الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ ابْتِدَاءٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَوْلَى وَأَمْثَلُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "قَوْلٌ مَعْرُوفٌ" خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّأْنِيسُ وَالتَّرْجِيَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ هِيَ فِي ظاهرها صدقة وفى باطنها لا شي، لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِيهِ أَجْرٌ وَهَذِهِ لَا أَجْرَ فِيهَا. قَالَ ﷺ: "الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَيَتَلَقَّى السَّائِلَ بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيبِ، وَيُقَابِلُهُ بِالطَّلَاقَةِ وَالتَّقْرِيبِ، لِيَكُونَ مَشْكُورًا إِنْ أَعْطَى وَمَعْذُورًا إِنْ مَنَعَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْقَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ بِالْبِشْرِ فَإِنْ عَدِمْتَ شُكْرَهُ لَمْ تَعْدَمْ عُذْرَهُ. وَحَكَى ابْنُ لنكك [[هو ابو حسن محمد بن محمد، فرد البصرة وصدر أدبائها. (عن يتيمة الدهر ج ٢ ص ١١٦).]] أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ فِي حَاجَةٍ لَمْ يَقْضِهَا وَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ ضَجَرٌ فَقَالَ: لَا تَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ ... فَلَخَيْرُ دَهْرِكَ أَنْ تُرَى مَسْئُولًا لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِّ وَجْهَ مُؤَمِّلٍ ... فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولًا تَلْقَى الْكَرِيمَ فَتَسْتَدِلُّ بِبِشْرِهِ ... وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلًا وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ صَائِرٌ ... خَبَرًا فَكُنْ خبرا يروق جميلا وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِذَا سَأَلَ السَّائِلُ فَلَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ رُدُّوا عَلَيْهِ بِوَقَارٍ وَلِينٍ أَوْ بِبَذْلٍ يَسِيرٍ أَوْ رَدٍّ جَمِيلٍ فَقَدْ يَأْتِيكُمْ مَنْ لَيْسَ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُمْ فِيمَا خَوَّلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى". قُلْتُ: دَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَذَلِكَ أَنَّ مَلَكًا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ أَبْرَصَ مَرَّةً وَأَقْرَعَ أُخْرَى وَأَعْمَى أُخْرَى امْتِحَانًا لِلْمَسْئُولِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: رَأَيْتُ عَلِيًّا فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قُلْ لِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: مَا أحسن عطف الأنبياء عَلَى الْفُقَرَاءِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ثِقَةً بِمَوْعُودِ اللَّهِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زِدْنِي، فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ كُنْتَ مَيِّتًا فَصِرْتَ حَيًّا ... وَعَنْ قَلِيلٍ تَصِيرُ مَيْتَا فَاخْرِبْ بِدَارِ الْفَنَاءِ بَيْتًا ... وَابْنِ بِدَارِ الْبَقَاءِ بَيْتَا الثَّانِيَةُ- قوله تعالى: (مَغْفِرَةٌ) الْمَغْفِرَةُ هُنَا: السَّتْرُ لِلْخَلَّةِ وَسُوءِ حَالَةِ الْمُحْتَاجِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ- وَقَدْ سَأَلَ قَوْمًا بِكَلَامٍ فَصِيحٍ- فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ لَهُ: اللَّهُمَّ غَفْرًا [[في هـ: عفوا.]]! سُوءُ الِاكْتِسَابِ يَمْنَعُ مِنَ الِانْتِسَابِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَجَاوُزٌ عَنِ السَّائِلِ إِذَا أَلَحَّ وَأَغْلَظَ وَجَفَى خَيْرٌ مِنَ التَّصَدُّقِ [[في ج: الصدقة.]] عَلَيْهِ مَعَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، قَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا مُشْكِلٌ يُبَيِّنُهُ الْإِعْرَابُ. "مَغْفِرَةٌ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ). وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِعْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً، وَتَقْدِيرُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَفِعْلُ مَغْفِرَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِكَ: تَفَضُّلُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَكْبَرُ [[في ب: "أفضل".]] مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي تَمُنُّ بِهَا، أَيْ غُفْرَانُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صدقتكم هذه التي تمنون بها. الثالثة- قواه تَعَالَى: (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ غِنَاهُ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهَا لِيُثِيبَهُمْ، وَعَنْ حِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ مَنْ مَنَّ وَآذَى بِصَدَقَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب