقِيلَ: المَعْنى لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ بَعْدَما كَفَرْتُمُوها إذا رَأيْتُمْ بَأْسَ اللَّهِ في رَمْيِكم بِالصّاعِقَةِ وإذاقَتِكُمُ المَوْتَ. وقالَ في المُنْتَخَبِ: إنَّما بَعَثَهم بَعْدَ المَوْتِ في دارِ الدُّنْيا لِيُكَلِّفَهم ولِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الإيمانِ ومِن تَلافِي ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ الجَرائِمِ. أمّا أنَّهُ كَلَّفَهم، فَلِقَوْلِهِ: (لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ) . ولَفْظُ الشُّكْرِ يَتَناوَلُ جَمِيعَ الطّاعاتِ لِقَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا﴾ [سبإ: ١٣] . انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ الماوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ في بَقاءِ تَكْلِيفِ مَن أُعِيدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ومُعايَنَةِ الأهْوالِ الَّتِي تَضْطَرُّهُ وتُلْجِئُهُ إلى الِاعْتِرافِ بَعْدَ الِاقْتِرافِ. فَقالَ قَوْمٌ: سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ لِيَكُونَ تَكْلِيفُهم مُعْتَبَرًا بِالِاسْتِدْلالِ دُونَ الِاضْطِرارِ. وقالَ قَوْمٌ: يَبْقى تَكْلِيفُهم لِئَلّا يَخْلُوَ بالِغٌ عاقِلٌ مِن تَعَبُّدٍ، ولا يُمْنَعُ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهم كَأنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٧١]، وذَلِكَ حِينَ أبَوْا أنْ يَقْبَلُوا التَّوْراةَ، فَلَمّا نَتَقَ الجَبَلَ فَوْقَهم آمَنُوا وقَبِلُوها، فَكانَ إيمانُهم بِها إيمانَ اضْطِرارٍ، ولَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ، ومِثْلُهم قَوْمُ يُونُسَ في إيمانِهِمْ. اهـ كَلامُهُ. ﴿وظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ﴾، (الغَمامَ): مَفْعُولٌ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ بِالغَمامِ، كَما تَقُولُ: ظَلَّلْتُ عَلى فُلانٍ بِالرَّدِّ، أوْ مَفْعُولٌ بِهِ لا عَلى إسْقاطِ الحَرْفِ، ويَكُونُ المَعْنى جَعَلْناهُ عَلَيْكم ظُلَلًا. فَعَلى هَذا الوَجْهِ الثّانِي يَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ بِجَعْلِ الشَّيْءِ بِمَعْنى ما صِيغَ مِنهُ كَقَوْلِهِمْ ؟ عَدَلْتُ زَيْدًا، أيْ جَعَلْتُهُ عَدْلًا، فَكَذَلِكَ هَذا مَعْناهُ: جَعَلْنا الغَمامَ عَلَيْكم ظُلَّةً، وعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ تَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنى أفْعَلَ، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ أصْلُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنى فِعْلٍ يُعَدّى بِعَلى، فَكانَ الأصْلُ: وظَلَّلْناكم، أيْ أظْلَلْناكم بِالغَمامِ، نَحْوَ ما ورَدَ في الحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ»، ثُمَّ ضُمِّنَ ظَلَّلَ مَعْنى كَلَّلَ أوْ شِبْهَهُ مِمّا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ بِعَلى، فَعَدّاهُ بِعَلى. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعانِي فَعَّلَ، ولَيْسَ المَعْنى عَلى ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ، إذْ ظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنَّ الغَمامَ ظُلِّلَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ عَلى الغَمامِ شَيْءٌ يَكُونُ ظُلَّةً لِلْغَمامِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ المَعْنى، واللَّهُ أعْلَمُ، ما ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الغَمامِ، وقِيلَ: إنَّهُ الغَمامُ الَّذِي أتَتْ فِيهِ المَلائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وهو الَّذِي تَأْتِي فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَنِ، وهو المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ﴾ [البقرة: ٢١٠]، ولَيْسَ بِغَمامٍ حَقِيقَةً، وإنَّما سُمِّيَ غَمامًا لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الغَمامَ. وقِيلَ: الَّذِينَ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الغَمامُ بَعْضُ بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ اللَّهُ قَدْ أجْرى العادَةَ في بَنِي إسْرائِيلَ أنَّ مَن عَبَدَ اللَّهَ ثَلاثِينَ سَنَةً لا يُحْدِثُ فِيها ذَنْبًا أظَلَّتْهُ غَمامَةٌ. وحُكِيَ (p-٢١٤)أنَّ شَخْصًا عَبَدَ ثَلاثِينَ سَنَةً فَلَمْ تُظِلُّهُ غَمامَةٌ، فَجاءَ إلى أصْحابِ الغَمائِمِ فَذَكَرَ لَهم ذَلِكَ فَقالُوا: لَعَلَّكَ أحْدَثْتَ ذَنْبًا، فَقالَ: لا أعْلَمُ شَيْئًا إلّا أنِّي رَفَعْتُ طَرْفِي إلى السَّماءِ وأعَدْتُهُ بِغَيْرِ فِكْرٍ، فَقالُوا لَهُ: ذَلِكَ ذَنْبُكَ، وكانَتْ فِيهِمْ جَماعَةٌ يُسَمَّوْنَ أصْحابَ الغَمائِمِ، فامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ مَن لَهُ هَذِهِ الكَرامَةُ الظّاهِرَةُ الباهِرَةُ. والمَكانُ الَّذِي أظَلَّتْهم فِيهِ الغَمامَةُ كانَ في التِّيهِ بَيْنَ الشّامِ ومِصْرَ لَمّا شَكَوْا حَرَّ الشَّمْسِ، وسَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ في قِصَّتِهِمْ. وقِيلَ: أرْضٌ بَيْضاءُ عَفْراءُ لَيْسَ فِيها ماءٌ ولا ظِلٌّ، وقَعُوا فِيها حِينَ خَرَجُوا مِنَ البَحْرِ، فَأظَلَّهُمُ اللَّهُ بِالغَمامِ، ووَقاهم حَرَّ الشَّمْسِ. ﴿وأنْزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ المَنُّ اسْمُ جِنْسٍ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، وفي المَنِّ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أقْوالٌ: ما يَسْقُطُ عَلى الشَّجَرِ أحْلى مِنَ الشَّهْدِ وأبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والشَّعْبِيِّ، أوْ صَمْغَةٌ طَيِّبَةٌ حُلْوَةٌ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ؛ أوْ شَرابٌ كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَشْرَبُونَهُ بَعْدَ مَزْجِهِ بِالماءِ، وهو قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ وأبِي العالِيَةَ؛ أوْ عَسَلٌ كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وهو قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ؛ أوِ الرُّقاقُ المُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَةِ أوْ مِنَ النِّقْيِ، وهو قَوْلُ وهْبٍ؛ أوِ الزَّنْجَبِيلُ، وهو قَوْلُ السُّدِّيُّ، أوِ التَّرَنْجَبِينُ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ؛ أوْ عَسَلٌ حامِضٌ، قالَهُ عَمْرُو بْنُ عِيسى؛ أوْ جَمِيعُ ما مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ في التِّيهِ وجاءَهم عَفْوًا مِن غَيْرِ تَعَبٍ، قالَهُ الزَّجّاجُ، ودَلِيلُهُ قَوْلُهُ، ﷺ: «الكَمْأةُ مِنَ المَنِّ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ» . وفي رِوايَةٍ: عَلى مُوسى. وفي السَّلْوى الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أقْوالٌ: طائِرٌ يُشْبِهُ السُّمانى، أوْ هو السُّمانى نَفْسُهُ، أوْ طُيُورٌ حُمْرٌ بَعَثَ اللَّهُ بِها سَحابَةً فَمُطِرَتْ في عَرْضِ مِيلٍ وطُولِ رُمْحٍ في السَّماءِ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ ومُقاتِلٌ، أوْ طَيْرٌ يَكُونُ بِالهِنْدِ أكْبَرُ مِنَ العُصْفُورِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ؛ أوْ طَيْرٌ سَمِينٌ مِثْلُ الحَمامِ، أوِ العَسَلُ بِلُغَةِ كِنانَةَ. وكانَتْ تَأْتِيهِمُ السَّلْوى مِن جِهَةِ السَّماءِ، فَيَخْتارُونَ مِنها السَّمِينَ ويَتْرُكُونَ الهَزِيلَ؛ وقِيلَ: كانَتْ رِيحُ الجَنُوبِ تَسُوقُها إلَيْهِمْ فَيَخْتارُونَ مِنها حاجَتَهم ويَذْهَبُ الباقِي. وقِيلَ: كانَتْ تَنْزِلُ عَلى الشَّجَرِ فَيَنْطَبِخُ نِصْفُها ويَنْشَوِي نِصْفُها. وكانَ المَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ، والسَّلْوى بُكْرَةً وعَشِيًّا، وقِيلَ: دائِمًا، وقِيلَ: كُلَّما أحَبُّوا. وقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ حِكاياتٍ في التَّظْلِيلِ ونُزُولِ المَنِّ والسَّلْوى، وتَظافَرَتْ أقاوِيلُهم أنَّ ذَلِكَ كانَ في فَحْصِ التِّيهِ، وسَتَأْتِي قِصَّتُهُ في سُورَةِ المائِدَةِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وأنَّهم قالُوا: مَن لَنا مِن حِراكِ الشَّمْسِ ؟ فَظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الغَمامُ، وقالُوا: مَن لَنا بِالطَّعامِ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى، وقالُوا: مَن لَنا بِالماءِ ؟ فَأمَرَ اللَّهُ مُوسى بِضَرْبِ الحَجَرِ، وهَذِهِ دَلَّ عَلَيْها القُرْآنُ. وزِيدَ في تِلْكَ الحِكاياتِ أنَّهم قالُوا: بِمَ نَسْتَصْبِحُ ؟ فَضُرِبَ لَهم عَمُودٌ مِن نُورٍ في وسَطِ مَحَلَّتِهِمْ، وقِيلَ: مِن نارٍ، وقالُوا: مَن لَنا بِاللِّباسِ ؟ فَأُعْطُوا أنْ لا يَبْلى لَهم ثَوْبٌ، ولا يَخْلَقَ، ولا يَدْرَنَ، وأنْ تَنْمُوَ صِغارُها حَسَبَ نُمُوِّ الصِّبْيانِ. (كُلُوا): أمْرُ إباحَةٍ وإذْنٍ كَقَوْلِهِ: ﴿فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢]، ﴿فانْتَشِرُوا في الأرْضِ﴾ [الجمعة: ١٠]، وذَلِكَ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ الأصْلَ في الأشْياءِ الحَظْرُ، أوْ دُومُوا عَلى الأكْلِ عَلى قَوْلِ مَن قالَ الأصْلُ فِيها الإباحَةُ، وهَهُنا قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، أيْ وقُلْنا: كُلُوا، والقَوْلُ يُحْذَفُ كَثِيرًا ويَبْقى المَقُولُ، وذَلِكَ لِفَهْمِ المَعْنى، ومِنهُ: أكَفَرْتُمْ ؟ أيْ: فَيُقالُ أكَفَرْتُمْ ؟ وحَذْفُ المَقُولِ وإبْقاءُ القَوْلِ قَلِيلٌ، وذَلِكَ أيْضًا لِفَهْمِ المَعْنى، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَنَحْنُ الأُلى قُلْتُمْ فَأنّى مُلِئْتُمْ ∗∗∗ بِرُؤْيَتِنا قَبْلَ اهْتِمامٍ بِكم رُعْبًا التَّقْدِيرُ: قُلْتُمْ نُقاتِلُهم. ﴿مِن طَيِّباتِ﴾ مِن: لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّ المَنَّ والسَّلْوى بَعْضُ الطَّيِّباتِ، وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّها زائِدَةٌ، ولا يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ إلّا عَلى قَوْلِ الأخْفَشِ، وأبْعَدُ مِن هَذا قَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّها لِلْجِنْسِ؛ لِأنَّ الَّتِي لِلْجِنْسِ في إثْباتِها خِلافٌ، ولا بُدَّ أنْ يَكُونَ قَبْلَها ما يَصْلُحُ أنْ يُقَدَّرَ بَعْدَهُ مَوْصُولٌ يَكُونُ صِفَةً لَهُ. وقَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّها لِلْبَدَلِ، إذْ هو مَعْنًى مُخْتَلَفٌ في إثْباتِهِ، ولَمْ يَدْعُ إلَيْهِ هُنا ما يُرَجِّحُ ذَلِكَ. والطَّيِّباتُ هُنا (p-٢١٥)قِيلَ: الحَلالُ، وقِيلَ: اللَّذِيذُ المُشْتَهى. ومَن زَعَمَ أنَّ هَذا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وهو كُلُوا مِن عِوَضِ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، عَوَّضَهم عَنْ جَمِيعِ مَآكِلِهِمْ المُسْتَلَذَّةِ بِالمَنِّ والسَّلْوى، فَكانا بَدَلًا مِنَ الطَّيِّباتِ. وقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهم مِن قَوْلِهِ: ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ أنَّهُ لا يَكْفِي وضْعُ المالِكِ الطَّعامَ بَيْنَ يَدَيِ الإنْسانِ في إباحَةِ الأكْلِ، بَلْ لا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إلّا بِإذْنِ المالِكِ، وهو قَوْلٌ. وقِيلَ: يُمْلَكُ بِالوَضْعِ فَقَطْ، وقِيلَ: بِالأخْذِ والتَّناوُلِ، وقِيلَ: لا يُمْلَكُ بِحالٍ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهِ وهو عَلى مِلْكِ المالِكِ. و(ما) في قَوْلِهِ: (ما رَزَقْناكم) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ ما رَزَقْناكُمُوهُ، وشُرُوطُ الحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُجَوِّزَ مُجَوِّزٌ فِيها أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَلا يُحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ، ويَكُونُ يُطْلَقُ المَصْدَرُ عَلى المَفْعُولِ، والأوَّلُ أسْبَقُ إلى الذِّهْنِ. ﴿وما ظَلَمُونا﴾ نَفْيٌ أنَّهم لَمْ يَقَعْ مِنهم ظُلْمُ اللَّهِ تَعالى، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ نَفْيِ الشَّيْءِ إمْكانُ وُقُوعِهِ؛ لِأنَّ ظُلْمَ الإنْسانِ لِلَّهِ تَعالى لا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ ألْبَتَّةَ. قِيلَ: المَعْنى وما ظَلَمُونا بِقَوْلِهِمْ: ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]، بَلْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِما قابَلْناهم بِهِ مِنَ الصّاعِقَةِ. وقِيلَ: وما ظَلَمُونا بِادِّخارِهِمُ المَنَّ والسَّلْوى، بَلْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِفَسادِ طَعامِهِمْ وتَقْلِيصِ أرْزاقِهِمْ. وقِيلَ: وما ظَلَمُونا بِإبائِهِمْ عَلى مُوسى أنْ يَدْخُلُوا قَرْيَةَ الجَبّارِينَ. وقِيلَ: وما ظَلَمُونا بِاسْتِحْبابِهِمُ العَذابَ وقَطْعِهِمْ مادَّةَ الرِّزْقِ عَنْهم، بَلْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِذَلِكَ. وقِيلَ: وما ظَلَمُونا بِكُفْرِ النِّعَمِ، بَلْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِحُلُولِ النِّقَمِ. وقِيلَ: وما ظَلَمُونا بِعِبادَةِ العِجْلِ، بَلْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. واتَّفَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ والزَّمَخْشَرِيُّ عَلى أنَّهُ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ قَبْلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَعَصَوْا ولَمْ يُقابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ، قالَ: والمَعْنى وما وضَعُوا فِعْلَهم في مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَنا، ولَكِنْ وضَعُوهُ في مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَهم حَيْثُ لا يَجِبُ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَظَلَمُوا بِأنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ وما ظَلَمُونا، قالَ: فاخْتَصَرَ الكَلامَ بِحَذْفِهِ لِدَلالَةِ (وما ظَلَمُونا) عَلَيْهِ. انْتَهى. ولا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، كَما زَعَما؛ لِأنَّهُ قَدْ صَدَرَ مِنهُمُ ارْتِكابُ قَبائِحَ مِنِ اتِّخاذِ العِجْلِ إلَهًا، ومِن سُؤالِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لَمْ يُقَصَّ هُنا. فَجاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما ظَلَمُونا﴾ جُمْلَةٌ مَنفِيَّةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ ما وقَعَ مِنهم مِن تِلْكَ القَبائِحِ لَمْ يَصِلْ إلَيْنا بِذَلِكَ نَقْصٌ ولا ضَرَرٌ، بَلْ وبالُ ذَلِكَ راجِعٌ إلى أنْفُسِهِمْ ومُخْتَصٌّ بِهِمْ، لا يَصِلُ إلَيْنا مِنهُ شَيْءٌ. ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ (لَكِنْ) هُنا وقَعَتْ أحْسَنَ مَوْقِعٍ؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَها نَفْيٌ وجاءَ بَعْدَها إيجابٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم، وكَذَلِكَ العَكْسُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا إنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣] أعْنِي أنْ يَتَقَدَّمَ إيجابٌ ثُمَّ يَجِيءُ بَعْدَها نَفْيٌ؛ لِأنَّ الِاسْتِدْراكَ الحاصِلَ بِها إنَّما يَكُونُ عَلى ما قَبْلِها بِوَجْهٍ ما، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا تَقَرَّرَ أنَّهُ قَدْ وقَعَ مِنهم ظُلْمٌ، فَلَمّا نُفِيَ ذَلِكَ الظُّلْمُ أنْ يَصِلَ إلى اللَّهِ تَعالى بَقِيَتِ النَّفْسُ مُتَشَوِّفَةً ومُتَطَلِّعَةً إلى ذِكْرِ مَن وقَعَ بِهِ الظُّلْمُ، فاسْتُدْرِكَ بِأنَّ ذَلِكَ الظُّلْمَ الحاصِلَ مِنهم إنَّما كانَ واقِعًا بِهِمْ، وأحْسَنُ مَواقِعِها أنْ تَكُونَ بَيْنَ المُتَضادَّيْنِ، ويَلِيهِ أنْ تَقَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، ويَلِيهِ أنْ تَقَعَ بَيْنَ الخِلافَيْنِ، وفي هَذا الأخِيرِ خِلافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. أذَلِكَ تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ أمْ لا ؟ وذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِكَ: ما زَيْدٌ قائِمٌ، ولَكِنْ هو ضاحِكٌ، وقَدْ تُكُلِّمَ عَلى ذَلِكَ في عِلْمِ النَّحْوِ. واتَّفَقُوا عَلى أنَّها لا تَقَعُ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ نَحْوَ: ما خَرَجَ زَيْدٌ ولَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَمْرٌو. وطِباقُ الكَلامِ أنْ يُثْبَتَ ما بَعْدَ (لَكِنْ) عَلى سَبِيلِ ما نُفِيَ قَبْلَها، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ [هود: ١٠١] لَكِنْ دَخَلَتْ (كانُوا) هُنا مُشْعِرَةً بِأنَّ ذَلِكَ مِن شَأْنِهِمْ ومِن طَرِيقَتِهِمْ، ولِأنَّها أيْضًا تَكُونُ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَكُونُ المُسْنَدُ لا يَنْقَطِعُ عَنِ المُسْنَدِ إلَيْهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا؛ فَكانَ المَعْنى: ولَكِنْ لَمْ يَزالُوا ظالِمِي أنْفُسِهِمْ بِكَثْرَةِ ما يَصْدُرُ مِنهم مَنِ المُخالَفاتِ. و(يَظْلِمُونَ) صُورَتُهُ صُورَةُ المُضارِعِ، وهو ماضٍ مِن حَيْثُ المَعْنى، وهَذا مِنَ المَواضِعِ الَّتِي يَكُونُ فِيها المُضارِعُ بِمَعْنى (p-٢١٦)الماضِي، ولَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ ولا فِيما وقَفْنا عَلَيْهِ مِن كُتُبِهِ، وذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وقُدِّمَ مَعْمُولُ الخَبَرِ عَلَيْهِ هُنا وهو قَوْلُهُ (أنْفُسَهم) لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ تَوافُقُ رُءُوسِ الآيِ والفَواصِلِ، ولِيَدُلَّ عَلى الِاعْتِناءِ بِالإخْبارِ عَمَّنْ حَلَّ بِهِ الفِعْلُ، ولِأنَّهُ مِن حَيْثُ المَعْنى صارَ العامِلُ في المَفْعُولِ تَوْكِيدًا لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ. فَلَيْسَ ذِكْرُهُ ضَرُورِيًّا، وبِأنَّ لِلتَّوْكِيدِ أنْ يَتَأخَّرَ عَنِ المُؤَكَّدِ، وذَلِكَ أنَّكَ تَقُولُ: ما ضَرَبْتُ زَيْدًا ولَكِنْ ضَرَبْتُ عَمْرًا، فَذِكْرُ ضَرَبْتُ الثّانِيَةِ أفادَتِ التَّأْكِيدَ؛ لِأنَّ (لَكِنْ) مَوْضُوعُها أنْ يَكُونَ ما بَعْدَها مُنافِيًا لِما قَبْلَها، ولِذَلِكَ يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: ما ضَرَبْتُ زَيْدًا ولَكِنْ عَمْرًا، فَلَسْتَ مُضْطَرًّا لِذِكْرِ العامِلِ. فَلَمّا كانَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ في مَعْنى: ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم، كانَ ذِكْرُ العامِلِ في المَفْعُولِ لَيْسَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ، إذْ لَوْ قِيلَ: وما ظَلَمُونا ولَكِنْ أنْفُسَهم، لَكانَ كَلامًا عَرَبِيًّا، ويُكْتَفى بِدَلالَةِ لَكِنْ أنَّ ما بَعْدَها مُنافٍ لِما قَبْلَها، فَلَمّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ المُحَسِّناتُ لِتَقْدِيمِ المَفْعُولِ كانَ تَقْدِيمُهُ هُنا الأفْصَحَ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ مِن ذِكْرِ قَصَصِ بَنِي إسْرائِيلَ فُصُولًا، مِنها: أمْرُ مُوسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ، إيّاهم بِالتَّوْبَةِ إلى اللَّهِ مِن مُقارَفَةِ هَذا الذَّنْبِ العَظِيمِ الَّذِي هو عِبادَةُ العِجْلِ مِن دُونِ اللَّهِ، وأنَّ مِثْلَ هَذا الذَّنْبِ العَظِيمِ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنهُ. والتَّلَطُّفُ بِهِمْ في نِدائِهِمْ بِيا قَوْمِ، وتَنْبِيهُهم عَلى عِلَّةِ الظُّلْمِ الَّذِي كانَ وبالُهُ راجِعًا عَلَيْهِمْ، والإعْلامُ بِأنَّ تَوْبَتَهم بِقَتْلِ أنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الإخْبارُ بِحُصُولِ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وأنَّ ذَلِكَ كانَ بِسابِقِ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ التَّوْبِيخُ لَهم بِسُؤالِهِمْ ما كانَ لا يَنْبَغِي لَهم أنْ يَسْألُوهُ، وهو رُؤْيَةُ اللَّهِ عِيانًا؛ لِأنَّهُ كانَ سُؤالَ تَعَنُّتٍ. ثُمَّ ذِكْرُ ما تَرَتَّبَ عَلى هَذا السُّؤالِ مِن أخْذِ الصّاعِقَةِ إيّاهم. ثُمَّ الإنْعامُ عَلَيْهِمْ بِالبَعْثِ، وهو مِنَ الخَوارِقِ العَظِيمَةِ أنْ يُحْيى الإنْسانُ في الدُّنْيا بَعْدَ أنْ ماتَ. ثُمَّ إسْعافُهم بِما سَألُوهُ، إذْ وقَعُوا في التِّيهِ واحْتاجُوا إلى ما يُزِيلُ ضَرَرَهم وحاجَتَهم مَن لَفْحِ الشَّمْسِ، وتَغْذِيَةِ أجْسادِهِمْ بِما يَصْلُحُ لَها، فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الغَمامَ، وهَذا مِن أعْظَمِ الأشْياءِ وأكْبَرِ المُعْجِزاتِ حَيْثُ يُسَخَّرُ العالَمُ العُلْوِيُّ لِلْعالَمِ السُّفْلِيِّ عَلى حَسَبِ اقْتِراحِهِ، فَكانَ عَلى ما قِيلَ: تُظِلُّهم بِالنَّهارِ وتَذْهَبُ بِاللَّيْلِ حَتّى يُنَوِّرَ عَلَيْهِمُ القَمَرُ. وأنْزَلَ عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى، وهَذا مِن أشْرَفِ المَأْكُولِ، إذْ جَمَعَ بَيْنَ الغِذاءِ والدَّواءِ، بِما في ذَلِكَ مِنَ الحَلاوَةِ الَّتِي في المَنِّ والدَّسَمِ الَّذِي في السَّلْوى، وهُما مُقْمِعا الحَرارَةِ ومُثِيرا القُوَّةِ لِلْبَدَنِ. ثُمَّ الأمْرُ لَهم بِتَناوُلِ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمانٍ ولا مَكانٍ، بَلْ ذَلِكَ أمْرٌ مُطْلَقٌ، ثُمَّ التَّنْصِيصُ أنَّ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّباتِ وبِحَقِّ ما يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّباتِ. ثُمَّ ذِكْرُ أنَّهُ رِزْقٌ مِنهُ لَهم لَمْ يَتْعَبُوا في تَحْصِيلِهِ ولا اسْتِخْراجِهِ ولا تَنْمِيَتِهِ، بَلْ جاءَ رِزْقًا مُهَنَّأً لا تَعَبَ فِيهِ. ثُمَّ إرْدافُ هَذِهِ الجُمَلِ بِالجُمْلَةِ الأخِيرَةِ؛ إذْ هي مُؤَكِّدَةٌ لِافْتِتاحِ هَذِهِ الجُمَلِ السّابِقَةِ؛ لِأنَّهُ افْتَتَحَها بِالإخْبارِ بِأنَّهم ظَلَمُوا أنْفُسَهم، وخَتَمَها بِذَلِكَ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ . فَجاءَتْ هَذِهِ الجُمَلُ في غايَةِ الفَصاحَةِ لَفْظًا والبَلاغَةِ مَعْنًى، إذْ جَمَعَتِ الألْفاظَ المُخْتارَةَ والمَعانِيَ الكَثِيرَةَ مُتَعَلِّقًا أوائِلُ أواخِرِها بِأواخِرِ أوائِلِها، مَعَ لُطْفِ الإخْبارِ عَنْ نَفْسِهِ. فَحَيْثُ ذَكَرَ النِّعَمَ صَرَّحَ بِأنَّ ذَلِكَ مِن عِنْدِهِ، فَقالَ: ثُمَّ بَعَثْناكم، وقالَ: وظَلَّلْنا وأنْزَلْنا، وحَيْثُ ذَكَرَ النِّقَمَ لَمْ يَنْسُبْها إلَيْهِ تَعالى فَقالَ: ﴿فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ﴾ . وسِرُّ ذَلِكَ أنَّهُ مَوْضِعُ تَعْدادٍ لِلنِّعَمِ، فَناسَبَ نِسْبَةَ ذَلِكَ إلَيْهِ لِيُذَكِّرَهم آلاءَهُ، ولَمْ يَنْسُبِ النِّقَمَ إلَيْهِ، وإنْ كانَتْ مِنهُ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ في نِسْبَتِها إلَيْهِ تَخْوِيفًا عَظِيمًا رُبَّما عادَلَ ذَلِكَ الفَرَحَ بِالنِّعَمِ. والمَقْصُودُ: انْبِساطُ نُفُوسِهِمْ بِذِكْرِ ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وإنْ كانَ الكَلامُ قَدِ انْطَوى عَلى تَرْهِيبٍ وتَرْغِيبٍ، فالتَّرْغِيبُ أغْلَبُ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب