الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكم وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا وجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا﴾ .
وفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم لَمّا عَصَوْا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أقْوامًا قَصَدُوهم بِالقَتْلِ والنَّهْبِ والسَّبْيِ، ولَمّا تابُوا أزالَ عَنْهم تِلْكَ المِحْنَةَ وأعادَ عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّهم إنْ أطاعُوا فَقَدْ أحْسَنُوا إلى أنْفُسِهِمْ، وإنْ أصَرُّوا عَلى المَعْصِيَةِ فَقَدْ أساءُوا إلى أنْفُسِهِمْ، وقَدْ تَقَرَّرَ في العُقُولِ أنَّ الإحْسانَ إلى النَّفْسِ حَسَنٌ مَطْلُوبٌ، وأنَّ الإساءَةَ إلَيْها قَبِيحَةٌ؛ فَلِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ .
المسألة الثّانِيَةُ؛ قالَ الواحِدِيُّ: لا بُدَّ هَهُنا مِن إضْمارٍ، والتَّقْدِيرُ: وقُلْنا إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم، والمَعْنى: إنْ أحْسَنْتُمْ بِفِعْلِ الطّاعاتِ فَقَدْ أحْسَنْتُمْ إلى أنْفُسِكم مِن حَيْثُ إنَّ بِبَرَكَةِ تِلْكَ الطّاعاتِ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْكم أبْوابَ الخَيْراتِ والبَرَكاتِ، وإنْ أسَأْتُمْ بِفِعْلِ المُحَرَّماتِ أسَأْتُمْ إلى أنْفُسِكم مِن حَيْثُ إنَّ بِشُؤْمِ تِلْكَ المَعاصِي يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْكم أبْوابَ العُقُوباتِ.(p-١٢٧)
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ النَّحْوِيُّونَ: إنَّما قالَ: ﴿وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ لِلتَّقابُلِ، والمَعْنى: فَإلَيْها أوْ فَعَلَيْها مَعَ أنَّ حُرُوفَ الإضافَةِ يَقُومُ بَعْضُها مَقامَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها﴾ ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ [الزلزلة: ٤ - ٥] أيْ: إلَيْها.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ أهْلُ الإشاراتِ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعالى غالِبَةٌ عَلى غَضَبِهِ بِدَلِيلِ أنَّهُ لَمّا حَكى عَنْهُمُ الإحْسانَ أعادَهُ مَرَّتَيْنِ فَقالَ: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكُمْ﴾ ولَمّا حَكى عَنْهُمُ الإساءَةَ اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِها مَرَّةً واحِدَةً فَقالَ: ﴿وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ ولَوْلا أنَّ جانِبَ الرَّحْمَةِ غالِبٌ وإلّا لَما كانَ كَذَلِكَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناهُ وعْدُ المَرَّةِ الأخِيرَةِ، وهَذِهِ المَرَّةُ الأخِيرَةُ هي إقْدامُهم عَلى قَتْلِ زَكَرِيّا ويَحْيى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قالَ الواحِدِيُّ: فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ البابِلِيَّ المَجُوسِيَّ أبْغَضَ خَلْقِهِ إلَيْهِ فَسَبى بَنِي إسْرائِيلَ وقَتَلَ وخَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ.
أقُولُ: التَّوارِيخُ تَشْهَدُ بِأنَّ بُخْتُنَصَّرَ كانَ قَبْلَ وقْتِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويَحْيى وزَكَرِيّا عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ بِسِنِينَ مُتَطاوِلَةٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ المَلِكَ الَّذِي انْتَقَمَ مِنَ اليَهُودِ بِسَبَبِ هَؤُلاءِ مَلِكٌ مِنَ الرُّومِ يُقالُ لَهُ: قُسْطَنْطِينُ المَلِكُ، واللَّهُ أعْلَمُ بِأحْوالِهِمْ، ولا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ مِن أغْراضِ تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِمَعْرِفَةِ أعْيانِ هَؤُلاءِ الأقْوامِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: جَوابُ قَوْلِهِ: ﴿فَإذا جاءَ﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ بَعَثْناهم لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم وإنَّما حَسُنَ هَذا الحَذْفُ لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا﴾ [الإسراء: ٥] ثُمَّ قالَ: ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: يُقالُ: ساءَهُ يَسُوءُهُ أيْ: أحْزَنَهُ، وإنَّما عَزا الإساءَةَ إلى الوُجُوهِ؛ لِأنَّ آثارَ الأعْراضِ النَّفْسانِيَّةِ الحاصِلَةِ في القَلْبِ إنَّما تَظْهَرُ عَلى الوَجْهِ، فَإنْ حَصَلَ الفَرَحُ في القَلْبِ ظَهَرَتِ النَّضْرَةُ والإشْراقُ والإسْفارُ في الوَجْهِ. وإنْ حَصَلَ الحُزْنُ والخَوْفُ في القَلْبِ ظَهَرَ الكُلُوحُ والغَبَرَةُ والسَّوادُ في الوَجْهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ عُزِيَتِ الإساءَةُ إلى الوُجُوهِ في هَذِهِ الآيَةِ، ونَظِيرُ هَذا المَعْنى كَثِيرٌ في القُرْآنِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ العامَّةُ: لِيَسُوءُوا عَلى صِيغَةِ المُغايَبَةِ، قالَ الواحِدِيُّ: وهي مُوافِقَةٌ لِلْمَعْنى ولِلَّفْظِ. أمّا المَعْنى فَهو أنَّ المَبْعُوثِينَ هُمُ الَّذِينَ يَسُوءُونَهم في الحَقِيقَةِ، لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ ويَأْسِرُونَ وأمّا اللَّفْظُ فَلِأنَّهُ يُوافِقُ قَوْلَهُ: ﴿ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ﴾ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وحَمْزَةَ: ”لِيَسُوءَ“ عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلى الواحِدِ، وذَلِكَ الواحِدُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أحَدَ أشْياءَ ثَلاثَةٍ: إمّا اسْمُ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِأنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ هو قَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْنا وأمْدَدْنا، وكُلُّ ذَلِكَ ضَمِيرٌ عائِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى، وإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الواحِدُ هو البَعْثَ ودَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿بَعَثْنا﴾ والفِعْلُ المُتَقَدِّمُ يَدُلُّ عَلى المَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٠] وقالَ الزَّجّاجُ: لِيَسُوءَ الوَعْدُ وُجُوهَكم، وقَرَأ الكِسائِيُّ بِالنُّونِ وهَذا عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلى اللَّهِ تَعالى كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكم وأمْدَدْنا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ يُقالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ تَبْرًا إذا هَلَكَ وتَبَّرَهُ أهْلَكَهُ. قالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ جَعَلْتَهُ مُكَسَّرًا ومُفَتَّتًا فَقَدْ تَبَّرْتَهُ، ومِنهُ قِيلَ: تِبْرُ الزُّجاجِ وتِبْرُ الذَّهَبِ لِمُكَسَّرِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: (p-١٢٨)﴿إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هم فِيهِ وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٩] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا تَبارًا﴾ [نوح: ٢٨] . وقَوْلُهُ: ﴿ما عَلَوْا﴾ يَحْتَمِلُ ما غَلَبُوا عَلَيْهِ وظَفِرُوا بِهِ، ويَحْتَمِلُ ويُتَبِّرُوا ما دامُوا غالِبِينَ، أيْ: ما دامَ سُلْطانُهم جارِيًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وقَوْلُهُ: ﴿تَتْبِيرًا﴾ ذِكْرٌ لِلْمَصْدَرِ عَلى مَعْنى تَحْقِيقِ الخَبَرِ وإزالَةِ الشَّكِّ في صِدْقِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] أيْ: حَقًّا، والمَعْنى: ولِيُدَمِّرُوا ويُخَرِّبُوا ما غَلَبُوا عَلَيْهِ.
{"ayah":"إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق