الباحث القرآني
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم وهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ وغَرَّهم في دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿فَكَيْفَ إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِلُّ مَن تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦] ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وتَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧] ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وإلى اللَّهِ المَصِيرُ﴾ [آل عمران: ٢٨] ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٩] ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ [آل عمران: ٣٠] ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١] ﴿قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢] .
(p-٤١٦)غَرَّ، يَغُرُّ، غُرُورًا: خَدَعَ والغِرُّ: الصَّغِيرُ، والغَرِيرَةُ: الصَّغِيرَةُ، سُمِّيا بِذَلِكَ لِأنَّهُما يَنْخَدِعانِ بِالعَجَلَةِ، والغِرَّةُ مِنهُ يُقالُ: أخَذَهُ عَلى غِرَّةٍ، أيْ: تَغَفُّلٍ وخِداعٍ، والغُرَّةُ: بَياضٌ في الوَجْهِ، يُقالُ مِنهُ: وجْهٌ أغَرُّ، ورَجُلٌ أغَرُّ، وامْرَأةٌ غَرّاءُ. والجَمْعُ عَلى القِياسِ فِيهِما غُرٌّ. قالُوا: ولَيْسَ بِقِياسٍ، وغُرّانٌ. قالَ الشّاعِرُ:
؎ثِيابُ بَنِي عَوْفٍ طُهارى نَقِيَّةً وأوْجُهُهم عِنْدَ المَشاهِدِ غُرّانُ
نَزَعَ يَنْزِعُ: جَذَبَ، وتَنازَعْنا الحَدِيثَ تَجاذَبْناهُ، ومِنهُ: نِزاعُ المَيِّتِ، ونَزَعَ إلى كَذا: مالَ إلَيْهِ وانْجَذَبَ، ثُمَّ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الزَّوالِ، يُقالُ: نَزَعَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرَّ: أزالَهُ.
ولَجَ يَلِجُ وُلُوجًا ولِجَّةً ووَلْجًا، ووَلَجَ تَوَلُّجًا، واتَّلَجَ اتِّلاجًا؛ قالَ الشّاعِرُ:
؎فَإنَّ القَوافِيَ يَتَّلِجْنَ مَوالِجًا ∗∗∗ تَضايَقُ عَنْها أنْ تَوَلَّجَها الإبَرْ
الأمَدُ: غايَةُ الشَّيْءِ، ومُنْتَهاهُ، وجَمْعُهُ آمادٌ.
اللَّهُمَّ: هو اللَّهُ، إلّا أنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّداءِ فَلا يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ، وهَذِهِ المِيمُ الَّتِي لَحِقَتْهُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ هي عِوَضٌ مِن حَرْفِ النِّداءِ، ولِذَلِكَ لا تَدَخُلَ عَلَيْهِ إلّا في الضَّرُورَةِ. وعِنْدَ الفَرّاءِ: هي مِن قَوْلِهِ: يا اللَّهُ أمِّنّا بِخَيْرٍ، وقَدْ أبْطَلُوا هَذا النَّصْبَ في عِلْمِ النَّحْوِ، وكَبُرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ حَتّى حَذَفُوا مِنها: ألْ، فَقالُوا: لا هُمَّ، بِمَعْنى: اللَّهُمَّ. قالَ الزّاجِرُ:
؎لا هم إنِّي عامِرُ بْنُ جَهْمِ ∗∗∗ أحْرَمَ حَجًّا في ثِيابٍ دُسْمِ
وخُفِّفَتْ مِيمُها في بَعْضِ اللُّغاتِ قالَ:
؎كَحَلْفَةٍ مِن أبِي رِياحٍ ∗∗∗ يَسْمَعُها اللَّهُمَ الكُبارُ
الصَّدْرُ: مَعْرُوفٌ، وجَمْعُهُ: صُدُورٌ.
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ قالَ السُّدِّيُّ: «دَعا النَّبِيُّ ﷺ اليَهُودَ إلى الإسْلامِ، فَقالَ لَهُ النُّعْمانُ بْنُ أبِي أوْفى: هَلُمَّ نُخاصِمُكَ إلى الأحْبارِ، فَقالَ: ”بَلْ إلى كِتابِ اللَّهِ“ . فَقالَ: بَلْ إلى الأحْبارِ» . فَنَزَلَتْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «دَخَلَ ﷺ إلى المَدارِسِ عَلى اليَهُودِ، فَدَعاهم إلى اللَّهِ، فَقالَ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، والحارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلى أيِّ دِينٍ أنْتَ يا مُحَمَّدُ ؟ فَقالَ: ”عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ“ . قالا: إنَّ إبْراهِيمَ كانَ يَهُودِيًّا. فَقالَ: ”فَهَلُمُّوا إلى التَّوْراةِ“ . فَأبَيا عَلَيْهِ»، فَنَزَلَتْ. وقالَ الكَلْبِيُّ: «زَنى رَجُلٌ مِنهم بِامْرَأةٍ، ولَمْ يَكُنْ بَعْدُ في دِينِنا الرَّجْمُ، فَتَحاكَمُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَخْفِيفًا لِلزّانِيَيْنِ لِشَرَفِهِما، فَقالَ: ”إنَّما أحْكُمُ بِكِتابِكم“ . فَأنْكَرُوا الرَّجْمَ، فَجِيءَ بِالتَّوْراةِ، فَوَضَعَ حَبْرُهم ابْنُ صُورِيا يَدَهُ عَلى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: جاوَزَها يا رَسُولَ اللَّهِ، فَأظْهَرَها فَرُجِما» .
وقالَ النَّقّاشُ: نَزَلَتْ في جَماعَةٍ مِنَ اليَهُودِ أنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ، فَقالَ لَهم: «هَلُمُّوا إلى التَّوْراةِ فَفِيها صِفَتِي» . وقالَ مُقاتِلٌ: دَعا جَماعَةٌ مِنَ اليَهُودِ إلى الإسْلامِ، فَقالُوا: نَحْنُ أحَقُّ بِالهُدى مِنكَ، وما أرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا إلّا مِن بَنِي إسْرائِيلَ، قالَ: «فَأخْرِجُوا التَّوْراةَ فَإنِّي مَكْتُوبٌ فِيها أنِّي نَبِيٌّ» فَأبَوْا، فَنَزَلَتْ (والَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ) هُمُ اليَهُودُ، والكِتابُ التَّوْراةُ. وقالَ مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، وقِيلَ: ﴿مِنَ الكِتابِ﴾ جِنْسٌ لِلْكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وبَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ ومِن: تَبْعِيضٌ. وفي قَوْلِهِ: نَصِيبًا، أيْ: طَرَفًا، وظاهِرُ بَعْضِ الكِتابِ، وفي ذَلِكَ إذْ هم لَمْ يَحْفَظُوهُ، ولَمْ يَعْلَمُوا جَمِيعَ ما فِيهِ.
﴿يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ﴾ هو: التَّوْراةُ، وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُرَيْجٍ: القُرْآنُ. ويُدْعَوْنَ: في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الَّذِينَ، والعامِلُ: تَرَ، والمَعْنى: ألا تَعْجَبُ مِن هَؤُلاءِ مَدْعُوِّينَ إلى كِتابِ اللَّهِ ؟ أيْ: في حالِ أنْ يُدْعَوْا إلى كِتابِ اللَّهِ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: لِيَحْكُمَ الكِتابُ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: لِيُحْكَمَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (p-٤١٧)والمَحْكُومُ فِيهِ هو ما ذُكِرَ في سَبَبِ النُّزُولِ.
﴿ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ هَذا اسْتِبْعادٌ لِتَوَلِّيهِمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ؛ بِأنَّ الرُّجُوعَ إلى كِتابِ اللَّهِ واجِبٌ، ونَسَبَ التَّوَلِّي إلى فَرِيقٍ مِنهم، لا إلى جَمِيعِ المُبْعَدِينَ، لِأنَّ مِنهم مَن أسْلَمَ ولَمْ يَتَوَلَّ كابْنِ سَلامٍ وغَيْرِهِ.
﴿وهم مُعْرِضُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ لِأنَّ التَّوَلِّيَ هو الإعْراضُ، أوْ مُبَيِّنَةٌ لِكَوْنِ التَّوَلِّي عَنِ الدّاعِي والإعْراضِ عَمّا دَعا إلَيْهِ، فَيَكُونُ المُتَعَلِّقُ مُخْتَلِفًا، أوْ لِكَوْنِ التَّوَلِّي بِالبَدَنِ والإعْراضِ بِالقَلْبِ، أوْ لِكَوْنِ التَّوَلِّي مِن عُلَمائِهِمْ والإعْراضِ مِن أتْباعِهِمْ، قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. أوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَزالُ الإعْراضُ عَنِ الحَقِّ وأتْباعِهِ مِن شَأْنِهِمْ وعادَتِهِمْ، وفي قَوْلِهِ: (بَيْنَهم) دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُتَنازَعَ فِيهِ كانَ بَيْنَهم واقِعًا لا بَيْنُهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو خِلافُ ما ذُكِرَ في أسْبابِ النُّزُولِ، فَإنْ صَحَّ سَبَبٌ مِنها كانَ المَعْنى: لِيَحْكُمَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإنْ لَمْ يَصِحَّ حُمِلَ عَلى الِاخْتِلافِ الواقِعِ بَيْنَ مَن أسْلَمَ مِن أحْبارِهِمْ، وبَيْنَ مَن لَمْ يُسْلِمْ، فَدُعُوا إلى التَّوْراةِ الَّتِي لا اخْتِلافَ في صِحَّتِها عِنْدَكم؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ، فَتَوَلّى مَن لَمْ يُسْلِمْ. قِيلَ: وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأنَّهم ولَوْلا عِلْمُهم بِما ادَّعاهُ في كُتُبِهِمْ مِن نَعْتِهِ وصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، لَما أعْرَضُوا وتَسارَعُوا إلى مُوافَقَةِ ما في كُتُبِهِمْ، حَتّى يُنَبَّئُوا عَنْ بُطْلانِ دَعْواهُ. وفِيها دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن دَعاهُ خَصْمُهُ إلى الحُكْمِ الحَقِّ لَزِمَتْهُ إجابَتُهُ؛ لِأنَّهُ دَعاهُ إلى كِتابِ اللَّهِ، ويُعَضِّدُهُ: ﴿وإذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم إذا فَرِيقٌ مِنهم مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨] .
قالَ القُرْطُبِيُّ: وإذا دُعِيَ إلى كِتابِ اللَّهِ وخالَفَ تَعَيَّنَ زَجْرُهُ بِالأدَبِ عَلى قَدْرِ المُخالِفِ والمُخالَفِ. وهَذا الحُكْمُ جارٍ عِنْدَنا بِالأنْدَلُسِ وبِلادِ المَغْرِبِ، ولَيْسَ بِالدِّيارِ المِصْرِيَّةِ. قالَ ابْنُ خُوَيْزِمَندادْ المالِكِيُّ: واجِبٌ عَلى مَن دُعِيَ إلى مَجْلِسِ الحُكْمِ أنْ يُجِيبَ ما لَمْ يَعْلَمْ أنَّ الحاكِمَ فاسِقٌ.
﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى التَّوَلِّي، أيْ: ذَلِكَ التَّوَلِّي بِسَبَبِ هَذِهِ الأقْوالِ الباطِلَةِ، وتَسْهِيلِهِمْ عَلى أنْفُسِهِمُ العَذابَ، وطَمَعِهِمْ في الخُرُوجِ مِنَ النّارِ بَعْدَ أيّامٍ قَلائِلَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَما طَمِعَتِ الجَبْرِيَّةُ والحَشْوِيَّةُ.
﴿وغَرَّهم في دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ مِن أنَّ آباءَهُمُ الأنْبِياءُ يَشْفَعُونَ لَهم، كَما غَرّى أُولَئِكَ بِشَفاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في كَبائِرِهِمُ انْتَهى كَلامُهُ. وهو عَلى عادَتِهِ مِنَ اللَّهَجِ بِسَبِّ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، ورَمْيِهِمْ بِالتَّشْبِيهِ، والخُرُوجِ إلى الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ بِأيِّ طَرِيقٍ أمْكَنَهُ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الأيّامِ المَعْدُوداتِ، في سُورَةِ البَقَرَةِ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا، إلّا أنَّهُ جاءَ هُناكَ: مَعْدُودَةٌ، وهُنا: مَعْدُوداتٌ، وهُما طَرِيقانِ فَصِيحانِ تَقُولُ: جِبالٌ شامِخَةٌ، وجِبالٌ شامِخاتٌ. فَتَجْعَلُ صِفَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ لِلْمُذَكَّرِ الَّذِي لا يَعْقِلُ تارَةً لِصِفَةِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ، وتارَةً لِصِفَةِ المُؤَنَّثاتِ. فَكَما تَقُولُ: نِساءٌ قائِماتٌ، كَذَلِكَ تَقُولُ: جِبالٌ راسِياتٌ، وذَلِكَ مَقِيسٌ مُطَّرِدٌ فِيهِ.
﴿وغَرَّهم في دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: الَّذِي افْتَرَوْهُ هو قَوْلُهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ وقالَ قَتادَةُ: قَوْلُهم: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ. وقِيلَ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] . وقِيلَ: مَجْمُوعُ هَذِهِ الأقْوالِ. وارْتَفَعَ: ذَلِكَ، بِالِابْتِداءِ، وبِأنَّهم: هو الخَبَرُ، أيْ ذَلِكَ الإعْراضُ والتَّوَلِّي كائِنٌ لَهم وحاصِلٌ بِسَبَبِ هَذا القَوْلِ، وهو قَوْلُهم: إنَّهم لا تَمَسُّهُمُ النّارُ إلّا أيّامًا قَلائِلَ، يَحْصُرُها العَدَدُ. وقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: شَأْنُهم ذَلِكَ، أيِ التَّوَلِّي والإعْراضُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. وعَلى هَذا يَكُونُ: بِأنَّهم، في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مَصْحُوبًا بِهَذا القَوْلِ، وما في: ما كانُوا، مَوْصُولَةٌ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ.
﴿فَكَيْفَ إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ هَذا تَعْجِيبٌ مِن حالِهِمْ، واسْتِعْظامٌ لِعِظَمِ مَقالَتِهِمْ حِينَ اخْتَلَفَتْ مَطامِعُهم، وظَهَرَ كَذِبُ دَعْواهم؛ إذْ صارُوا إلى عَذابٍ ما لَهم حِيلَةٌ في دَفْعِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿تِلْكَ أمانِيُّهُمْ﴾ [البقرة: ١١١] هَذا الكَلامُ يُقالُ عِنْدَ التَّعْظِيمِ لِحالِ الشَّيْءِ، فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ ؟ وقالَ الشّاعِرُ:(p-٤١٨)
؎فَكَيْفَ بِنَفْسٍ كُلَّما قُلْتُ أشْرَفَتْ ∗∗∗ عَلى البُرْءِ مِن دَهْماءَ هِيضَ انْدِمالُها
وقالَ:
؎فَكَيْفَ وكُلٌّ لَيْسَ يَعْدُو حِمامَهُ ∗∗∗ وما لِامْرِئٍ عَمّا قَضى اللَّهُ مُرْحَلُ
وانْتِصابُ: فَكَيْفَ، قِيلَ عَلى الحالِ، والتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ ؟ وقَدَّرَهُ الحُوفِيُّ: كَيْفَ يَكُونُ حالُهم ؟ فَإنْ أرادَ كانَ التّامَّةَ كانَتْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وإنْ كانَتِ النّاقِصَةَ كانَتْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى خَبَرِ كانَ، والأجْوَدُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى: التَّقْدِيرُ: كَيْفَ حالُهم ؟ والعامِلُ في: إذا، ذَلِكَ الفِعْلُ الَّذِي قَدَّرَهُ، والعامِلُ في: كَيْفَ، إذا كانَتْ خَبَرًا عَنِ المُبْتَدَأِ إنْ قُلْنا إنَّ انْتِصابَها انْتِصابُ الظُّرُوفِ، وإنْ قُلْنا إنَّها اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ، فَيَكُونُ العامِلُ في: إذا، المُبْتَدَأ الَّذِي قَدَّرْناهُ، أيْ: فَكَيْفَ حالُهم في ذَلِكَ الوَقْتِ ؟ وهَذا الِاسْتِفْهامُ لا يَحْتاجُ إلى جَوابٍ، وكَذا أكْثَرُ اسْتِفْهاماتِ القُرْآنِ؛ لِأنَّها مِن عالَمِ الشَّهادَةِ، وإنَّما اسْتِفْهامُهُ تَعالى تَقْرِيعٌ. واللّامُ، تَتَعَلَّقُ: بِجَمَعْناهم، والمَعْنى: لِقَضاءِ يَوْمٍ وجَزائِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ﴾ [آل عمران: ٩] قالَ النَّقّاشُ: اليَوْمَ، هُنا الوَقْتُ، وكَذَلِكَ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ و﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٠٣] و﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ [فصلت: ١٠] إنَّما هي عِبارَةٌ عَنْ أوْقاتٍ، فَإنَّما الأيّامُ واللَّيالِي عِنْدَنا في الدُّنْيا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ في يَوْمِ القِيامَةِ أنَّهُ يَوْمٌ، لِأنَّهُ قَبْلَهُ لَيْلَةٌ وفِيهِ شَمْسٌ. ومَعْنى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ في نَفْسِ الأمْرِ، أوْ عِنْدَ المُؤْمِنِ، أوْ عِنْدَ المُخْبَرِ عَنْهُ، أوْ حِينَ يَجْمَعُهم فِيهِ، أوْ مَعْناهُ: الأمْرُ خَمْسَةُ أقْوالٍ.
﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذا في البَقَرَةِ، آخِرَ آياتِ الرِّبا.
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ [آل عمران: ٢٦] قالَ الكَلْبِيُّ: ظَهَرَتْ صَخْرَةٌ في الخَنْدَقِ، فَضَرَبَها ﷺ فَبَرَقَ بَرْقٌ فَكَبَّرَ، وكَذا في الثّانِيَةِ والثّالِثَةِ، فَقالَ: ”في الأُولى: قُصُورُ العَجَمِ، وفي الثّانِيَةِ: قُصُورُ الرُّومِ. وفي الثّالِثَةِ: قُصُورُ اليَمَنِ. فَأخْبَرَنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ: أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلى الكُلِّ“ . فَعَيَّرَهُ المُنافِقُونَ بِأنَّهُ يَضْرِبُ المِعْوَلَ، ويَحْفُرُ الخَنْدَقَ فَرْقًا، ويَتَمَنّى مُلْكَ فارِسَ والرُّومِ، فَنَزَلَتْ. اخْتَصَرَهُ السَّجاوَنْدِيُّ هَكَذا، وهو سَبَبٌ مُطَوَّلٌ جِدًّا.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ، وخافُوا فَتْحَ العَجَمِ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: هم أعَزُّ وأمْنَعُ، فَنَزَلَتْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسٌ: لَمّا فَتَحَ ﷺ مَكَّةَ، وعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فارِسَ والرُّومِ، فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: بَلَغَ ذَلِكَ اليَهُودَ فَقالُوَ: هَيْهاتَ هَيْهاتَ فَنَزَلَتْ، فَذُلُّوا وطَلَبُوا المُواصَمَةَ. وقالَ الحَسَنُ: سَألَ ﷺ مُلْكَ فارِسَ والرُّومِ لِأُمَّتِهِ، فَنَزَلَتْ عَلى لَفْظِ النَّهْيِ. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ ذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ: قالَتِ اليَهُودُ: واللَّهُ لا نُطِيعُ رَجُلًا جاءَ بِنَقْلِ النُّبُوَّةِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ إلى غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: نَزَلَتْ رَدًّا عَلى نَصارى نَجْرانَ في قَوْلِهِمْ: إنَّ عِيسى هو اللَّهُ، ولَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأوْصافِ.
والمُلْكُ هُنا ظاهِرُهُ السُّلْطانُ والغَلَبَةُ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ جاءَتْ أسْبابُ النُّزُولِ. وقالَ مُجاهِدٌ: المُلْكُ النُّبُوَّةُ، وهَذا يَتَنَزَّلُ عَلى نَقْلِ أبِي مُسْلِمٍ في سَبَبِ النُّزُولِ. وقِيلَ: المالُ والعَبِيدُ، وقِيلَ: الدُّنْيا والآخِرَةُ.
وقالَ الزَّجّاجُ: مالِكُ العِبادِ وما مَلَكُوا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: تَمَلُّكُ جِنْسِ المُلْكِ؛ فَتَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ المُلّاكِ فِيما يَمْلِكُونَ. وقالَ مَعْناهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقَدْ تَكَلَّمَ في لَفْظَةِ: اللَّهُمَّ، مِن جِهَةِ النَّحْوِ، فَقالَ: أجْمَعُوا عَلى أنَّها مَضْمُومَةُ الهاءِ، مُشَدَّدَةُ المِيمِ المَفْتُوحَةِ، وأنَّها مُنادى انْتَهى. وما ذُكِرَ مِنَ الإجْماعِ عَلى تَشْدِيدِ المِيمِ. قَدْ نَقَلَ الفَرّاءُ تَخْفِيفَ مِيمِها في بَعْضِ اللُّغاتِ، قالَ: وأنْشَدَ بَعْضُهم:
؎كَحْلَفةٍ مِن أبِي رِياحٍ ∗∗∗ يَسْمَعُها اللَّهُمَ الكُبارُ
قالَ الرّادُّ عَلَيْهِ: تَخْفِيفُ المِيمِ خَطَأٌ فاحِشٌ خُصُوصًا عند الفَرّاءِ، لِأنَّ عِنْدَهُ هي الَّتِي في أمِّنّا، إذْ لا يَحْتَمِلُ التَّخْفِيفُ أنْ تَكُونَ المِيمُ فِيهِ بَقِيَّةَ ”أمِّنّا“ . قالَ: والرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ ”يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ“ انْتَهى. وإنْ (p-٤١٩)صَحَّ هَذا البَيْتُ عَنِ العَرَبِ كانَ فِيهِ شُذُوذٌ آخَرُ مِن حَيْثُ اسْتِعْمالُهُ في غَيْرِ النِّداءِ، ألا تَرى أنَّهُ جَعَلَهُ في هَذا البَيْتِ فاعِلًا بِالفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ ؟ قالَ أبُو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ: هَذِهِ المِيمُ تَجْمَعُ سَبْعِينَ اسْمًا مِن أسْمائِهِ. وقالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَن قالَ اللَّهُمَّ فَقَدْ دَعا اللَّهَ بِجَمِيعِ أسْمائِهِ كُلِّها. وقالَ الحَسَنُ: اللَّهُمَّ: مَجْمَعُ الدُّعاءِ. ومَعْنى قَوْلِ النَّضْرِ: إنَّ اللَّهُمَّ هو اللَّهُ زِيدَتْ فِيهِ المِيمُ، فَهو الِاسْمُ العَلَمُ المُتَضَمِّنُ لِجَمِيعِ أوْصافِ الذّاتِ، لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: جاءَ زَيْدٌ، فَقَدْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الخاصَّ، فَهو مُتَضَمِّنٌ جَمِيعَ أوْصافِهِ الَّتِي هي فِيهِ مِن شُهْلَةٍ أوْ طُولٍ أوْ جُودٍ أوْ شَجاعَةٍ، أوِ أضْدادِها وما أشْبَهَ ذَلِكَ.
وانْتِصابُ: مالِكَ المُلْكِ، عَلى أنَّهُ مُنادًى ثانٍ أيْ: يا مالِكَ المُلْكِ، ولا يُوصَفُ اللَّهُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وأجازَ أبُو العَبّاسِ وأبُو إسْحاقَ وصْفَهُ، فَهو عِنْدَهُما صِفَةٌ ”لِلاهم“، وهي مَسْألَةٌ خِلافِيَّةٌ يُبْحَثُ عَنْها في عِلْمِ النَّحْوُ.
﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] الظّاهِرُ أنَّ المُلْكَ هو السُّلْطانُ والغَلَبَةُ، كَما أنَّ ظاهِرَ المُلْكِ الأوَّلِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ الأوَّلُ عامًّا، وهَذانِ خاصَّيْنِ. والمَعْنى: إنَّكَ تُعْطِي مَن شِئْتَ قِسْمًا مِنَ المُلْكِ، وتَنْزِعُ مِمَّنْ شِئْتَ قِسْمًا مِنَ المُلْكِ، وقَدْ فَسَّرَ المُلْكَ هُنا بِالنُّبُوَّةِ أيْضًا، ولا يَتَأتّى هَذا التَّفْسِيرُ في: تَنْزِعُ المُلْكَ، لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يُؤْتِ النُّبُوَّةَ لِأحَدٍ ثُمَّ نَزَعَها مِنهُ إلّا أنْ يَكُونَ تَنْزِعُ مَجازًا بِمَعْنى: تَمْنَعُ النُّبُوَّةَ مِمَّنْ تَشاءُ، فَيُمْكِنُ.
وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: هو مُلْكُ النَّفْسِ ومَنعُها مِنِ اتِّباعِ الهَوى. وقِيلَ: العافِيَةُ، وقِيلَ: القَناعَةُ. وقِيلَ: الغَلَبَةُ بِالدِّينِ والطّاعَةِ. وقِيلَ: قِيامُ اللَّيْلِ. وقالَ الشِّبْلِيُّ: هو الِاسْتِغْناءُ بِالمُكَوِّنِ عَنِ الكَوْنَيْنِ. وقالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيى: هو قَهْرُ إبْلِيسَ، كَما كانَ يَفِرُّ مِن ظِلِّ عُمَرَ، وعَكْسُهُ مَن كانَ يَجْرِي الشَّيْطانُ مِنهُ مَجْرى الدَّمِ. وقِيلَ: مُلْكُ المَعْرِفَةِ بِلا عِلَّةِ، كَما أتى سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ، ونَزَعَ مِن بَلْعامَ. وقالَ أبُو عُثْمانَ: هو تَوْفِيقُ الإيمانِ. وإذا حَمَلْناهُ عَلى الأظْهَرِ: وهو السَّلْطَنَةُ والغَلَبَةُ، وكَوْنُ المُؤْتى هو الآمِرَ المُتَّبَعَ، فالَّذِي آتاهُ المُلْكَ هو مُحَمَّدٌ ﷺ وأُمَّتُهُ، والمَنزُوعُ مِنهم فارِسُ والرُّومُ. وقِيلَ: المَنزُوعُ مِنهُ أبُو جَهْلٍ وصَنادِيدُ قُرَيْشٍ. وقِيلَ: العَرَبُ وخُلَفاءُ الإسْلامِ ومُلُوكُهُ، والمَنزُوعُ فارِسُ والرُّومُ. وقالَ السُّدِّيُّ: الأنْبِياءُ؛ أُمِرَ النّاسُ بِطاعَتِهِمْ، والمَنزُوعُ مِنهُ الجَبّارُونَ؛ أُمِرَ النّاسُ بِخِلافِهِمْ. وقِيلَ: آدَمُ ووَلَدُهُ، والمَنزُوعُ مِنهُ إبْلِيسُ وجُنُودُهُ. وقِيلَ: داوُدُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والمَنزُوعُ مِنهُ طالُوتُ. وقِيلَ: صَخْرٌ، والمَنزُوعُ مِنهُ سُلَيْمانُ أيّامَ مِحْنَتِهِ. وقِيلَ: المَعْنى تُؤْتِي المُلْكَ في الجَنَّةِ مَن تَشاءُ، وتَنْزِعُ المُلْكَ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا في الآخِرَةِ مِمَّنْ تَشاءُ. وقِيلَ: المُلْكُ العُزْلَةُ والِانْقِطاعُ، وسَمَّوْهُ المُلْكَ المَجْهُولَ. وهَذِهِ أقْوالٌ مُضْطَرِبَةٌ، وتَخْصِيصاتٌ لَيْسَ في الكَلامِ ما يَدُلُّ عَلَيْها، والأوْلى أنْ يُحْمَلَ عَلى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لا الحَصْرِ في المُرادِ.
﴿وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِلُّ مَن تَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] قِيلَ: مُحَمَّدٌ ﷺ وأصْحابُهُ، حِينَ دَخَلُوا مَكَّةَ في اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا ظاهِرِينَ عَلَيْها، وأذَلَّ أبا جَهْلٍ وصَنادِيدَ قُرَيْشٍ حَتّى حُزَّتْ رُءُوسُهم وأُلْقُوا في القَلِيبِ. وقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ والعِرْفانِ، وتُذِلُّ بِالخِذْلانِ. وقالَ عَطاءٌ: المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، وتُذِلُّ فارِسَ والرُّومَ. وقِيلَ: بِالطّاعَةِ، وتُذِلُّ بِالمَعْصِيَةِ. وقِيلَ: بِالظَّفْرِ والغَنِيمَةِ، وتُذِلُّ بِالقَتْلِ والجِزْيَةِ. وقِيلَ: بِالإخْلاصِ، وتُذِلُّ بِالرِّياءِ. وقِيلَ بِالغِنى، وتُذِلُّ بِالفَقْرِ. وقِيلَ: بِالجَنَّةِ والرُّؤْيَةِ، وتُذِلُّ بِالحِجابِ والنّارِ، قالَهُ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ. وقِيلَ: بِقَهْرِ النَّفْسِ، وتُذِلُّ بِاتِّباعِ الخِزْيِ، قالَهُ الوَرّاقُ. وقِيلَ: بِقَهْرِ الشَّيْطانِ، وتُذِلُّ بِقَهْرِ الشَّيْطانِ إيّاهُ، قالَهُ الكَتّانِيُّ. وقِيلَ: بِالقَناعَةِ والرِّضا، وتُذِلُّ بِالحِرْصِ والطَّمَعِ.
يَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الأقاوِيلِ عَلى التَّمْثِيلِ لِأنَّهُ لا مُخَصِّصَ في الآيَةِ، بَلِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ العِزُّ والذُّلُّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، ولِلْمُعْتَزِلَةِ هُنا كَلامٌ مُخالِفٌ لِكَلامِ أهْلِ السُّنَّةِ، قالَ الكَعْبِيُّ: تُؤْتِي المُلْكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِحْقاقِ مَن يَقُومُ بِهِ، ولا تَنْزِعُهُ إلّا مِمَّنْ فَسَقَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٧] جَعَلَ الِاصْطِفاءَ سَبَبًا لِلْمُلْكِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُلْكُ الظّالِمِينَ بِإيتائِهِ وقَدْ يَكُونُ، وقَدْ ألْزَمَهم (p-٤٢٠)أنْ لا يَتَمَلَّكُوهُ، فَصَحَّ أنَّ المُلُوكَ العادِلِينَ هُمُ المَخْصُوصُونَ بِإيتاءِ اللَّهِ المُلْكَ، وأمّا الظّالِمُونَ فَلا. أمّا النَّزْعُ فَبِخِلافِهِ، فَكَما يَنْزِعُهُ مِنَ العادِلِ لِمَصْلَحَةٍ، فَقَدْ يَنْزِعُهُ مِنَ الظّالِمِ. وقالَ القاضِي عَبْدُ الجَبّارِ: الإعْزازُ المُضافُ إلَيْهِ تَعالى يَكُونُ في الدِّينِ بِالإمْدادِ بِالألْطافِ ومَدْحِهِمْ وتَغَلُّبِهِمْ عَلى الأعْداءِ، ويَكُونُ في الدُّنْيا بِالمالِ وإعْطاءِ الهَيْبَةِ. وأشْرَفُ أنْواعِ العِزَّةِ في الدِّينِ هو الإيمانُ، وأذَلُّ الأشْياءِ المُوجِبَةِ لِلذِّلَّةِ هو الكُفْرُ، فَلَوْ كانَ حُصُولُ الإيمانِ والكُفْرِ مِنَ العَبْدِ، لَكانَ إعْزازُ العَبْدِ نَفْسَهُ بِالإيمانِ، وإذْلالُهُ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ أعْظَمَ مِن إعْزازِ اللَّهِ إيّاهُ وإذْلالِهِ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ كانَ حَظُّهُ مِن هَذا الوَصْفِ أتَمَّ مِن حَظِّهِ - سُبْحانَهُ - وهو باطِلٌ قَطْعًا. وقالَ الجُبّائِيُّ: يُذِلُّ أعْداءَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولا يُذِلُّ أوْلِياءَهُ وإنْ أفْقَرَهم، وأمْرَضَهم، وأخافَهم، وأحْوَجَهم إلى غَيْرِ ذَلِكَ، لِأنَّ ذَلِكَ لِعِزِّهِمْ في الآخِرَةِ بِالثَّوابِ، أوِ العِوَضِ فَصارَ كالفَصْدِ يُؤْلِمُ في الحالِ ويُعْقِبُ نَفْعًا. قالَ: ووُصْفُ الفَقْرِ بِكَوْنِهِ ذُلًّا مَجازًا، كَقَوْلِهِ ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] وإذْلالُ اللَّهِ المُبْطِلُ بِوُجُوهٍ بِالذَّمِّ، واللَّعْنِ، وخِذْلانِهِمْ بِالحُجَّةِ والنُّصْرَةِ، وبِجَعْلِهِمْ لِأهْلِ دِينِهِ غَنِيمَةً، وبِعُقُوبَتِهِمْ في الآخِرَةِ.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ نَصِیبࣰا مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ یُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ یَتَوَلَّىٰ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ","ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۖ وَغَرَّهُمۡ فِی دِینِهِم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ","فَكَیۡفَ إِذَا جَمَعۡنَـٰهُمۡ لِیَوۡمࣲ لَّا رَیۡبَ فِیهِ وَوُفِّیَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۖ وَغَرَّهُمۡ فِی دِینِهِم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق