الباحث القرآني
فَلَمّا ثَبَتَ؛ بِكَوْنِ ما تَوَعَّدَ بِهِ - سُبْحانَهُ - في أوْقاتِهِ كَما أخْبَرَ بِهِ؛ بَطْشُهُ وحِلْمُهُ؛ فَثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ؛ أشارَ إلى أنَّ مِن سَبَبِ إذْلالِهِ لِمَن يُرِيدُ بِهِ الخَيْرَ المَعْصِيَةَ؛ وسَبَبُ إعْزازِهِ الطّاعَةُ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ﴾؛ أيْ: بِفِعْلِ الطّاعَةِ عَلى حَسَبِ الأمْرِ في الكِتابِ الدّاعِي إلى العَدْلِ والإحْسانِ؛ ﴿أحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ﴾؛ فَإنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنِي مَعَكُمْ؛ فَأُكْسِبُكم عِزًّا في الدُّنْيا؛ أوْ في الآخِرَةِ؛ أوْ فِيهِما؛ ﴿وإنْ أسَأْتُمْ﴾؛ أيْ: بِارْتِكابِ المُحَرَّماتِ؛ والإفْسادِ؛ ﴿فَلَها﴾؛ الإساءَةُ؛ وذَكَرَها بِاللّامِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّها أهْلٌ لِزِيادَةِ النَّفْرَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَتَطَيَّرُ مِن نِسْبَتِها إلَيْهِ بِأيِّ عِبارَةٍ كانَتْ؛ فَإذا تَطَيَّرَ مَعَ العِبارَةِ المَحْبُوبَةِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ حالُهُ مَعَ غَيْرِها؟! (p-٣٤١)ولَمّا انْتُهِزَتْ فُرْصَةُ التَّرْغِيبِ في الطّاعَةِ؛ والتَّرْهِيبِ مِنَ المَعْصِيَةِ؛ عَطَفَ الوَعِيدَ الثّانِي بِالفاءِ؛ إشارَةً إلى أنَّهُ بَعْدَ نَصْرِ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى أهْلِ المَرَّةِ الأُولى؛ ولَعَلَّها أيْضًا مُؤْذِنَةٌ بِقُرْبِ مُدَّتِها مِن مُدَّةِ الإدالَةِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿فَإذا جاءَ﴾؛ أيْ: أتى إتْيانًا هو كالمُلْجَإ إلَيْهِ قَسْرًا؛ عَلى خِلافِ ما يُرِيدُهُ الآتِي إلَيْهِ؛ ﴿وعْدُ الآخِرَةِ﴾؛ أيْ: وقْتُهُ؛ فاسْتَأْهَلْتُمُ البَلاءَ لِما أفْسَدْتُمْ؛ وأحْدَثْتُمْ مِنَ البَلايا؛ الَّتِي أعْظَمُها قَتْلُ زَكَرِيّا؛ ويَحْيى - عَلَيْهِما السَّلامُ -؛ والعَزْمُ عَلى قَتْلِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ﴿لِيَسُوءُوا﴾؛ أيْ: بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا؛ لِيَسُوؤُوا ﴿وُجُوهَكُمْ﴾؛ أيْ: بِجَعْلِ آثارِ المَساءَةِ بادِيَةً فِيها؛ وحَذَفَ مُتَعَلِّقَ اللّامِ لِدَلالَةِ الأوَّلِ عَلَيْهِ؛ ﴿ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ﴾؛ أيْ: الأقْصى؛ الَّذِي سُقْناكم إلَيْهِ مِن مِصْرَ؛ في تِلْكَ المُدَدِ الطِّوالِ؛ وأعْطَيْناكم بِلادَهُ بِالتَّدْرِيجِ؛ وجَعَلْناهُ مَحَلَّ أمْنِكُمْ؛ وعِزِّكُمْ؛ ثُمَّ جَعَلْناهُ مَحَلًّا لِإكْرامِ أشْرَفِ خَلْقِنا؛ بِالإسْراءِ بِهِ إلَيْهِ؛ وجَمْعِ أرْواحِ النَّبِيِّينَ كُلِّهِمْ فِيهِ؛ وصَلاتِهِ بِهِمْ ثَمَّ؛ وهَذا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِقُرَيْشٍ؛ بِأنَّهم إنْ لَمْ يَرْجِعُوا أبْدَلَ أمْنَهم في الحَرَمِ خَوْفًا؛ وعِزَّهم ذُلًّا؛ فَأدْخَلَ عَلَيْهِمْ جُنُودًا لا قِبَلَ لَهم بِها؛ وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عامَ الفَتْحِ؛ لَكِنَّهُ فِعْلُ إكْرامٍ؛ لا إهانَةٍ؛ بِبَرَكَةِ هَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ؛ وشُرِّفَ؛ وكُرِّمَ؛ وبُجِّلَ؛ وعُظِّمَ دائِمًا أبَدًا -؛ ﴿كَما دَخَلُوهُ﴾ (p-٣٤٢)أيْ: الأعْداءُ؛ ﴿أوَّلَ مَرَّةٍ﴾؛ بِالسَّيْفِ؛ ويَقْهَرُوا جَمِيعَ جُنُودِكم دُفْعَةً واحِدَةً؛ ﴿ولِيُتَبِّرُوا﴾؛ أيْ: يُهْلِكُوا؛ ويُدَمِّرُوا مَعَ التَّقْطِيعِ؛ والتَّفْرِيقِ؛ ﴿ما عَلَوْا﴾؛ أيْ: عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ؛ وقِيلَ: ”ما“؛ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أيْ: مُدَّةَ عُلُوِّهِمْ؛ فَيَكُونُ ”يُتَبِّرُوا“؛ قاصِرًا؛ فَيَعْظُمُ مَدْلُولُهُ؛ وأكَّدَ الفِعْلَ؛ وحَقَّقَ الوَعْدَ؛ فَقالَ: ﴿تَتْبِيرًا﴾
وقالَ - في التَّوْراةِ؛ إشارَةً إلى هَذِهِ المَرَّةِ الأخِيرَةِ - واللَّهُ أعْلَمُ - بَعْدَ ما مَضى مِنَ الإشارَةِ إلى المَرَّةِ الأُولى سَواءً -: (وإنْ لَمْ تَحْفَظْ؛ وتَعْمَلْ بِجَمِيعِ الوَصايا؛ والسُّنَنِ الَّتِي كَتَبْتُ في هَذا الكِتابِ لِتَتَّقِيَ اللَّهَ رَبَّكَ؛ وتَهابَ اسْمَهُ المَحْمُودَ المَرْهُوبَ؛ يَخُصَّكَ الرَّبُّ بِضَرَباتٍ مُوجِعَةٍ؛ ويَبْتَلِيكَ بِها؛ ويَبْتَلِي نَسْلَكَ مِن بَعْدِكَ؛ ويُنْزِلُ بِكَ جَمِيعَ الضَّرَباتِ الَّتِي أنْزَلَها بِأهْلِ مِصْرَ تَدُومُ عَلَيْكَ؛ وكُلَّ وجَعٍ؛ وكُلَّ ضَرْبَةٍ لَمْ تُكْتَبْ في هَذا الكِتابِ؛ يَبْتَلِيكَ اللَّهُ بِها حَتّى تَهْلِكَ ويَبْقى مِن نَسْلِكَ عَدَدٌ قَلِيلٌ مِن بَعْدِ كَثْرَتِهِمُ الَّتِي كانَتْ قَدْ صارَتْ مِثْلَ نُجُومِ السَّماءِ؛ لِأنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ رَبِّكَ؛ فَيَكُونُ كَما فَرَّحَكُمُ الرَّبُّ؛ وأنْعَمَ عَلَيْكُمْ؛ وكَثَّرَكُمْ؛ يَسْتَأْصِلُكم بِالعِقابِ؛ والنَّكالِ؛ ويُدَمِّرُ عَلَيْكُمْ؛ ويُتْلِفُكُمْ؛ وتُجْلَوْنَ عَنِ الأرْضِ الَّتِي تَدْخُلُونَها لِتَرِثُوها؛ ويُفَرِّقُكُمُ الرَّبُّ بَيْنَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ؛ مِن أقْطارِ السَّماءِ إلى أقْطارِها؛ وتَعْبُدُونَ هُناكَ الآلِهَةَ الأُخْرى الَّتِي (p-٣٤٣)عُمِلَتْ مِنَ الحِجارَةِ؛ والخَشَبِ؛ لَمْ تَعْرِفُوها أنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ؛ ولا تَسْكُنُونَ أيْضًا بَيْنَ تِلْكَ الشُّعُوبِ؛ ولا تَكُونُ راحَةٌ لِأقْدامِكُمْ؛ ولَكِنْ يُصَيِّرُ اللَّهُ قُلُوبُكم فَزِعَةً مُرْتَجِفَةً؛ ويَبْتَلِيكم بِظُلْمَةِ العَيْنِ؛ وسَيَلانِ الأنْفُسِ؛ وتَكُونُ حَياتُكم مُعَلَّقَةً حِيالَكم مِن بَعِيدٍ؛ وتَكُونُونَ فَزِعِينَ اللَّيْلَ والنَّهارَ؛ ولا تُصَدِّقُونَ أنَّكم تَعِيشُونَ؛ بِالغَداةِ تَقُولُونَ: مَتى نُمْسِي؟ وبِالعَشِيِّ تَقُولُونَ: مَتى نُصْبِحُ؟ وذَلِكَ مِن فَزَعِ قُلُوبِكُمْ؛ وخَوْفِكُمْ؛ ومِن ظُلْمَةِ أبْصارِكُمْ؛ وقِلَّةِ حِيلَتِكُمْ؛ ويَرُدُّكُمُ اللَّهُ إلى أرْضِ مِصْرَ في سُفُنٍ؛ عَلى الحالِ الَّذِي قُلْتُ لَكُمْ؛ لا تَعُودُونَ أنْ تَرَوْها أبَدًا؛ وتُباعُونَ هُناكَ عَبِيدًا وإماءً؛ ولا يَكُونُ مَن يَشْتَرِيكُمْ؛ هَذِهِ أقْوالُ العَهْدِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ بِها مُوسى أنْ يُعاهِدَ بَنِي إسْرائِيلَ في أرْضِ مُوآبَ؛ سِوى العَهْدِ الَّذِي عاهَدَهم بِحُورِيبَ)؛ انْتَهى.
وإنَّما قُلْتُ: إنَّ هَذا إشارَةٌ إلى المَرَّةِ الثّانِيَةِ؛ لِأنَّهُ تَكْرِيرٌ لِذَلِكَ الَّذِي قَدَّمْتُهُ في الأُولى؛ فَحَمْلُهُ عَلى أنْ يَكُونَ مُشِيرًا إلى غَيْرِ ما أشارَ إلَيْهِ الأوَّلُ أوْلى؛ بَلْ رُبَّما كانَ مُتَعَيَّنًا؛ ثُمَّ أخْبَرَنِي بَعْضُ فُضَلاءِ اليَهُودِ أنَّ عُلَماءَهم قالُوا كَذَلِكَ؛ وكانَ الخَرابُ في هَذِهِ المَرَّةِ عَلى يَدِ طِيطُوسَ؛ (p-٣٤٤)بَعْدَ أنْ تَمَلَّكَ أبُوهُ إسْفِسْيانُوسُ عَلى الرُّومِ؛ ورَجَعَ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ؛ بَعْدَ مَوْتِ مَلِكِهِمْ تِيرُوسَ الَّذِي كانَ أرْسَلَهُ لِقِتالِ اليَهُودِ؛ لَمّا خَرَجُوا عَنْ طاعَتِهِ؛ وكانَ مَعَهُ يُوسُفُ بْنُ كَرْيُونَ؛ أحَدُ أكابِرِ اليَهُودِ؛ وكانَ أحَدَ مَن نَدَبَهُ اليَهُودُ لِقِتالِ إسْفِسْيانُوسَ ومَن مَعَهُ؛ فَأسَرُوهُ؛ وأحْسَنُوا إلَيْهِ؛ فاسْتَمَرَّ عِنْدَهُمْ؛ فَلَمّا ماتَ تِيرُوسُ؛ ومَلَكَهُ أصْحابُهُ؛ رَجَعَ إلى رُومِيَّةَ؛ وبَعَثَ ابْنَهُ لِلْفَراغِ مِنَ القُدْسِ؛ وبَعَثَ يُوسُفَ مَعَهُ؛ بَعْدَ أنِ اسْتَمَرَّ البَيْتُ عامِرًا مِن عِمارَةِ العُزَيْرِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً؛ ولَمْ يَدْخُلْ بَعْدَ هَذا الخَرابِ في أيْدِي اليَهُودِ؛ وكانَ هَذا لِثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ وثَمانِينَ سَنَةً مِن وِلايَةِ الإسْكَنْدَرِ؛ وقالَ مُؤَرِّخُهُمْ؛ في شَرْحِ هَذا الخَرابِ: إنْ طِيطُوسَ كانَ في قِيسارِيَّةَ؛ فَسارَ مِنها حَتّى انْتَهى إلى يالُو؛ فَأخَذَ مِن نَقاوَةِ عَسْكَرِهِ سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ؛ وسارَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ لِيَقِفَ عَلى أحْوالِ المَدِينَةِ؛ ويَنْظُرَ الحِصْنَ؛ ويَعْلَمَ ما يَحْتاجُ إلى عِلْمِهِ؛ ويُدَبِّرَ الأُمُورَ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ وعَمِلَ عَلى أنْ يُراسِلَ أهْلَ بَيْتِ المَقْدِسِ بِالجَمِيلِ؛ ويَدْعُوَهم إلى المُسالَمَةِ؛ ويَبْذُلَ لَهُمُ الأمانَ؛ فَلَمّا قَرُبَ مِنَ المَدِينَةِ (p-٣٤٥)وجَدَ الأبْوابَ مُغْلَقَةً؛ ولَيْسَ يَخْرُجُ مِنَ المَدِينَةِ ولا يَدْخُلُ إلَيْها أحَدٌ؛ لِما بَيْنَ الخَوارِجِ مِنَ الحُرُوبِ المُتَّصِلَةِ؛ فَما وجَدَ مَن خاطَبَهُ مِنَ القَوْمِ؛ فانْصَرَفَ راجِعًا إلى عَسْكَرِهِ.
قالَ: وكانَ قَوْمٌ مِن أصْحابِ الخَوارِجِ لَمّا عَلِمُوا بِمَجِيءِ طِيطُوسَ قَدْ خَرَجُوا مِنَ المَدِينَةِ؛ فَكَمَنُوا لَهُ في بَعْضِ الطَّرِيقِ؛ فَلَمّا اجْتازَ بِهِمْ وهو راجِعٌ أحاطُوا بِهِ؛ وحالُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ أصْحابِهِ؛ فَقاتَلَهم قِتالًا شَدِيدًا حَتّى خَلَصَ بَعْدَ أنْ أشْرَفَ عَلى الهَلاكِ؛ فَعَلِمَ ما القَوْمُ عَلَيْهِ مِنَ النَّجْدَةِ والشَّرِّ؛ فَأعَدَّ لِذَلِكَ عُدَّتَهُ لِما أرادَ اللَّهُ مِن خَرابِ القُدْسِ؛ وكانَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى مُلْكُهُ؛ وعَزَّ سُلْطانُهُ - قَدْ أظْهَرَ لِبَنِي إسْرائِيلَ أُمُورًا دَلَّتْهم عَلى زَوالِ أمْرِهِمْ؛ لَوْ أنَّهم تَبَصَّرُوا؛ مِنها شِبْهُ كَوْكَبٍ كَبِيرٍ؛ لَهُ نُورٌ قَوِيٌّ؛ وضَوْءٌ شَدِيدٌ؛ كانَ القُدْسُ يُضِيءُ مِنهُ البَلَدَ كُلَّهُ طُولَ اللَّيْلِ؛ قَرِيبًا مِن ضَوْءِ النَّهارِ؛ فَأقامَ كَذَلِكَ سَبْعَةَ أيّامٍ؛ مُدَّةَ عِيدِ الفِصْحِ؛ فَفَرِحَ بِهِ الجُهّالُ واغْتَمَّ العُلَماءُ؛ ومِنها أنَّهم أحْضَرُوا في هَذا العِيدِ بَقَرَةً لِيُقَرِّبُوها؛ فَوَلَدَتْ خَرُوفًا؛ فاسْتَنْكَرَ النّاسُ ذَلِكَ؛ ومِنها أنَّ بابَ القُدْسِ الشَّرْقِيَّ كانَ عَظِيمًا ثَقِيلًا؛ لا يُعالِجُهُ إلّا جَماعَةٌ؛ فَلَمّا كانَ في تِلْكَ الأيّامِ كانُوا يَجِدُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَفْتُوحًا مِن غَيْرِ فاتِحٍ؛ فَيَجْتَمِعُ الرِّجالُ المُعْتادُونَ لَهُ فَيُغْلِقُونَهُ؛ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ مَفْتُوحًا؛ فَكانَ الجُهّالُ يَفْرَحُونَ؛ والعُلَماءُ (p-٣٤٦)يَغْتَمُّونَ؛ ومِنها أنَّهُ ظَهَرَ عَلى بَيْتِ قُدّاسِ الأقْداسِ في الهَواءِ صُورَةُ وجْهٍ لْإنْسانٍ شَدِيدِ الحُسْنِ؛ عَظِيمِ البَهاءِ والنُّورِ؛ ومِنها أنَّهُ ظَهَرَ أيْضًا في الجَوِّ صُوَرُ رُكْبانٍ مِن نارٍ؛ يَطِيرُونَ في الهَواءِ؛ قَرِيبًا مِنَ الأرْضِ؛ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ وعَلى جَمِيعِ أرْضِ اليَهُودِ؛ ومِنها أنَّهُ سَمِعَ الكَهَنَةُ في لَيْلَةِ عِيدِ العَنْصَرَةِ في القُدْسِ حِسَّ جَماعَةٍ كَثِيرَةٍ يَذْهَبُونَ ويَجِيئُونَ في الهَيْكَلِ؛ مِن غَيْرِ أنْ يَرَوْهُمْ؛ بَلْ كانُوا يَسْمَعُونَ وطْأهم فَقَطْ؛ ثُمَّ سَمِعُوا صَوْتًا عَظِيمًا يَقُولُ: امْضُوا بِنا حَتّى نَرْتَحِلَ عَنْ هَذا البَيْتِ؛ ومِنها أنَّهُ كانَ قَدْ ظَهَرَ قَبْلَ هَذا بِأرْبَعِ سِنِينَ في المَدِينَةِ رَجُلٌ يَمْشِي كالمَجْنُونِ؛ ويَصِيحُ بِأعْلى صَوْتٍ؛ يَقُولُ: صَوْتٌ مِنَ المَشْرِقِ؛ صَوْتٌ مِنَ المَغْرِبِ؛ صَوْتٌ مِن أرْبَعِ جِهاتِ الدُّنْيا؛ صَوْتٌ عَلى أُورْشَلامَ؛ وصَوْتٌ عَلى الهَيْكَلِ؛ وصَوْتٌ عَلى الحِصْنِ؛ وصَوْتٌ عَلى الفُرُوسِ؛ وصَوْتٌ عَلى جَمِيعِ النّاسِ؛ الوَيْلُ عَلى أُورْشَلامَ؛ الوَيْلُ عَلى أُورْشَلامَ؛ وكانَ لا يَهْدَأُ مِن هَذا الكَلامِ؛ وكانَ النّاسُ يُبْغِضُونَهُ؛ ويَزْجُرُونَهُ؛ ويَتَصَوَّرُونَهُ بِالجُنُونِ؛ فَلَمْ يَزَلْ عَلى ذَلِكَ إلى أنْ أحاطَ العَدُوُّ بِالمَدِينَةِ؛ (p-٣٤٧)فابْتَدَأ في بَعْضِ الأيّامِ يَتَكَلَّمُ عَلى عادَتِهِ؛ فَأتاهُ حَجَرٌ في رَأْسِهِ فَماتَ؛ ووُجِدَ في حائِطِ قُدْسِ الأقْداسِ حَجَرٌ قَدِيمٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: ”إذا صارَ بُنْيانُ الهَيْكَلِ مُرَبَّعًا مُلِّكَ عَلى أرْضِ بَنِي إسْرائِيلَ مَلِكٌ عَظِيمٌ؛ ويُتَسَلَّطُ عَلى سائِرِ الأرْضِ“؛ فَقالَ قَوْمٌ: هو مَلِكُ بَنِي إسْرائِيلَ؛ وقالَ الحُكَماءُ والكَهَنَةُ: بَلِ الرُّومُ؛ ووُجِدَ أيْضًا حَجَرٌ قَدِيمٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: ”إذا كَمُلَ بُنْيانُ القُدْسِ؛ وصارَ مُرَبَّعًا؛ فَإنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُخَرَّبُ“؛ فَلَمّا وقَعَ الحِصارُ وانْهَدَمَ أنْطُونْيا سَدُّوا السُّورَ؛ فَصارَ الهَيْكَلُ مُرَبَّعًا كَما سَيَأْتِي؛ وأعْظَمُ الأماراتِ ما كانَ عَلَيْهِ خَوارِجُهم مِنَ القِتالِ؛ وسَفْكِ دِماءِ الخاصِّ والعامِّ؛ والحَرِيقِ؛ والجُوعِ؛ بِحَيْثُ إنَّهُ أحاطَ البَلاءُ بِهِمْ؛ وبِجَمِيعِ النّاسِ؛ ولا يَجِدُونَ مَهْرَبًا؛ حَتّى كَرِهُوا الحَياةَ.
ولَمّا خَلَصَ طِيطُوسُ مِنَ الخَوارِجِ باتَ في عَسْكَرِهِ؛ ثُمَّ سارَ بِاللَّيْلِ مِن يالُو؛ فَأصْبَحَ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ ونَزَلَ عَلى رَأْسِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ؛ الَّذِي في شَرْقِيِّ المَدِينَةِ؛ أُورْشَلِيمَ؛ لِيَحْجِزَ الوادِي بَيْنَهُ وبَيْنَها؛ ولا يَخْفى عَلَيْهِ مَن يَخْرُجُ إلَيْهِ مِنها؛ ثُمَّ رَتَّبَ عَسْكَرُهُ؛ ووَصّاهم بِالتَّعاوُنِ؛ والتَّضافُرِ؛ واليَقَظَةِ؛ والحَذَرِ؛ وألّا يُفارِقَ بَعْضُهم بَعْضًا؛ وقالَ: إنَّكم تُقاتِلُونَ قَوْمًا لَمْ تُقاتِلُوا مِثْلَهم في البَأْسِ؛ والشَّجاعَةِ؛ والصَّبْرِ عَلى القِتالِ؛ والبَصَرِ (p-٣٤٨)بِالحَرْبِ؛ فَلَمّا رَآهُ اليَهُودُ اصْطَلَحَ رُؤَساءُ الخَوارِجِ يُوحانانُ؛ وشَمْعُونُ؛ وألْعازارُ؛ عَلى ألّا يُحارِبَ بَعْضُهم بَعْضًا؛ ويَتَّفِقُوا عَلى مُحارَبَةِ الرُّومِ؛ واجْتَمَعُوا وفَتَحُوا بابَ المَدِينَةِ؛ ولَقُوا مَن كانَ قَرُبَ مِنَ الرُّومِ؛ فَقاتَلُوهُمْ؛ واشْتَدَّ الحَرْبُ؛ فانْهَزَمَ الرُّومُ؛ فَرَدَّهم طِيطُوسُ؛ وشَجَّعَهُمْ؛ فَعادُوا؛ فَكانَتْ بَيْنَهم حَرْبٌ عَظِيمَةٌ؛ قُتِلَ فِيها خَلْقٌ كَثِيرٌ؛ وانْهَزَمَ اليَهُودُ؛ فَوَقَفُوا عِنْدَ السُّورِ وبَعَثُوا جَرِيدَةً مِن أصْحابِهِمْ في عَدَدٍ كَثِيرٍ مِن جِهَةٍ أُخْرى؛ فَدارُوا مِن وراءِ عَسْكَرِ الرُّومِ؛ وزَحَفَ أُولَئِكَ مِن أمامِهِمْ؛ فَكانَ الرُّومُ بَيْنَ العَسْكَرَيْنِ؛ فَقُتِلَ مِنهم خَلُقٌ كَثِيرٌ؛ فانْهَزَمُوا؛ وثَبَتَ طِيطُوسُ في جَمْعٍ مِن أصْحابِهِ؛ فاشْتَدَّ الأمْرُ؛ حَتّى كادَ يُقْتَلُ؛ فَقالَ أصْحابُهُ: امْضِ إلى الجَبَلِ؛ فاخْتارَ المَوْتَ عَلى الهَزِيمَةِ؛ ولَمْ يَزَلْ يُقاتِلُهم حَتّى تَخَلَّصَ؛ بَعْدَ أنِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ اليَهُودُ ثَلاثَ دُفْعاتٍ؛ ولَمّا عادَ اليَهُودُ إلى المَدِينَةِ نَقَضُوا عُهُودَهُمْ؛ وحارَبَ بَعْضُهم بَعْضًا كَما كانُوا؛ لِأنَّ يُوحانانَ كانَ يُرِيدُ الرِّئاسَةَ؛ وكانَ شَمْعُونُ وألْعازارَ يَأْبَيانِ ذَلِكَ؛ وحَضَرَ عِيدُ الفِصْحِ - وهو الفَطِيرُ - فَدَخَلَ يُوحانانُ في أصْحابِهِ إلى القُدْسِ؛ (p-٣٤٩)فِي اليَوْمِ الأوَّلِ؛ فَلَقِيَهُمُ النّاسُ بِالجَمِيلِ؛ وسُرُّوا بِهِمْ؛ فَنَزَعُوا ما ظَهَرَ مِن ثِيابِهِمْ؛ فَإذا تَحْتَها السِّلاحُ؛ وأخَذُوا عَلى النّاسِ الأبْوابَ؛ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الكَهَنَةِ؛ وغَيْرِهِمْ؛ ولَمْ يَرْحَمُوا صَغِيرًا ولا كَبِيرًا؛ فَقَتَلَ ألْعازارُ وشَمْعُونُ مَن كانَ خارِجَ القُدْسِ مِن جَماعَةِ يُوحانانَ؛ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ؛ واشْتَدَّ الأمْرُ؛ واتَّصَلَتِ الحَرْبُ؛ فَلَمّا عَلِمَ طِيطُوسُ زَحَفَ إلى المَدِينَةِ؛ فَقالَ لَهُ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ الَّذِينَ عَلى السُّورِ: نَفْتَحُ لَكَ البابَ عَلى أنْ تُؤَمِّنَنا؛ وتُرِيحَنا مِن هَؤُلاءِ الخَوارِجِ؛ فَلَمْ يَثِقْ بِهِمْ لِما ظَهَرَ لَهم مِن شَرِّهِمْ؛ وغَدْرِهِمْ؛ وعَلَتِ الأصْواتُ في المَدِينَةِ؛ لِأنَّ بَعْضَهم كانَ يُرِيدُ أنْ يَفْتَحَ لِطِيطُوسَ؛ وبَعْضُهم يَمْنَعُ؛ وتَبادَرُوا إلى حِفْظِ الأبْوابِ؛ والسُّورِ؛ فَتَقَدَّمَ جَماعَةٌ مِنَ الرُّومِ إلى المَدِينَةِ؛ طَمَعًا في أنْ يُفْتَحَ لَهُمُ البابُ؛ فَرَماهُمُ الخَوارِجُ بِالحِجارَةِ؛ والنِّشابِ؛ وأعانَهُمُ الَّذِينَ كانُوا اسْتَدْعَوُا الرُّومَ لِلدُّخُولِ؛ ثُمَّ خَرَجَ جَماعَةٌ مِنَ اليَهُودِ فَهَزَمُوا الرُّومَ؛ وأنْكَوْا فِيهِمْ؛ وتَبِعُوهم إلى قُرْبِ عَسْكَرِهِمْ؛ وشَرَعُوا يَهْزَؤُونَ بِهِمْ؛ ويُعَيِّرُونَهم بِالهَزِيمَةِ؛ فَأرادَ مَن في العَسْكَرِ أنْ يُلاقُوهُمْ؛ فَمَنَعَهم طِيطُوسُ؛ واشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلى أصْحابِهِ؛ وقالَ: لَسْتُ أعْجَبَ مِنَ اليَهُودِ في غَدْرِهِمْ؛ ولَكِنْ أعْجَبُ مِنكم مَعَ بَصَرِكم بِالحَرْبِ؛ وكَثْرَةِ تَجارِبِكُمْ؛ فَكَيْفَ خَدَعُوكُمْ؛ (p-٣٥٠)فَمَضَيْتُمْ إلى المَدِينَةِ بِغَيْرِ أمْرِي؛ وخالَفْتُمْ وصِيَّتِي؟ ولِذَلِكَ انْهَزَمْتُمْ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ لِلرَّعِيَّهِ أنْ تُخالِفَ أمْرَ المَلِكِ؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ بَعْضَ مُلُوكِنا قَتَلَ ابْنَهُ لِأنَّهُ مَضى إلى الحَرْبِ بِغَيْرِ أمْرِهِ؛ فَأنْتُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْقَتْلِ بِعِصْيانِي؛ مُسْتَوْجِبُونَ لِما جَرى عَلَيْكم مِنَ الهَزِيمَةِ؛ فَسَجَدَ أصْحابُ طِيطُوسَ لَهُ؛ واعْتَرَفُوا بِخَطَئِهِمْ؛ وقالُوا: لا نُعاوِدُ؛ فَأمَرَهم أنْ يُعَدِّلُوا ما حَوْلَ المَدِينَةِ مِنَ المَعاثِرِ؛ والوَهْداتِ؛ ويَسُدُّوا الآبارَ؛ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمُ القِتالُ؛ ويُهْدَمَ السُّورُ؛ فَفَعَلُوا ذَلِكَ؛ وقَطَعُوا كُلَّ ما حَوْلَ المَدِينَةِ مِنَ الشَّجَرِ؛ والنَّباتِ؛ وكانَ حَوْلَها مِن سائِرِ الجِهاتِ بَساتِينُ كَثِيرَةٌ؛ فِيها أنْواعُ الأشْجارِ؛ والفَواكِهِ؛ مَسِيرَةَ أمْيالٍ؛ مِن كُلِّ جِهَةٍ؛ فَكانَ إذا أقْبَلَ إنْسانٌ عَلَيْها يَرى أحْسَنَ مَنظَرٍ؛ فَلَمْ يُبْقِ الرُّومُ مِن ذَلِكَ شَيْئًا؛ وكانَ مَن يَعْرِفُ تِلْكَ البَساتِينَ إذا رَآها بَعْدَ إتْلافِها يَبْكِي؛ ويَسْتَوْحِشُ؛ واشْتَغَلَ اليَهُودُ بِخَوارِجِهِمْ؛ واتَّفَقَ شَمْعُونُ وألْعازارُ عَلى يُوحانانَ؛ وكانَ قَدْ مَلَكَ القُدْسَ؛ ومَعَهُ ثَمانِيَةُ آلافٍ؛ وأرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الشُّجْعانِ؛ وكانَ مَعَ شَمْعُونَ عَشَرَةُ آلافٍ مِنَ اليَهُودِ؛ وخَمْسَةُ آلافٍ مِن أدُومَ - أيْ: النَّصارى - وكانَ الكَهَنَةُ وجَماعَةٌ مِن أهْلِ المَدِينَةِ مَعَ ألْعازارَ؛ وحَصَلَ النّاسُ بَيْنَ هَؤُلاءِ بِأسْوَإ حالٍ؛ وكانُوا إذا اسْتَظْهَرَ الرُّومُ عَلى المَدِينَةِ اتَّفَقُوا وحارَبُوهُمْ؛ فَإذا دَفَعُوهم عادُوا إلى الشَّرِّ فِيما بَيْنَهم. (p-٣٥١)ثُمَّ إنَّ طِيطُوسَ أحْضَرَ كَبْشَ الحَدِيدِ؛ وغَيْرَهُ مِنَ آلاتِ القِتالِ؛ لِيَهْدِمَ السُّورَ؛ وصَنَعَ أبْراجًا عَظِيمَةً مِنَ الخَشَبِ؛ تُوازِي سُورَ المَدِينَةِ؛ وتَحْتَها بَكَرٌ لِيَدْفَعَها الرِّجالُ؛ وتَصْعَدَ عَلَيْها المُقاتِلَةُ؛ وأرْسَلَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِن أصْحابِهِ يَدْعُوهم إلى المُسالَمَةِ؛ فَرَماهُ بَعْضُ مَن عَلى السُّورِ فَقَتَلَهُ؛ واصْطَلَحَ الخَوارِجُ وخَرَجُوا إلى الرُّومِ؛ فَقاتَلُوهُمْ؛ وأحْرَقُوا الكَبْشَ؛ وجَمِيعَ تِلْكَ الآلاتِ؛ وأبْعَدُوهُمْ؛ ورَجَعُوا إلى المَدِينَةِ يَتَقاتَلُونَ؛ فَلَمّا عَلِمَ طِيطُوسُ بِذَلِكَ دَفَعَ الكَبْشَ عَلى السُّورِ؛ فَهَدَمَ مِنهُ قِطْعَةً كَبِيرَةً؛ فَهَرَبَ مَن كانَ وراءَهُ إلى السُّورِ الثّانِي؛ فَأبْعَدَ الرُّومُ ما سَقَطَ مِن حِجارَةِ السُّورِ؛ لِيَتَّسِعَ لَهُمُ المَجالُ؛ فاصْطَلَحَ الخَوارِجُ وفَرَّقُوا أصْحابَهم عَلى جِهاتِ المَدِينَةِ؛ واشْتَدَّ القِتالُ بَيْنَهم وبَيْنَ الرُّومِ؛ وصَدَقَ الفَرِيقانِ؛ وتَوَلّى طِيطُوسُ الحَرْبَ بِنَفْسِهِ؛ وأقْبَلَ يُشَجِّعُ أصْحابَهُ ويَعِدُهم بِالأمْوالِ والصِّلاتِ؛ وشَجَّعَ الخَوارِجُ أصْحابَهُمْ؛ ونادى شَمْعُونُ: مَنِ انْهَزَمَ قُتِلَ وهُدِمَ مَنزِلُهُ.
فَلَمّا رَأى طِيطُوسُ ثَباتَ أصْحابِ شَمْعُونَ مالَ إلى جِهَةِ يُوحانانَ؛ ولِأنَّها مُعْتَدِلَةٌ وطِيئَةٌ؛ وأرادَ أنْ يَنْطَحَ السُّورَ الثّانِيَ؛ فَناداهُ رَجُلٌ (p-٣٥٢)اسْمُهُ قَصْطُورُ؛ مِن فَوْقِ السُّورِ: أسْألُكَ يا سَيِّدِي أنْ تُشْفِقَ عَلى هَذِهِ المَدِينَةِ؛ والأمْرُ يَجْرِي عَلى ما تُحِبُّ؛ فَظَنَّ طِيطُوسُ صِدْقَهُ فَتَوَقَّفَ؛ وشَرَعَ يُكَلِّمُهُ؛ وأطالَ المُراجَعَةَ احْتِيالًا مِنهُ؛ لِيَتَمَكَّنَ أصْحابُهُ مِن إحْراقِ الكَبْشِ؛ ثُمَّ سَألَهُ أنْ يَبْعَثَ لَهُ شَخْصًا مِن أصْحابِهِ لِيَتَّفِقَ مَعَهُ؛ فَأرْسَلَ إلَيْهِ شَخْصًا مِن وُجُوهِ الرُّومِ؛ فَقالَ لَهُ: اقْرُبْ حَتّى أُلْقِيَ إلَيْكَ ما لِي ثُمَّ انْزِلْ؛ فَألْقى عَلَيْهِ صَخْرَةً فَأخْطَأتْهُ؛ وقَتَلَتْ رَجُلًا كانَ مَعَهُ؛ فَغَضِبَ طِيطُوسُ ودَفَعَ الكَبْشَ عَلى السُّورِ الثّانِي؛ فانْهَدَمَ مِنهُ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ؛ فاشْتَدَّ أسَفُ قَصْطُورُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ وتَبادَرَ اليَهُودُ؛ فَمَنَعُوا الرُّومَ مِنَ الدُّخُولِ مِنَ المَوْضِعِ الَّذِي انْثَلَمَ؛ وحارَبُوهم إلى أنْ أخْرَجُوهم عَنِ السُّورِ الأوَّلِ؛ وقَتَلُوا جَماعَةً مِنهُمْ؛ واتَّصَلَتِ الحَرْبُ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ أرْبَعَةَ أيّامٍ؛ ووَرَدَ عَلى طِيطُوسَ في اليَوْمِ الرّابِعِ عَسْكَرٌ كَبِيرٌ مِن أُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ تُعِينُهُ عَلى اليَهُودِ؛ فَخَرَجَ اليَهُودُ عَلى عادَتِهِمْ؛ فَقاتَلُوهُمْ؛ فَلَمْ تَكُنْ لَهم بِهِمْ طاقَةٌ فانْهَزَمُوا؛ ودَخَلُوا إلى الحِصْنِ الثّالِثِ؛ فَأمَرَ طِيطُوسُ بِرَفْعِ الحَرْبِ؛ وكَفَّ عَنْهم خَمْسَةَ أيّامٍ؛ ورَكِبَ في اليَوْمِ الخامِسِ؛ وتَقَدَّمَ إلى قُرْبِ السُّورِ؛ (p-٣٥٣)فَوَجَدَ يُوحانانَ؛ وشَمْعُونَ؛ وأصْحابَهُما قَدْ خَرَجُوا مِنَ المَدِينَةِ لِيَحْرِقُوا الكَبْشَ؛ فابْتَدَأهم طِيطُوسُ بِالسَّلامِ؛ وخاطَبَهم بِالجَمِيلِ؛ والمُلاطَفَةِ؛ وقالَ: قَدْ رَأيْتُمْ ما جَرى مِن هَدْمِ هَذَيْنِ السُّورَيْنِ؛ ولَيْسَ يَتَعَذَّرُ هَدْمُ السُّورِ الثّالِثِ؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّكم ما انْتَفَعْتُمْ في هَذِهِ المُدَّةِ بِما فَعَلْتُمُوهُ؛ وكَذَلِكَ لا تَنْتَفِعُونَ أيْضًا بِدَوامِكم عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللِّجاجِ في مُخالَفَتِنا؛ فارْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ؛ قَبْلَ أنْ أهْدِمَ هَذا السُّورَ الباقِيَ؛ وأسْتَبِيحَ المَدِينَةَ؛ وأُخَرِّبَ الهَيْكَلَ؛ ولَسْتُ أخْتارُ ذَلِكَ؛ ولا أُرِيدُهُ؛ فَإنْ رَجَعْتُمْ إلى طاعَتِنا كُنّا لَكم عَلى أفْضَلِ ما عَهِدْتُمُوهُ مِنّا؛ ودامَتْ لَكُمُ السَّلامَةُ؛ وزالَ عَنْكم ما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ المَكْرُوهِ.
وأمَرَ يُوسُفَ بْنَ كَرْيُونَ أنْ يَقْرُبَ مِنهُمْ؛ ويَبْلُغَ مَعَهُمُ الغايَةَ في القَوْلِ؛ ويَسْتَدْعِيَهم إلى المُسالَمَةِ؛ ويَبْذُلَ لَهم مِنَ الأمانِ والعُهُودِ ما يَثِقُونَ بِهِ؛ ويَسْكُنُونَ إلَيْهِ؛ فَوَقَفَ قُدّامَ بابِ المَدِينَةِ؛ وقالَ: اسْمَعُوا مِنِّي يا مَعْشَرَ بَنِي إسْرائِيلَ ما أنا مُخاطِبُكم بِهِ؛ فَإنِّي إنَّما أُخاطِبُكم بِما يَنْفَعُكُمْ؛ ويَعُودُ بِصَلاحِكم إنْ قَبِلْتُمُوهُ؛ واعْلَمُوا أنَّ مُحارَبَةَ الأعْداءِ؛ ومُقاوَمَتَهُمْ؛ قَدْ كانَتْ تَحْسُنُ بِكم حِينَ كانَتْ بُلْدانُكم عامِرَةً؛ وعَساكِرُكم مُتَوافِرَةً؛ وأحْوالُكم مُسْتَقِيمَةً؛ فَأمّا بَعْدَ أنْ (p-٣٥٤)بَلَغْتُمْ إلى هَذِهِ الحالِ؛ مِن خَرابِ البُلْدانِ؛ وفَناءِ الرِّجالِ؛ وذَهابِ النِّعَمِ؛ واخْتِلالِ الأحْوالِ؛ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ في مُقاوَمَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ العَظِيمَةِ القَوِيَّةِ؛ الَّتِي قَدْ قَهَرَتِ المَمالِكَ؛ والأُمَمَ؛ واسْتَوْلَتْ عَلَيْهِمْ؟ فَعَلى أيِّ شَيْءٍ تَعْتَمِدُونَ؟ فَإنْ قُلْتُمْ: إنّا نَعْتَمِدُ عَلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ ونَرْجُو أنْ يَنْصُرَنا؛ كَما جَرَتْ عادَتُهُ مَعَ آبائِنا؛ فَيَجِبُ أنَّ تَعْلَمُوا أنَّهُ هو الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْكم هَذِهِ الأُمَّةَ لِسُوءِ أفْعالِكُمْ؛ وكَثْرَةِ ذُنُوبِكُمْ؛ لِأنَّكُمُ ارْتَكَبْتُمُ المَحارِمَ؛ وسَفَكْتُمُ الدِّماءَ؛ ونَجَّسْتُمْ هَيْكَلَ اللَّهِ المُقَدَّسِ؛ وقَتَلْتُمْ كَهَنَتَهُ؛ وصُلَحاءَ أُمَّتِهِ ظُلْمًا؛ فَكَيْفَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ والمَعُونَةَ مَعَ هَذِهِ الأفْعالِ القَبِيحَةِ؟ واللَّهُ لا يَنْصُرُ مَن عَصاهُ؛ وإنْ كُنْتُمْ تَتَّكِلُونَ عَلى الحُصُونِ؛ والعُدَدِ؛ والعَساكِرِ؛ فَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ قَدْ ذَهَبَ أكْثَرُهُ؛ ولَمْ يَبْقَ مِنهُ إلّا القَلِيلُ؛ وهَذِهِ المَدِينَةُ قَدْ هُدِمَ سُورانِ مِن أسْوارِها؛ ولَمْ يَبْقَ غَيْرُ واحِدٍ؛ وهم مُجِدُّونَ في هَدْمِهِ؛ وأنْتُمْ كُلَّ يَوْمٍ في نُقْصانٍ؛ وضَعْفٍ؛ وعَدُوُّكم في زِيادَةٍ وقُوَّةٍ؛ فَإنْ دُمْتُمْ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ هَلَكْتُمْ؛ ولَمْ يَبْقَ مِنكم باقِيَةٌ؛ فَإنْ (p-٣٥٥)قُلْتُمْ: إنّا نَخْتارُ القَتْلَ عَلى الذُّلِّ لِلْأُمَمِ وطاعَتِهِمْ؛ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ آباءَنا وأُصُولَنا - وهُمُ السّادَةُ الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ - لَمْ يَمْتَنِعُوا مِن مُسالَمَةِ الأُمَمِ الَّذِينَ جاوَرُوهُمْ؛ ومُداراتِهِمْ؛ ولَوْ كانَ أمْرًا مَكْرُوهًا لَقَدْ كانُوا أوْلى بِكَراهَتِهِ مِنكُمْ؛ والمُتَقَدِّمُونَ مِنّا أطاعُوا المِصْرِيِّينَ في أزْمانٍ كَثِيرَةٍ؛ ومُلُوكَ المَوْصِلِ؛ والكَسْدانِيِّينَ؛ والفُرْسِ؛ ثُمَّ اليُونانِيِّينَ؛ الَّذِينَ جارُوا عَلَيْهِمْ؛ وأساؤُوا إلَيْهِمْ؛ وصَبَرُوا عَلى ظُلْمِهِمْ لَهُمْ؛ إلى أنْ أذِنَ اللَّهُ بِخَلاصِهِمْ مِنهم عَلى أيْدِي بَنِي حَشْمَنايِ الكَهَنَةِ؛ ثُمَّ أطاعُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُلُوكَ الرُّومِ إلى هَذِهِ الغايَةِ؛ ولَمْ يَرَوْا أنَّ عَلَيْهِمْ نَقْصًا في طاعَتِهِمْ؛ وكَذَلِكَ أنْتُمْ إنْ أطَعْتُمُوهم كانَ ذَلِكَ أوْلى بِكم مِن أنْ تُعَرِّضُوا أنْفُسَكم لِلْهَلاكِ؛ ونِعْمَتَكم لِلزَّوالِ؛ وبَلَدَكم لِلْخَرابِ؛ وتَحْصُلُوا بَعْدَ ذَلِكَ في أضْعافِ ما كَرِهْتُمُوهُ مِنَ الذُّلِّ؛ ولا يَعْذُرُكم في ذَلِكَ عاقِلٌ؛ ولا يُحْمَدُ رَأْيُكُمْ؛ عَلى أنَّ الرُّومَ ما زالُوا مُحْسِنِينَ إلَيْكُمْ؛ كَفَوْكم أمْرَ أعْدائِكم مِنَ اليُونانِيِّينَ؛ وأزالُوا سُلْطانَهم عَنْكُمْ؛ وأعانُوكم عَلى كَثِيرٍ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ يُعادُونَكم حَتّى غَلَبْتُمُوهُمْ؛ واسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ؛ فَأنْتُمْ بِطاعَتِهِمْ أوْلى مِنكم بِمَعْصِيَتِهِمْ؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ دَوْلَةً وسُلْطانًا سَلَّطَها فِيهِ؛ فَإذا انْقَضى ذَلِكَ الزَّمانُ زالَتْ دَوْلَتُها؛ وسُلْطانُها؛ فَذَلَّتْ لِغَيْرِها؛ وخَضَعَتْ لِمَن كانَ يَخْضَعُ لَها؛ (p-٣٥٦)وقَدْ بَسَطَ اللَّهُ أيْدِيَكم زَمانًا؛ وسَلَّطَكم عَلى غَيْرِكم دَهْرًا؛ ثُمَّ جَعَلَ الدَّوْلَةَ والسُّلْطانَ لِسِواكُمْ؛ وأرادَ أنْ يُذِلَّكم لَهُمْ؛ فَمَتى خالَفْتُمْ مُرادَ اللَّهِ ولَمْ تَقْبَلُوا حُكْمَهُ هَلَكْتُمْ؛ ولَيْسَ يُشَكُّ في أنَّ اللَّهَ أرادَ في هَذا الزَّمانِ أنْ يَرْفَعَ الرُّومَ؛ ويَبْسُطَ أيْدِيَهُمْ؛ لِأنَّهُ قَدْ أذَلَّ لَهُمُ المُلُوكَ؛ وظَفَّرَهم بِالأُمَمِ؛ حَتّى أطاعَهم مَن في سائِرِ جِهاتِ الدُّنْيا؛ مِمَّنْ هو أشَدُّ مِنكم بَأْسًا؛ وأكْثَرُ عَدَدًا؛ وأقْوى سُلْطانًا؛ وكَيْفَ تَطْمَعُونَ في أنْ تَغْلِبُوهم وأنْتُمْ تُشاهِدُونَ إقْبالَهُمْ؛ وقُوَّةَ أمْرِهِمْ؛ ومَعُونَةَ اللَّهِ لَهُمْ؛ وتَرَوْنَ أنْفُسَكم بِخِلافِ ذَلِكَ؟ ولَيْسَ يَعِيبُ الإنْسانَ ولا يَنْقُصُهُ طاعَتُهُ لِمَن هو أقْوى مِنهُ؛ وأعْلى يَدًا؛ لِأنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - قَدْ جَعَلَ أمْرَ الخَلْقِ في الدُّنْيا مَبْنِيًّا عَلى أنْ يَكُونَ بَعْضُهم تابِعًا لِبَعْضٍ؛ وبَعْضُهم قاهِرًا لِبَعْضٍ؛ وبَعْضُهم مُحْتاجًا إلى بَعْضٍ؛ وكُلُّ صِنْفٍ يَخْضَعُ لِمَن هو أقْوى مِنهُ؛ ويَذِلُّ لَهُ؛ ويُطِيعُهُ؛ وذَلِكَ ظاهِرٌ مَوْجُودٌ في النّاسِ؛ عَلى طَبَقاتِهِمْ؛ وفي الحَيَواناتِ؛ عَلى اخْتِلافِها؛ ولَيْسَ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ أحَدٌ؛ ولا يَذُمُّهُ عاقِلٌ؛ وإذْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْقُصُكم طاعَةُ الرُّومِ؛ ولا الرُّومُ بِأوَّلِ مَن أطَعْتُمُوهُمْ؛ وقَدْ تَقَدَّمَتْ طاعَتُكم لَهم مُنْذُ سِنِينَ؛ وقَدِ ابْتَدَؤُوكم في هَذا الوَقْتِ بِالجَمِيلِ؛ ودَعَوْكم إلى المُسالَمَةِ؛ وبَذَلُوا لَكُمُ الأمانَ؛ وضَمِنُوا لَكُمُ الإحْسانَ؛ وظَهَرَ مِنهُمُ الإشْفاقُ عَلى مَدِينَتِكُمْ؛ وقُدْسِكُمْ؛ فاتَّقُوا اللَّهَ؛ (p-٣٥٧)وتَلافَوْا أمْرَكُمْ؛ وأحْسِنُوا النَّظَرَ لِمَن بَقِيَ مِنكُمْ؛ فارْجِعُوا إلى ما كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِن طاعَتِهِمْ لِتَبْقَوْا؛ وتَتَماسَكَ أحْوالُكُمْ؛ وتَسْلَمَ هَذِهِ المَدِينَةُ؛ وهَذا القُدْسُ الجَلِيلُ؛ قَبْلَ أنْ يُهْدَمَ هَذا الحِصْنُ الباقِيَ فَتَهْلِكُوا.
فَصاحَ الخَوارِجُ بِشَتْمِ يُوسُفَ؛ والفِرْيَةِ عَلَيْهِ؛ ورَمَوْهُ بِالسِّهامِ والحِجارَةِ؛ فَتَباعَدَ قَلِيلًا؛ وأغْلَظَ لَهم في الكَلامِ؛ وقالَ: يا مَعْشَرَ العُصاةِ؛ أخْبِرُونِي ما الَّذِي حَمَلَكم عَلى قِتالِ الرُّومِ؟ إنْ كُنْتُمْ تَقْصِدُونَ بِذَلِكَ صِيانَةَ القُدْسِ عَنِ الأعْداءِ فَأنْتُمْ قَدِ ابْتَذَلْتُمُوهُ بِالمَعاصِي؛ ونَجَّسْتُمُوهُ بِما سَفَكْتُمْ فِيهِ مِنَ الدِّماءِ الكَثِيرَةِ ظُلْمًا؛ وإنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ نُصْرَةَ الأُمَّةِ؛ وإعْزازَها؛ فَأنْتُمْ تَقْتُلُونَها بِأيْدِيكُمْ؛ وتُبالِغُونَ في ظُلْمِها؛ والإساءَةِ إلَيْها؛ وهَلْ يَفْعَلُ الأعْداءُ بِكم أكْثَرَ مِمّا فَعَلْتُمُوهُ؛ أوْ يَبْلُغُونَ فِيكم أكْثَرَ مِمّا قَدْ بَلَغْتُمُوهُ في أنْفُسِكُمْ؟ أخْبِرُونِي مَتى كانَ مَن تَقَدَّمَ مِن أُمَّتِنا أوْ تَأخَّرَ يَغْلِبُونَ مَن يُحارِبُهُمْ؛ ويَسْتَظْهِرُونَ عَلى أعْدائِهِمْ بِالعَساكِرِ والعُدَدِ دُونَ الصَّلاحِ (p-٣٥٨)والتَّقْوى؟ وهَلْ تَخَلَّصَ مَن تَخَلَّصَ مِنَ الشَّدائِدِ إلّا بِطاعَةِ اللَّهِ؛ والدُّعاءِ لَهُ؟ وهَلْ كانُوا يَغْلِبُونَ إلّا بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُمْ؛ ومَعُونَتِهِ إيّاهُمْ؟ وهَلْ كانَ يَنْصُرُهم إلّا إذا أطاعُوهُ؛ واتَّقَوْهُ؟ فَلَمّا عَصَوْهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الأعْداءَ؛ ومَكَّنَهم مِنهم حَتّى قَهَرُوهُمْ؛ وأذَلُّوهُمْ؛ ولَمْ يَنْتَفِعُوا بِعُدَدِهِمْ وسِلاحِهِمْ؛ ولا قَدِرُوا عَلى مُقاوَمَةِ الأعْداءِ بِبَأْسِهِمْ وقُوَّتِهِمْ؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - كَفى الصّالِحِينَ في كُلِّ زَمانٍ أمْرَ أعْدائِهِمْ؛ فَمِنهم مَن دَعا اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - عِنْدَ الشَّدائِدِ فاسْتَجابَ لَهُ بِلا حَرْبٍ؛ وأظْهَرَ الآياتِ العَظِيمَةَ في مَعُونَتِهِمْ وكِفايَتِهِمْ؛ فَبَلَغُوا بِذَلِكَ ما لَمْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ إلَيْهِ بِحَوْلِهِمْ وقُوَّتِهِمْ؛ ومِنهم مَن حارَبَ الأعْداءَ؛ واسْتَعانَ بِاللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ فَأعانَهُ عَلى عَدُوِّهِ؛ وظَفَّرَهُ بِهِ؛ ولَمْ يَفْعَلِ اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ العُصاةِ؛ لِيُظْهِرَ فَضِيلَةَ الصّالِحِينَ؛ اعْتَبِرُوا بِأبِيكم إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ لَمّا أخَذَ فِرْعَوْنُ امْرَأتَهُ؛ ألَمْ يَضْرِبِ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وأهْلَهُ بِالبَلاءِ العَظِيمِ؛ حَتّى خَضَعَ؛ فانْكَسَرَ؛ ورَدَّ امْرَأةَ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهي سَلِيمَةٌ؛ ثُمَّ أحْسَنَ إلَيْهِ وأكْرَمَهُ؛ فَهَلْ قَدِرَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى ذَلِكَ بِالسَّيْفِ والمُحارَبَةِ؛ أوْ بِالصَّلاحِ؛ (p-٣٥٩)والدُّعاءِ إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ؟ وكَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ مَعَ إسْحاقَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ لَمّا أخَذَ أبِيمالِخُ مَلِكُ فِلَسْطِينَ امْرَأتَهُ؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ يَسْتَظْهِرْ عَلى فِرْعَوْنَ وعَساكِرِ المِصْرِيِّينَ - حَتّى هَلَكُوا؛ وتَخَلَّصَتْ أُمَّةُ بَنِي إسْرائِيلَ مِنهم - بِحَرْبٍ؛ ولا عُدَّةٍ؛ بَلْ بِالدُّعاءِ وكِفايَةِ اللَّهِ لَهُ؛ ولَمّا حارَبَ ”عَمالِيقُ“ بَنِي إسْرائِيلَ؛ هَلْ غَلَبُوهُ إلّا بِدُعاءِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وصَلاتِهِ؟ ويُوشَعُ بْنُ نُونٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا عَبَرَ الأُرْدُنَّ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ قَدْ كانَ في جَمْعٍ كَبِيرٍ؛ وقُوَّةٍ؛ فَهَلْ فَتَحَ يَرِيحا بِالحَرْبِ؛ أوْ بِالآيَةِ العَجِيبَةِ في سُقُوطِ الحِصْنِ؟ ولَمّا أخْطَأ عاخانُ بِما أخَذَهُ مِن يَرِيحا مِنَ الغَنِيمَةِ الَّتِي نَهى اللَّهُ عَنْها بَنِي إسْرائِيلَ؛ ألَمْ يَسْخَطِ اللَّهُ عَلى الأمَةِ بِسَبَبِهِ؛ حَتّى غَلَبَهم أهْلُ مَدِينَةِ عايَ وهم قَلِيلٌ؟ فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو إسْرائِيلَ؛ مَعَ كَثْرَتِهِمْ؛ عَلى مُقاوَمَتِهِمْ؛ إلى أنْ صَلّى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ودَعا إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ فاسْتَجابَ اللَّهُ دُعاءَهُ؛ ونَصَرَ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى عايَ وجَدْعُونَ؛ لَما غَلَبَ عَسْكَرَ مَدْيَنَ؛ وعَمالِيقَ؛ مَعَ كَثْرَتِهِمْ؛ (p-٣٦٠)هَلْ غَلَبَهم إلّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ؟ واذْكُرُوا كَيْفَ انْهَزَمَ عَسْكَرُ الأرْمَنِ العَظِيمِ عَنْ سَبَسْطِيَةَ بِصَلاةِ اليَشَعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ودُعائِهِ؛ وقَدْ كانَ أهْلُ المَدِينَةِ أشْرَفُوا عَلى الهَلاكِ مِنَ الجُوعِ؛ فَأوْقَعَ اللَّهُ الخَوْفَ في قُلُوبِ الأرْمَنِ؛ فانْهَزَمُوا بِغَيْرِ حَرْبٍ ولا قِتالٍ؛ وخَرَجَ أهْلُ المَدِينَةِ فَغَنِمُوا عَسْكَرَهُمْ؛ وزالَ عَنْهُمُ الجُوعُ؛ واذْكُرُوا ما فَعَلَ اللَّهُ مَعَ نِساءِ المَلِكِ؛ ويُوشافاطَ لَمّا ظَفَّرَهُما بِأعْدائِهِما بِالدُّعاءِ؛ والصَّلاةِ؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ شَمْشُونَ قَبْلَ أنْ يُخْطِئَ كانَ جَبّارًا مُظَفَّرًا؛ فَلَمّا أخْطَأ أسَرَهُ أعْداؤُهُ؛ فَصارَ ذَلِيلًا في أيْدِيهِمْ؛ مِثْلَ أقَلِّ النّاسِ؛ وأضْعَفِهِمْ؛ وطَحَنُوهُ بِالرَّحى؛ مِثْلَ الإماءِ؛ وكَذَلِكَ شاوُولُ - وفي نُسْخَةٍ: طالُوتُ - المَلِكُ؛ لَمّا كانَ طائِعًا لِلَّهِ (تَعالى) كانَ اللَّهُ يَنْصُرُهُ؛ فَلَمّا عَصاهُ أسْلَمَهُ اللَّهُ إلى أعْدائِهِ؛ فَظَفِرُوا بِهِ؛ ولَمْ يَنْتَفِعْ بِعَساكِرِهِ وعُدَدِهِ؛ وأمَصْيا لَمّا حارَبَ أدُومَ غَلَبَهُمْ؛ وظَفِرَ بِهِمْ؛ فَلَمّا أخَذَ أصْنامَهم ونَصَبَها في بَيْتِ المَقْدِسِ (p-٣٦١)سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلَمّا حارَبَ يُوآشُ مَلِكَ بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ انْهَزَمَ أقْبَحَ هَزِيمَةٍ لِخِذْلانِ اللَّهِ لَهُ؛ وتَرْكِهِ مَعُونَتَهُ؛ واذْكُرُوا هَلاكَ عَسْكَرِ سَنْحارِيبَ مَلِكِ المَوْصِلِ؛ العَسْكَرِ العَظِيمِ؛ بِغَيْرِ حَرْبٍ؛ ولا قِتالٍ؛ بَلْ بِصَلاةِ حِزْقِيا المَلِكِ؛ والأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ ودُعائِهِمْ؛ واعْتَبِرُوا بِصِدْقِيا المَلِكِ لَمّا عَصى الكَسْدانِيِّينَ؛ وظَنَّ أنَّهم يَغْلِبُهم بِعَساكِرِهِ؛ وبِعُدَّتِهِ؛ وخالَفَ الأنْبِياءَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - في مُسالَمَتِهِمْ؛ هَلِ انْتَفَعَ بِذَلِكَ؟ وهَلْ كانَتْ عاقِبَتُهُ وعاقِبَةُ الأُمَّةِ إلّا إلى الهَلاكِ؟ فَهَذا وغَيْرُهُ؛ مِمّا لَمْ أذْكُرْهُ لَكُمْ؛ يَدُلُّكم عَلى عِنايَةِ اللَّهِ بِالأخْيارِ؛ وخِذْلانِهِ لِلْعُصاةِ الأشْرارِ.
وساقَ لَهم مِن مِثْلِ هَذا كَلامًا كَثِيرًا بَلِيغًا؛ ثُمَّ رَغَّبَهم في طاعَةِ إسْفِسْيانُوسَ بِالخُصُوصِ؛ بِما اشْتُهِرَ مِن حُسْنِ سِيرَتِهِ؛ وقالَ: ولَوْ لَمْ تَعْلَمُوا ذَلِكَ إلّا بِما عامَلَنِي بِهِ مِنَ الجَمِيلِ؛ وقَدْ كُنْتُ أسْتَوْجِبُ مِنهُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لَكَفاكُمْ؛ لِأنِّي كُنْتُ أوَّلَ مَنِ اجْتَهَدَ في مُحارَبَتِهِ؛ وقَتَلْتُ خَلْقًا كَثِيرًا مِن أصْحابِهِ؛ ولَقَدْ كُنْتُ أعْلَمَ أنِّي خالَفْتُ الصَّوابَ؛ ولَكِنِّي لَمّا رَأيْتُكم بِأجْمَعِكم قَدِ اتَّفَقْتُمْ عَلى (p-٣٦٢)مُحارَبَتِهِمْ؛ وبَعَثْتُمُونِي؛ لَمْ أُخالِفْكُمْ؛ وبَذَلْتُ المَجْهُودَ في مُناصَحَتِكُمْ؛ وثَبَتُّ في حِصْنِ يُودَناتَ إلى أنْ فَنِيَ أصْحابِي؛ وغَلَبَنِي الأمْرُ؛ ولَمْ يَبْقَ لِي حِيلَةٌ؛ ثُمَّ حَصَلْتُ مَعَ الرُّومِ؛ فَما أساؤُوا إلَيَّ؛ بَلْ أحْسَنُوا؛ وأجْمَلُوا؛ وعَفَوْا عَنِّي؛ وأنا مَعَهم إلى هَذِهِ الغايَةِ عَلى ما أُحِبُّ؛ وقَدْ كُنْتُ اجْتَهَدْتُ قَبْلَ حُصُولِي مَعَهم أنْ أهْرُبَ إلَيْكُمْ؛ فَما تَمَّ لِي ذَلِكَ؛ وأنا الآنَ أحْمَدُ اللَّهَ (تَعالى) إذْ لَمْ يُسَهِّلْ لِي ذَلِكَ؛ فَإنِّي لَوْ كُنْتُ مَعَكم لَكُنْتُ إمّا أنْ أُشارِكَكم في أفْعالِكم هَذِهِ؛ فَأكُونَ مُخْطِئًا؛ أوْ أُخالِفَكم فَتَقْتُلُونِي ظُلْمًا؛ فَتَأمَّلُوا ما خاطَبْتُكم بِهِ؛ ولا تَظُنُّوا أنَّ اللَّهَ يَنْصُرُكُمْ؛ فَإنَّكم لا تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ لِأنَّكم قَدْ أسْخَطْتُمُوهُ؛ واسْتَدِلُّوا عَلى ذَلِكَ بِآيَةِ عَيْنِ سُلْوانَ؛ فَإنَّها قَدْ كانَتْ قَرِيبَةً مِنَ الجَفافِ؛ قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ بِكم هَذِهِ العَساكِرُ؛ فَلَمّا نَزَلُوا غَزُرَتْ؛ فَصارَتْ كالنَّهْرِ؛ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ (تَعالى) يُرِيدُ مَعُونَةَ أعْدائِكم عَلَيْكُمْ؛ وأنا أعْلَمُ أنَّ كَلامِي لا يُؤَثِّرُ فِيكُمْ؛ لِيَتِمَّ ما قَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِهِ مِن هَلاكِ هَذِهِ المَدِينَةِ؛ وخَرابِ هَذا القُدْسِ الجَلِيلِ؛ ولِذَلِكَ قَدْ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ؛ فَصارَتْ كالحِجارَةِ؛ بَلْ هي أقْسى وأصْلَبُ مِنَ الحِجارَةِ؛ لِأنَّ الحَجَرِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِيهِ (p-٣٦٣)الماءُ إذا دامَ انْصِبابُهُ عَلَيْهِ؛ وأنْتُمْ لا تُؤَثِّرُ فِيكُمُ المَواعِظُ الكَثِيرَةُ؛ ولا تَلِينُ قُلُوبُكُمْ؛ ولا تَنْكَسِرُ؛ ولَكِنِّي قَدْ بَلَغْتُ الغايَةَ فِيما يَلْزَمُنِي مِن نَصِيحَتِكُمْ؛ فاقْبَلُوا نُصْحِي؛ وأشْفِقُوا عَلى هَذا القُدْسِ الجَلِيلِ الَّذِي بَنَتْهُ الأنْبِياءُ المُقَدَّسُونَ؛ والمُلُوكُ العُظَماءُ؛ فَإنَّ بَقاءَ عِزِّكُمْ؛ وثَباتَ أمْرِكم مَقْرُونٌ بِبَقائِهِ؛ وعِمارَتِهِ؛ وإنْ خَرِبَ لَمْ يَبْقَ لَكم عِزٌّ؛ ولا إقْبالٌ؛ ولا دَوْلَةٌ؛ فاقْبَلُوا ما بَذَلَهُ لَكُمُ ابْنُ المَلِكِ مِنَ الأمانِ؛ وثِقُوا بِعَهْدِهِ وما ضَمِنَهُ مِنَ الإحْسانِ؛ وأنا الضّامِنُ لَكم عَنْهُ؛ وإنِ اتَّهَمْتُمُونِي بِأنِّي أخْدَعُكُمْ؛ وأُرِيدُ مُعاوَنَةَ الرُّومِ عَلَيْكُمْ؛ فَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ أبِي؛ وأُمِّي؛ وزَوْجَتِي الكَرِيمَةَ عَلَيَّ؛ وأوْلادِي مَعَكُمْ؛ فَإنْ ظَهَرَ لَكم مِن طِيطُوسُ بَعْدَ مُسالَمَتِكم لَهُ ما تَكْرَهُونَ فاقْتُلُوهُمْ؛ واقْتُلُونِي؛ فَقَدْ وهَبْتُكم دِماءَهُمْ؛ ودَمِي؛ عَلى ذَلِكَ.
ثُمَّ بَكى يُوسُفُ بُكاءً شَدِيدًا؛ وكانَ طِيطُوسُ يَسْمَعُ كَلامَهُ؛ فَرَقَّ لَهُ؛ وأمَرَ بِإطْلاقِ مَن كانَ مِنَ السَّبْيِ في عَسْكَرِهِ؛ وأطْلَقَ لَهم أنْ يَمْضُوا حَيْثُ شاؤُوا؛ فَمالَ أكْثَرُ أهْلِ المَدِينَةِ إلى طاعَةِ طِيطُوسَ؛ فَمَنَعَهُمُ الخَوارِجُ؛ ووَكَّلُوا بِأبْوابِ المَدِينَةِ مَن يَحْفَظُها؛ وأمَرُوا المُوَكَّلِينَ أنْ يَقْتُلُوا كُلَّ مَن أرادَ الخُرُوجَ؛ ولَمّا طالَ الحِصارُ اشْتَدَّ الجُوعُ؛ وكانَ الخَوارِجُ يُفَتِّشُونَ مَنازِلَ النّاسِ؛ ويَنْهَبُونَ الطَّعامَ؛ ويَقْتُلُونَ مَن مانَعَهم عَنْهُ؛ فَكانَ النّاسُ يَمُوتُونَ في المَدِينَةِ بِالجُوعِ؛ ومَن أرادَ الخُرُوجَ إلى ظاهِرِ (p-٣٦٤)المَدِينَةِ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِن نَباتِ الأرْضِ؛ قَتَلَهُ الخَوارِجُ؛ وإنْ قَدِرَ عَلى الخُرُوجِ قَتَلَهُ الرُّومُ؛ فَأفْناهم ذَلِكَ؛ وكانَ طِيطُوسُ إذا سَمِعَ ذَلِكَ رَقَّ لَهم واسْتَعْطَفَهُمْ؛ فَلا يَزِيدُ اسْتِعْطافُهُ الخَوارِجَ إلّا قَسْوَةً؛ ويُخاطِبُونَهُ بِالقَبِيحِ لِيَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ؛ لِئَلّا يَمِيلُ مَعَهُ النّاسُ؛ فَلَمّا رَأى ذَلِكَ جَدَّ في إخْرابِ السُّورِ الثّالِثِ؛ لِيُخَلِّصَ النّاسُ مِنَ الخَوارِجِ؛ فَقَسَّمَ عَسْكَرَهُ أرْبَعَةَ أقْسامٍ؛ ونَصَبَ كِباشًا عَلى الجِهاتِ الأرْبَعِ؛ فَخَرَجَ إلَيْهِمُ الخَوارِجُ فَقاتَلُوهم قِتالًا شَدِيدًا؛ وقَتَلُوا مِنَ الرُّومِ خَلْقًا كَثِيرًا؛ وكانُوا قَدْ نَدَبُوا أرْبَعَةً مِن أشِدّائِهِمْ لِإحْراقِ الكِباشِ إذا اشْتَغَلُوا بِالقِتالِ؛ ولَمْ يَزالُوا يُقاتِلُونَهم حَتّى تَمَّ لَهم ما أرادُوا؛ وأحْرَقُوا الكِباشَ؛ وجَمِيعَ آلاتِها؛ ونَظَرَ الرُّومُ مِن شَجاعَةِ اليَهُودِ وبَأْسِهِمْ ما هالَهُمْ؛ فانْهَزَمُوا؛ فَرَدَّهم طِيطُوسُ وجَعَلَ يُشَجِّعُهُمْ؛ وقالَ: أما تَأْنَفُونَ أنْ يَغْلِبَكُمُ اليَهُودُ بَعْدَ أنِ اسْتَظْهَرْنا عَلَيْهِمْ؛ وهَدَمْنا سُورَيْنِ مِن أسْوارِ المَدِينَةِ؛ ولَمْ يَبْقَ غَيْرُ سُورٍ واحِدٍ؛ وقَدْ هَلَكَ أكْثَرُهُمْ؛ ولَيْسَ لَهم مَن يَنْصُرُهُمْ؛ ونَحْنُ فَعَساكِرُنا مُتَوافِرَةٌ؛ ومَعَنا أُمَمٌ كَثِيرَةٌ تُعِينُنا عَلَيْهِمْ؛ ثُمَّ أمَرَهم أنْ يَتْرُكُوا قِتالَهم حَتّى يَهْلِكُوا مِنَ الجُوعِ؛ فَضَبَطُوا جَمِيعَ (p-٣٦٥)طُرُقِ المَدِينَةِ؛ فَضاقَ الأمْرُ بِهِمْ جِدًّا؛ واشْتَدَّ الجُوعُ؛ ولَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَقْدِرُ أنْ يَطْحَنَ قَمْحًا لِئَلّا يُنْهَبَ؛ ولا يَخْبِرَ لِئَلّا يَفْضَحَهُ الدُّخانُ؛ فَكانَ مَن عِنْدَهُ شَيْءٌ يَسْتَفُّونَ القَمْحَ والدَّقِيقَ؛ فَماتَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ؛ واشْتَغَلَ الأحْياءُ بِأنْفُسِهِمْ؛ فَما كانُوا يَدْفِنُونَ مَوْتاهُمْ؛ وكانَ الحَيُّ رُبَّما أخَذَ مَيِّتَهُ فَألْقاهُ في بِئْرٍ؛ ثُمَّ يُلْقِي نَفْسَهُ بَعْدَهُ لِيَمُوتَ؛ وكانَ بَعْضُهم يَحْفِرُ لَهُ قَبْرًا ثُمَّ يَضْطَجِعُ فِيهِ حَتّى يَمُوتَ؛ وامْتَلَأتِ الشَّوارِعُ بِالمَوْتى؛ فَكانَ الخَوارِجُ يُلْقُونَهم مِنَ السُّورِ إلى الوادِي الشَّرْقِيِّ؛ فَلَمّا رَآهم طِيطُوسُ اغْتَمَّ؛ ورَقَّ لَهُمْ؛ وكانَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ امْرَأةٌ مِن أهْلِ النِّعَمِ؛ أصْلُها مِن مَدِينَةٍ في حَيْرَةِ الأُرْدُنِّ؛ فَلَمّا كَثُرَتِ الفِتَنُ هُناكَ انْتَقَلَتْ في جُمْلَةِ مَنِ انْتَقَلَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ بِجَمِيعِ عَبِيدِها وسائِرِ نِعْمَتِها؛ ولَمْ يَكُنْ لَها غَيْرُ ابْنٍ واحِدٍ صَغِيرٍ؛ وهي تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا؛ فَلَمّا قَوِيَتِ المَجاعَةُ؛ ونَهَبَ الخَوارِجُ جَمِيعَ ما عِنْدَها؛ اشْتَدَّ بِها الأمْرُ؛ وكانَ ابْنُها يَتَضَوَّرُ مِنَ الجُوعِ؛ فَلَمّا زادَ بِها الجُوعُ؛ وما يُؤْلِمُ قَلْبَها مِن تَضَوُّرِ ابْنِها؛ أرادَتْ قَتْلَ ابْنِها لِتَأْكُلَهُ؛ فَبَقِيَتْ حائِرَةً؛ لا تَدْرِي عَلى أيِّ الأمْرَيْنِ تَحْمِلُ نَفْسَها؛ هَلْ تَقْتُلُ ولَدَها العَزِيزَ عَلَيْها بِيَدِها؛ وذَلِكَ مِن أعْظَمِ الأُمُورِ؛ وأشْنَعِها؛ أمْ تَصْبِرُ عَلى (p-٣٦٦)ما تَراهُ بِهِ؛ وبِنَفْسِها؛ مِنَ البَلاءِ؛ وقَدْ فارَقَها الصَّبْرُ وعُدِمَتِ الجَلَدَ؛ ثُمَّ زادَ بِها الجُوعُ؛ فَزالَ عَنْها التَّمْيِيزُ؛ فَقالَتْ: يا ابْنِي؛ وواحِدِي؛ قَدْ كُنْتُ آمُلُ أنْ تَعِيشَ حَتّى تَبِرَّنِي؛ وكُنْتُ أخافُ أنْ تَمُوتَ قَبْلِي فَأُفْجَعَ بِمَوْتِكَ؛ فَيا لَيْتَنِي كُنْتُ قَدْ ثَكِلْتُكَ؛ فَدَفَنْتُكَ؛ واحْتَسَبْتُكَ عِنْدَ اللَّهِ؛ والآنَ يا ولَدِي؛ فَقَدْ أحاطَ بِنا المَكْرُوهُ وأيْقَنّا بِالهَلاكِ؛ فالحَيُّ لا يَرْجُو الحَياةَ؛ والمَيِّتُ لا يُدْفَنُ؛ وأنا وأنْتَ هالِكانِ؛ وإنْ مُتَّ يا بُنَيَّ لَمْ يَدْفِنْكَ أحَدٌ وكُنْتَ كَغَيْرِكَ مِمَّنْ أكَلَتْهُ الكِلابُ؛ وطُيُورُ السَّماءِ؛ وقَدْ رَأيْتُ أنْ أقْتُلَكَ لِتَسْتَرِيحَ مِمّا أنْتَ فِيهِ؛ ثُمَّ آكُلَكَ فَأجْعَلَ بَطْنِي الَّتِي حَمَلْتُكَ فِيها قَبْرًا لَكَ؛ وأسُدَّ بِكَ جُوعِي؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضَ بِرِّكَ بِي؛ الَّذِي كُنْتُ أرْجُوهُ؛ وتَنالَ بِذَلِكَ الأجْرَ العَظِيمَ؛ ويَكُونَ ذَلِكَ عارًا عَلى هَؤُلاءِ الخَوارِجِ الَّذِينَ أوْقَعُونا في هَذا البَلاءِ؛ وزِيادَةً في سُخْطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ ويُذْكَرَ ذَلِكَ عَلى مَمَرِّ الدَّهْرِ؛ ويَتَحَدَّثَ بِهِ بَعْدَنا الأجْيالُ؛ ويَعْتَبِرَ بِهِ ذَوُو الألْبابِ؛ ثُمَّ قَبَضَتْ عَلى ابْنِها بِيَدِها الواحِدَةِ؛ وأخَذَتِ الحَدِيدَةَ بِالأُخْرى؛ وهي كالمَجْنُونَةِ؛ (p-٣٦٧)وحَوَّلَتْ وجْهَها عَنْهُ؛ لِئَلّا تَراهُ؛ وضَرَبَتْهُ بِالحَدِيدَةِ؛ فَماتَ؛ ثُمَّ أخَذَتْ مِنهُ؛ وشَوَتْهُ؛ وأكَلَتْهُ؛ فَلَمّا شَمَّ الخَوارِجُ رِيحَ ذَلِكَ اللَّحْمِ هَجَمُوا عَلَيْها؛ فَقالُوا لَها: مِن أيْنَ لَكِ هَذا اللَّحْمُ؟ ولِمَ اسْتَأْثَرْتِ بِهِ عَلَيْنا؟ فَقالَتْ: ما كُنْتُ بِالَّتِي أُوثِرُ نَفْسِي عَلَيْكُمْ؛ فاجْلِسُوا؛ فَجاءَتْ بِالمائِدَةِ؛ وأخْرَجَتْ ما بَقِيَ مِن جِسْمِ ابْنِها؛ وقالَتْ: هَذا ولَدِي؛ وأعَزُّ النّاسِ عِنْدِي؛ قَتَلْتُهُ بِيَدِي؛ لِإفْراطِ الجُوعِ؛ وأكَلْتُ مِن لَحْمِهِ؛ وهَذا بَقِيَّةُ جِسْمِهِ؛ عَزَلْتُها لَكُمْ؛ فَكُلُوا واشْبَعُوا؛ ولا تَكُونُوا أشَدَّ رَحْمَةً لِوَلَدِي مِنِّي؛ ولا تَضْعُفْ قُلُوبُكم عَنْ ذَلِكَ؛ فَإنَّهُ قَبِيحٌ لِشُجْعانٍ مِثْلِكم أنْ تَكُونَ امْرَأةٌ أقْوى قَلْبًا مِنكُمْ؛ وأنْتُمْ أحَقُّ بِأنْ تَرْضَوْا بِهَذا مِنِّي؛ لِأنَّكُمُ الَّذِينَ سَبَّبْتُمْ عَلَيْنا البَلاءَ حَتّى بَلَغْنا هَذا المَبْلَغَ؛ ثُمَّ رَفَعَتْ صَوْتَها تَبْكِي؛ وتَنْتَحِبُ؛ وتَنُوحُ عَلى ابْنِها؛ فَلَمّا رَأوْا ذَلِكَ هالَهُمْ؛ وخَرَجُوا مَذْعُورِينَ؛ واشْتُهِرَ خَبَرُها؛ فَقَلِقَ النّاسُ قَلَقًا شَدِيدًا؛ وتَحَقَّقُوا صِحَّةَ الوَعِيدِ الَّذِي سَبَقَ مِنَ اللَّهِ؛ وانْكَسَرَ الخَوارِجُ لِذَلِكَ؛ واسْتَعْظَمُوهُ؛ وأطْلَقُوا لِلنّاسِ الخُرُوجَ؛ فَخَرَجَ في ذَلِكَ الوَقْتِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (p-٣٦٨)فَلَمّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِطِيطُوسَ اسْتَعْظَمَهُ؛ واشْتَدَّ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ (تَعالى)؛ فَرَفَعَ يَدَهُ إلى السَّماءِ؛ وقالَ: اللَّهُمَّ؛ أنْتَ العالِمُ بِالخَفِيّاتِ؛ والمُطَّلِعُ عَلى السَّرائِرِ والنِّيّاتِ؛ أنْتَ تَعْلَمُ أنِّي لَمْ أجِئْ إلى هَذِهِ المَدِينَةِ لِأُسِيءَ إلى أهْلِها؛ ولَقَدْ ساءَنِي أمْرُ هَذِهِ المَرْأةِ؛ فَلا تُؤاخِذْنِي بِهِ؛ وطالِبْ هَؤُلاءِ الخَوارِجَ وانْتَقِمْ مِنهُمْ؛ وظَفِّرْنِي بِهِمْ؛ ولا تُمْهِلْهُمْ؛ وأمَرَ بِالإحْسانِ إلى مَن خَرَجَ إلَيْهِ مِنَ اليَهُودِ؛ فَكانَ كَثِيرٌ مِنهم لا يَقْدِرُونَ عَلى فَتْحِ أفْواهِهِمْ؛ وكَثِيرٌ مِنهم ماتَ لَمّا أكَلَ الطَّعامَ؛ وكانَ الصِّبْيانُ وغَيْرُهم يَخْتَطِفُونَ الخُبْزَ إذا نَظَرُوهُ؛ ويَنْهَشُونَهُ بِلا عَقْلٍ؛ فَإذا أكَلُوا ماتُوا؛ فَقالَ طِيطُوسُ لِيُوسُفَ بْنِ كَرْيُونَ: ما الحِيلَةُ في هَؤُلاءِ حَتّى لا يَمُوتُوا؟ فَقالَ: يَنْبَغِي أنْ يُسَقَوُا اللَّبَنَ والحِساءَ الرَّقِيقَ أيّامًا؛ حَتّى تَلِينَ أمْعاؤُهُمْ؛ ثُمَّ الطَّعامَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ فَسَلِمَ مِنهم جَماعَةٌ؛ وتَقَدَّمَ الرُّومُ إلى السُّورِ الثّالِثِ لِيَهْدِمُوهُ؛ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ يُوحانانُ وشَمْعُونُ وأصْحابُهُما؛ مَعَ ما هم فِيهِ مِنَ الضُّرِّ؛ فَقاتَلُوهم قِتالًا شَدِيدًا؛ وقَتَلُوا مِنهم جَماعَةً؛ فَأمَرَ طِيطُوسُ بِدَفْعِ الكَبْشِ عَلى السُّورِ؛ فَدُفِعَ عَلَيْهِ في اللَّيْلِ؛ فَهُدِمَ؛ وكَبَّرَ الرُّومُ تَكْبِيرًا عَظِيمًا؛ وكَبَّرَ اليَهُودُ مِن داخِلِ المَدِينَةِ؛ فَلَمْ يَجْسُرِ الرُّومُ عَلى (p-٣٦٩)دُخُولِ المَدِينَةِ؛ فَلَمّا أصْبَحُوا إذا سُورٌ جَدِيدٌ بِإزاءِ الهَدْمِ؛ قَدْ بَناهُ اليَهُودُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ؛ وهم قِيامٌ عَلَيْهِ؛ فاسْتَعْظَمَ الرُّومُ ذَلِكَ؛ وأيِسُوا مِنَ الفَتْحِ؛ فَقالَ طِيطُوسُ: هَذا رَطْبٌ لَمْ يَسْتَحْكِمْ؛ وإذا ضَرَبَهُ الكَبْشُ أسْرَعَ الِانْهِدامَ؛ فَطَلَعَ الرُّومُ عَلى السُّورِ الَّذِي هَدَمُوهُ؛ ووَقَفَ اليَهُودُ عَلى الجَدِيدِ واشْتَدَّ القِتالُ؛ فَهَزَمَهُمُ اليَهُودُ بَعْدَ أنْ قَتَلُوا كَثِيرًا مِنهُمْ؛ فَضَجِرَ الرُّومُ؛ وعَزَمُوا عَلى الرَّحِيلِ؛ فَجَمَعَ طِيطُوسُ أصْحابَهُ وقالَ: اعْلَمُوا أنَّ كُلَّ مَن يَعْمَلُ عَمَلًا فَإنَّما قَصْدُهُ إلى الغايَةِ؛ ولِذَلِكَ يَصْبِرُ عَلى التَّعَبِ لِيَبْلُغَ ما أرادَ؛ ورُبَّما كانَ آخِرُ العَمَلِ أشَقَّ مِن أوَّلِهِ؛ فَإنْ تَرْكَهُ ذَهَبَ تَعَبُهُ ضائِعًا؛ وبَقِيَ عَمَلُهُ ناقِصًا لا يَنْتَفِعُ بِهِ.
وضَرَبَ لَهم أمْثالًا في ذَلِكَ؛ ثُمَّ قالَ: وأنْتُمْ قَدْ صَبَرْتُمْ عَلى مُحارَبَةِ هَؤُلاءِ القَوْمِ؛ واسْتَظْهَرْتُمْ عَلَيْهِمْ إلى هَذِهِ الغايَةِ؛ حَتّى هَلَكَ رُؤَساؤُهم وجَبابِرَتُهُمْ؛ وخُرِّبَتْ حُصُونُهُمْ؛ ونُفُوا بِالجُوعِ والسَّيْفِ؛ ولَمْ يَبْقَ مِنهم غَيْرُ شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ كالمَوْتى؛ فَإنِ انْصَرَفْتُمْ كُنْتُمْ قَدْ ضَيَّعْتُمْ تَعَبَكُمْ؛ وأعَنْتُمْ عَلى أنْفُسِكُمْ؛ وأهَنْتُمُوها (p-٣٧٠)عِنْدَ كُلِّ مَن يَسْمَعُ خَبَرَكُمْ؛ ولَوْ كُنْتُمُ انْصَرَفْتُمْ عَنْهم قَبْلَ هَذا كانَ أحْسَنَ بِكُمْ؛ وأمّا الآنَ فَلا عُذْرَ لَكم في عَجْزِكم عَنْ مُحارَبَةِ قَوْمٍ قَدْ بَلَغَ بِهِمُ الضُّرُّ والجُوعُ هَذا المَبْلَغَ؛ فَإنْ رَجَعْتُمْ عَنْهم طَمِعَ فِيكم كُلُّ أحَدٍ؛ واجْتَرَأ عَلَيْكم كُلُّ مَن يَخافُكُمْ؛ ولِمَ لا تَتَأسَّوْنَ بِاليَهُودِ في الصَّبْرِ والشَّجاعَةِ؛ مَعَ فَناءِ رِجالِهِمْ؛ واجْتِماعِ المَكارِهِ عَلَيْهِمْ؛ وانْقِطاعِ رَجائِهِمْ؟ فَصَبْرُهم إمّا طَمَعًا في الظَّفَرِ؛ أوْ أنَفَةً مِنَ الغَلَبَةِ؛ أوْ رَغْبَةً في بَقاءِ الذِّكْرِ؛ فَأنْتُمْ أحَقُّ بِذَلِكَ مِنهم لِتَدْفَعُوا العارَ عَنْ أنْفُسِكُمْ؛ عَلى أنَّكم قَدْ صَبَرْتُمْ في أيّامِ تِيرُوسَ قَيْصَرِ عَلى مُحارَبَةِ هَؤُلاءِ القَوْمِ؛ وعَمِلْتُمْ عَلى ألّا تَرْجِعُوا عَنْهم إلّا بَعْدَ الظَّفَرِ؛ فَلَمّا مَلَكَ إسْفِسْيانُوسَ الَّذِي هو أشْجَعُ مِن تِيرُوسَ؛ وأعْظَمُ بَأْسًا؛ أرَدْتُمْ أنْ تَرْجِعُوا عَنْهم قَبْلَ أنْ تَظْفَرُوا؛ فَأيُّ عُذْرٍ لَكُمْ؟ فَلَمّا سَمِعُوا هَذا ثَبَتُوا.
ثُمَّ مَضى جَماعَةٌ مِنهم لَيْلًا؛ فَصَعِدُوا مِن تِلْكَ الثُّلْمَةِ؛ ودَخَلُوا إلى المَدِينَةِ؛ فَكَبَّرُوا؛ فانْتَبَهَ اليَهُودُ؛ وكانُوا قَدْ نامُوا لِطُولِ تَعَبِهِمْ؛ وضُرِّهِمْ؛ ولَزِمَ كُلٌّ مِنهم مَكانَهُ؛ ومَضى طِيطُوسُ إلى أصْحابِهِ فَوَقَفَ عِنْدَ السُّورِ (p-٣٧١)إلى أنْ أصْبَحُوا؛ فانْهَزَمَ اليَهُودُ إلى القُدْسِ؛ وتَبِعَهُمُ الرُّومُ؛ فاقْتَتَلُوا في الصَّحْنِ البَرّانِيِّ؛ ولَمْ يَكُنْ إلّا السُّيُوفُ لِضِيقِ المَوْضِعِ؛ فَكانَ بَيْنَهُما قِتالٌ لَمْ يَكُنْ فِيما مَضى؛ لِاسْتِقْبالِ الجَمِيعِ؛ لِأنَّهم حَصَلُوا في مَوْضِعٍ لا مَطْمَعَ فِيهِ بِالسَّلامَةِ إلّا بِالصِّدْقِ في القِتالِ؛ وكانَ الكُلُّ رَجّالَةً؛ فَعَظُمَتِ الحَرْبُ بَيْنَهُمْ؛ وعَلَتْ أصْواتُهم وضَجِيجُهُمْ؛ حَتّى سُمِعَتْ مِنَ البُعْدِ؛ وكَثُرَتِ القَتْلى في الفَرِيقَيْنِ؛ واسْتَظْهَرَ اليَهُودُ آخِرًا؛ وأخْرَجُوا الرُّومَ قُرْبَ رُبْعِ النَّهارِ؛ وأمَرَ طِيطُوسُ بِهَدْمِ سُورِ مَوْضِعٍ مُتَّصِلٍ بِالقُدْسِ؛ يُسَمّى أنْطُونْيا؛ لِيَتَّسِعَ المَجالُ لِأصْحابِهِ؛ فَلَمّا هَدَمَ ذَلِكَ انْثَلَمَ سُورُ القُدْسِ وسَهُلَتِ الطَّرِيقُ إلَيْهِ؛ فَبادَرَ اليَهُودُ وبَنَوْهُ؛ وأدْخَلُوهُ في جُمْلَةِ القُدْسِ؛ فَصارَ مُرَبَّعًا؛ فَكانَ ذَلِكَ تَصْدِيقَ ما رَأوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلى الحَجَرِ القَدِيمِ المُقَدَّمِ ذِكْرُهُ: ”إذا كَمُلَ بُنْيانُ القُدْسِ فَصارَ مُرَبَّعًا؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُخَرَّبُ بَيْتُ المَقْدِسِ“؛ وكانَ اليَهُودُ قَدْ نَسُوا ذَلِكَ؛ فَلَمّا رَأوْهُ تَذَكَّرُوا؛ وعَلِمُوا أنَّ المُدَّةَ قَدْ تَمَّتْ؛ وأنَّهُ سَيُخَرَّبُ.
وكانَ يَوْمَ هَذِهِ الحَرْبِ العَظِيمَةِ عِيدَ العَنْصَرَةِ؛ فَقَرُبَ طِيطُوسُ مِنَ القُدْسِ؛ وكَلَّمَهُمْ؛ ورَغَّبَهم في المُسالَمَةِ؛ لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ العِبادَةِ في هَذا العِيدِ؛ ووَعَدَهم بِالإحْسانِ إلَيْهِمْ؛ وقالَ: قَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ مَلِكَكم بَحَنْيا لَمّا حاصَرَهُ (p-٣٧٢)بُخْتَنَصَّرُ مَلِكُ بابِلَ؛ وخَرَجَ إلَيْهِ مُسْتَأْمِنًا؛ انْتَفَعَ بِذَلِكَ؛ ونَفَعَ قَوْمَهُ وبَلَدَهُ؛ فَسَلِمُوا؛ وأنَّ صِدْقِيا المَلِكَ لَمّا لَجَّ في مُحارَبَةِ بُخْتَنَصَّرَ؛ ولَمْ يُسالِمْهُ كَما أمَرَتْهُ الأنْبِياءُ؛ أهْلَكَ المَدِينَةَ والأُمَّةَ وأساءَ إلى نَفْسِهِ؛ وإلَيْهِمْ؛ فَسَبِيلُكم أنْ تَعْتَبِرُوا بِهِما؛ وتَهْتَدُوا بِأصْوَبِهِما فِعْلًا؛ وأحْمَدِهِما عاقِبَةً؛ فاقْبَلُوا نَصِيحَتِي؛ واكْتَفُوا بِما جَرى؛ ووَعَدَهم أنْ يَعْفُوَ عَنْ جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ؛ ويُحْسِنَ إلَيْهِمْ؛ وأطالَ الكَلامَ.
وكانَ يُوسُفُ بْنُ كَرْيُونَ يَتَرَحَّمُ لَهُمْ؛ ويَبْكِي بُكاءً شَدِيدًا؛ ثُمَّ قالَ لَهم يُوسُفُ: إنِّي لَسْتُ أعْجَبُ مِن خَرابِ هَذِهِ المَدِينَةِ؛ لِعِلْمِي بِأنَّ مُدَّتَها قَدِ انْتَهَتْ؛ ولَكِنِّي أتَعَجَّبُ مِنكُمْ؛ وأنْتُمْ تَقْرَؤُونَ كِتابَ دانْيالَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وتَعْلَمُونَ ما ذَكَرَهُ مِن بُطْلانِ القَرابِينِ؛ وعَدَمِ الكاهِنِ المَسِيحِ؛ وأنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ لا تَنْكَسِرُونَ؛ ولا تَخْضَعُونَ لِلَّهِ؛ ولا تَسْتَسْلِمُونَ لِمَن قَدْ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؛ فَلَمْ يَقْبَلِ الخَوارِجُ؛ ولا رَجَعُوا؛ غَيْرَ أنَّ جَماعَةً مِنَ الكَهَنَةِ والرُّؤَساءِ تَمَّ لَهُمُ الخُرُوجُ إلى الرُّومِ؛ فَآمَنُهُمْ؛ وأحْسَنَ إلَيْهِمْ؛ فَمَنَعَ الخَوارِجُ مَن بَقِيَ؛ وضَبَطُوا الطُّرُقَ؛ فَبَكى اليَهُودُ؛ وشَكَوْا مَنعَ الخَوارِجِ لَهم مِنَ الخُرُوجِ؛ فَأرادَ الخَوارِجُ قَتْلَهُمْ؛ فَبادَرَ الرُّومُ لِيُخَلِّصُوهُمْ؛ فَهَجَمُوا إلى القُدْسِ؛ فَقاتَلُوهم قِتالًا شَدِيدًا؛ فانْهَزَمَ الرُّومُ؛ وأدَّتْهُمُ الهَزِيمَةُ (p-٣٧٣)إلى داخِلِ القُدْسِ الأعْظَمِ؛ قُدْسِ الأقْداسِ؛ فَقَتَلَهُمُ اليَهُودُ فِيهِ؛ فاخْتارَ طِيطُوسُ مِن عَسْكَرِهِ ثَلاثِينَ ألْفًا؛ وأمَرَهم أنْ يَدْخُلُوا إلى صَحْنِ القُدْسِ لِمُحارَبَتِهِمْ؛ وأرادَ هو الدُّخُولَ مَعَهُمْ؛ فَمَنَعَهُ أصْحابُهُ؛ وقالُوا: قِفْ عَلى مَوْضِعٍ عالٍ؛ لِتَقْوى قُلُوبُ أصْحابِكَ؛ ويَبْذُلُوا المَجْهُودَ في القِتالِ؛ ولا تُخاطِرْ بِنَفْسِكَ وبِنا؛ واتَّفَقَ رَأْيُهم عَلى بَياتٍ؛ فَعَلِمَ بِذَلِكَ اليَهُودُ فَلَمْ يَنامُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ؛ فَلَمّا أصْبَحُوا افْتَرَقَ اليَهُودُ عَلى أبْوابِ صَحْنِ القُدْسِ؛ وأقامُوا عَلى مُقاتَلَةِ الرُّومِ سَبْعَةَ أيّامٍ؛ فَقَتَلُوا مِنهم جَماعَةً كَثِيرَةً؛ وأبْعَدُوهم عَنِ القُدْسِ؛ فَأمَرَ طِيطُوسُ أصْحابَهُ بِالكَفِّ عَنْهم لِيُفْنِيَهُمُ الجُوعُ؛ وكانَ بِقُرْبِ القُدْسِ قَصْرٌ عَظِيمٌ مِن بِناءِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ - عَلَيْهِما السَّلامُ -؛ ثُمَّ زادَ فِيهِ مُلُوكُ البَيْتِ الثّانِي طَبَقَةً عالِيَةً مِنَ الخَشَبِ الحَسَنِ؛ ووَزَرُوا جَمِيعَ الجُدُرِ بِالخَشَبِ؛ فَطَلَوْا جَمِيعَ ما فِيهِ مِنَ الخَشَبِ بِالنِّفْطِ؛ والكِبْرِيتِ؛ والزِّفْتِ؛ ثُمَّ أخْفَوْا فِيهِ رَجُلًا مِنهم لِيُشْعِلَ النّارَ في مَواضِعَ مِن ذَلِكَ الخَشَبِ إذا دَخَلَهُ الرُّومُ؛ وكانَ فِيهِ بابٌ خَفِيٌّ يَخْرُجُ إلى مَوْضِعٍ آخَرَ لا يَفْطِنُ لَهُ إلّا مَن يَعْرِفُهُ؛ ثُمَّ مَضَوْا إلى عَسْكَرِ الرُّومِ لَيْلًا وهم في القُدْسِ فَناوَشُوهُمْ؛ فاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرُّومِ خَلْقٌ كَثِيرٌ؛ فَقاتَلُوهم ساعَةً؛ ثُمَّ انْهَزَمُوا؛ فَدَخَلُوا هَذا القَصْرَ؛ فَدَخَلَ الرُّومُ وراءَهُمْ؛ فَلَمْ يَجِدُوا أحَدًا مِنهُمْ؛ فَصَعِدُوا (p-٣٧٤)إلى الطَّبَقَةِ العالِيَةِ؛ فَخَرَجَ اليَهُودِيُّ الَّذِي كانَ قَدِ اخْتَفى؛ فاخْتَلَطَ بِهِمْ؛ وأطْلَقَ النّارَ في تِلْكَ المَواضِعِ؛ فاضْطَرَمَتِ النّارُ في جَمِيعِ جَوانِبِهِ؛ فَبادَرَ الرُّومُ إلى البابِ؛ فَوَجَدُوا اليَهُودَ قَدْ سَدُّوهُ بِسُيُوفِهِمْ فَهَلَكُوا؛ وكانَ فِيهِمْ جَماعَةٌ مِن وُجُوهِ الرُّومِ؛ فَخافَ الرُّومُ مِنَ اليَهُودِ؛ ولَمْ يَأْمَنُوا أنْ يَحْتالُوا عَلَيْهِمْ بِأمْرٍ آخَرَ؛ فَخَرَجُوا مِنَ القُدْسِ والمَدِينَةِ؛ ورَجَعُوا إلى مُعَسْكَرِهِمْ؛ فَأمَرَ طِيطُوسُ بِضَبْطِ الطُّرُقِ؛ والتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ؛ لِيُهْلِكَهُمُ الجُوعُ؛ فَماتَ أكْثَرُهُمْ؛ وخَرَجَ كَثِيرٌ مِن أصْحابِ الخَوارِجِ إلى طِيطُوسَ؛ فَقَتَلَهُمْ؛ ثُمَّ دَخَلَتِ الرُّومُ إلى بَيْتِ اللَّهِ؛ فَلَمْ يَجِدُوا مَن يُمانِعُهُمْ؛ وكانَ طِيطُوسُ قَدْ أكَّدَ عَلى أصْحابِهِ في ألّا يَحْرِقُوا القُدْسَ؛ فَقالَ لَهُ رُؤَساءُ أصْحابِهِ: إنَّكَ إنْ لَمْ تَحْرِقْهُ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ اليَهُودِ؛ لِأنَّهم لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَ ما كانَ باقِيًا؛ فَإذا أُحْرِقَ ذَهَبَ عِزُّهُمْ؛ فانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ؛ فَلَمْ يَبْقَ لَهم ما يُقاتِلُونَ عَنْهُ؛ فَقالَ: لا تَحْرِقُوهُ إلّا أنْ آمُرَكُمْ؛ وكانَ في طَرِيقِهِ بابٌ مُغَشّى بِصَفائِحِ الفِضَّةِ؛ وهو مُغْلَقٌ؛ فَأحْرَقَهُ بَعْضُ الرُّومِ لِيَأْخُذُوا الفِضَّةَ؛ فَلَمّا احْتَرَقَ وجَدُوا الطَّرِيقَ إلى القُدْسِ الأجَلِّ؛ فَدَخَلُوهُ؛ وحَمَلُوا أصْنامَهم فَنَصَبُوها فِيهِ؛ فَخَرَجَ قَوْمٌ مِمَّنْ بَقِيَ مِنَ اليَهُودِ في اللَّيْلِ إلى أُولَئِكَ الَّذِينَ في القُدْسِ؛ فَقَتَلُوهُمْ؛ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ طِيطُوسَ جاءَ إلى القُدْسِ فَقَتَلَ أكْثَرَ مَن وجَدَ فِيهِ مِنَ اليَهُودِ؛ وهَرَبَ مَن بَقِيَ مِنهم إلى (p-٣٧٥)جَبَلِ صِهْيُونَ؛ فَلَمّا كانَ الغَدُ أحْرَقَ الرُّومُ أبْوابَ قُدْسِ الأقْداسِ؛ وكانَتْ مُغَشّاةً بِالذَّهَبِ؛ فَلَمّا سَقَطَتْ كَبَّرُوا وصَرَخُوا صُراخًا عَظِيمًا؛ فَجاءَ طِيطُوسُ مُسْرِعًا لِيَمْنَعَ مِن إحْراقِهِ؛ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ؛ ويُقالُ: إنَّهُ صاحَ حَتّى انْقَطَعَ صَوْتُهُ؛ فَلَمّا عَلِمَ أنَّ الأمْرَ قَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ دَخَلَ لِيَنْظُرَهُ قَبْلَ أنْ يَحْتَرِقَ؛ فَلَمّا رَأى حُسْنَهُ وبَهْجَتَهُ تَحَيَّرَ؛ وتَعَجَّبَ؛ وقالَ: حَقًّا إنَّ هَذا البَيْتَ الجَلِيلَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَيْتَ اللَّهِ؛ إلَهِ السَّماءِ؛ ومَسْكَنَ جَلالِهِ ونُورِهِ؛ وإنَّهُ لِيَحِقُّ لِلْيَهُودِ أنْ يُحارِبُوا عَنْهُ ويَسْتَقِلُّوا عَلَيْهِ؛ ولَقَدْ أصابَتِ الأُمَمُ؛ وأحْسَنَتْ فِيما كانَتْ تَفْعَلُهُ مِن إعْظامِ هَذا البَيْتِ وإكْرامِهِ؛ وحَمْلِ الهَدايا إلَيْهِ؛ وإنَّهُ لِأعْظَمُ مِن هَيْكَلِ رُومِيَّةَ؛ ومِن جَمِيعِ هَياكِلِ الأُمَمِ الَّتِي شاهَدْناها؛ وبَلَغَنا خَبَرُها؛ وما أرَدْتُ إحْراقَهُ؛ ولَكِنْ هم فَعَلُوا ذَلِكَ بِشَرِّهِمْ؛ ولَجاجِهِمْ؛ وكانَ مَن بَقِيَ مِنَ الكَهَنَةِ لَمّا رَأوُا الحَرِيقَ حارَبُوا الرُّومَ عَنْهُ؛ فَلَمّا عَلِمُوا أنَّهم عاجِزُونَ عَنْ دَفْعِهِمْ قالُوا: ما نُرِيدُ أنْ نَبْقى بَعْدَهُ؛ فَطَرَحُوا أنْفُسَهم في النّارِ؛ فَهَلَكُوا؛ ومَضى عِنْدَ ذَلِكَ مَن بَقِيَ مِنَ اليَهُودِ إلى جَمِيعِ ما في المَدِينَةِ مِنَ القُصُورِ الجَلِيلَةِ؛ والمَنازِلِ الحَسَنَةِ؛ فَأحْرَقُوها بِجَمِيعِ ما فِيها مِنَ الذَّخائِرِ (p-٣٧٦)والآلاتِ؛ وكانَ حَرِيقُ القُدْسِ في اليَوْمِ العاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ الخامِسِ؛ وهو آبُ؛ وذَلِكَ نَظِيرُ اليَوْمِ الَّذِي أحْرَقَ فِيهِ الكَسْدانِيُّونَ البَيْتَ الأوَّلَ.
ولَمّا كانَ في غَدِ هَذا اليَوْمِ ظَهَرَ مِنَ اليَهُودِ رَجُلٌ مُتَنَبِّئٌ؛ فَقالَ لَهُمْ: اعْلَمُوا أنَّ هَذا القُدْسَ سَيَعُودُ عَنْ قَلِيلٍ مَبْنِيًّا كَما كانَ؛ مِن غَيْرِ أنْ يَبْنِيَهُ الآدَمِيُّونَ؛ بَلْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ (تَعالى)؛ فَداوِمُوا عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِن مُحارَبَةِ الرُّومِ؛ والِامْتِناعِ مِن طاعَتِهِمْ؛ فاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَماعَةٌ؛ فَقاتَلُوا؛ فَظَفِرَ بِهِمُ الرُّومُ؛ فَقَتَلُوهم بِأُسَرِهِمْ؛ وقَتَلُوا كَثِيرًا مِن عَوامِّ اليَهُودِ؛ وضُعَفائِهِمْ؛ مِمَّنْ كانُوا قَدْ رَحِمُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وراسَلَ يُوحانانُ وشَمْعُونُ طِيطُوسَ؛ يَطْلُبانِ مِنهُ الأمانَ؛ فَقالَ: قَدْ كُنْتُ طَلَبْتُ إلَيْكُما ذَلِكَ قَبْلُ؛ فَأمّا الآنُ فَأنْتُما في قَبْضَتِي؛ ولَيْسَ لِي عُذْرٌ عِنْدَ اللَّهِ؛ ولا عِنْدَ أحَدٍ مِنَ النّاسِ في اسْتِبْقائِكُما.
فانْحَدَرا لَيْلًا إلى القُدْسِ بِأصْحابِهِما؛ فَقَتَلُوا قائِدَيْنِ مِنَ الرُّومِ؛ فَأمَرَ طِيطُوسُ بِقَتْلِ مَن بَقِيَ في المَدِينَةِ مِنَ اليَهُودِ؛ مِمَّنْ كانَ قَدْ رَحِمَهُ؛ فَلَمّا رَأى (p-٣٧٧)أصْحابُ شَمْعُونَ ذَلِكَ خافُوا عَلى أنْفُسِهِمْ؛ فَأرْسَلُوا إلى طِيطُوسَ أنْ يُؤَمِّنَهُمْ؛ فَقَتَلَ شَمْعُونُ رُؤَساءَهُمْ؛ وهَرَبَ الباقُونَ إلى طِيطُوسَ فَآمَنُهم وكَفَّ أصْحابَهُ عَمَّنْ بَقِيَ مِنَ اليَهُودِ في المَدِينَةِ؛ ثُمَّ هَرَبَ شَمْعُونُ ويُوحانانُ مِن جَبَلِ صِهْيُونَ إلى مَوْضِعٍ اسْتَتَرا فِيهِ؛ فَتَمَّ اسْتِيلاءُ طِيطُوسَ عَلى جَمِيعِ البَلَدِ؛ وهَدَمَ سُورَ جَبَلِ صِهْيُونَ؛ ولَمّا طالَ عَلَيْهِما الِاسْتِتارُ؛ واشْتَدَّ بِهِما الجُوعُ؛ خَرَجا إلى طِيطُوسَ؛ فَقَتَلَهُما؛ ثُمَّ رَحَلَ مُتَوَجِّهًا إلى رُومِيَّةَ؛ ومَعَهُ السَّبْيُ؛ والغَنائِمُ؛ وكانَ كُلَّما نَزَلَ مُنْزَلًا يُقَدِّمُ جَماعَةً مِمَّنْ ظَفِرَ بِهِ مِنَ الخَوارِجِ إلى السِّباعِ الَّتِي مَعَهُ؛ حَتّى أفْناهُمْ؛ وكانَ ألْعازارُ لَمّا رَأى إفْسادَ شَمْعُونَ؛ وقَتْلَهُ مَن لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ مِنَ اليَهُودِ؛ قَدْ عَلِمَ أنْ لا مُخَلِّصَ لَهم مِنَ البَلاءِ؛ فَخَرَجَ عَنْهُ قَبْلَ اسْتِيلاءِ الرُّومِ عَلى البَلَدِ عَنْها وأقامَ في بَعْضِ المَواضِعِ؛ فَلَمّا رَحَلَ طِيطُوسُ مَضى إلى قَرْيَةِ مَصِيرا فَعَمَّرَ حِصْنَها؛ فَسَمِعَ بِهِ طِيطُوسُ وهو بِأنْطاكِيَّةَ فَرَدَّ إلَيْهِ قائِدًا مِن قُوّادِهِ؛ فَحاصَرَهُ؛ فَلَمّا عايَنَ الهَلَكَةَ دَعا أصْحابَهُ إلى قَتْلِ مَن خَلْفَهم مِنَ العِيالِ؛ والِاسْتِقْتالِ؛ لِيَمُوتُوا أعِزَّةً؛ فَأجابُوهُ إلى ذَلِكَ؛ وقاتَلُوا حَتّى قُتِلُوا كُلُّهُمْ؛ فَسُبْحانَ القَوِيِّ الشَّدِيدِ؛ الفَعّالِ لِما يُرِيدُ.
{"ayah":"إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











