الباحث القرآني

(p-٥٣٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وجَعَلَ لَكُمُ فِيها سُبُلا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ ﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ﴿وَإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ هَذِهِ أوصافُ فِعْلٍ، وهي نِعَمٌ مِنَ اللهِ تَعالى عَلى البَشَرِ، تَقُومُ بِها الحُجَّةُ عَلى كُلِّ كافِرٍ مُشْرِكٍ بِاللهِ تَعالى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ﴾ لَيْسَ مِن قَوْلِ المَسْؤُولِينَ، بَلْ هو ابْتِداءُ إخْبارٍ مِنَ اللهِ تَعالى، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مِهادًا"، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: "مَهْدًا"، والمَعْنى واحِدٌ، أيْ: يَتَمَهَّدُ ويَتَصَرَّفُ فِيها، والسُبُلُ: الطُرُقُ، وتَهْتَدُونَ: مَعْناهُ: في المَقاصِدِ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ ومِن قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: تَهْتَدُونَ بِالنَظَرِ والِاعْتِبارِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَزَّلَ مِنَ السَماءِ ماءً﴾: هو المَطَرُ بِإجْماعٍ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "بِقَدَرٍ"،﴾ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: بِقَضاءٍ وحَتْمٍ في الأزَلِ. وقالَ آخَرُونَ: المَعْنى: بِقَدَرٍ في الكِفايَةِ لِلصَّلاحِ، لا إكْثارَ فَيُفْسَدُ، ولا قِلَّةَ فَيَقْصُرُ، بَلْ غَيْثًا مُغِيثًا سَيْلًا نافِعًا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: بِتَقْدِيرٍ وتَحْرِيرٍ، أيْ: قَدَرًا ما مَعْلُومًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ قائِلُو هَذِهِ المَقالَةِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: يَنْزِلُ كُلَّ عامٍ ماءً قَدَرًا واحِدًا لا يَفْضُلُ عامٌ عامًا، لَكِنْ يَكْثُرُ مَرَّةً هُنا ومَرَّةً هُنا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ يُنْزِلُ اللهُ تَعالى تَقْدِيرًا ما في عامٍ، ويُنْزِلُ في آخَرَ تَقْدِيرًا آخَرَ بِحَسَبِ ما سَبَقَ بِهِ قَضاؤُهُ، لا إلَهَ غَيْرُهُ. و"أنَشَرْنا": مَعْناهُ: أحْيَيْنا، يُقالُ: نَشَرَ المَيِّتَ، وأنْشَرَهُ غَيْرُهُ، و﴿ "بَلْدَةً":﴾ اسْمُ جِنْسٍ، ووَصَفَها بِـ "مَيْتًا" دُونَ ضَمِيرٍ مِن حَيْثُ هي واقِعَةُ مُوقِعَ "قَطَرَ" ونَحْوَهُ، إذِ التَأْنِيثُ فِيها غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مَيِّتًا" بِسُكُونِ الياءِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنِ القَعْقاعِ: "مَيِّتًا" بِياءٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وهي قِراءَةُ عِيسى بْنُ عُمَرَ، والأُولى أرْجَحُ لِشَبَهِ لَفْظِها بِـ"زَوَّرَ، وعَدَلَ"، فَحَسُنَ وصْفُ المُؤَنَّثِ بِها، وقَرَأ أكْثَرُ السَبْعَةِ، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ: ﴿ "كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ"﴾ بِضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الراءِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِيسى: "وَكَذَلِكَ تَخْرُجُونَ" بِفَتْحِ التاءِ وضَمِّ الراءِ. (p-٥٣٦)وَ"الأزْواجُ": الأنْواعُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، و"مِنَ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ﴾: لِلتَّبْعِيضِ، وذَلِكَ أنَّهُ لا يَرْكَبُ مِنَ الأنْعامِ غَيْرَ الإبِلِ، وتَدْخُلُ البِغالُ والخَيْلُ والحَمِيرُ فِيما يُرْكَبُ بِالمَعْنى. واللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ﴾: لامُ الأمْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ "كَيْ"، و"ما" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما تَرْكَبُونَ﴾ واقِعَةٌ عَلى النَوْعِ المَرْكُوبِ، والضَمِيرُ فِي: "ظُهُورِهِ" عائِدٌ عَلى النَوْعِ الَّذِي وقَعَتْ عَلَيْهِ "ما"، وقَدْ بَيَّنَتْ آيَةٌ أُخْرى ما يُقالُ عِنْدَ رُكُوبِ الفَلَكِ، وهُوَ: ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْراها ومُرْساها، إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: ٤١]، وإنَّما هَذِهِ خاصَّةً فِيما يُرْكَبُ مِنَ الحَيَوانِ، ويُقالُ عِنْدَ النُزُولِ مِنها: اللهُمَّ، أنْزَلْنا مُنْزَلًا مُبارَكًا وأنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ. والسَنَّةُ لِلرّاكِبِ إذا رَكِبَ أنْ يَقُولَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى نِعْمَةِ الإسْلامِ، أو عَلى النِعْمَةِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، أو عَلى النِعْمَةِ في كُلِّ حالٍ، وقَدْ رَوى هَذا اللَفْظَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ يَقُولُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا﴾ الآيَةُ،» ورَكِبَ أبُو مِجْلَزٍ لاحِقِ بْنِ حَمِيدٍ وقالَ: "سُبْحانَ الله" الآيَةُ، ولَمْ يَذْكُرْ نِعْمَةً، وسَمِعَهُ الحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُما فَقالَ: ما هَكَذا أُمِرْتُمْ، فَقالَ أبُو مِجْلَزٍ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أقُولُ؟ قالَ: قُلِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِلْإسْلامِ، أو نَحْوَ هَذا، ثُمَّ تَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي﴾ الآيَةُ، وكانَ طاوُسُ إذا رَكِبَ قالَ: اللهُمَّ، هَذا مِن مَنِّكَ وفَضْلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي﴾ الآيَةُ. (p-٥٣٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإنْ قَدَّرْنا أنَّ ذِكْرَ النِعْمَةِ بِالقَلْبِ والتَذَكُّرِ بَدَأ الراكِبُ: بِـ ﴿سُبْحانَ الَّذِي﴾، وهو يَرى نِعْمَةَ اللهِ في ذَلِكَ وفي سِواهُ، و"المُقْرِنُ": الغالِبُ الضابِطُ المُسْتَوْلِي عَلى الأمْرِ المُطِيقِ لَهُ، وقَدْ رُوِيَ أنَّ بَعْضَ الأعْرابِ رَكِبَ جَمَلًا، فَقِيلَ لَهُ قُلْ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾، فَقالَ: أما واللهِ إنِّي لَمُقْرِنٌ تَيّاهٌ، فَضَرَبَ بِهِ الجَمَلَ، فَوَقَصَهُ فَقَتَلَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾: أمْرٌ بِالإقْرارِ بِالبَعْثِ وتَرْدادِ القَوْلِ بِهِ، وذَلِكَ داعِيَةٌ إلى اسْتِشْعارِ النَظَرِ فِيهِ، ورُوِيَ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّ الإنْسانَ إذا رَكِبَ ولَمْ يَقِلْ ما في هَذِهِ الآيَةِ جاءَ الشَيْطانُ، فَقالَ: "تَغَنَّهُ، فَإنْ كانَ يُحْسِنُ غَنّى، وإلّا قالَ لَهُ: تَمَنَّهُ، فَيَتَمَنّى الأباطِيلَ ويَقْطَعُ زَمَنَهُ بِذَلِكَ".»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب