الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ [الزخرف ٩، ١٠] (طُرُقًا) ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾. قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ هذا ليس من كلام الذين سألهم النبي ﷺ، انتهى كلامهم عند قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾، أما ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ فهذا من كلام الله عز وجل. ومعنى ﴿جَعَلَ﴾ صيَّر، ﴿لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ أي: كالمهد مُوَطَّأة، قرارٌ، يطمئن بها الإنسان. ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ أي: صيَّر لكم فيها سبلًا؛ أي: طرقًا، هذه الطرق تكون بين الشعاب والجبال والوهاد، حتى إنه لتأتي الرياح الشديدة، وتبقى هذه الطرق معلومة، يُسْتَدل على هذه الطرق بالجبال والشعاب والنجوم، كما قال عز وجل: ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل ١٦]. ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (لعل) هنا للتعليل، ومن المعلوم أن (لعل) تأتي للتعليل كما هنا، وتأتي للترجي، وتأتي للتوقُّع، والذي يُعَيِّن المعنى هو سياق الكلام وقرائن الأحوال. ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ بعدها، التفسير. * طالب: (إلى مقاصدكم في أسفاركم). * الشيخ: نعم، ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: تعلمون الطُّرق، فالهداية هنا هداية الطرق، (إلى مقاصدكم في أسفاركم) الآن -والحمد لله- وُجِدَت طرق مُمَهَّدَة بيِّنة من المدن والقرى وغير هذا، كل ذلك بنعمة الله عز وجل، أظن عندكم ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾. * طالب: (...). * الشيخ: أنا عندي ﴿﴿مِهَادًا﴾ ﴾، ولم يُشر إلى القراءة التي في المصحف، وهي على حال قراءتان: ﴿﴿مِهَادًا﴾ ﴾، وقد جاءت في آية أخرى بهذا اللفظ، و﴿مَهْدًا﴾ وهي بمعنى مِهَاد. ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ [الزخرف ١١] ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ أي: أنزله شيئًا فشيئًا، فتجد المطر ينزل من السماء نقطًا، ولو جاء كأفواه القِرَب لأفسد الأرض وهدَّم البناء، ولكن من رحمة الله عز وجل أن جعله ينزل شيئًا فشيئًا، ومع ذلك تسيل منه الأودية وهو على نقطة نقطة، لكن مع كثرته تسيل به الشعاب. ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ السماء هنا المراد بها العلو. واعلم أن السماء يطلق على معنيين: المعنى الأول: العلو من حيث هو، والمعنى الثاني: السقف المحفوظ الذي هو السموات السبع. فقوله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة ١٦٤] المراد بالسماء هنا السقف المحفوظ، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء ٣٢]. وأما قوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ فالمراد به العلو؛ لأن المطر ليس ينزل من السماء نفسها ولكنه ينزل من العلو، بدليل قوله: ﴿السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، السحاب ليس في السماء لاصقًا، ولكنه بين السماء والأرض، وهو إلى الأرض أقرب. (﴿نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ أي: بقَدْر حاجتكم إليه، ولم ينزله طوفانًا) قوله: ﴿بِقَدَرٍ﴾ فسره المؤلف أي: بقدر ما تحتاجون إليه، وله معنى آخر ﴿بِقَدَرٍ﴾ يعني: أنه مُقَدَّر محددٌ، حتى النقطة قد عَلِمها الله عز وجل، وعلم كيف تنزل، وعلم متى تنزل، وعلم أين تنزل، كل شيء بقدَرٍ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر ٤٩]، فيكون المعنى على هذا أن هذا المطر الذي ينزل على كثرته وكثرة عدد نقاطه ينزل بقَدْرٍ محددٍ، والمعنى الذي ذكره المؤلف معنى صحيح، والآية تحتمل هذا وهذا، والقاعدة عندنا في التفسير: أن الكلمة في القرآن أو في السنة إذا كانت تحتمل معنيين على السواء ولا منافاة بينهما فإنه يجب أن تُحْمَل عليهما؛ توسعة للمعنى. ﴿فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ ﴿أَنْشَرْنَا﴾ أي: أحيينا، كما جاء ذلك في آيات أخرى، في قوله: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ [الزخرف ١١] فإذن ﴿أَنْشَرْنَا﴾ بمعنى: أحيينا، وهذا شيء مشاهد؛ تجد الأرض قاحلة مجدبة ليس فيها خضراء، فإذا نزل المطر أصبحت تهتز من النبات من كل زوج بهيج. وقوله: (أحيينا ﴿بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ﴾ أي: مثل هذا الإحياء، ﴿تُخْرَجُونَ﴾ ) يعني: كما أنا أحيينا الأرض بالمطر فكذلك نحييكم يوم القيامة، قال الله عز وجل في آية أخرى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾ هامدة، ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ أي: علتْ بنباتها، ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت ٣٩]. * في هذه الآيات فوائد: * منها: بيان نعمة الله عز وجل؛ حيث جعل لنا الأرض مهادًا، ولو كانت صلبة ما استقررنا عليها ولا حرثناها ولا انتفعنا بها كثيرًا، ولو كانت رخوة كذلك لم ننتفع بها ولغاصت أقدامنا فيها، ولكن من نعمة الله أنه جعلها كالمهاد. * ومن فوائد الآية الكريمة: نعمة الله علينا بما جعل لنا من الطرق في هذه الأرض على تباعد أقطارها. ولكن بأي شيء نستدل على الطرق؟ ذكرنا أنه يُسْتَدل عليها بالشعاب وبالجبال وكذلك بالنجوم. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات حكمة الله فيما يخلق في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، وحكمة الله عز وجل فيما يخلق وفيما يشرع ثابتة، لكن من الحِكَم ما نعلم، ومن الحِكَم ما لا نعلم لقصور أفهامنا، ومن الحِكَم ما يعلمها كثير من الناس وتخفى على كثيرين آخرين. * ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنه إذا كان المقصود الحسي يحتاج إلى طرق فكذلك المقصود المعنوي، وهو الوصول إلى دار كرامة الله عز وجل، فإنه يحتاج إلى طرق، لا بد أن نسلك هذه الطرق حتى نصل إلى المقصود، فإن لم نسلكها فلن نصل إلى المقصود. * ومن فوائد الآية الثانية: قدرة الله عز وجل بإنزال المطر. * ومنها: رحمة الله عز وجل بإنزال المطر من فوق؛ لأنه لو كان من أسفل لغرقت الأرض السفلى دون أن يصل الماء إلى قمم الجبال، ولكن الله تعالى جعله ينزل من فوق حتى يُرْوِي العالي والنازل، وإذا ارتوى العالي نزل إلى النازل. * ومن فوائد الآية: أن هذا الماء النازل من السماء ينزل بقدر على المعنيين اللذين ذكرناهما. * ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء. * ومن فوائد الآية: إطلاق لفظ الموت على ما لا روح فيه؛ أي: ما لا روح فيه تُحِس؛ لقوله: ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾، وإلا فمن المعلوم أن الأرض ليست كحياة الحيوان حياة إحساس، بل هي حياة نمو. * ومن فوائد الآية: قياس المعقول على المحسوس، وإن شئت فقل: قياس الغائب على الحاضر؛ لقوله: ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾. * ومن فوائدها: إثبات القياس وأنه دليل. لكن هل هو دليل عقلي أو دليل سمعي؟ الجواب هو دليل عقلي ثابت بالدليل السمعي؛ وذلك لأن العقل ينتقل من المقيس عليه إلى المقيس، فهو دليل عقلي باعتبار كيفية الاستدلال به، ودليل سمعي لثبوته شرعًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب