الباحث القرآني
(p-٢٨٠)قوله عزّ وجلّ:
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم وأُولَئِكَ هُمُ الضالُّونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهم كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾
اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في كَيْفَ يَتَرَتَّبُ كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، ثُمَّ زِيادَةُ كُفْرٍ، فَقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ وغَيْرُهُما: الآيَةُ في اليَهُودِ، كَفَرُوا بِعِيسى بَعْدَ الإيمانِ بِمُوسى ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ وفي هَذا القَوْلِ اضْطِرابٌ، لِأنَّ الَّذِي كَفَرَ بِعِيسى بَعْدَ الإيمانِ بِمُوسى لَيْسَ بِالَّذِي كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فالآيَةُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ تَخْلِطُ الأسْلافَ بِالمُخاطَبِينَ.
وقالَ أبُو العالِيَةِ رَفِيعٌ: الآيَةُ في اليَهُودِ، كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ إيمانِهِمْ بِصِفاتِهِ وإقْرارِهِمْ أنَّها في التَوْراةِ، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا بِالذُنُوبِ الَّتِي أصابُوها في خِلافِ النَبِيِّ ﷺ، مِنَ الافْتِراءِ والبَهْتِ والسَعْيِ عَلى الإسْلامِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وعَلى هَذا التَرْتِيبِ يَدْخُلُ في الآيَةِ المُرْتَدُّونَ اللاحِقُونَ بِقُرَيْشٍ وغَيْرُهم.
وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا﴾ أيْ تَمُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وبَلَغُوا المَوْتَ بِهِ. فَيَدْخُلُ في هَذا القَوْلِ اليَهُودُ والمُرْتَدُّونَ. وقالَ السُدِّيُّ نَحْوَهُ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ تَوْبَةَ هَؤُلاءِ لَنْ تُقْبَلَ، وقَدْ قَرَّرَتِ الشَرِيعَةُ أنَّ تَوْبَةَ كُلِّ كافِرٍ تُقْبَلُ، سَواءٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمانٍ وازْدادَ كُفْرًا، أو كانَ كافِرًا مِن أوَّلِ أمْرِهِ، فَلا بُدَّ في هَذِهِ الآيَةِ مِن تَخْصِيصٍ تُحْمَلُ عَلَيْهِ ويَصِحُّ بِهِ نَفْيُ قَبُولِ التَوْبَةِ، فَقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ والسُدِّيُّ: نَفْيُ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ مُخْتَصٌّ بِوَقْتِ الحَشْرَجَةِ والغَرْغَرَةِ والمُعايَنَةِ، فالمَعْنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم عِنْدَ المُعايَنَةِ، وقالَ أبُو العالِيَةِ:
مَعْنى الآيَةِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم مِن تِلْكَ الذُنُوبِ الَّتِي أصابُوها مَعَ إقامَتِهِمْ عَلى الكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَإنَّهم كانُوا يَقُولُونَ في بَعْضِ الأحْيانِ: نَحْنُ نَتُوبُ مِن هَذِهِ الأفْعالِ وهم مُقِيمُونَ عَلى كُفْرِهِمْ، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى، أنَّهُ لا يَقْبَلُ تِلْكَ التَوْبَةَ.
وتَحْتَمِلُ الآيَةُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ إشارَةً إلى قَوْمٍ بِأعْيانِهِمْ مِنَ المُرْتَدِّينَ خَتَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ، وجَعَلَ ذَلِكَ جَزاءً لِجَرِيمَتِهِمْ ونِكايَتِهِمْ في الدِينِ، وهُمُ الَّذِينَ أشارَ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا﴾ [آل عمران: ٨٦] فَأخْبَرَ عنهم أنَّهم لا تَكُونُ لَهم تَوْبَةٌ فَيُتَصَوَّرُ قَبُولُها، فَتَجِيءُ الآيَةُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ الشاعِرِ:(p-٢٨١)
؎ عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ.........................
أيْ: قَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ مِن سَخَطِهِ في حَيِّزِ مَن لا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ إذْ لَيْسَتْ لَهُمْ، فَهم لا مَحالَةَ يَمُوتُونَ عَلى الكُفْرِ. ولِذَلِكَ بَيَّنَ حُكْمَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ كُفّارًا بِعَقِبِ الآيَةِ، فَبانَتْ مَنزِلَةُ هَؤُلاءِ، فَكَأنَّهُ أخْبَرَ عن هَؤُلاءِ المُعَيَّنِينَ أنَّهم يَمُوتُونَ كُفّارًا، ثُمَّ أخْبَرَ الناسَ عن حُكْمِ مَن يَمُوتُ كافِرًا و"الضالُّونَ" المُخْطِئُونَ الطَرِيقَ القَوِيمَ في الأقْوالِ والأفْعالِ.
وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "لَنْ نَقْبَلَ" بِنُونِ العَظَمَةِ "تَوْبَتَهُمْ" بِنَصْبِ التاءِ.
وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهم كُفّارٌ﴾.... الآيَةُ، جَزْمٌ لِلْحُكْمِ عَلى كُلِّ مُوافٍ عَلى الكُفْرِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ.
وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "فَلَنْ نَقْبَلَ" بِنُونِ العَظَمَةِ "مَلْءَ الأرْضِ" بِالنَصْبِ، و"المِلْءُ" ما شُحِنَ بِهِ الوِعاءُ، فَهو بِكَسْرِ المِيمِ: الِاسْمُ، وبِفَتْحِها: المَصْدَرُ، تَقُولُ مَلَأْتُ الشَيْءَ أمْلَؤُهُ مَلْئًا والمِلْءُ: اسْمُ ما مَلَأْتَ بِهِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ وأبُو السَمّالِ: "مِلُّ" دُونَ هَمْزَةٍ، ورُوِيَتْ عن نافِعٍ؛ و"ذَهَبًا" نُصِبَ عَلى التَمْيِيزِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "ذَهَبًا لَوِ افْتَدى" بِهِ، دُونَ واوٍ.
واخْتَلَفَ الناسُ في هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ: "وَلَوِ افْتَدى"؛ فَقالَ الطَبَرِيُّ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ في آخِرِ الكَلامِ دَلَّ عَلَيْهِ دُخُولُ الواوِ، كَما دَخَلَتْ في قَوْلِهِ: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] لِمَتْرُوكٍ مِنَ الكَلامِ، تَقْدِيرُهُ: ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ أرَيْناهُ مَلَكُوتَ (p-٢٨٢)السَماواتِ والأرْضِ؛ وفي هَذا التَمْثِيلِ نَظَرٌ فَتَأمَّلْهُ. وقالَ الزَجّاجُ: المَعْنى: لَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ إنْفاقُهُ وتَقَرُّباتُهُ في الدُنْيا ولَوْ أنْفَقَ مِلْءَ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ أيْضًا في الآخِرَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنهُ، قالَ: فَأعْلَمَ اللهُ أنَّهُ لا يُثِيبُهم عَلى أعْمالِهِمْ مِنَ الخَيْرِ، ولا يَقْبَلُ مِنهُمُ الافْتِداءَ مِنَ العَذابِ؛ وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ. وقالَ قَوْمٌ: الواوُ زائِدَةٌ، وهَذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى نَفْيَ القَبُولِ جُمْلَةً عَلى كُلِّ الوُجُوهِ، ثُمَّ خَصَّ مِن تِلْكَ الوُجُوهِ ألْيَقَها وأحْراها بِالقَبُولِ، كَما تَقُولُ: أنا لا أفْعَلُ لَكَ كَذا بِوَجْهٍ ولَوْ رَغِبْتَ إلَيَّ؛ وباقِي الآيَةِ وعِيدٌ بَيِّنٌ.
{"ayahs_start":90,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُوا۟ كُفۡرࣰا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلضَّاۤلُّونَ","إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَمَاتُوا۟ وَهُمۡ كُفَّارࣱ فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبࣰا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦۤۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَمَاتُوا۟ وَهُمۡ كُفَّارࣱ فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبࣰا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦۤۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق