الباحث القرآني
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام:
الأول: الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً، وهو المراد بقوله: «إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا» .
الثاني: الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ، وقال: ﴿لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم﴾ .
الثالث: الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ، وهو المذكور في هذه الآية، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء:
أحدها: قوله: «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً» قد تقدم أن عكرمة يقرأ: «نقبل ملء» بالنون مفعولاً به
وقرأ بعضهم «فلن يقبل» - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، «مِلْءَ» بالنصب كما تقدم.
وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال «مل الأرض» بطرح همزة «ملء» ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها.
وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام «ملء» في لام «الأرضِ» - بعروض التقائهما.
والملء: مقدار ما يُمْلأ الوعاء، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر، يقال: ملأت القدر، أملؤها، مَلأ، والملاءة بضم الميم والمد: الملحَفة.
و «ذهباً» العامة على نصبه، تمييزاً.
وقال الكسائي: على إسقاط الخافض، وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر ب «من» واحتاجت «ملء» إلى تفسير؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع -.
وقرأ الأعمش: «ذهب» - بالرفع -.
قال الزمخشريُّ: ردًّا على «مِلْءُ» كما يقال: عندي عشرون نَفْساً رجال، يعني الردّ البدل، ويكون بدل نكرة من معرفة. قال أبو حيان: ولذلك ضبط الحذّاق قوله: «لك الحمد ملء السموات» بالرفع، على أنه نعت لِ «الْحَمْد» . واستضعفوا نصبه على الحال، لكونه معرفة.
قال شهاب الدين: «يتعين نصبه على الحال، حتى يلزم ما ذكره من الضعف، بل هو منصوب على الظرف، أي: إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض» .
فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه، فما فائدة ذكره؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكُفْر، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر _ أموالاً، فإنها لا تكون مقبولة.
الثاني: أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير، فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.
روى أنس - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي»
قوله: «ولو افتدى به» الجمهور على ثبوت الواو، وهي واو الحال.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف موقع قوله: «ولو افتدى به» ؟
قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. انتهى.
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه: أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها، ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي.
قال أبو حيان: وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن «لَوْ» تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ» وقوله: «رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق» كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه، فلا يناسب أن يُعْطَى، وكذلك الظلف المحرق، لا غناء فيه، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل.
قيل: الواو - هنا - زائدة، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أب يعبلة طلو افتدى به» - دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول، فلم يتعمم النفي وجود القبول.
و «لو» قيل: هي - هنا - شرطية؛ بمعنى» إن «لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل، وهو قوله:» فلن تقبل» ، وتلك متعلّقة بالماضي.
قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، ولو افتدى به لم تقبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري، قال: وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل: دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله: ﴿فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً﴾ يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
وقال ابن الخطيب: إن مَنْ غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى.
وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى، نحو: شَوَى، واشْتَوَى، ومفعوله محذوف، تقديره: افْتدَى نفسه. والهاء في «به» - فيها أقوال:
أحدها: - وهو الأظهر - عودها على «ملء» ؛ لأنه مقدار يملأها، أي: ولو افتدى بملء الأرض.
الثاني: أن يعوج على «ذَهَباً» ، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيان: ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء، أو على الذهب، فقوله: «أو على الذهب» غلط.
قال شهاب الدين: «كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره، فضلة» .
الثالث: أن يعود على «مِثْل» محذوف.
قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يُراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه﴾ [الرعد: 18] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً، كقولك: ضربت ضرب زيد - تريد: مثل ضربه - وقولك: أبو يوسف أبو حنيفة - أي: مثله -.
وقوله: [الرجز]
1537 - لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ
و» قضية ولا أبا حسن لها «يريد: لا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد قولهم: مثلك لا يفعل كذا، يريدون: أنت لا تفعل كذا، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد» .
قال أبو حيان: «ولا حاجةَ إلى تقدير» مثل «في قوله:» ولو افتدى به» ، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به، فاحتاج إلى إضمار: «مثل» حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير «مثل» ؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في اللفظ، ولا في المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر.
وأما ما مثل به - من نحو: ضربت ضربَ زيدٍ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد، وذات أبي يوسف، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة.
وأما «لا هيثم الليلة للمطي» ، فدل على حذف «مثل» ما تقرر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس، لا تدخل على الأعلام، فتؤثر فيها، فاحتيج إلى إضمار: «مثل» لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس.
وأما قوله: كما يزاد في: مثلك لا يفعل - تريد: أنت - فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد «.
قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه -[لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً] .
قوله:» أولئك لم عذاب أليم» هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به. ويجوز أن يكون «لهم» : خبراً لاسم الإشارة، و «عَذَابٌ» فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبره، أي: أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون» لَهُمْ «خبراً مقدَّماًن و» عَذَابٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد.
قوله: ﴿وما لهم من ناصرين﴾ هذا هو النوع الثالث من الوعيد، ويجوز في إعرابه وجهان:
أحدهما: أن يكون ﴿مِّن نَّاصِرِينَ﴾ : فاعلاً، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي، أي: وما استقر لهم من ناصرين.
والثاني: أنه خبر مقدَّم، و ﴿مِّن نَّاصِرِينَ﴾ : مبتدأ مؤخر، و «مِنْ» مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها.
وأتى ب» ناصرين «جمعاً؛ لتوافق الفواصل.
واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَمَاتُوا۟ وَهُمۡ كُفَّارࣱ فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبࣰا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦۤۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق