الباحث القرآني
يقول الله عز وجل: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ في النهاية، ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ بمعنى: إن تُقَدِّر لهم ما يستحقون أن يُعَذَّبوا عليه فإنهم عبادك، وليس المراد أنه يعذبهم بدون جُرْمٍ، فإنه سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك غاية التنزيه؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف ٤٩]، ولقوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت ٤٦]، لكن معنى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ بأن تُقَدِّر عليهم ذنبًا يكون سببًا للعذاب فإنهم عبادك.
ومع هذا نقول: إن الله تعالى لن يُقَدِّر لهم ذنوبًا يستحقون عليها العذاب إلا إذا عَلِمَ ما في قلوبهم من الإعراض، وعدم قَبول الحق؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة ٤٩]، فالذنوب سبب للإعراض، والعياذ بالله، وقال عز وجل: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥].
إذن كلمة ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ لا بد لها من مقدمات؛ الأولى: فعل ما يستحقون عليه العذاب، الثانية: أنهم يُقَدَّر لهم ما يَحْصُل به العذاب؛ لأنهم أهل لذلك؛ إذ إن الله تعالى وعد: ﴿أَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل ٥ - ٧] لكن الذنب ذنب العبد ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال ٢٣].
وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ هذه المراد بها العبادة الكونية لا الشرعية؛ لأنَّ العبد بالعبودية الشرعية لا يستحق أن يُعَذَّب، ولكن المراد العبودية الكونية؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن ٢].
وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الجملة لا يَخْفَى أنها جواب أيش؟ جواب الشرط، واقترنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية، والجملة الاسمية إذا وقعت جوابًا للشرط سواء كان جازمًا أم غير جازم فإنها تقرن بالفاء، وقد نظم بعضهم الجمل التي ترتبط بالفاء إذا وقعت جوابًا للشرط في قوله:
؎اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّـــــــــــةٌوَبِجَـــــــــــــــــامِدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وَبِلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ
سبعة مواضع، هنا من أي المواضع؟ الجملة الاسمية، لكنها جملة اسمية أُكِّدت بـ(إن) فاقترنت بالفاء.
قال: ﴿فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يعني: إن قَدَّرْتَ لهم أسباب المغفرة فَغَفَرْت لهم ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز الغالب.
قالوا: والعزة ثلاثة أنواع: عزة القهر والغلبة، وعزة الامتناع، وعزة الشرف التي يُعَبِّر عنها بعضهم بعزة القَدْر؛ أما عزة الغلبة فظاهر مثل قول الله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون ٨]، ومثل قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر ١٠] هذا واضح أن المراد بها الغلبة.
عزة الامتناع قالوا: معناها: أن الله عز وجل أعظم من أن يناله ما يكون عيبًا أو نقصًا؛ يعني: يمتنع عليه النقص، رجعوا في ذلك إلى الاشتقاق؛ قالوا: لأنه يُقال: أرض عَزَازٌ؛ أي: صلبة لا تؤثر فيها المعاول لامتناعها وشدتها.
والثالث: عزة الشرف، عزة الشرف يعني أنه عز وجل ذو قَدْر عظيم وشرف عظيم، كما تقول لصديقك: أنت عزيز علي، أيش معناه؟ أي: أنت ذو قدر عظيم عندي.
و﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ﴿الْحَكِيمُ﴾ مشتقة من (حَكَمَ) و(أَحْكَم)، فإن كانت من (حَكَم) فـ(فعيل) بمعنى (فاعل)، وإن كانت من (أَحْكَم) فـ(فعيل) بمعنى مُحكِم، إتيان (فعيل) بمعنى (فاعل) كثير؛ كسميع بمعنى سامع، بصير بمعنى باصر وهكذا، لكن (فعيل) بمعنى (مُفْعِل) قليل في اللغة العربية لكنه ثابت، ومنه قول الشاعر:
؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِيهُجُــــــــــوعُ
معنى السميع: المُسمِع، إذن (الحكيم) مأخوذة من: الحُكْمِ والإحكام، فإذا كانت من الحكم فهي بمعنى: حاكم، وإن كانت من الإحكام فهي بمعنى: مُحكِم، والمحكم هو الذي منه الحكمة.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة ١١٩، ١٢٠].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، هذا كلام عيسى للرب عز وجل يوم القيامة، وسبق لنا أن معنى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ أي: تُقَدِّر لهم عملًا يعذبون عليه فهم عبادك، و﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ فتهيِّئ لهم أسباب المغفرة ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. وسبق لنا أن ﴿الْعَزِيزُ﴾ له ثلاثة معان؟
* طالب: عزة القهر والغلبة.
* الشيخ: عزة القهر والغلبة، والثاني؟
* الطالب: عزة الشرف.
* الشيخ: عزة الشرف والقدر، والثالث؟
* الطالب: والثالث عزة الامتناع.
* الشيخ: الامتناع، تمام؛ أي: أنه يمتنع عليه كل نقص وعيب، وهذا الأخير مأخوذ من قولهم: أرض عَزاز؛ أي، قوية صلبة. ﴿الْحَكِيمُ﴾؟
* طالب: من (حكم) بمعنى حاكم (...).
* الشيخ: مِنْ (حَكَمَ) و(أَحْكَم)؛ (حكم) بمعنى حاكم، هو الحاكم في كل شيء، (أحكم) أي: أتقن كل شيء كما قال عز وجل: ﴿الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل ٨٨].
نبقى في شرح هذه الكلمة العظيمة؛ أولًا: يجب أن نعلم أن هذا وصف الله عز وجل؛ أن له الحكم فهو الحاكم قدرًا وشرعًا، دنيا وأخرى، وأن نعلم أن له الحكمة في كل ما يفعله كل ما يحكم به، من أمور كونية وأمور شرعية، وإذا علمنا هذا استسلمنا تمامًا للأحكام الشرعية والأحكام الكونية، لا نقول مثلًا: إذا قدَّر الله تعالى وباء أو قدَّر زلازل وما أشبه ذلك، لا نقول: هذا عبث، بل نقول: هذا لحكمة.
الحكمة تكون في ذات الشيء، وتكون في غايات الشيء، وتكون في الشرع، وتكون في القَدْر، فالأقسام إذن أربعة؛ الحكمة في ذات الشيء: بمعنى أن يُقَدَّر هذا الشيء إن كان قَدَرِيًّا على وجه مناسب تمامًا، انظر في المخلوقات تَجِد كونها على هذا الوجه التي خُلِقَت عليه موافقًا تمامًا للحكمة.
واسأل أهل التشريح للأجساد البشرية وغير البشرية، اسألهم كيف ركَّب الله عز وجل هذه الأبدان على أبدع ما يكون وأدق ما يكون، كم في الإنسان من معامل في جسمه! معامل عظيمة، انظر للطعام يدخل متنوعًا ويخرج نوعًا واحدًا، انظر إلى الطعام يدخل على وجه الصعوبة أو الليونة، ويخرج على مستوى واحد، كل هذه بسبب المعامل، ثم هذه المعامل-سبحان الله- تباشر العمل ما تتأخر، فالمعدة من حين ما يصل إليها الطعام تبتدأ تشتغل والإفرازات عليها من المرارة أو غيرها، شيء عجيب.
كون الإنسان خُلِقَ على هذا الوجه؛ عَدَّله الله وجعله سويًّا، ليس كالأنعام مناسب تمامًا لما خُلِقَ له العبد من كونه مخلوقًا للطاعة والعبادة حتى يتمكن من القيام والقعود والركوع والسجود وغيرها مما يكلفه الله به، وعلى هذا فَقِس.
كذلك أيضًا الحكمة في الأمور الشرعية؛ في ذات الأوامر الشرعية حكمة عظيمة؛ الصلاة صلة بين الإنسان وبين الله عز وجل؛ إنه يناجي ربه قائمًا في قراءته، وإنه يبتهل إليه في سجوده، وإنه يخشع له بقلبه، فكونه على هذا الوجه هذه حكمة.
أما الغايات؛ فالغايات أيضًا حكمة، الغايات مثلًا فيما يقدره الله تعالى قدرًا غايات حميدة، انظر إلى قول الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١] ويش الغاية من هذا؟ ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الروم ٤١]، والغاية من هذه العقوبة: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١]، فهذه غاية بعد غاية، مع أن الإنسان لو تَصَوَّر الأمر في أول وهلة؛ لقال: الفساد فساد كيف نقول: إن له غاية حميدة؟
المصالح لها غايات حميدة أيضًا، هي بنفسها حميدة ولها غايات حميدة أيضًا؛ ومنها: الشكر على النعم؛ فإن الله تعالى يبتلي بالشرِّ والخير؛ إذا صبر الإنسان على الشر فهي غاية حميدة، وإذا شكر على الخير فهي غاية حميدة، كذلك هذه المخلوقات -أنا أتكلم على الشريعة-.
أيضًا المخلوقات لها غاية؛ إذا رأيت الشمس تطلع كل يوم من مطلع غير المطلع الذي بالأمس، وبين مطلعها اليوم ومطلعها بالأمس مسافات عظيمة ما يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأن مع هذا البُعْد العظيم الذي مثل الشعرة تجد مساحته كم؟ أعوامًا، إحنا نظن أن المساحة يسيرة ما هي إلا كشعرة انحرفت الشمس عنها، وهي ليس كذلك، مسافات عظيمة جدًّا كل يوم وترجع في نفس الخط، لماذا؟ للمصالح العظيمة؛ الناس تختلف مصالحهم في الشتاء عنها في الصيف، في الخريف عنها في الربيع، مصالح عظيمة، الشمس أيضًا في نضج الأشجار وتدفئة الجو، لها -سبحان الله- شيء لا يتصور.
انظر مثلًا إلى الجوِّ، الأفق، تجد أنه -ونحن في عز الصيف- تجده باردًا جدًّا؛ لأن الأضواء -أضواء الشمس- ليس لها ما يعكسها، هي تنعكس على الأرض، ثم تولد حرارة، لكن في الجو ما في شيء يُعكَس تخرقه خرقًا وتمضي إلى الأرض، فلكل مخلوق غاية، ولكل مشروع غاية حميدة.
فالحكمة إذن -يا جماعة- تكون في المقدور؛ أي في ذات المقدور كونه على هذا الوجه حكمة، ثانيًا: في الغاية منه، ثالثًا: في المشروع، رابعًا: في الغاية منه.
وتأمل الشرائع تجد أنها صلاح للبدن والقلب، صوم، صلاة، زكاة، حج، توحيد وإخلاص، مصلحة للبدن، أَسَرُّ ما يكون الإنسان وأنشط ما يكون وأفرح ما يكون إذا اصطفى قلبه بالإخلاص لله عز وجل؛ ولذلك يمرُّ على الإنسان أحيانًا وهو في العبادة يمر عليه حال يقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم فهو كافٍ، وتأتي الغفلة تستولي كثيرًا فربما يَثْقُل عليه ما كان خفيفًا عليه بالأمس، والقلوب بيد الله عز وجل.
فالمهم أن الحكمة تكون على هذه الوجوه الأربعة: حكمة في المخلوق، حكمة في المشروع نفسه، الثالث: حكمة في الغاية من المخلوق، حكمة في الغاية من المشروع، واضح؟
الغريب أن هذه الحكمة العظيمة أنكرها الأشاعرة والجهمية، وقالوا: إن الله يفعل ليس لحكمة؛ لأن الحكمة غَرَض، والله مُنَزَّه عن الأغراض والأعراض والأبعاض، سجع باطل؛ منزه عن الأغراض (...) ما له حكمة، ما يفعل لحكمة، هكذا بس، مجرد مشيئة، عن الأعراض ما له صفات؛ لا يضحك ولا يغضب، وعن الأبعاض ما له وجه ولا له يد ولا له عين وما أشبه ذلك.
لكن نقول: إن هذا باطل، والله تعالى منزَّه عن النقص، أما الحكمة فليست غرضًا ينتفع بها، هو إنما ينتفع بها الخلق لتظهر آثار رحمته وآثار حكمته في خلقه حتى يعبدوه، وإلَّا فالله غَنِيٌّ عنَّا، لو أن أهل الأرض كلهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم أَيُنْقِص الله شيئًا؟ لا ينقصه.
﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ﴾ عمن؟ ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران ٩٧] كلهم، ما ينتفع بالطاعة، ولا تضره المعصية، لكنه لتظهر آثار رحمته وحكمته وسلطانه وقوته جعل هذه الشرائع، فليست الحكمة غرضًا ينتفع به الحكيم بالنسبة لله عز وجل أو يدفع به ضررًا عنه.
أما قولهم مُنَزَّه عن الأعراض يعني: أنه لا ينزل، ولا يستوي على السماء، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يحب ولا يكره، فنقول: هذا يعني: إبطال ما وصف الله به نفسه، وهذا الإبطال هو بمنزلة الجحد؛ لأنهم يبطلون أشياء واضحة المعنى، فهي كما لو قال الذي اشترى فرسًا قال: اشتريت خبزًا، هل يَصْدُق بهذا؟ ما يصدق، تحريفاتهم للنصوص مثل تحريفات مَنْ قال: اشتريت خبزًا، يريد: اشتريت فرسًا، لكنهم لا يصَرِّحُون بالنفي، يقولون: إن الله لا يغضب، يقول: يغضب لكن المراد بغضبه الانتقام أو إرادة الانتقام.
الثالث: الأبعاض، يقولون: ما يمكن أن يكون لله وجه ولا عين ولا يد ولا قدم ولا ساق، فنقول: سبحان الله ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة ١٤٠]؟
فإذا قالوا: الله أعلم، نقول: هل يُحَدِّثُ الله تعالى بالكذب؟ إذا قالوا: لا يمكن أن يكذب، هو أصدق القائلين؛ قلنا: إذن، كيف تقولون: ليس له يد حقيقية، ليس له وجه حقيقي؟
فالحاصل أنَّا نقول: إن نفي الحكمة يعني أن أفعال الله تعالى كلها سفه؛ لأنه إذا انتفت الحكمة حل العبث، ضده لا بد؛ إذ لا يُعْقَل أن فاعلًا يفعل ما ليس له حكمة إلا وله ضدها، فالحمد لله الذي هدانا، نسأل الله أن يُثَبِّتَنا وإياكم.
إذن، الآية هذه تفيد الحكمة على الوجوه الأربعة. فلنعود إلى الفوائد منها:
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن عيسى عليه السلام -وهو أحد أولو العزم من الرسل- يفوض الأمر إلى الله؛ حيث قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾، ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾، وهكذا يجب علينا نحن أن نفوض الأمر إلى الله عز وجل فيما يفعله ولا نعترض عليه، فالله يقول: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء ٢٣] ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ لكمال حكمته، ﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ لأنهم عابدون لله عز وجل.
* * *
* طالب: بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة ١١٩، ١٢٠].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾.
قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ سأذكر ما يفتح الله به علينا من فوائدها:
* من فوائد هذه الآية الكريمة: تسليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتفويض الأمر إلى الله عز وجل؛ لأن هذا من عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أحد الأنبياء أولي العزم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إطلاق العبودية على مَنِ استحق التعذيب، والعبودية نوعان: خاصة، وعامة، والخاصة نوعان: أخص، وأعم؛ العامة: هي عبودية القدر؛ يعني عبودية التكوين، هذه عامَّة لكل أحد؛ قال الله عز وجل: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، ولا يشذ عن هذه العبودية أحد، ولا يمكن أن يعارض هذه العبودية أحد، كل الخلق، لا يستطيع أكفر عباد الله أن يمنع قدر الله عز وجل فيه، وهذه عامة للمسلم والكافر، والبَّر والفاجر.
والثاني خاصة: وهي العبودية للشرع؛ العبودية لشريعة الله أن يتذلل الإنسان لشريعة الله عز وجل، وهذه خاصَّة بمن؟ بمن أسلم وجه لله، فيَخْرج منها الكافر؛ فليس بعبد لله بهذا المعنى.
هذه العبودية الخاصة تنقسم إلى أعم وأخص؛ أخص هذه العبودية الخاصة عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما في قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة ٢٣]، وقوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم ١٠]، وقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١]، وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف ١] والأمثلة كثيرة، وقال في نوح: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء ٣]، هذه أخص أنواع العبودية، وهي عبودية الرسالة؛ لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام مكلَّفون بأمر زائد على ما كُلِّف به المرسل إليهم من تبليغ الرسالة والصبر على إبلاغها والدعوة إلى الله وغير ذلك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن لله تبارك وتعالى أن يعذب ويرحم، وإن شئت فقل: أن يعذب ويغفر؛ لتطابق الآية، ولكن هل هذا على ظاهره أو نقول: أن يُعذِّب من يستحق التعذيب؟ لأن الله تعالى لا يُعَذِّب أحدًا لا يستحق التعذيب كما قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه ١١٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: حكمة الله عز وجل في جَعْل الخلق ينقسمون إلى قسمين: معذب، ومغفور له، كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن ٢]، ولولا هذا الانقسام ما ظهر فضل الإيمان، ولا شُرِعَ الجهاد ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا أرسلت الرسل، لكن حكمة الله اقتضت أن يكون الناس قسمين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات المغفرة -أي مغفرة الله عز وجل- لمن شاء من عباده؛ لقوله: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾، وقد مر عليكم معنى المغفرة وهي: ستر الذنب والتجاوز عنه، نأخذ هذا من اشتقاق هذه الكلمة؛ فإنها مشتقة من المِغْفَر وهو الذي يُتَّقَى به السهام، يجعل على الرأس، فهو ساتر وواقٍ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين الكريمين: العزيز والحكيم، وإثبات ما تضمناه من صفة، وهي العزة والحكم والحكمة.
واعلم أن الأسماء الكريمة قد تستلزم معاني أخرى لا يدل عليها اللفظ الاشتقاقي لكن تكون من اللوازم، كالخالق مثلًا، الخالق من أسماء الله، الخلَّاق من أسماء الله تدل على صفة الخلق، وتدل على صفات أخرى لازمات لذلك وهي العلم والقدرة، كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق ١٢]، وبهذا نعرف أن الصفات أكثر من الأسماء؛ وجه هذا أن كل اسم لا بد أن يتضمن صفة أو أكثر، وليس كل صفة يُشْتَق منها اسم؛ فلهذا نقول: صفات الله عز وجل التي بلغتنا أكثر من أسمائه.
فإن قال قائل: الإنسان إذا قرأ هذه الآية يتوقع أن يكون ختامها (فإنك أنت الغفور الرحيم)؛ لأن ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ جواب ﴿إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ والمناسب أن يقول: (إنك أنت الغفور الرحيم) فما الجواب؟
قيل: إن الآية وإن كانت مركبة من شرطيتين فهما بمعنى واحد، الآن الآية فيها شرطيتان: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ وجوابها: ﴿فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾، ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ جوابها: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، لكنها في الحقيقة كشرط واحد، فيكون تعذيب الظالمين بظلمهم والمغفرة لمن يستحق المغفرة مبنيًّا على العزة التي بها يعذب الكافرين، وعلى الحكمة التي بها يغفر لمن يستحقون المغفرة، هذا من وجه.
من وجه آخر: تقسيم الناس إلى هذا اقتضته العزة والحكمة فكان هذا هو المناسب، هذا أقرب ما يكون، والله أعلم بمراده.
{"ayah":"إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق