الباحث القرآني

ولَمّا تَقَرَّرَ أنَّ الكُفّارَ مَغْلُوبُونَ وإنْ قاتَلُوا، وكانَ ذَلِكَ مِن خَوارِقِ العاداتِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ دائِمًا وقِلَّةِ المُؤْمِنِينَ حَتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ مَوْقِعًا لِلْعِلْمِ القَطْعِيِّ بِأنَّهُ ما دَبَّرَهُ إلّا الواحِدُ القَهّارُ القادِرُ المُخْتارُ، عَطَفَ عَلَيْهِ عَجَبًا آخَرَ؛ وهو عَدَمُ تَغَيُّرِ أهْلِ مَكَّةَ في هَذِهِ العُمْرَةِ لِلْقِتالِ بَعْدَ تَعاهُدِهِمْ وتَعاقُدِهِمْ عَلَيْهِ مَعَ ما لَهم مِن قُوَّةِ العَزائِمِ وشِدَّةِ الشَّكائِمِ، فَقالَ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: هو الَّذِي سَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ العامَّةَ: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ﴾ أيْ: وحْدَهُ مِن غَيْرِ مُعِينٍ لَهُ عَلى ذَلِكَ ﴿أيْدِيَهُمْ﴾ أيِ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ مَكَّةَ وغَيْرِهِمْ، فَإنَّ الكُلَّ شَرْعٌ واحِدٌ ﴿عَنْكم وأيْدِيَكُمْ﴾ أيُّها المُؤْمِنُونَ ﴿عَنْهُمْ﴾ ولَمّا كانَ الكُفّارُ لَوْ بَسَطُوا أيْدِيَهم مَعَ ما حَتَّمَهُ اللَّهُ وسَنَّهُ مِن تَوْلِيَةِ الكُفّارِ دَخَلُوا مَكَّةَ قالَ: ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ أيْ: كائِنًا كُلٌّ مِنكم ومِنهم في داخِلِ مَكَّةَ هم حالًا وأنْتَ مَآلًا، وعَنِ القَفّالِ أنَّهُ قالَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الحُدَيْبِيَةُ لِأنَّها مِنَ الحَرَمِ. انْتَهى. وعَبَّرَ بِالمِيمِ دُونَ الباءِ كَما في آلِ عِمْرانَ إشارَةً إلى أنَّهُ فَعَلَ هُنا ما اقْتَضاهُ مَدْلُولُ هَذا الِاسْمِ مِنَ الجَمْعِ والنَّقْضِ والتَّنْقِيَةِ، فَسَبَّبَ لَهم أسْبابَ الِاجْتِماعِ والتَّنْقِيَةِ مِنَ الذُّنُوبِ (p-٣٢٣)بِما أشارَتْ إلَيْهِ آيَةُ المَعَرَّةِ حالًا وآياتُ الفَتْحِ مَآلًا، ووَفى بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُها مِنَ الأهْلِ عَلى خِلافِ القِياسِ. ولَمّا كانَ هَذا لَيْسَ مُسْتَغْرِقًا لِجَمِيعِ الزَّمانِ الآتِي، بَلْ لا بُدَّ أنْ يَبْسُطَ أيْدِيَ المُؤْمِنِينَ بِها يَوْمَ الفَتْحِ، أدْخَلَ الجارَّ فَقالَ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ﴾ أيْ: أوْجَدَ فَوْزَكم بِكُلِّ ما طَلَبْتُمْ مِنهم وجَعَلَ لَكُمُ الطَّوْلَ والعِزَّ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وذَلِكَ فِيما رَواهُ أصْحابُ السِّيَرِ قالُوا: ودَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خِراشَ بْنَ أُمَيَّةَ الخُزاعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَعَثَهُ إلى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وحَمَلَهُ عَلى بَعِيرٍ لَهُ فَقالَ لَهُ التَّغَلُّبُ: لِيُبْلِغْ أشْرافَهم عَنْهُ ما جاءَ لَهُ فَعَقَرُوا جَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأرادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ الأحابِيشُ فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ حَتّى أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وبَعَثَتْ قُرَيْشٌ أرْبَعِينَ رَجُلًا مِنهم أوْ خَمْسِينَ وأمَرُوهم أنْ يَطُوفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيُصِيبُوا لَهم مِن أصْحابِهِ أحَدًا فَأخَذُوا أخْذًا فَأتى بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَفا عَنْهم وخَلّى سَبِيلَهُمْ، وقَدْ كانُوا رَمَوْا في عَسْكَرِهِ بِالحِجارَةِ والنَّبْلِ، ثُمَّ ذَكَرُوا إرْسالَهُ ﷺ (p-٣٢٤)لِعُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى مَكَّةَ ثُمَّ إرْسالَ قُرَيْشٍ لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو في الصُّلْحِ، ورَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ «عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: لَمّا اصْطَلَحْنا واخْتَلَطَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أتَيْتُ شَجَرَةً فاضْطَجَعْتُ في أصْلِها، فَأتانِي أرْبَعَةٌ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ في النَّبِيِّ ﷺ فَأبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلْتُ إلى شَجَرَةٍ أُخْرى، وعَلَّقُوا سِلاحَهم واضْطَجَعُوا، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ إذْ نادى مُنادٍ مِن أسْفَلِ الوادِي: يا آلَ المُهاجِرِينَ: قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، فاخْتَرَطْتُ سَيْفِي ثُمَّ شَدَدْتُ عَلى أُولَئِكَ الأرْبَعَةِ وهم رُقُودٌ فَأخَذْتُ سِلاحَهُمْ، فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا في يَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: والَّذِي كَرَّمَ وجْهَ مُحَمَّدٍ ﷺ! لا يَرْفَعُ أحَدٌ مِنكم رَأْسَهُ إلّا [ضَرَبْتُ] الَّذِي فِيهِ عَيْناهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أسُوقُهم إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وجاءَ عَمِّي عامِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجُلٍ مِنَ العَبَلاتِ يُقالُ لَهُ مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى فَرَسٍ مُجَفَّفٍ في سَبْعِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: دَعُوهم يَكُنْ لَهم بَدْءُ الفُجُورِ وثِناهُ، فَعَفا عَنْهم فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (p-٣٢٥)﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهم عَنْكم وأيْدِيَكم عَنْهُمْ﴾ الآيَةَ». انْتَهى. ورَوى مُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ ثَمانِينَ رَجُلًا مِن أهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن قَبْلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وفي رِوايَةِ النَّسائِيِّ: قالُوا: نَأْخُذُ مُحَمَّدًا ﷺ وأصْحابَهُ، فَأخَذَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ سِلْمًا فاسْتَحْياهم فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهم عَنْكُمْ﴾ الآيَةَ. ولَمّا كانَ هَذا ونَحْوَهُ مِن عُنْفِ أهْلِ مَكَّةَ وغِلْظَتِهِمْ وصَلابَتِهِمْ وشِدَّتِهِمْ ورِفْقِ النَّبِيِّ ﷺ ولِينِهِ لَهم مِمّا أحْزَنَ أغْلَبَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم قالَ تَعالى يُسَلِّيهِمْ: ﴿وكانَ اللَّهُ﴾ أيِ: المُحِيطُ بِالجَلالِ والإكْرامِ ”بِما يَعْمَلُونَ“ أيِ: الكُفّارُ - عَلى قِراءَةِ أبِي عَمْرٍو بِالغَيْبِ، وأنْتُمْ - عَلى قِراءَةِ الباقِينَ بِالخِطابِ في ذَلِكَ الوَقْتِ وفِيما بَعْدَهُ كَما كانَ قَبْلَهُ ﴿بَصِيرًا﴾ أيْ: مُحِيطَ العِلْمِ بِبَواطِنِ ذَلِكَ كَما هو مُحِيطٌ بِظَواهِرِهِ فَهو يُجْرِيهِ في هَذِهِ الدّارِ الَّتِي رَبَطَ فِيها المُسَبِّباتِ بِأسْبابِها عَلى أوْثَقِ الأسْبابِ في نَصْرِكم وغَلَبِكم لَهم وقَسْرِكُمْ، وسَتَعْلَمُونَ ما دَبَّرَهُ مِن دُخُولِكم مَكَّةَ المُشَرَّفَةَ آمِنِينَ لا تَخافُونَ في عُمْرَةِ القَضاءِ صُلْحًا ثُمَّ في الفَتْحِ بِجَحْفَلٍ جَرّارٍ قَدْ نِيطَتْ أظْفارُ المَنايا بِأسِنَّةِ رِماحِهِ، وعادَتْ (p-٣٢٦)كُؤُوسُ الحِمامِ طَوْعًا لِبِيضِ صِفاحِهِ، فَيُؤْمِنُ أكْثَرُ أهْلِ مَكَّةَ وغَيْرُهم مِمَّنْ هو الآنَ جاهِدٌ عَلَيْكُمْ، ويَصِيرُونَ أحَبَّ النّاسِ فِيكم يُقَدِّمُونَ أنْفُسَهم في جِهادِ الكُفّارِ دُونَكُمْ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ بِكُمُ البِلادَ، ويُظْهِرُكم - وهو أعْظَمُ المُحامِينَ عَنْكم - عَلى سائِرِ العِبادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب