الباحث القرآني
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی كَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَیۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرًا ٢٤﴾ - نزول الآية، وتفسيرها
٧١٣٣٩- عن عبد الله بن مُغفَّل -من طريق ثابت- قال: كُنّا مع رسول الله ﷺ في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع مِن أغصان تلك الشجرة على ظهْر رسول الله ﷺ، وعلي بن أبي طالب وسُهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله ﷺ لِعَليٍّ: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم». فأخذ سُهيل بيده، قال: ما نعرف الرحمن ولا الرحيم، اكتب في قضيّتنا ما نعرف. قال: «اكتب: باسمك اللهم». وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة. فأمسك سُهيل بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنتَ رسوله، اكتب في قضيّتنا ما نعرف. فقال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله». فبَيْنا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًّا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسولُ الله ﷺ، فأخذ الله بأسماعهم -ولفظ الحاكم: بأبصارهم-، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فقال لهم رسول الله ﷺ: «هل جئتم في عَهد أحد -أو هل جعل لكم أحد أمانًا-؟». فقالوا: لا. فخَلّى سبيلهم؛ فأنزل الله: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾[[أخرجه أحمد ٢٧/٣٥٤-٣٥٥ (١٦٨٠٠)، والنسائي في الكبرى ١٠/٢٦٥ (١١٤٤٧)، والحاكم ٢/٥٠٠ (٣٧١٦) بنحوه، وابن جرير ٢١/٢٨٨-٢٨٩. قال الحاكم: «هذا حديث صحيح، على شرط الشيخين». وقال الهيثمي في المجمع ٦/١٤٥ (١٠١٨٢): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح».]]. (١٣/٥٠١)
٧١٣٤٠- عن سَلَمة بن الأكْوع -من طريق ابنه إياس- قال: قَدمنا الحُدَيبية مع رسول الله ﷺ ونحن أربع عشرة مائة، ثم إنّ المشركين مِن أهل مكة راسلونا في الصُّلح، فلمّا اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيتُ شجرةً، فاضطجعتُ في ظلها، فأتاني أربعةٌ مِن مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله ﷺ، فأبغضتُهم، وتحوّلتُ إلى شجرة أخرى، فعلّقوا سلاحهم، واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قُتِل ابن زنيم. فاخَترَطتُ سيفي، فاشتددتُ على أولئك الأربعة وهم رُقود، فأخذتُ سلاحهم، وجعلتُه في يدي، ثم قلتُ: والذي كرَّم وجه محمد، لا يرفع أحدٌ منكم رأسَه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه. ثم جئتُ بهم أسوقهم إلى رسول الله ﷺ، وجاء عمّي عامر برجل مِن العَبَلات[[العَبَلات –بالتحريك-: اسْمُ أُميَّة الصغرى من قريش. النهاية (عبهل).]] -يقال له: مِكْرَز- من المشركين يقوده، حتى وقفنا بهم على رسول الله ﷺ في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله ﷺ، وقال: «دَعُوهم؛ يكون لهم بدء الفجور وثِناه[[أي: أوله وآخِره. النهاية (بدأ)، (ثنا).]]». فعفا عنهم رسول الله ﷺ، وأنزل الله: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾[[أخرجه مسلم ٣/١٤٣٣-١٤٤٠ (١٨٠٧) مطولًا.]]. (١٣/٥٠٠)
٧١٣٤١- عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة- قال: إنّ قريشًا كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يُطِيفوا بعسكر رسول الله عام الحُدَيبية ليصيبوا مَن أصحابه أحدًا، وأُخِذوا أخْذًا، فأُتي بهم رسول الله ﷺ، فعفا عنهم، وخَلّى سبيلهم، وقد كانوا يرمون عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنَّبل؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ الآية[[أخرجه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام ٢/٣١٤-، وابن جرير ٢١/٢٨٩، والثعلبي ٩/٥٤، عن ابن إسحاق قال: حدّثني من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس به. إسناده ضعيف؛ لإبهام شيخ ابن إسحاق، وجهالة حاله.]]. (ز)
٧١٣٤٢- عن أنس بن مالك -من طريق ثابت- قال: لَمّا كان يوم الحُدَيبية هبط على رسول الله ﷺ وأصحابه ثمانون رجلًا مِن أهل مكة في السّلاح مِن قِبَل جبل التّنعيم، يريدون غِرَّة رسول الله ﷺ، فدعا عليهم، فأُخذوا، فعفا عنهم؛ فنزلت هذه الآية: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾[[أخرجه مسلم (١٨٠٨)، وابن أبي شيبة ١٤/٤٩٢، وأحمد ١٩/٢٥٨، ٢١/٤٦٥ (١٢٢٢٧، ١٤٠٩٠)، وعبد بن حميد (١٢٠٦-منتخب)، وأبو داود (٢٦٨٨)، والترمذي (٣٢٦٤)، والنسائي في الكبرى (١١٥١٠)، وابن جرير ٢١/٢٨٧، والبيهقي في الدلائل ٤/١٤١. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وابن مردويه.]]. (١٣/٤٨٩)
٧١٣٤٣- عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة، ومروان بن الحكم -من طريق عروة بن الزبير- قالا: خرج رسول الله ﷺ زمن الحُدَيبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة قلّد رسول الله ﷺ الهَدْي وأَشْعَرَه، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينًا له مِن خُزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله ﷺ، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبًا من عُسفان أتاه عينُه الخُزاعي، فقال: إنِّي قد تركتُ كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعًا، وهم مقاتلوك، وصادُّوك عن البيت. فقال النبي ﷺ: «أشيروا عَلَيَّ؛ أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا مَوتورين مَحْزونين، وإن نَجَوا تكن عُنقًا قطعها الله، أم ترون أن نؤُمّ البيت؛ فمَن صدَّنا عنه قاتلناه؟». فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، يا رسول الله، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن مَن حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبيُّ ﷺ: «فروحوا إذن». فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيُّ ﷺ: «إنّ خالد بن الوليد بالغميم، في خيلٍ لقريش طليعة[[الطليعة: مقدمة الجيش. فتح الباري ٥/٣٣٥.]]؛ فخذوا ذات اليمين». فواللهِ، ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بقَتَرَة[[قترة الجيش: غبرته. النهاية (قتر).]] الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبيُّ ﷺ، حتى إذا كان بالثَّنيّة التي يهبط عليهم منها برَكت به راحلته، فقال النبيُّ ﷺ: «حلْ حلْ[[حل حل -بفتح المهملة وسكون اللام-: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. فتح الباري ٥/٣٣٥.]]». فألحّتْ[[أي: لَزِمتْ مكانها. النهاية (لحح).]] فقالوا: خَلَأتِ[[خَلأَتِ الناقة: بَرَكَت، أو حَرَنَت من غير علة. وقيل: إذا لم تَبْرَحْ مكانها. لسان العرب (خلأ).]] القَصْواء[[القصواء: لقب ناقة رسول الله ﷺ. النهاية (قصا).]]. فقال النبيُّ ﷺ: «ما خَلَأتِ القصواء، وما ذاك لها بُخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل». ثم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطّةً يُعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتُهم إياها». ثم زجرها، فوثبتْ به، فعدل بهم، حتى نزل بأقصى الحُدَيبية على ثَمَدٍ قليل الماء[[ثمد -بفتح المثلثة والميم-: حفيرة فيها ماء مثمود، أي: قليل، وقوله: قليل الماء. تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول: إن الثمد الماء الكثير. وقيل: الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف. فتح الباري ٥/٣٣٦-٣٣٧.]] إنما يتَبَرّضُه الناس تَبَرُّضًا[[التربض: هو الأخذ قليلًا قليلًا، والبَرْضُ: اليسير من العطاء، وقال صاحب العين: هو جمع الماء بالكفين. فتح الباري ٥/٣٣٧.]]، فلم يلبثه الناس أنْ نَزحوه، فشُكي إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع سهمًا مِن كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. قال: فواللهِ، ما زال يجيش لهم بالرِّيّ حتى صَدَروا عنه. فبينما هم كذلك إذ جاء بديلُ بن ورقاء الخُزاعيّ في نَفرٍ من قومه مِن خُزاعة، وكانوا عَيْبَة نُصْحِ[[العيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها، أي: أنهم موضع النصح له والأمانة على سره. فتح الباري ٥/٣٣٧.]] رسول الله ﷺ مِن أهل تِهامة، فقال: إني تركتُ كعب بن لؤيّ، وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد[[الأعداد: جمع عِدّ، وهو الماء الذي لا انقطاع له. فتح الباري ٥/٣٣٨.]] مياه الحُدَيبية، معهم العُوذُ المطافيل[[العوذ -بضم المهملة وسكون الواو-: جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها. فتح الباري ٥/٣٨٨.]]، وهم مُقاتلوك وصادُّوك عن البيت. فقال رسول الله ﷺ: «إنّا لم نجئ لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشًا قد نَهِكَتهم الحرب، وأضَرّتْ بهم، فإن شاءوا مادَدْتُهم مُدّة ويُخَلُّوا بيني وبين الناس، فإنْ أظْهر فإن شاءوا أن يَدْخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا[[أي: استراحوا وقووا. فتح الباري ٥/٣٣٨.]]، وإنْ هُم أبَوا -فوالذي نفسي بيده- لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالِفَتي[[السالفة: صفحة العنق، وكني بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه. فتح الباري ٥/٣٣٨.]]، أو ليُنفِذَنّ الله أمره». فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلَق حتى أتى قريشًا، فقال: إنّا قد جئناكم مِن عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولًا، فإن شئتم نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تُحدّثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هاتِ ما سمعتَه يقول. قال: سمعتُه يقول كذا وكذا. فحدَّثهم بما قال رسول الله ﷺ، فقام عُروة بن مسعود الثَّقَفيّ، فقال: أيْ قومِ، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: أوَلستُ بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّي استَنفرتُ أهلَ عكاظ، فلمّا بلَّحُوا[[بلحوا: امتنعوا. فتح الباري ٥/٣٣٩.]] عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإنّ هذا قد عرض عليكم خُطّة رُشْدٍ؛ فاقبلوها، ودَعُوني آتِه. قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يُكلّم النَّبِيّ ﷺ، فقال له النَّبِيّ ﷺ نحوًا مِن قوله لبُدَيل، فقال عُروة عند ذلك: أي محمد، أرأيتَ إن استأْصلْتَ قومك، هل سمعتَ أحدًا مِن العرب اجتاح أهلَه قبلك؟! وإن تكن الأخرى -فواللهِ- إني لأرى وجوهًا وأرى أشْوابًا[[الأشواب: الأخلاط من أنواع شتى. فتح الباري ٥/٣٤٠.]] من الناس خَليقًا أن يَفِرُّوا ويَدَعُوك. فقال له أبو بكر: امْصُص بَظَر[[البظر: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. فتح الباري ٥/٣٤٠.]] اللّات، أنحن نَفِرّ عنه ونَدَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يدٌ كانت لكَ عندي لم أجْزِك بها لأجبْتُك. قال: وجعل يُكلّم النبيَّ ﷺ، فكُلّما كَلّمه أخذ بلحيته، والمُغيرة بن شُعبة قائم على رأس النبيّ ﷺ ومعه السيف وعليه المِغْفَر، فكُلّما أهوى عروةُ بيده إلى لحية النبيّ ﷺ ضَرب المُغيرة يده بنَعل السيف، وقال: أخِّر يدك عن لحية رسول الله ﷺ. فرفع عُروة رأسه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغيرة بن شُعبة. فقال: أي غُدَر، ألستُ أسعى في غَدْرَتك؟! وكان المُغيرة صَحِب قومًا في الجاهلية، فقتَلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيُّ ﷺ: «أمّا الإسلام فأقبل، وأمّا المال فلستُ منه في شيء». ثم إنّ عُروة جعل يَرمُق أصحاب النَّبِيّ ﷺ بعينيه. فقال: فواللهِ، ما تنخَّم رسول الله ﷺ نُخامة إلا وقعتْ في كفّ رجل منهم، فدَلَك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمْره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضُوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النّظر تعظيمًا له. فرجع عُروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، واللهِ، لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قَيْصر وكِسْرى والنَّجاشي، واللهِ، إن رأيتُ مَلِكًا قطّ يُعظِّمه أصحابه ما يُعظّم أصحابُ محمدٍ محمدًا، واللهِ، إن يَتنَخّم نُخامة إلا وقعتْ في كفّ رجل منهم، فدَلَك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضُوئه، وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النَّظر تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خُطّة رُشْدٍ، فاقبلوها. فقال رجل مِن بني كنانة: دعوني آتِه. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النَّبِيّ ﷺ وأصحابه قال رسول الله ﷺ: «هذا فلان، وهو من قوم يُعظِّمون البُدْن، فابعثوها له». فبُعِثتْ له، واستقبله القوم يُلَبُّون، فلمّا رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيتُ البُدْن قد قُلِّدتْ وأُشْعِرتْ، فما أرى أن يُصدُّوا عن البيت. فقام رجل يُقال له: مِكْرَز بن حفص. فقال: دعوني آتِه. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النَّبِيّ ﷺ: «هذا مِكْرَز، وهو رجل فاجر». فجعل يُكلّم النَّبِيّ ﷺ، فبينما هو يُكلّمه إذ جاء سُهيل بن عمرو، فقال النَّبِيُّ ﷺ: «قد سَهُل لكم مِن أمركم». فجاء سُهَيل، فقال: هاتِ اكتبْ بيننا وبينك كتابًا. فدعا الكاتب، فقال رسول الله ﷺ: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم». قال سُهيل: أما الرحمن، فواللهِ، ما أدري، ما هي؟ ولكن اكتب: باسمك، اللهم؛ كما كنتَ تكتب. فقال المسلمون: واللهِ، ما نكتبها إلا: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النَّبِيُّ ﷺ: «اكتب: باسمك اللهم». ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسول الله». فقال سُهيل: واللهِ، لو كُنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبيُّ ﷺ: «واللهِ، إني لَرسول الله وإن كذَّبتموني، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله». -قال الزُّهريّ: وذلك لقوله: «لا يسألوني خُطّة يُعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتُهم إياها»- فقال النَّبِيّ ﷺ: «على أن تُخَلُّوا بيننا وبين البيت، فنطوف به». قال سُهيل: واللهِ، لا تتحدث العرب أنّا أُخِذنا ضُغْطة[[ضُغطة: أي: قهرًا. فتح الباري ٥/٣٤٣.]]، ولكن لك مِن العام المقبل. فكتب، فقال سُهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل، وإنْ كان على دينك، إلا رددّته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سُهيل بن عمرو يَرْسُفُ[[يرسف: يمشي مشيًا بطيئًا بسبب القيد. فتح الباري ٥/٣٤٤.]] في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سُهيل: هذا -يا محمد- أول مَن أقاضيك عليه أن تَرُدّ إلَيَّ. فقال النَّبِيّ ﷺ: «إنّا لم نقضِ الكتاب بعد». قال: فواللهِ، لا أصالحك على شيء أبدًا. قال النَّبِيّ ﷺ: «فأَجِزْه لي». قال: ما أنا بمجيزه. قال: «بلى، فافعل». قال: ما أنا بفاعل. فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلمًا؟! ألا ترون ما لقيتُ في الله؟! وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في الله، فقال عمر بن الخطاب: واللهِ، ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذ، فأتيتُ النَّبِيَّ ﷺ، فقلت: ألستَ نبي الله حقًّا؟ قال: «بلى». فقلتُ: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى». قلت: فلِمَ نُعطي الدَّنيّة في ديننا إذن؟ قال: «إني رسول الله، ولستُ أعْصِيه، وهو ناصري». قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، أفأخبرتُك أنك تأتيه العام؟». قلتُ: لا. قال: «فإنك آتيه، ومُطوِّف به». فأتيتُ أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلتُ: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلتُ: فلِمَ نعطي الدَّنِيّة في ديننا إذن؟! قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربَّه، وهو ناصره، فاستمسك بغَرْزه تفُز حتى تموت، فواللهِ، إنّه لعلى الحق. قلتُ: أوليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبَرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه، ومُطوِّف به. قال عمر: فعملتُ لذلك أعمالًا، فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «قوموا، فانحروا، ثم احلِقوا». فواللهِ، ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقُم منهم أحد قام فدخل على أُمّ سَلَمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أُمّ سَلَمة: يا نبي الله، أتحبّ ذلك؟ قال: «نعم». قالت: فاخرج، ثم لا تُكلّم أحدًا منهم حتى تَنحر بُدنك، وتدعو حالِقك فيحلِقك. فقام النبيُّ ﷺ، فخرج، فلم يُكلّم أحدًا منهم كلمة حتى فعل ذلك؛ نَحر بُدنه، ودعا بحالِقه فحلَقه، فلمّا رأَوا ذلك قاموا فنَحَروا، وجعل بعضهم يحلِق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتُل بعضًا غمًّا، ثم جاءه نسوة مؤمنات؛ فأنزل الله: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ﴾ حتى بلغ: ﴿بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾ [الممتحنة:١٠]، فطلَّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشِّرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أُميّة، ثم رجع النَّبِيّ ﷺ إلى المدينة، فجاءه أبو بَصير -رجل من قريش- وهو مُسلم، فأَرسلوا في طَلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلتَه لنا! فدفعه النَّبِيّ ﷺ إلى الرّجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحُلَيفة، فنزلوا يأكلون مِن تمْرٍ لهم، فقال أبو بَصير لأحد الرّجلين: واللهِ، إنِّي لأرى سيفك هذا -يا فلان- جيِّدًا. فاستلّه الآخر، وقال: أجَلْ، واللهِ، إنّه لَجَيِّد، لقد جَرَّبتُ به وجَرَّبتُ. فقال له أبو بَصير: أرِني أنظر إليه. فأمْكَنه منه، فضربه حتى بَرَدَ[[برد: خمدت حواسه، وهي كناية عن الموت؛ لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد: السكون. فتح الباري ٥/٣٤٩.]]، وفَرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدُو، فقال رسول الله ﷺ حين رآه: «لقد رأى هذا ذُعرًا». فلما انتهى إلى النَّبِيّ ﷺ قال: قد قُتل -واللهِ- صاحبي، وإنِّي لمقتول. فجاء أبو بَصير، فقال: يا نبي الله، قد أوفى الله بذِمّتك، قد رَدَدتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. فقال النَّبِيُّ ﷺ: «ويْلُ أُمِّهِ[[ويلُ أمِّه: كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم. فتح الباري ٥/٣٥٠.]]، مِسْعَر حربٍ لو كان له أحد!». فلمّا سمع ذلك عرف أنه سيردّه إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر[[سيف البحر: ساحله. فتح الباري ٥/٣٥٠.]]. قال: وينفَلِتُ منهم أبو جندل، فلحِق بأبي بصير، فجعل لا يخرج رجلٌ مِن قريش رجل قد أسلم إلا لحِق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، قال: فواللهِ، ما يسمعون بِعِيرٍ لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلتْ قريش إلى النبِيّ ﷺ تُناشده اللهَ والرَّحِم لَما أرسل إليهم، فمَن أتاه منهم فهو آمن. فأرسَل إليهم النَّبِيُّ ﷺ؛ فأنزل الله: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ حتى بلغ: ﴿حَمِيَّةَ الجاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح:٢٤-٢٦]، وكانت حَمِيّتهم أنهم لم يُقِرّوا أنّه نبيُّ الله، ولم يقروا بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، وحالوا بينه وبين البيت[[أخرجه البخاري ٣/١٩٣-١٩٧ (٢٧٣١، ٢٧٣٢)، ٥/١٢٦-١٢٧ (٤١٧٨-٤١٨٢)، وابن جرير ٢١/٢٩٦-٣٠٤. وأورده الثعلبي ٩/٥٥-٥٦.]]. (١٣/٤٩٠)
٧١٣٤٤- عن ابن أبْزى -من طريق جعفر- قال: لَمّا خرج النَّبِيّ ﷺ بالهَدْي، وانتهى إلى ذي الحُلَيفة؛ قال له عمر: يا نبي الله، تدخل على قومٍ لك حربٌ بغير سلاح ولا كُراع! فبعث إلى المدينة، فلم يَدَعْ فيها سلاحًا ولا كُراعًا إلا حَمَله، فلمّا دنا من مكة منعُوه أن يدخُل، فسار حتى أتى مِنًى، فنزل بمِنًى، فأتاه عينُه أنّ عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد: «يا خالد، هذا ابنُ عمك قد أتاك في الخيل». فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله -فيومئذ سُمّي: سيف الله-، يا رسول الله، ارم بي أين شئت. فبعثه على خيلٍ، فلقيه عكرمة في الشِّعب، فهَزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية، فهَزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة، فهَزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ الآية. قال: فكفّ الله النَّبِيّ عنهم من بعد أنْ أظْفره عليهم؛ لبقايا من المسلمين كانوا بَقُوا فيها؛ كراهية أن تَطأهم الخيل[[أخرجه ابن جرير ٢١/٢٩١، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير ٧/٣٢٤-. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.]]٦٠٦٦. (١٣/٥٠٢)
٧١٣٤٥- عن محمد بن السّائِب الكلبي، مثله[[تفسير الثعلبي ٩/٥٤.]]. (ز)
٧١٣٤٦- عن عكرمة مولى ابن عباس -من طريق محمد بن إسحاق-: أنّ قريشًا كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يُطِيفوا بعسكر رسول الله ﷺ؛ ليصيبوا لهم مِن أصحابه أحَدًا، فأُخِذوا أخْذًا، فأُتي بهم رسول الله ﷺ، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا رَموا في عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنّبل. قال ابن حميد: قال سَلَمة: قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ الآية[[أخرجه ابن جرير ٢١/٢٨٩.]]. (ز)
٧١٣٤٧- عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾، قال: بطن مكة: الحُدَيبية. ذُكر لنا: أنّ رجلًا مِن أصحاب رسول الله ﷺ يُقال له: زنيم، اطّلع الثّنِيّة زمان الحُدَيبية، فرماه المشركون، فقتلوه، فبعث رسول الله ﷺ خيلًا، فأتَوا باثني عشر فارسًا، فقال لهم رسول الله ﷺ: «هل لكم عهدٌ أو ذِمَّة؟». قالوا: لا. فأرسلهم؛ فأنزل الله في ذلك: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ الآية[[أخرجه ابن جرير ٢١/٢٩٠-٢٩١، وعبد بن حميد -كما في الإصابة ٢/٥٧٠-.]]. (١٣/٤٩٠)
٧١٣٤٨- قال محمد بن السّائِب الكلبي: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ كان هذا يوم الحُدَيبية؛ فإنّ المشركين مِن أهل مكة كانوا قاتلوا رسول الله ﷺ، وكان شيءٌ مِن رَمْيِ نَبْلٍ وحجارة بين الفريقين، ثم هزم الله المشركين وهم ببطن مكة، فهُزموا حتى دخلوا مكة، ثم كفّ الله بعضهم عن بعض[[ذكره يحيى بن سلام -كما في تفسير ابن أبي زمنين ٤/٢٥٥-.]]. (ز)
٧١٣٤٩- قال مقاتل بن سليمان: ثم قال: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ يعني: كفار مكة يوم الحُدَيبية ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ يوم الحُدَيبية، يعني: ببطن أرض مكة كلّها، والحرم كله مكة ﴿مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ وقد كانوا خرجوا يقاتلون النبيَّ ﷺ، فهزمهم النبيُّ ﷺ بالطّعن والنّبل حتى أدخلهم بيوت مكة، ﴿وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾[[تفسير مقاتل بن سليمان ٤/٥٤.]]. (ز)
٧١٣٥٠- عن محمد بن إسحاق -من طريق وهب بن جرير، عن أبيه- قال: قوله: ﴿من بعد أن أظفركم عليهم﴾ كان رسول الله ﷺ ظَفر بهم وتجاوز عنهم، وكانوا أربعين رجلًا مِن قريش خرجوا يتجسّسون الأخبار، ورسول الله ﷺ بالحُدَيبية، فأُخِذوا، فأُتي بهم، فتجاوزوا عنهم[[أخرجه إسحاق البستي ص٣٧٤.]]. (ز)
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی كَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَیۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرًا ٢٤﴾ - آثار متعلقة بالآية
٧١٣٥١- عن عبد الله بن عباس -من طريق سماك- قال: كاتِبُ الكتاب يوم الحُدَيبية علي بن أبي طالب[[أخرجه عبد الرزاق (٩٧٢١).]]. (١٣/٤٩٩)
٧١٣٥٢- عن المقداد بن الأسود -من طريق قتادة بن دعامة- قال يوم الحُدَيبية -لما حال المشركون بين النبي ﷺ وبين البيت- قال: واللهِ، يا رسول الله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ [المائدة:٢٤]، ولكن نقول: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون[[أخرجه عبد الرزاق ٢/٢٢٧.]]. (ز)
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.