الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ ﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ﴿وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ المُسْرِفِينَ وهُمُ المُشْرِكُونَ، وتَقَدَّمَ أيْضًا ذِكْرُ الأنْبِياءِ، فَقَوْلُهُ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَرْجِعَ إلى الأنْبِياءِ، ويُحْتَمَلَ أنْ يَرْجِعَ إلى الكُفّارِ إلّا أنَّ الأقْرَبَ رُجُوعُهُ إلى الكُفّارِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهم مُقِرُّونَ بِأنَّ خالِقَ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما هو اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ، والمَقْصُودُ أنَّهم مَعَ كَوْنِهِمْ مُقِرِّينَ بِهَذا المَعْنى يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ ويُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلى البَعْثِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الإخْبارُ عَنْهم، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ابْتَدَأ دالًّا عَلى نَفْسِهِ بِذِكْرِ مَصْنُوعاتِهِ فَقالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا﴾ ولَوْ كانَ هَذا مِن (p-١٦٩)جُمْلَةِ كَلامِ الكُفّارِ لَوَجَبَ أنْ يَقُولُوا: الَّذِي جَعَلَ لَنا الأرْضَ مَهْدًا، ولِأنَّ قَوْلَهُ في أثْناءِ الكَلامِ ﴿فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ لا يَتَعَلَّقُ إلّا بِكَلامِ اللَّهِ، ونَظِيرُهُ مِن كَلامِ النّاسِ أنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَقُولُ: الَّذِي بَنى هَذا المَسْجِدَ فُلانٌ العالِمُ، فَيَقُولُ السّامِعُ لِهَذا الكَلامِ: الزّاهِدُ الكَرِيمُ؛ كَأنَّ ذَلِكَ السّامِعَ يَقُولُ: أنا أعْرِفُهُ بِصِفاتٍ حَمِيدَةٍ فَوْقَ ما تَعْرِفُهُ، فَأزِيدُ في وصْفِهِ. فَيَكُونُ النَّعْتانِ جَمِيعًا مِن رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ واحِدٍ. إذا عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ النَّظْمِ في الآيَةِ، فَنَقُولُ: إنَّها تَدُلُّ عَلى أنْواعٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى. الصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُهُ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ، والمُتَكَلِّمُونَ بَيَّنُوا أنَّ أوَّلَ العِلْمِ بِاللَّهِ العِلْمُ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا لِلْعالَمِ فاعِلًا لَهُ، فَلِهَذا السَّبَبِ وقَعَ الِابْتِداءُ بِذِكْرِ كَوْنِهِ خالِقًا، وهَذا إنَّما يَتِمُّ إذا فَسَّرْنا الخَلْقَ بِالإحْداثِ والإبْداعِ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: العَزِيزُ، وهو الغالِبُ وما لِأجْلِهِ يُحَصِّلُ المَكِنَةَ مِنَ الغَلَبَةِ هو القُدْرَةُ، وكَأنَّ العَزِيزَ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: العَلِيمُ، وهو إشارَةٌ إلى كَمالِ العِلْمِ، واعْلَمْ أنَّ كَمالَ العِلْمِ والقُدْرَةِ إذا حَصَلَ كانَ المَوْصُوفُ بِهِ قادِرًا عَلى خَلْقِ جَمِيعِ المُمْكِناتِ، فَلِهَذا المَعْنى أثْبَتَ تَعالى كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ سائِرَ التَّفاصِيلِ. الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا﴾ وقَدْ ذَكَرْنا في هَذا الكِتابِ أنَّ كَوْنَ الأرْضِ مَهْدًا إنَّما حَصَلَ لِأجْلِ كَوْنِها واقِفَةً ساكِنَةً ولِأجْلِ كَوْنِها مَوْصُوفَةً بِصِفاتٍ مَخْصُوصَةٍ بِاعْتِبارِها يُمْكِنُ الِانْتِفاعُ بِها في الزِّراعَةِ وبِناءِ الأبْنِيَةِ وفي كَوْنِها ساتِرَةً لِعُيُوبِ الأحْياءِ والأمْواتِ، ولَمّا كانَ المَهْدُ مَوْضِعَ الرّاحَةِ لِلصَّبِيِّ جَعَلَ الأرْضَ مَهْدًا لِكَثْرَةِ ما فِيها مِنَ الرّاحاتِ. الصِّفَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ ﴿وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا﴾ والمَقْصُودُ أنَّ انْتِفاعَ النّاسِ إنَّما يَكْمُلُ إذا قَدَرَ كُلُّ أحَدٍ أنْ يَذْهَبَ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ ومِن إقْلِيمٍ إلى إقْلِيمٍ، ولَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى هَيَّأ تِلْكَ السُّبُلَ ووَضَعَ عَلَيْها عَلاماتٍ مَخْصُوصَةً، وإلّا لَما حَصَلَ هَذا الِانْتِفاعُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ يَعْنِي المَقْصُودَ مِن وضْعِ السُّبُلِ أنْ يَحْصُلَ لَكُمُ المَكِنَةُ مِنَ الِاهْتِداءِ، والثّانِي: المَعْنى لِتَهْتَدُوا إلى الحَقِّ في الدِّينِ. الصِّفَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ وهَهُنا مَباحِثُ: أحَدُها: أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ الماءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، فَهَلِ الأمْرُ كَذَلِكَ أوْ يُقالُ إنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّحابِ، وسُمِّيَ نازِلًا مِنَ السَّماءِ لِأنَّ كُلَّ ما سَماكَ فَهو سَماءٌ ؟ وهَذا البَحْثُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ بِالِاسْتِقْصاءِ. وثانِيها: قَوْلُهُ (بِقَدَرٍ) أيْ إنَّما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ بِقَدْرِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ أهْلُ تِلْكَ البُقْعَةِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ، لا كَما أنْزَلَ عَلى قَوْمِ نُوحٍ بِغَيْرِ قَدَرٍ حَتّى أغْرَقَهم، بَلْ بِقَدَرٍ حَتّى يَكُونَ مَعاشًا لَكم ولِأنْعامِكم. وثالِثُها: قَوْلُهُ ﴿فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أيْ خالِيَةً مِنَ النَّباتِ، فَأحْيَيْناها، وهو الإنْشارُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ يَعْنِي أنَّ هَذا الدَّلِيلَ كَما يَدُلُّ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قُدْرَتِهِ عَلى البَعْثِ والقِيامَةِ، ووَجْهُ التَّشْبِيهِ أنَّهُ يَجْعَلُهم أحْياءً بَعْدَ الإماتَةِ؛ كَهَذِهِ الأرْضِ الَّتِي أُنْشِرَتْ بَعْدَ ما كانَتْ (p-١٧٠)مَيْتَةً، وقالَ بَعْضُهم: بَلْ وجْهُ التَّشْبِيهِ أنْ يُعِيدَهم ويُخْرِجَهم مِنَ الأرْضِ بِماءٍ كالمَنِيِّ؛ كَما تَنْبُتُ الأرْضُ بِماءِ المَطَرِ، وهَذا الوَجْهُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في ظاهِرِ اللَّفْظِ إلّا إثْباتُ الإعادَةِ فَقَطْ دُونَ هَذِهِ الزِّيادَةِ. الصِّفَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الأزْواجُ الضُّرُوبُ والأنْواعُ كالحُلْوِ والحامِضِ والأبْيَضِ والأسْوَدِ والذَّكَرِ والأُنْثى، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: كُلُّ ما سِوى اللَّهِ فَهو زَوْجٌ كالفَوْقِ والتَّحْتِ واليَمِينِ واليَسارِ والقُدّامِ والخَلْفِ والماضِي والمُسْتَقْبَلِ والذَّواتِ والصِّفاتِ والصَّيْفِ والشِّتاءِ والرَّبِيعِ والخَرِيفِ، وكَوْنُها أزْواجًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِها مُمْكِنَةَ الوُجُودِ في ذَواتِها مُحْدَثَةً مَسْبُوقَةً بِالعَدَمِ، فَأمّا الحَقُّ سُبْحانَهُ فَهو الفَرْدُ المُنَزَّهُ عَنِ الضِّدِّ والنِّدِّ والمُقابِلِ والمُعاضِدِ، فَلِهَذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ أيْ: كُلُّ ما هو زَوْجٌ فَهو مَخْلُوقٌ، فَدَلَّ عَلى أنَّ خالِقَها فَرْدٌ مُطْلَقٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الزَّوْجِيَّةِ، وأقُولُ أيْضًا: العُلَماءُ بِعِلْمِ الحِسابِ بَيَّنُوا أنَّ الفَرْدَ أفْضَلُ مِنَ الزَّوْجِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ أقَلَّ الأزْواجِ هو الِاثْنانِ، وهو لا يُوجَدُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ وحْدَتَيْنِ، فالزَّوْجُ يَحْتاجُ إلى الفَرْدِ، والفَرْدُ وهو الوَحْدَةُ غَنِيَّةٌ عَنِ الزَّوْجِ، والغَنِيُّ أفْضَلُ مِنَ المُحْتاجِ. الثّانِي: أنَّ الزَّوْجَ يَقْبَلُ القِسْمَةَ بِقِسْمَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ، والفَرْدُ هو الَّذِي لا يَقْبَلُ القِسْمَةَ، وقَبُولُ القِسْمَةِ انْفِعالٌ وتَأثُّرٌ، وعَدَمُ قَبُولِها قُوَّةٌ وشِدَّةٌ ومُقاوَمَةٌ، فَكانَ الفَرْدُ أفْضَلَ مِنَ الزَّوْجِ. الثّالِثُ: أنَّ العَدَدَ الفَرْدَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أحَدُ قِسْمَيْهِ زَوْجًا، والثّانِي فَرْدًا، فالعَدَدُ الفَرْدُ حَصَلَ فِيهِ الزَّوْجُ والفَرْدُ مَعًا، وأمّا العَدَدُ الزَّوْجُ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِن قِسْمَيْهِ زَوْجًا، والمُشْتَمِلُ عَلى القِسْمَيْنِ أفْضَلُ مِنَ الَّذِي لا يَكُونُ كَذَلِكَ. الرّابِعُ: أنَّ الزَّوْجِيَّةَ عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِن قِسْمَيْهِ مُعادِلًا لِلْقِسْمِ الآخَرِ في الذّاتِ والصِّفاتِ والمِقْدارِ، وإذا كانَ كُلُّ ما حَصَلَ لَهُ مِنَ الكَمالِ فَمِثْلُهُ حاصِلٌ لِغَيْرِهِ - لَمْ يَكُنْ هو كامِلًا عَلى الإطْلاقِ، أمّا الفَرْدُ فالفَرْدِيَّةُ كائِنَةٌ لَهُ خاصَّةً لا لِغَيْرِهِ ولا لِمِثْلِهِ، فَكَمالُهُ حاصِلٌ لَهُ لا لِغَيْرِهِ، فَكانَ أفْضَلَ. الخامِسُ: أنَّ الزَّوْجَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِن قِسْمَيْهِ مُشارِكًا لِلْقِسْمِ الآخَرِ في بَعْضِ الأُمُورِ ومُغايِرًا لَهُ في أُمُورٍ أُخْرى، وما بِهِ المُشارَكَةُ غَيْرُ ما بِهِ المُخالَفَةُ، فَكُلُّ زَوْجَيْنِ فَهُما مُمْكِنا الوُجُودِ لِذاتَيْهِما، وكُلُّ مُمْكِنٍ فَهو مُحْتاجٌ، فَثَبَتَ أنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَنشَأُ الفَقْرِ والحاجَةِ، وأمّا الفَرْدانِيَّةُ فَهي مَنشَأُ الِاسْتِغْناءِ والِاسْتِقْلالِ؛ لِأنَّ العَدَدَ مُحْتاجٌ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الوَحَداتِ، وأمّا كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الوَحَداتِ فَإنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ العَدَدِ، فَثَبَتَ أنَّ الأزْواجَ مُمْكِناتٌ ومُحْدَثاتٌ ومَخْلُوقاتٌ، وأنَّ الفَرْدَ هو القائِمُ بِذاتِهِ المُسْتَقِلُّ بِنَفَسِهِ الغَنِيُّ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ؛ فَلِهَذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ . الصِّفَةُ الثّامِنَةُ: قَوْلُهُ ﴿وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ السَّفَرَ إمّا سَفَرُ البَحْرِ أوِ البَرِّ، أمّا سَفَرُ البَحْرِ فالحامِلُ هو السَّفِينَةُ، وأمّا سَفَرُ البَرِّ فالحامِلُ هو الأنْعامُ، وهَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: عَلى ظُهُورِها ؟ أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: التَّذْكِيرُ لِقَوْلِهِ ”ما“، والتَّقْدِيرُ: ما تَرْكَبُونَ. الثّانِي: قالَ الفَرّاءُ: أضافَ الظُّهُورَ إلى واحِدٍ فِيهِ مَعْنى الجَمْعِ بِمَنزِلِ الجَيْشِ والجُنْدِ، ولِذَلِكَ ذَكَّرَ وجَمَعَ الظُّهُورَ. الثّالِثُ: أنَّ هَذا التَّأْنِيثَ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، فَجازَ أنْ يَخْتَلِفَ اللَّفْظُ فِيهِ كَما يُقالُ: عِنْدِي مِن النِّساءِ مَن يُوافِقُكَ. السُّؤالُ الثّانِي: يُقالُ: رَكِبُوا الأنْعامَ، ورَكِبُوا في الفُلْكِ، وقَدْ ذَكَرَ الجِنْسَيْنِ، فَكَيْفَ قالَ ”تَرْكَبُونَ“ ؟ والجَوابُ: غَلَّبَ المُتَعَدِّيَ بِغَيْرِ واسِطَةٍ لِقُوَّتِهِ عَلى المُتَعَدِّي بِواسِطَةٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ ومَعْنى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ - أنْ يَذْكُرُوها في (p-١٧١)قُلُوبِهِمْ، وذَلِكَ الذِّكْرُ هو أنْ يَعْرِفَ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ وجْهَ البَحْرِ، وخَلَقَ الرِّياحَ، وخَلَقَ جِرْمَ السَّفِينَةِ عَلى وجْهٍ يَتَمَكَّنُ الإنْسانُ مِن تَصْرِيفِ هَذِهِ السَّفِينَةِ إلى أيِّ جانِبٍ شاءَ وأرادَ، فَإذا تَذَكَّرُوا أنَّ خَلْقَ البَحْرِ، وخَلْقَ الرِّياحِ، وخَلْقَ السَّفِينَةِ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ القابِلَةِ لِتَصْرِيفاتِ الإنْسانِ ولِتَحْرِيكاتِهِ - لَيْسَ مِن تَدْبِيرِ ذَلِكَ الإنْسانِ، وإنَّما هو مِن تَدْبِيرِ الحَكِيمِ العَلِيمِ القَدِيرِ، عَرَفَ أنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلى الِانْقِيادِ والطّاعَةِ لَهُ تَعالى، وعَلى الِاشْتِغالِ بِالشُّكْرِ لِنِعَمِهِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى عَيَّنَ ذِكْرًا مُعَيَّنًا لِرُكُوبِ السَّفِينَةِ، وهو قَوْلُهُ ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ [هُودٍ: ٤١] وذِكْرًا آخَرَ لِرُكُوبِ الأنْعامِ، وهو قَوْلُهُ ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا﴾ وذَكَرَ عِنْدَ دُخُولِ المَنازِلِ ذِكْرًا آخَرَ، وهو قَوْلُهُ ﴿رَبِّ أنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وأنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٢٩] وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ الدّابَّةَ الَّتِي يَرْكَبُها الإنْسانُ - لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ أكْثَرَ قُوَّةً مِنَ الإنْسانِ بِكَثِيرٍ، ولَيْسَ لَها عَقْلٌ يَهْدِيها إلى طاعَةِ الإنْسانِ، ولَكِنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ تِلْكَ البَهِيمَةَ عَلى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ في خَلْقِها الظّاهِرِ، وفي خَلْقِها الباطِنِ يَحْصُلُ مِنها هَذا الِانْتِفاعُ، أمّا خَلْقُها الظّاهِرُ: فَلِأنَّها تَمْشِي عَلى أرْبَعِ قَوائِمَ، فَكانَ ظاهِرُها كالمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ اسْتِقْرارُ الإنْسانِ عَلَيْهِ، وأمّا خَلْقُها الباطِنُ فَلِأنَّها مَعَ قُوَّتِها الشَّدِيدَةِ قَدْ خَلَقَها اللَّهُ سُبْحانَهُ بِحَيْثُ تَصِيرُ مُنْقادَةً لِلْإنْسانِ ومُسَخَّرَةً لَهُ، فَإذا تَأمَّلَ الإنْسانُ في هَذِهِ العَجائِبِ وغاصَ بِعَقْلِهِ في بِحارِ هَذِهِ الأسْرارِ، عَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِن تِلْكَ القُدْرَةِ القاهِرَةِ والحِكْمَةِ غَيْرِ المُتَناهِيَةِ، فَلا بُدَّ وأنْ يَقُولَ ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: فُلانٌ مُقْرِنٌ لِفُلانٍ، أيْ ضابِطٌ لَهُ. قالَ الواحِدِيُّ: وكَأنَّ اشْتِقاقَهُ مِن قَوْلِكَ ضَرَبَ لَهُ قَرْنًا، ومَعْنى: أنا قِرْنٌ لِفُلانٍ، أيْ مِثالُهُ في الشِّدَّةِ، فَكَأنَّ المَعْنى أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنا مِنَ القُوَّةِ والطّاقَةِ أنْ نَقْرِنَ هَذِهِ الدّابَّةَ والفُلْكَ وأنْ نَضْبُطَها، فَسُبْحانَ مَن سَخَّرَها لَنا بِعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ وكَمالِ قُدْرَتِهِ، رَوى صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ كانَ إذا وضَعَ رِجْلَيْهِ في الرِّكابِ، قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإذا اسْتَوى عَلى الدّابَّةِ، قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى كُلِّ حالٍ، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا، إلى قَوْلِهِ لَمُنْقَلِبُونَ» ورَوى القاضِي في ”تَفْسِيرِهِ“: عَنْ أبِي مَخْلَدٍ أنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِما السَّلامُ: رَأى رَجُلًا رَكِبَ دابَّةً، فَقالَ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا، فَقالَ لَهُ: ما بِهَذا أُمِرْتَ، أُمِرْتَ أنْ تَقُولَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِلْإسْلامِ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنا مِن خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ، ثُمَّ تَقُولَ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا. ورُوِيَ أيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «أنَّهُ كانَ إذا سافَرَ ورَكِبَ راحِلَتَهُ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ في سَفَرِي هَذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العَمَلِ ما تَرْضى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنا السَّفَرَ واطْوِ عَنّا بُعْدَ الأرْضِ، اللَّهُمَّ أنْتَ الصّاحِبُ في السَّفَرِ والخَلِيفَةُ عَلى الأهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنا في سَفَرِنا، واخْلُفْنا في أهْلِنا وكانَ إذا رَجَعَ إلى أهْلِهِ يَقُولُ آيِبُونَ تائِبُونَ، لِرَبِّنا حامِدُونَ» قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى خِلافِ قَوْلِ المُجْبِرَةِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ﴾ فَذَكَرَهُ بِلامِ ”كَيْ“، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أرادَ مِنّا هَذا الفِعْلَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِهِمْ أنَّهُ تَعالى أرادَ الكُفْرَ مِنهُ، وأرادَ الإصْرارَ عَلى الإنْكارِ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ ﴿لِتَسْتَوُوا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَهُ مُعَلَّلٌ بِالأغْراضِ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ خَلْقَ هَذِهِ الحَيَواناتِ عَلى هَذِهِ الطَّبائِعِ إنَّما كانَ لِغَرَضِ أنْ يَصْدُرَ الشُّكْرُ عَلى العَبْدِ، فَلَوْ كانَ فِعْلُ العَبْدِ فِعْلًا لِلَّهِ تَعالى، لَكانَ مَعْنى الآيَةِ: إنِّي (p-١٧٢)خَلَقْتُ هَذِهِ الحَيَواناتِ لِأجْلِ أنْ أخْلُقَ ”سُبْحانَ اللَّهِ“ في لِسانِ العَبْدِ، وهَذا باطِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ هَذا اللَّفْظَ في لِسانِهِ بِدُونِ هَذِهِ الوَسايِطِ. واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ مَعْلُومٌ، فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّ وجْهَ اتِّصالِ هَذا الكَلامِ بِما قَبْلَهُ أنَّ رُكُوبَ الفُلْكِ في خَطَرِ الهَلاكِ، فَإنَّهُ كَثِيرًا ما تَنْكَسِرُ السَّفِينَةُ ويَهْلِكُ الإنْسانُ، وراكِبُ الدّابَّةِ أيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الدّابَّةَ قَدْ يَتَّفِقُ لَها اتِّفاقاتٌ تُوجِبُ هَلاكَ الرّاكِبِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَرُكُوبُ الفُلْكِ والدّابَّةِ يُوجِبُ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْهَلاكِ، فَوَجَبَ عَلى الرّاكِبِ أنْ يَتَذَكَّرَ أمْرَ المَوْتِ، وأنْ يَقْطَعَ أنَّهُ هالِكٌ لا مَحالَةَ، وأنَّهُ مُنْقَلِبٌ إلى اللَّهِ تَعالى وغَيْرُ مُنْقَلِبٍ مِن قَضائِهِ وقَدَرِهِ، حَتّى لَوِ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ المَحْذُورُ كانَ قَدْ وطَّنَ نَفْسَهُ عَلى المَوْتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب