الباحث القرآني
قوله: «ذَلِكَ» فيها وجهان:
أصحهما: أنها مبتدأ، والجار بعده خبره، اي: ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ، التي لا حقيقةَ لها.
والثاني: ان «ذَلِكَ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، اي: الأمر ذلك، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله: «بأنَّهُمْ» متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه -.
وقال أبو البقاء: فعلى هذا يكون قوله «بأنَّهُمْ» في موضع نَصْب على الحال بما في «ذَا» من معنى الإشارة، أي: ذلك الأمر مستحقاً بقولهم، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ» .
قلت: بل لا يجوز ألبتة.
وجاء - هنا - «مَعْدُودَاتٍ» ، بصيغة الجمع - وفي البقرة «مَعْدُودَةً» ، تفنُّناً في البلاغة، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى، فيقال: هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت: راسياتٌ -، وجمال ماشية، وإن شئت: ماشيات.
وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا: فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم، وزجر من يعمل بعملهم.
فصل
قال الجبائيُّ: «هذه الآية فيها [دلالة] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول: إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً، ولما استحق الذمَّ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [قول] باطل» .
قال ابن الخطيبِ: «كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ، جائز من الله، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك، لكن لِمَ قلتم: إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟
بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر:
الأول: لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون: إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام، ومنهم من قال: لا، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل -.
الثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين، ويقولون: بتقدير وقوع الخطأ منا، فإنَّ عذابنا قليل، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر، والكافر عذابه دائم.
الثالث: أنهم لما قالوا: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ استحقروا تكذيبَ محمد - عليه السلام -، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف» .
قوله: ﴿وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ﴾ الغُرور: الخِدَاع، يقال منه: غَرًَّهُ، يَغُرُّهُ، غُرُوراً، فهو غَارٌّ، ومغرور.
والغَرُور: - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب.
والغِرُّ: الصغير، والغِرِّيرَة: الصغيرة؛ لأنهما يُخ
عان، والغِرَّة: مأخوذة من هذا، قال: أخذه على غِرَّة، أي: تغفُّل وخداعِ، والغُرَّة: بياض في الوجه، يقال منه: وَجْهٌ أغَرُّ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء.
والجمع القياسي: غُرٌّ، وغير القياسي غُرَّانُ.
قال: [الطويل]
1377 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
والغرة من كل شيء أنفسه، وفي الحديث: «وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً، عَبْداً أوُ أمَةً» .
قيل: الغُرًَّة: الخِيار، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق، كأنه أخَذَه من الغُرَّة، وهو البياض في الوَجْه.
قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ «ما» يجوز أن تكون مصدريةً، أو بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف أي: الذي كانوا يفترونه.
قيل هو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] .
وقيل: هو قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
قوله: «فَكَيْفَ إذا» «كَيْفَ» منصوبة بفعل مُضْمَر، تقديره: كيف يكون حالهم، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدمان في قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» من التشبيه بالحال، أو الظرف، وأن تكون الناقصة فتكون «كيف» خبرها.
وقدّر بعضهم الفعل، فقال: كيف يصنعون؟ [فإن أراد «كان» التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر «كان» ] ، فكيف على ما تقدم من الوجهين.
ويجوز أن تكون «كيف» خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالُهم؟
قوله: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ «إذا» ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه العامل مُضْمَر، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في «إذَا» الاستقرار العامل في «كَيْفَ» ؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي: كيف حالهم في وقت جمعهم؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع «كيف» ، لدلالته عليها، تقول: كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي: كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية -.
قوله: «لِيَوْمٍ» متعلق ب «جَمَعْنَاهُمْ» أي: لقضاء يوم، أو لجزاء يوم.
فإن قيل: لِمَ قال: «لِيَوْمٍ» ولم يقل: في «يَوْمٍ» .
فالجوابُ: ما ذكرناه من أنّ المرادَ: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحذف المضاف، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ: اللام لفعل مضمر، فإذا قلتَ: جُمِعُوا ليوم الخميس، كان المعنى: جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت: جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً.
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة.
وقال الكسائيُّ: اللام بمعنى «في» .
«لا ريب فيه» صفة للظرف.
قوله: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ إن حَمَلْتَ «مَا كَسَبَتْ» على عمل العبد، جُعِلَ في الكلام حذفٌ، والتقدير: ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب، وإن حملت «مَا كَسَبَتْ» على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار، ثم قال: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم.
فصل
استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ؛ لقوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار، وذلك باطل بالإجماع. وإما أن يُعاقَبَ في النار، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً، وهو المطلوب. وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يُقال: إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم؟
فالجوابُ: أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [سبعين] سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر.
وكان يحيى بن معاذ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة؟
{"ayahs_start":24,"ayahs":["ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۖ وَغَرَّهُمۡ فِی دِینِهِم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ","فَكَیۡفَ إِذَا جَمَعۡنَـٰهُمۡ لِیَوۡمࣲ لَّا رَیۡبَ فِیهِ وَوُفِّیَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۖ وَغَرَّهُمۡ فِی دِینِهِم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق