قوله: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ﴾ إلى قوله: ﴿وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾.
المعنى: ثم اتبع طرقاً ومنازل. أي طلب زيادة في العلم يخلق الله [عز وجل] وعجائبه [سبحانه] وقيل المعنى: اتبع سبباً آخر يبلغه إلى قطر من أقطار الأرض ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ أي: لا جبل في أرضهم ولا شجر يسترهم من الشمس بظله ولا يحمل بلدهم بناء فيسكنون البيوت وإنما يغورون في المياه ويتسربون في الاسراب، قال: ذلك الحسن، وقتادة.
وقال: ابن جريج: جاءهم جيش فقال: لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها فقالوا، لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فهربوا فذهبوا هاربين في الأرض. قال: ابن جريج: لم يبنوا فيها بناء قط، وكانوا إذا طلعت الشمس دخلوا اسراباً لهم حتى تزول الشمس ودخلوا البحر وليس في أرضهم جبل.
قال: قتادة: كانوا في مكان لا يستقر فيه البناء، ويكونوا في أسراب إذا طلعت الشمس حتى إذا زالت خرجوا إلى معائشهم.
وقال: الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس عليهم يغورون في المياه، فإذا غربت الشمس خرجوا كما ترعى البهائم. وقال: قتادة يقال: لهم الزنج.
وقوله: "كذلك" الكاف في موضع خفض أي قوم ﴿لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ مثل ذلك القبيل الذي عند مغرب الشمس.
وقيل: هي في موضع نصب نعت لسسبب أي ثم اتبع سبباً مثل اتباعه الأول: أو نعت لمصدر تطلع أي تطلع طلوعاً مثل غروبها وفيه بعد.
ويجوز أن يكون المعنى لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك، أي مثل أولئك الذين وجدهم في غروب الشمس. فقيل له إما أن تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسناً فقال: فيهم مثل قوله الأول. فالمعنى وكان شأنه مع هؤلاء كشأنه مع الذين [وجدهم] عند غروب الشمس. وحذف الجملة لدلالة كذلك عليها.
وقيل: هي في موضع رفع على معنى: "الأمر كذلك"، أو على معنى حكمهم مثل حكم أولئك الذين تغرب عليهم الشمس. والوقف على "كذلك" حسن في هذا الوجه.
* * *
ثم قال: ﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً﴾.
أي: بما عند مطلع الشمس علماً لا يخفى علينا من أحوالهم وأحوال غيرهم شيء.
* * *
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾.
أي: اتبع طرقاً ومنازل ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾، أي بين الجبلين. قال: عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم فهو "السَّد" بالفتح وما كان من صنع الله [عز وجل] فهو "السُّد" بالضم. ولذلك قال: أبو عبيدة وقطرب والفراء.
وقال: أبو عمر[و] "السَّد" بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء. والسُّد بالضم هو ما كان من غشاوة بالعين. وقال: أبو عمر[و] تميم تجعله كله سواء.
وقال ابن [أبي] إسحاق: السد بالفتح ما لم تره عيناك، وبالضم ما رأته عيناك. وقال: الكسائي هما لغتان: بمعنى واحد. وقال المبرد: "السد" بالفتح المصدر وبالضم الاسم، وهو قول الخليل وسيبويه.
* * *
ثم قال: ﴿وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾.
أي: لا يكادون يفقهون ما يقال: لهم. ومن قرأ [يفقهون] بضم الياء. قدر حذف مفعول، فمعناه لا يكادون يفقهون احداً قولهم.
يقال: فَقِه يفقه إذا فهم. وأَفْقَه "غيره إذا أفهمه. وفقُه يفقُه إذا صار فقيهاً.
والسدان جبلان، سد ما بينهما بردم ليقطع أذى ياجوج ومأجوج وهم من وراء ذلك، قال: ابن عباس: والجبلان أرمينية وأذربيجان.
* * *
ثم قال: ﴿قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ﴾.
أي: قالوا بلغتهم [أو] أومؤوا إليه بذلك ففهم عنهم. ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان معرفتان فلذلك لا تنصرف. ولذلك ترك همزه من [رأى] ذلك، لأن الأعجمي غير مشتق.
فأما من همزه فإنه جعله عربياً مشتقاً من اجت النار، ولكن لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة وهو معرفة، وقال: الكسائي: من همزه جعله من أجيج النار يفعول ومفعول، ويجوز أن يكون من ترك حمزه أخذه أيضاً من هذا وسهل الهمزة على القياس فأبدل منها ألفاً، ذكر سعيد بن عبد العزيز: أن إفسادهم في أنهم كانوا يأكلون الناس.
قال: محمد بن إسحاق: حدثني من لا اتهم عن وهب بن منبه اليماني، وكان له علم بالأحاديث الأولى، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره. وكان اسمه الاسكندر وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، فلما بلغ وكان عبداً صالحاً، قال: الله: يا ذا القرنين إني باعثك إلى امم الأرض وهي أمم مختلفة ألسنتها وهم جميع أهل الأرض منهم أمتان بينهما طول الأرض [كله]. ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض [كله]. وأمم في وسط الأرض ومنهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج. فأما اللتان بينهما طول الأرض فامة عند مغرب الشمس يقال: لها ناسك وأما الأخرى فعند مطلع الشمس يقال: لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فاقة في بطن الأرض الأيمن يقال لها هاويل، وأما الأخرى التي في بطن الأرض الأيسر، فيقال: لها راويل، ثم مضى في الحديث بطوله. وقال: في بعض الحديث: فلما كان في بعض الطريق مما يلي منطقع الترك نحو المشرق قالت له أمة من الانس صالحة: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله كثير فيهم مشابهة من الإنس. وهم أشباه البهائم يأكلون العشب ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترس السباع، ويأكلون خشاش الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق في الأرض. وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ولا يزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم. [فإن كانت] لهم مدة على ما ترى من نمائهم وزيادتهم فلا شك أنهم سيملئون [الأرض] ويأكلون أهلها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم وننتظر ان يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾ أي حاجزاً ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ أي: ما أعطاني من القوة والتدبير والتيسير في الأمور خير مما تعطوني من أموالكم ولكن أعينوني بقوة أي برجال يعملون معي: أعدوا لي الصخور والحديد والنحاس حتى ارتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم. ثم انطلق يؤمهم حتى وقع إليهم وتوسط بلادهم. فوجدهم على مقد[ا]ر واحد ذكرهم وأنثاهم يبلغ طول أحدهم مثل نصف طول الرجل المربوع منا. لهم مخاليب في مواضع الأظفار من أيدينا. وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها، وأحناك [كأحناك] الابل قوة. تسمع لهم حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل، أو كقضم البغل المسن. ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، و [ما] يتقون به الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها. تسعانه إذا لبسهما يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى. يصيف في أحدهما ويشتي في الأخرى. ليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه وينقطع عمره. وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت أنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن بالموت. وهم يرزقون التنين في أيام الربيع ويستمطرونه إذا تحينوه.
كما يستمطر المطر بحينه فيقدرون منه كل سنة. فيأكلون عامهم كله إلى مثلها من القابلة. فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم. فإذا أمطروه أخصبوه وعاشوا وسمنوا عليه ورؤي أثره عليهم. فدرت عليهم الاناث، وشبعت منه الرجال. وإذا أخطاهم هزلوا وجفرت الذكور، وحالت الاناث، وتبين أثر ذلك عليهم. وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عوي الذئاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم. ثم لما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ناحية الصدفين فقاس ما بينهما وهو في منطقع أثر الترك مما يلي مشرق الشمس فوجد بُعْدَما بينهما مائة فرسخ، فلما أنشأ عمله حفر له اسما حتى بلغ الماء. ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً. وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يداب ثم يصب عليه. فصار كأنه عرف من جبل تحت الأرض. ثم علاه وشرفه بزبر الحديث والنحاس المذاب. ثم جعل خلاله عرفاً من نحاس اصفر. [فصار] كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. فلما فرغ منه و [أ]حكمه انطلق عامداً إلى جماعة الجن والإنس. فسار حتى وصل إلى قوم يونس [وهم] أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون. يقتسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، ويتواسون ويتراحمون. حالهم واحدة. وكلمتهم واحدة وطريقتهم مستقيمة وقلوبهم متآلفة. وسيرتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم. وليس على بيوتهم أبواب ولا عليهم امراء ثم اتى خبر يونس بطوله.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: "إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً. فيعيده الله كأشد ما كان. فإذا بلغت مدتهم حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس فقال: الذي عليهم: ارجعوا فستفتحون غداً إن شاء الله، فيقدمون عليه وهو كهيئته حين تركوه. فيخرجون على الناس فيشربون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم. فيرمون بسهامهم. فيرجع فيها كهيئة الدماء فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفاً في أعناقهم فيقتلونهم فقال: النبي ﷺ "والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكَرُ شكراً من لحومهم"
وروى أبو سعيد الخدري ان النبي ﷺ قال: "يفتح يأجوج ومأجوج ويخرجون على الناس كما قال: الله: ﴿وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾ فيغشون الأرض. وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم. فيشربون مياه الأرض حتى [إن] بعضهم ليمر بالنهر فيشربه جميعه حتى يتركوه يابساً. وحتى إن من بعده ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ها هنا ماء مرة حتى إذا لم يبق أحد إلا أحداً في حصن أو في مدينة قال: قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم وبقي أهل السماء. قال: فيهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك بعث الله عليهم دوداً في اعناقهم كالنغف فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس. فيقول المسلمون ألا رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو. وقال: فينفرد رجل منهم بذلك محتسباً نفسه قد وطنها على أنه مقتول. فيجدهم موتى بعضهم فوق بعض. فينادي: يا معشر المسلمين! ألا فأبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم. فيخرجون من مدائنهم وحصونهم فيسرحون بمواشيهم فما يكون لها رعي إلا لحومهم فتشكر عليهم أحسن ما شكرت على شيء من النبات
قال: ابن وهب: وخبرت أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف، صنف منهم طولهم كطول الأرز. وصنف طوله هو وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويغطي بالأخرى سائر جسده.
ومعنى: ﴿مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ﴾، أي سيفسدون ولم يكن لهم افساد بعد إنما خيف منهم ذلك وسيكون إذا خرجوا.
* * *
قوله: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ إلى قوله: ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً﴾.
أي: الذي مكني فيه ربي خير في العمل الذي سألتموني من الحاجز بينكم وبين هؤلاء، وقضاه لي وقواني عليه خير من جعلكم الذي عرضتم علي وأكثر وأطيب. ولكن أعينوني بقوة أي بعمل تعملونه معي ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ أي إن أعنتموني على ذلك.
ذكر قتادة أن رجلاً قال: يا نبي الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته. قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته.
{"ayahs_start":89,"ayahs":["ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا","حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمࣲ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرࣰا","كَذَ ٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَیۡهِ خُبۡرࣰا","ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا","حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ بَیۡنَ ٱلسَّدَّیۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمࣰا لَّا یَكَادُونَ یَفۡقَهُونَ قَوۡلࣰا","قَالُوا۟ یَـٰذَا ٱلۡقَرۡنَیۡنِ إِنَّ یَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰۤ أَن تَجۡعَلَ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَهُمۡ سَدࣰّا","قَالَ مَا مَكَّنِّی فِیهِ رَبِّی خَیۡرࣱ فَأَعِینُونِی بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُمۡ رَدۡمًا"],"ayah":"ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا"}