الباحث القرآني
﴿إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ﴾ - تفسير
٤٢٤٨٥- قال مقاتل بن سليمان: ثم قال سبحانه: ﴿إن أحسنتم﴾ العملَ لله بعد هذه المرَّة ﴿أحسنتم لأنفسكم﴾ فلا تهلكوا، ﴿وإن أسأتم فلها﴾ يعني: وإن عصيتم فعلى أنفسكم، فعادوا إلى المعاصي الثانية، فسلَّط الله عليهم أيضًا انطباخوس بن سيس الرومي ملك أرض نَيْنَوى، فذلك قوله ﷿: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٥٢٢.]]. (ز)
٤٢٤٨٦- قال يحيى بن سلّام: ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾، أي: فلأنفسكم[[تفسير يحيى بن سلام ١/١١٦.]]. (ز)
﴿فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا ٧﴾ - قراءات
٤٢٤٨٧- قال يحيى بن سلّام: ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾، وهي تُقرَأ على وجهين: ليسوء الله وجوهكم، خفيفةً، والوجه الآخر: ﴿ليسوءُوا﴾ مثقلة، يعني: القوم ﴿وجوهكم﴾[[تفسير يحيى بن سلام ١/١١٧. و﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ قراءة العشرة ما عدا ابن عامر، وحمزة، وأبا بكر عن عاصم، فإنهم قرؤوا: ﴿لِيَسُوءَ﴾ بالياء ونصب الهمزة، وما عدا الكسائي، فإنه قرأ: ﴿لِنَسُوءَ﴾ بالنون ونصب الهمزة. انظر: النشر ٢/٣٠٦، والإتحاف ص٣٥٥.]]٣٨٠١. (ز)
﴿فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ﴾ - تفسير
٤٢٤٨٨- عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- في قوله: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾ آخر العقوبتين[[أخرجه ابن جرير ١٤/٤٨٩. وعلقه يحيى بن سلام ١/١١٧. وعزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.]]. (٩/٢٦٣)
٤٢٤٨٩- قال إسماعيل السُّدِّيّ: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾، يعني: الموت الأخير مِن العذاب الذي وعدهم[[علَّقه يحيى بن سلام ١/١١٦.]]. (ز)
٤٢٤٩٠- قال مقاتل بن سليمان: فعادوا إلى المعاصي الثانية، فسلَّط الله عليهم أيضًا انطباخوس بن سيس الرومي ملك أرض نَيْنَوى، فذلك قوله ﷿: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾، يعني: وقت آخر الهلاكَيْن[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٥٢٢.]]. (ز)
٤٢٤٩١- عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -من طريق ابن وهب- في قوله: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾، قال: كانت الآخرةُ أشدَّ من الأولى بكثير، قال: لأنّ الأولى كانت هزيمةً فقط، والآخرة كان التدمير، وأحرق بختنصر التوراةَ حتى لم يترك فيها حرفًا، وخرَّب المسجد[[أخرجه ابن جرير ١٤/٥٠٣.]]. (٩/٢٦٣)
﴿لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ﴾ - تفسير
٤٢٤٩٢- عن قتادة بن دعامة -من طريق معمر- في قوله: ﴿ليسوءوا وجُوهَكُم﴾، قال: ليُقَبِّحوا وجوهكم[[أخرجه ابن جرير ١٤/٤٨٩. وعزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.]]. (٩/٢٦٣)
٤٢٤٩٣- قال مقاتل بن سليمان: ﴿ليسوءوا وجوهكم﴾، يعني: ليقبح وجوهكم، فقتلهم، وسبى ذراريهم، وخرَّب بيت المقدس، وألقى فيه الجيف، وقتل علماءهم، وحرق التوراة، فذلك قوله ﷿: ﴿وليدخلوا المسجد﴾[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٥٢٢.]]. (ز)
﴿وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ﴾ - تفسير
٤٢٤٩٤- عن أبي المعلى، قال: سمعت سعيد بن جبير، قال: بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب. قال: فرد الله لهم الكرة عليهم، كما قال. قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخلوا بيت المقدس، كما قال الله ﷿: ﴿وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾، دخلوه فتبرُّوه، وخرَّبوه، وألقوا فيه ما استطاعوا مِن العذرة والحِيَض والجِيَف والقَذَر، فقال الله: ﴿عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا﴾، فرحمهم، فرد إليهم ملكهم، وخَلَّصَ من كان في أيديهم من ذرية بني إسرائيل، وقال لهم: إن عدتم عدنا. فقال أبو المعلى: ولا أعلم ذلك، إلا من هذا الحديث، ولم يَعِدْهم الرجعة إلى مُلْكِهم[[أخرجه ابن جرير ١٤/٤٨٥-٤٨٦.]]. (ز)
٤٢٤٩٥- عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- في قوله: ﴿وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة﴾ قال: كما دخل عدوُّهم قبل ذلك، ﴿ولِيُتَبِرُّوا ما علوا تتبيرًا﴾ قال: فبعث الله عليهم في الآخرة بُختَنَصَّر البابلي المجوسي أبغض خلق الله إليه، فسبى وقتل وخرَّب بيت المقدس، وسامَهم سوء العذاب[[أخرجه يحيى بن سلام ١/١١٧ من طريق سعيد، وابن جرير ١٤/٤٨٩. وعزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.]]. (٩/٢٦٣)
٤٢٤٩٦- قال مقاتل بن سليمان: قوله ﷿: ﴿وليدخلوا المسجد﴾ يعني: بيت المقدس، أنطياخوس بن سيس ومَن معه بيت المقدس، ﴿كما دخلوه أول مرة﴾ يقول: كما دخله بختنصر المجوسي وأصحابه قبل ذلك[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٥٢٢.]]. (ز)
٤٢٤٩٧- قال يحيى بن سلّام: ﴿وليدخلوا المسجد﴾، يعني: بيت المقدس ... فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر البابلي المجوسي، فسبى، وقتل، وخرب بيت المقدس، وقذف فيه الجيف والعذرة. يقال: [إنّ] فسادهم الثاني قتل يحيى بن زكرياء، فبعث الله بختنصر عقوبة عليهم بقتلهم يحيى، فقتل منهم سبعين ألفًا[[تفسير يحيى بن سلام ١/١١٧.]]. (ز)
﴿وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا ٧﴾ - تفسير
٤٢٤٩٨- عن عبد الله بن عباس -من طريق ابن جريج- في قوله: ﴿تتبيرًا﴾، قال: تدميرًا[[أخرجه ابن جرير ١٤/٥٠٥.]]. (٩/٢٦٤)
٤٢٤٩٩- عن سعيد بن جبير، قال: تبَّره وتبَّرنا، بالنبطية[[عزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.]]. (٩/٢٦٤)
٤٢٥٠٠- عن قتادة بن دعامة -من طريق معمر- في قوله: ﴿ولِيُتَبِرُّوا ما علوا تتبيرًا﴾، قال: يُدَمِّروا ما عَلَوْا تدميرًا[[أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ١/٣٧٣، وابن جرير ١٤/٤٨٩، ٥٠٥. وعزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.]]. (٩/٢٦٣)
٤٢٥٠١- قال مقاتل بن سليمان: قال سبحانه: ﴿وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾، يقول ﷿: وليدمروا ما علوا؛ يقول: ما ظهروا عليه تدميرًا، كقوله سبحانه في الفرقان [٣٩]: ﴿وكلا تبرنا تتبيرا﴾، يعني: وكلًّا دمرنا تدميرًا[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٥٢٢.]]٣٨٠٢. (ز)
٤٢٥٠٢- قال يحيى بن سلّام: ﴿وليتبروا ما علوا﴾ أي: غلبوا عليه ﴿تتبيرا﴾ أي: وليفسدوا ما غلبوا عليه فسادًا[[تفسير يحيى بن سلام ١/١١٧.]]. (ز)
﴿وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا ٧﴾ - سياق القصة
٤٢٥٠٣- عن عبد الله بن عباس -من طريق سعيد بن جبير- قال: بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس. قال: فكان فيما نهاهم عنه نكاح ابنة الأخ. قال: وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه، يريد أن يتزوجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك فسألك حاجتك فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا. فلما دخلت عليه سألها حاجتها، فقالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا. فقال: سلي غير هذا. فقالت: ما أسألك إلا هذا. قال: فلما أبت عليه دعا يحيى، ودعا بطست، فذبحه، فبدرت قطرة مِن دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل، فدلته على ذلك الدم. قال: فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يَسْكُن، فقتل سبعين ألفًا منهم من سِنٍّ واحد، فسكن[[أخرجه ابن جرير ١٤/٥٠٣.]]. (ز)
٤٢٥٠٤- عن عبد الله بن الزبير -من طريق عمر بن عبد الله بن عروة- أنّه قال وهو يُحَدِّث عن قتل يحيى بن زكريا: ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بامرأة تبغي من بغايا بني إسرائيل؛ كان فيهم ملك، وكان يحيى بن زكريا تحت يدي ذلك الملك، فهمَّت ابنةُ ذلك الملك بأبيها، فقالت: لو أنِّي تزوجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النساء! فقالت له: يا أبتِ، تزوجني. ودعته إلى نفسها، فقال لها: يا بنية، إن يحيى بن زكريا لا يُحِلُّ لنا هذا. فقالت: مَن لي بيحيى بن زكريا! ضَيَّق عليَّ، وحال بيني وبين أن أتزوج بأبي، فأغلب على ملكه ودنياه دون النساء. قال: فأمرت اللعابين ومحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا، فقالت: ادخلوا عليه فألعبوا، حتى إذا فرغتم فإنّه سيحكمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا. ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الملك: رواد، واسم ابنته: البغي، وكان الملك فيهم إذا حدث فكذب، أو وعد فأخلف؛ خُلِع فاستبدل به غيره، فلما ألعبوه وكثر عجبه منهم قال: سلوني أعطِكم. قالوا: دم يحيى بن زكريا أعطِناه. قال: ويحكم، سلوني غير هذا. فقالوا: لا نسألك غيره. فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يستحل بذلك خلعه، فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو جالس في محرابه يصلي، فذبحوه في طست، ثم حزوا رأسه، فاحتمله رجل في يده والدم يحمل في الطست معه، قال: فطلع برأسه يحمله حتى وقف به على الملك، ورأسه يقول في يدي الذي يحمله: لا يحل لك. فقال رجل من بني إسرائيل: أيها الملك، لو أنك وهبت لي هذا الدم. فقال: وما تصنع به؟ قال: أطهر منه الأرض، فإنه كان قد ضيقها علينا. فقال: أعطوه إياه، فأخذه فجعله في قلة، ثم عمد به إلى بيت في المذبح، فوضع القلة فيه، ثم أغلق عليه، ففار في القلة حتى خرج منها مِن تحت الباب مِن البيت الذي هو فيه، فلما رأى الرجل ذلك فَظِع[[فَظِعْت بالأمر: إذا هالَك وغلَبك فلم تَثِق بأَن تُطيقه. لسان العرب (فظع).]] به، فأخرجه، فجعله في فلاة من الأرض، فجعل يفور، وعظمت فيهم الأحداث. ومنهم من يقول: أقر مكانه في القربان ولم يحول[[أخرجه ابن جرير ١٤/٤٩٨.]]. (ز)
٤٢٥٠٥- عن وهب بن مُنَبِّه -من طريق ابن إسحاق، عمن لا يتهم واللفظ له، ومن طريق عبد الصمد بن معقل بنحوه- أنه كان يقول: قال الله -تبارك وتعالى- لإرميا[[أخرج ابن جرير ١٤/٤٩٩ عن ابن إسحاق أنه قال: فيما بلغني، استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك -يعني: بعد قتلهم شعياء- رجلًا منهم يقال له: ياشة بن آموص، فبعث الله الخضر نبيًّا. قال: واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل: إرميا بن حلفيا، وكان من سبط هارون بن عمران.]] حين بعثه نبيًّا إلى بني إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نَبَّيْتُك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيم اجتبيتك. فبعث الله إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله. قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله تعالى صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله تعالى إلى إرمياء: أن ائت قومك من بني إسرائيل، واقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم، وعرفهم أحداثهم. فقال إرمياء: إني ضعيف إن لم تُقَوِّني، عاجز إن لم تُبَلِّغْني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تُعِزَّني. قال الله -تبارك وتعالى-: أوَلَم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت، فتطيعني، وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السماوات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار، ففهمت قولي، وأمرتها، فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تَعدّى حدِّي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدِّي ألبستها مذلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري؟! إني معك، ولن يصل إليك شيء معي، [وإني] بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي؛ لتبلغهم رسالاتي، ولتستحق بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وإن تقصر عنها فلك مثل وِزْر من تركب في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، انطلق إلى قومك فقُل: إنّ الله ذكر لكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم، يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي، وهل علموا أن أحدًا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي، فإن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهلكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خَوَلًا ليعبدوهم دوني، وتحكَّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغرُّوهم مني. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، فادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جراءة عليَّ وغرة وفرية عليَّ وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلو مكاني، وعظم شأني، فهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي، وهل ينبغي لي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني؟! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزينون بعمارتها لغيري؛ لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل؛ وأما أولاد الأنبياء، فمكثرون مقهورون مغيرون، يخوضون مع الخائضين، ويتمنون عليَّ مثل نصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطْوَلتُ لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت في كل ذلك، أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني، فحتى متى هذا؟! أبِي يَتَمَرَّسون[[تَمَرَّس الرجل بدينه: إذا لَعب به وتَعبَّث به. تاج العروس (مرس).]]؟! أم إيّاي يُخادعون؟! وإني أحلف بعزتي، لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنتزع مِن صدره الرأفة والرحمة والبيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وأن حملةَ فُرسانه كريرُ[[الكَرِيرُ: صوت مثل صوت المختنق أو المجهود. لسان العرب (كرر).]] العِقْبان[[العِقْبانُ: جمع عُقاب، وهو الراية والحرب والعَلم الضخم. لسان العرب (غوي)، (عقب).]]. ثم أوحى الله إلى إرميا: إني مهلك بني إسرائيل بيافث. ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح. فلما سمع إرميا وحيَ ربه صاح وبكى وشقَّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، وقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقيت التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشر عليَّ، لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك. فلما سمع الله تضرع الخضِر وبكاءه وكيف يقول ناداه: يا إرميا، أشق ذلك عليك ما أوحيت لك؟ قال: نعم، يا رب، أهلِكْني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به. فقال الله: وعزتي العزيزة، لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك. ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ريي بهلاك بني إسرائيل أبدًا. ثم أتى ملك بني إسرائيل، فأخبره ما أوحى الله إليَّ، فاستبشر وفرح، وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديًا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلَّ الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم: يا يني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يُبعَث عليكم قومٌ لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه، وإنّ الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نبوزرادان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالخ بن عابر بن نمرود -صاحب إبراهيم الذي حاجَّه في ربِّه- أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جدُّه سنحاريب أراد أن يفعل، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فَصَل سائرًا أتى ملك بني إسرائيل الخبرَ أنّ بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه، فقال: يا إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك؟ فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثِق. فلما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم؛ بعث الله ملَكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا، فاستفته. وأمره بالذي يستفتى فيه، فأقبل الملك إلى إرمياء، وكان قد تمثل له رجلًا من بني إسرائيل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري. فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنًا، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتني فيهم، يا نبي الله. فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصِل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير. وانصرف عنه، فمكث أيامًا، ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي. فقال له نبي الله: أوما طهُرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس لأهل رَحِمه إلا قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك. فقال النبي: ارجع إلى أهلك، فأَحْسِن إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه. فقام الملَك من عنده، فلبث أيامًا، وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشقَّ ذلك على ملِك بني إسرائيل، فدعا إرميا، فقال: يا نبيَّ الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. ثم إن الملَك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك، ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: مَن أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين. فقال له النبي: أوَلَم يَأْنِ لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟! فقال له الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن ما بهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله، ولا يحبه الله ﷿. فقال له نبي الله: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله، رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتد عليهم غضبي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق، إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم. فقال إرميا: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا على حقٍّ وصواب فأبْقِهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلِكْهُم. فما خرجت الكلمة من فِي إرميا حتى أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي إرميا، إنهم لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولَنا، فاستيقن النبيُّ ﷺ أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه. ثم إن إرميا طار حتى خالط الوحش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا، ثم يقدفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا مَن كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرئيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم؛ قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل. ففعل، وأصاب كل رجل منهم أربعة أغلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشائيل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفًا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب ومَن بقي مِن بني إسرائيل، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثًا أقر بالشام، وثلثًا سبى، وثلثًا قتل، وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، فكانت هذه الوقعة الاولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم. فلما ولى بختنصر عنهم راجعًا إلى بابل بمَن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل أرميا على حمار له معه عصير، ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام، ثم بعثه، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانيال، وهلاك بختنصر، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلى الشام، وعمارة بيت المقدس، وأمر عزير وكيف رد الله عليه التوراة[[أخرجه ابن جرير ١٤/٤٩٠.]]. (ز)
٤٢٥٠٦- عن قتادة بن دعامة -من طريق أبي هلال الراسبي-: أنّ مريم لَمّا حملت قالوا: ضيع الله بنت سيدنا -يعنون: زكرياء- حتى زَنَت. فلما طلبوا زكرياء ليقتلوه انطلق هاربًا، فعرضت له شجرة، فقال: افرجي لي حتى أختبئ فيك، ففرجت له، فدخل فيها، وانضمَّت عليه، وبقي بعض هدب ثيابه خارجًا، فطلبوه، فلم يقدروا عليه، فجاء إبليس، فقال: هو في هذه الشجرة، وهذا هدب ثوبه. فجيء بالمنشار، فوضع عليه حتى قتل. وإن يحيى بن زكريا كان في زمان لم يكن للرجل منهم أن يتزوج امرأة أخيه بعده، وإذا كذب متعمدًا لم يُوَلَّ الملك، فمات الملك وولي أخوه، فأراد الملك أن يتزوج امرأة أخيه الملك الذي مات، فسألهم، فرَخَّصوا له، فسأل يحيى بن زكريا، فأبى أن يُرَخِّص له، فحقدت عليه امرأة أخيه، وجاءت بابنة أخي الملك الأول إليه، فقال لها: سليني اليوم حكمك. فقالت: حتى أنطلق إلى أمي. فلقيت أمها، فقالت: قولي له: إن أردت أن تفي لنا بشيء فأعطني رأس يحيى بن زكرياء. فقال: قولي لها: غير هذا خير لك منه. قال: فأبَتْ، وتَكَرَّه أن يخلفها فلا يُوَلّى الملك، فدفع إليها يحيى بن زكرياء، فلما وضعت الشفرة على حلقه قال: قولي: بسم الله، هذا ما بايع عليه يحيى بن زكرياء عيسى ابن مريم على ألا يزني، ولا يسرق، ولا يلبس إيمانه بسوء. فلما أمَرَّتِ الشفرةَ على أوداجه فذبحته ناداها مُنادٍ من فوقها، فقال: يا ربَّة البيت الخاطئة الغاوية. قالت: إنها كذلك، فما تريد منها؟ قال: لتبشر، فإنها أول ما تدخل النار. قال: وخسف بابنتها، فجاءوا بالمعاول، فجعلوا يحفرون عنها، وتدخل في الأرض حتى ذهبت[[أخرجه يحيى بن سلام ١/١١٧.]]. (ز)
٤٢٥٠٧- عن محمد بن إسحاق، عن أبي عتاب -رجل مِن تَغْلِب كان نصرانيًا عُمُرًا مِن دهره، ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن، وفقِه في الدين، وكان فيما ذكِر أنه كان نصرانيًّا أربعين سنة، ثم عُمِّر في الإسلام أربعين سنة- قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيًّا بعثه الله إليهم، فقال لهم: يا بني إسرائيل، إن الله يقول لكم: إني قد سبَبتُ[[قال محققو ابن جرير (ط: التركي): في نسخة:«سلبت»، وفي أخرى: «شيت». ولست أدري وجه الصواب في كل ذلك، فقد يكون من السبِّ، وهو اللعن، كما أثبتناه من بقية النسخ، وقد يكون من الشين (شينت)، وهو العيب، ويراد به هنا التبغيض.]] أصواتكم، وأبغضتكم بكثرة أحداثِكم. فَهَمُّوا به ليقتلوه، فقال الله -تبارك وتعالى- له: ائتهم، واضرب لي ولهم مثلًا، فقل لهم: إنّ الله -تبارك وتعالى- يقول لكم: اقضُوا بيني وبين كَرْمِي، ألم اختر له البلاد، وطيَّبتُ له المَدَرَةَ، وحظَرتُه بالسِّياج، وعرَّشتُه السَّويق والشوك والسِّياج والعَوْسَجَ[[العَوْسَجُ: شجر من شجر الشوك، وله ثمر أحمر مُدَوَّر كأنه خرز العَقيق. لسان العرب (عسج).]]، وأحطته بردائي، ومنعته من العالم وفضَّلتُه؟ فلقِيني بالشوك والجذوع، وكل شجرة لا تؤكل، ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيَّبتُ المَدَرَةَ، ولا حظَرتُه بالسَّياج، ولا عرَّشتُه السويق، ولا حُطْتُه بردائي، ولا منعته من العالم، فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي، ثم استقبلتموني بكل ما أكره من معصيتي وخلاف أمري، لِمَهْ؟! إنّ الحمار ليعرف مِزودَه، لِمَهْ؟! إنّ البقرة لتعرف سيدها. حلفت بعزتي العزيزة، وبذراعي الشديد، لآخذن ردائي، ولأمرُجَنَّ الحائط، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم. قال: فوثبوا على نبيهم، فقتلوه، فضرب الله عليهم الذلَّ، ونزع منهم المُلك، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم ذلٌّ وصَغارٌ وجزيةٌ يؤدُّونها، والملك في غيرهم من الناس، فلن يزالوا كذلك أبدًا، ما كانوا على ما هم عليه[[أخرجه ابن جرير ١٤/٥٠٢.]]. (ز)
٤٢٥٠٨- عن محمد بن إسحاق -من طريق سلمة-: فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكريا، وبعض الناس يقول: وقتلوا زكريا؛ ابتعث الله عليهم ملِكًا من ملوك بابل يُقال له: خردوس، فسار إليه بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمَرَ رأسًا من رؤوس جنده يُدعى: نَبُوزَرادان صاحب القتل،، فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي، لئن أنا ظهَرْتُ على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تَسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدًا أقتله. فأمر أن يقتلهم حتى يبلُغ ذلك منهم نَبُوزُرادان، فدخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دمًا يغلي، فسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم الذي يغلي؟ أخبروني خبره، ولا تكتموني شيئًا من أمره. فقالوا: هذا دم قربان كان لنا، كُنّا قرَّبناه فلم يُتقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قرَّبنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتُقُبِّل منا إلا هذا القربان. قال: ما صدقتموني الخبر. قالوا له: لو كان كأول زماننا لقُبِل مِنّا، ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يُقبل منا. فذبح منهم نَبُوزُرادان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحًا من رؤوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبع مائة غلام من غلمانهم، فذبحوا على الدم، فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم، فذبحهم على الدم، فلم يبرد ولم يهدأ، فلما رأى نَبُوزُرادان أنّ الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم، يا بني إسرائيل، اصدقوني، واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما مُلِّكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم، قبل أن لا أترك منكم نافخَ نارٍ أنثى ولا ذكرًا إلا قتلته. فلما رأوا الجهد وشدة القتل صَدَقُوه الخبر، فقالوا له: إنّ هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم، فلم نُصدقه، فقتلناه، فهذا دمه. فقال لهم نَبُوزُرادان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا. قال: الآن صدقتموني، بمثل هذا ينتقم ربُّكم منكم. فلما رأى نَبُوزُرادان أنهم صدقوه خَرَّ ساجدًا، وقال لمن حوله: غلِّقوا أبواب المدينة، وأخرِجوا من كان ههنا من جيش خردوس. وخلا في بني إسرائيل، ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربي وربُّك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قُتل منهم من أجلك، فاهدأْ بإذن الله قبل أن لا أُبقي من قومك أحدًا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نَبُوزُرادان عنهم القتل، وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدقت وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلُح، ولو كان له شريك لم تَستمسك السماوات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلُح، فتبارك وتقدس، وتسبح وتكبر وتعظم، ملك الملوك الذي يملك السماوات السبع، بعلم وحكم وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي ألا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه. فأوحى الله إلى رأس من رؤوس بقية الأنبياء أن نَبُوزرادان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية: حديث الإيمان- وإن نَبُوزرادان قال لبني إسرائيل: إنّ عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه. قالوا له: افعل ما أمرت به. فأمرهم، فحفروا خندقًا، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قبل ذلك، فطُرِحوا على ما قُتِل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أنّ ما كان في الخندق من بني إسرائيل. فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نَبُوزرادان: أن ارفع عنهم، فقد بلغتني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا. ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الآخرة التي أنزل الله ببني إسرائيل. يقول الله -عز ذكره- لنبيه محمد ﷺ: ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين﴾ إلى قوله: ﴿وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا﴾، و«عسى» من الله حق، فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، ثم رد الله لكم الكرة عليهم، وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم، وقَتْلُ رجالهم، وسبي ذراريهم ونسائهم. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وليتبروا ما علوا تتبيرا﴾. ثم عاد الله عليهم، فأكثر عددهم، ونشرهم في بلادهم، ثم بدلوا وأحدثوا الأحداث، واستبدلوا بكتابهم غيره، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، وضيعوا الحدود[[أخرجه ابن جرير ١٤/٤٩٩.]]. (ز)
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.