الباحث القرآني
﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَإنَّهم عِبادُكَ﴾ والَّذِينَ عَذَّبْتَهم جاحِدِينَ لِآياتِكَ (p-٦٢)مُكَذِّبِينَ لِأنْبِيائِكَ، وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ القَوِيُّ عَلى الثَّوابِ والعِقابِ، الحَكِيمُ الَّذِي لا يُثِيبُ ولا يُعاقِبُ إلّا عَنْ حِكْمَةٍ وصَوابٍ. فَإنْ قُلْتَ: المَغْفِرَةُ لا تَكُونُ لِلْكُفّارِ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ؟ قُلْتُ: ما قالَ: إنَّكَ تَغْفِرُ لَهم، ولَكِنَّهُ بَنى الكَلامَ عَلى أنْ يُقالَ: إنْ عَذَّبْتَهم عَدَلْتَ؛ لِأنَّهم أحِقّاءُ بِالعَذابِ، وإنْ غَفَرْتَ لَهم مَعَ كُفْرِهِمْ، لَمْ تَعْدَمْ في المَغْفِرَةِ وجْهَ حِكْمَةٍ؛ لِأنَّ المَغْفِرَةَ حَسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ في المَعْقُولِ، بَلْ مَتى كانَ المُجْرِمُ أعْظَمَ جُرْمًا، كانَ العَفْوُ عَنْهُ أحْسَنَ. وهَذا مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَيْلٌ إلى مَذاهِبِ أهْلِ السُّنَّةِ، فَإنَّ غُفْرانَ الكُفْرِ جائِزٌ عِنْدَهم، وعِنْدَ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ عَقْلًا، قالُوا: لِأنَّ العِقابَ حَقٌّ لِلَّهِ عَلى الذَّنْبِ، وفي إسْقاطِ مَنفَعَةٍ، ولَيْسَ في إسْقاطِهِ عَلى اللَّهِ مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حَسَنًا، ودَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ في شَرْعِنا عَلى أنَّهُ لا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ، ما كانَ مَوْجُودًا في شَرْعِ عِيسى، عَلَيْهِ السَّلامُ انْتَهى كَلامُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ. وقالَ أهْلُ السُّنَّةِ: مَقْصُودُ عِيسى تَفْوِيضُ الأُمُورِ كُلِّها إلى اللَّهِ تَعالى، وتَرْكُ الِاعْتِراضِ بِالكُلِّيَّةِ، ولِذَلِكَ خَتَمَ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ أيْ قادِرٌ عَلى ما تُرِيدُ في كُلِّ ما تَفْعَلُ، لا اعْتِراضَ عَلَيْكَ. وقِيلَ: لَمّا قالَ لِعِيسى: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] الآيَةَ، عُلِمَ أنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصارى حَكَوْا هَذا الكَلامَ عَنْهُ، والحاكِي هَذا الكُفْرَ، لا يَكُونُ كافِرًا، بَلْ مُذْنِبًا حَيْثُ كَذَبَ، وغُفْرانُ الذَّنْبِ جائِزٌ، فَلِهَذا قالَ: ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ . وقِيلَ: كانَ عِنْدَ عِيسى أنَّهم أحْدَثُوا المَعاصِيَ، وعَمِلُوا بَعْدَهُ بِما لَمْ يَأْمُرْهم بِهِ، إلّا أنَّهم عَلى عَمُودِ دِينِهِ، فَقالَ: ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ما أحْدَثُوا بَعْدِي مِنَ المَعاصِي، وهَذا يَتَوَجَّهُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] كانَ وقْتَ الرَّفْعِ؛ لِأنَّهُ قالَ ذَلِكَ، وهم أحْياءٌ لا يَدْرِي ما يَمُوتُونَ عَلَيْهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (تُعَذِّبُهم) عائِدٌ عَلى مَن ماتَ كافِرًا، وفي ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى مَن تابَ مِنهم قَبْلَ المَوْتِ. وقِيلَ: قالَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الِاسْتِعْطافِ لَهم، والرَّأْفَةِ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّ الكُفّارَ لا يُغْفَرُ لَهم، ولِهَذا لَمْ يَقُلْ: لِأنَّهم عَصَوْكَ ؟ انْتَهى. وهَذا فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّ الِاسْتِعْطافَ، لا يَحْسُنُ إلّا لِمَن يُرْجى لَهُ العَفْوُ والتَّخْفِيفُ، والكُفّارُ لا يُرْجى لَهم ذَلِكَ. والَّذِي أخْتارُهُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ؛ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] قَوْلٌ قَدْ صَدَرَ، ومَعْنًى يَعْطِفُهُ عَلى ما صَدَرَ ومَضى، ومَجِيئُهُ بِـ (إذْ) الَّتِي هي ظَرْفٌ لِما مَضى، ويُقالُ الَّتِي هي حَقِيقَةٌ في الماضِي، فَجَمِيعُ ما جاءَ في هَذِهِ الآياتِ مِن (إذْ) قالَ: هو مَحْمُولٌ عَلى أصْلِ وضْعِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَقَوْلُ عِيسى: ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾، فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ المُسَبَّبِ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ الغُفْرانَ مُرَتَّبٌ عَلى التَّوْبَةِ، وإذا كانَ هَذا القَوْلُ في غَيْرِ وقْتِ الآخِرَةِ، كانُوا في مَعْرِضِ أنْ يَرِدَ فِيهِمُ التَّعْذِيبُ أوِ المَغْفِرَةُ النّاشِئَةُ عَنِ التَّوْبَةِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ أنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ، والمَعْنى فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الَّذِي لا يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ ما تُرِيدُهُ، الحَكِيمُ فِيما تَفْعَلُهُ، تُضِلُّ مَن تَشاءُ، وتَهْدِي مَن تَشاءُ. وقَرَأتْ جَماعَةٌ فَإنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، عَلى ما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ . قالَ عِياضُ بْنُ مُوسى: لَيْسَتْ مِنَ المُصْحَفِ. وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبارِيِّ: وقَدْ طَعَنَ عَلى القُرْآنِ مَن قالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ لا يُناسِبُ قَوْلَهُ: وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ؛ لِأنَّ المُناسِبَ؛ فَإنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ. والجَوابُ: أنَّهُ لا يُحْتَمَلُ إلّا ما أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى، ومَتى نُقِلَ إلى ما قالَ هَذا الطّاعِنُ ضَعُفَ مَعْناهُ، فَإنَّهُ يَنْفَرِدُ الغَفُورُ الرَّحِيمُ بِالشَّرْطِ الثّانِي، ولا يَكُونُ لَهُ بِالشَّرْطِ الأوَّلِ تَعَلُّقٌ، وهو ما أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى، وأجْمَعَ عَلى قِراءَتِهِ المُسْلِمُونَ، مَعْذُوقٌ بِالشَّرْطَيْنِ كِلَيْهِما، أوَّلِهِما وآخِرِهِما، إذْ تَلْخِيصُهُ؛ إنْ تُعَذِّبْهم فَأنْتَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَأنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، في الأمْرَيْنِ كِلاهُما مِنَ التَّعْذِيبِ، والغُفْرانِ، فَكانَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ألْيَقَ بِهَذا المَكانِ؛ لِعُمُومِهِ، وأنَّهُ يَجْمَعُ الشَّرْطَيْنِ، ولَمْ يَصْلُحِ الغَفُورُ الرَّحِيمُ أنْ يَحْتَمِلَ ما احْتَمَلَهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ انْتَهى. وأمّا قَوْلُ مَن ذَهَبَ (p-٦٣)إلى أنَّ في الكَلامِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، تَقْدِيرُهُ: إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ، وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّهم عِبادُكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وهو قَوْلُ مَنِ اجْتَرَأ عَلى كِتابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. رَوى النَّسائِيُّ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: «قامَ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى أصْبَحَ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾» .
{"ayah":"إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق