الباحث القرآني
ثم قال الله تبارك وتعالى في بقية كلام هذا الرجل المؤمن: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ [غافر ٤٤] (السين) و(سوف) كلاهما يختصان بالفعل المضارع، ومن علاماته، وإذا رأيت كلمة تقبل (السين) و(سوف) فهي فعل مضارع، لكنهما يفترقان، (السين) تدل على القُرب، و(سوف) تدل على المهلة، فقوله: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ﴾ أي عن قريب، وهي مع إفادتها القُرب تفيد التحقق؛ يعني أن هذا أمر لا بد أن يحصل ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ متى؟ إذا عاينتم العذاب، وهذا ليس ببعيد؛ لأن غاية ما بينهم وبينه أن تنتهي آجالهم، وكل آتٍ قريب ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾. وحينئذٍ ينفعهم ذلك أو لا؟ لا ينفعهم، كما لو نصحك ناصح عن فعل شيء، ثم لم تقبل نصيحته، وبعد ذلك رأيت عاقبته وخِيمة فإنك ستذكر قول الناصح، تذكره ندمًا وحزنًا.
قال: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ [غافر ٤٤]، الواو هنا للاستئناف، ولا يصح أن تكون عاطفة؛ لأنها لو كانت عاطفة لكان المعنى: وسأفوض أمري إلى الله، ولكن ليس هذا المعنى، بل المعنى: وأنا أفوض أمري إلى الله، فالواو هنا للاستئناف، أفوضه إلى الله؛ أي: أَكِله إلى الله عز وجل.
وقوله: ﴿أَمْرِي﴾ هذا مفرد مضاف يعم، والمراد به الشأن، أي الشأن كله ﴿إِلَى اللَّهِ﴾. وهذا غاية ما يكون من التوكل.
﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر ٤٤] هذه الجملة تعليلية للحكم السابق وهو قوله: أفوض أمري إلى الله، كأن قائلًا يقول: لماذا فوض أمره إلى الله؟ فأجاب بأن الله تعالى بصير بالعباد.
﴿بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي: بأحوالهم، وحاضرهم، ومستقبلهم، وجميع شؤونهم، فهو جل وعلا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، يعلم كل أحوالهم.
قال ذلك لما توعدوه بمخالفة دينه؛ يعني كأنهم توعدوه فقال: أفوض أمري إلى الله، ولكن التوعد ليس في الآية دليل عليه، والظاهر -والله أعلم- أنه لم يقل ذلك حين توعدوه ولكنه قال ذلك حين أيس من أن يمتثلوا لنصيحته، فقال كالمودع لهم: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ وأما أنا فأفوض أمري إلى الله؛ لأني قمت بما يلزمني من نصيحة، وهذا أكثر ما يجب عليَّ.
قال الله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [غافر ٤٥] هذا أيضًا يدل على رد كلام المؤلف؛ لأنهم لو توعدوه بالقتل لم يكن هذا مكرًا؛ إذ إن المكر هو الإيقاع بالغير من حيث لا يشعر، هذا المكر؛ أن توقع بغيرك من حيث لا يشعر، أما لو توعدوه بالقتل لم يكن هذا مكرًا، بل كان هذا صريحًا واضحًا.
﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ أي: نجاه من مكرهم السيئ، فـ﴿سَيِّئَاتِ﴾ هنا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي: المكر السيئ، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر ٤٣].
وقوله: ﴿مَا مَكَرُوا﴾ المكر والخداع والغدر والْمِحال وما أشبه ذلك؛ كلها ألفاظ متقاربة تدور حول شيء واحد، وهو أن توقع بغيرك من حيث لا يشعر.
﴿مَا مَكَرُوا﴾ قال: (به من القتل) بَيَّنَ في هذا أن العائد على الصلة في قوله: (ما) محذوف والتقدير: ما مكروا به.
قال: (﴿وَحَاقَ﴾ نزل ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ﴾ قومه معه ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ الغرق) (حاق) بمعنى (نزل)، لكن تشعر بأنها ليست بمعنى (نزل) من كل وجه، وأن تفسيرها بالنزول تفسير تقريبي، (حاق) القاف قريبة من الطاء فكأن المعنى: حاط بهم، وهذا أشد من نزل، فالظاهر أن (حاق) بمعنى (نزل) مُحيطًا بهم، وليست بمعنى نزل على وجه مجرد بدون إضافة معنى.
وقوله: ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ﴾ قال المؤلف: (قومه). وقال غيره: أتباعه. والظاهر أن المعنى متقارب؛ لأن الذين اتبعوه إنما هم قومه، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتبعوه بل كان يُذَبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم؛ ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ﴾.
وقوله: (معه) ذكرها لئلا يظن الظان أن العذاب نزل بآل فرعون دونه، ولكن هذا لا يمكن أبدًا، إذا كان آل فرعون إنما نزل بهم العذاب؛ لأنهم كفروا بالله، ففرعون أكفر بالله من هؤلاء، ثم إن الظاهر أن الإنسان إذا قال: أكرِمْ آل فلان، فإن فلانًا هو مقدمهم، ولا بد أن يدخل فيهم لغة.
وقوله: ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ هذا أيضًا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي المعنى: العذاب السيئ، وفسره المؤلف بأنه الغرق، وهذا لا شك أنه من سواء العذاب، لكن هناك عذابات أخرى أُصِيب بها آل فرعون: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف ١٣٠]. وقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ﴾ [الأعراف ١٣٣] كل هذا من سوء العذاب؛ الطوفان ليُغرق ما بُذِر من نباتهم، والقُمَّل لأجل أن يُفسد ما ظهر، والضفادع لتفسد الماء؛ لأنهم صاروا كلما أخذوا إناءً يشربونه وجدوا هذه الضفادع قد ملأته، والدم هو نزيف الدم إما من الأنف، أو من غيره، فعُوقِبوا من كل وجه، بالزروع غرق، ما ادخروه قُمَّل، الماء ضفادع، بعد أن يصل إلى الجسم ويتغذى به الجسم يخرج هذا، ينزف دمًا، فهلكوا.
وهذا فيه الترتيب ودرجات، ويش قلنا؟ الطوفان غرق الزروع، الجراد أكل ما ظهر، الطوفان والجراد، تأكل الزرع، الطوفان يغرق ما بُذِر، والجراد يأكل ما ظهر، والقُمَّل يفسد ما ادخر، والضفادع تفسد الماء، والدم -وهو النزيف- تذهب ما حصل من الغذاء بالطعام الذي يقدر أنه سلم من هذه الآفات، فهذا من سوء العذاب، والنهاية هو الغرق، أن الله أغرق آل فرعون بالبحر.
قال: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر ٤٦] هذه الجملة مستأنفة، فـ﴿النَّارُ﴾ مبتدأ، و﴿يُعْرَضُونَ﴾ الجملة خبرها.
﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ ليس معنى ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ أنها تحرقهم؛ لأن الله لو أراد ذلك لقال: النار يصلونها غدوًّا وعشيًّا، لكنهم يُعرضون عليها فيأتيهم من سمومها وعذابها ما لا يطيقون والعياذ بالله، يُعرضون عليها غُدوًّا في الصباح، وعشيًّا في المساء، والظاهر أن المراد الدوام، ويحتمل أن المراد هذان الوقتان فقط، فأما الأول فقد يستدل له بقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم ٦٢] يعني في كل الزمن.
وأما الثاني فيمكن أن يقال: إن هذا ظاهر اللفظ؛ أي في أول النهار وآخره، وأنهم يُعرَضون على النار أول النهار، ثم إذا صُرِفوا عنها أَمَّلوا أنها لا تعود إليهم، فتعود إليهم، فيكون هذا أشد من الاستمرار؛ لأن كون الإنسان يُؤمل اندفاع العذاب عنه ثم يعود أشد من كونه مستمرًّا آيسًا من زواله، ولهذا قال الله تعالى لأصحاب النار: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [السجدة ٢٠].
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ [غافر ٤٦] يقال: ﴿ادْخُلُوا﴾ يا ﴿آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ هذه قراءة، (ادْخُلوا) أمر، والمقصود به الإهانة والإذلال، بخلاف قوله تعالى لأهل الجنة: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر ٤٦] هذه للإكرام، أما هذه: ﴿ادْخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ هذه للإهانة والعياذ بالله.
وقوله: ﴿آلَ﴾ فسَّرها المؤلف بقوله: (يا آلَ) إشارة إلى أنها منصوبة بـ(ياء) النداء المحذوفة، ادخلوا يا آل فرعون. (وفي قراءة بفتح الهمزة وكسر الخاء أَمْر للملائكة) ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ﴾، يعني ويوم القيامة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون (﴿أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ عذاب جهنم) نسأل الله العافية.
في هذه الآيات من الفوائد:
أولًا: أن الله سبحانه وتعالى حسْب من تَوَكَّل عليه؛ لقوله: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ [غافر ٤٤].
* في هذه الآيات من الفوائد:
أولًا: بيان تحذير هؤلاء الذين ينصحهم المؤمن بأنهم سوف يذكرون كلامه، ويعرفون أنه الحق لكن متى؟ في حال لا تنفعهم هذه الذكرى.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: قوة توكُّل المؤمن، حيث قال: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾. وهكذا يجب على كل مؤمن إذا أراد أن تُقضى أموره وتسهل فلْيُفَوِّض أمره إلى الله؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣]، وقال لنبيه ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال ٦٤]، ومن كان الله حسبه فهو رابح وناجح.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات عِلْم الله سبحانه وتعالى بكل عباده؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر ٤٤]، وهذا -كما قلت لكم- تفسير يشمل الأحوال والأعيان.
* ومن فوائد الآية التي بعدها: أن الله سبحانه وتعالى يكفي من تَوَكَّل عليه، فيحميه من عدوه؛ لقول الله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [غافر ٤٥].
* ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير من أعداء المسلمين؛ لقوله: ﴿مَا مَكَرُوا﴾، وأن أعداء المسلمين قد لا يُواجهونهم بالعداوة ولكنهم يمكرون بهم، فليحذر المؤمن مكر أعداء الله، وهذا في القرآن كثير، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال ٣٠]. وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق ١٥ - ١٧].
ومن مكر أعداء الله؛ أنهم لا يُجابهون المسلمين بالعداوة، لكنهم يغزونهم من حيث لا يشعرون بالأفكار المنحرفة والأخلاق السيئة، كما تُشاهدون الآن وتسمعون ما يفعل أعداء المسلمين بالمسلمين، يَجُرُّون إليها الأخلاق السافلة من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، يُوفِدون إليهم كل ما يخالف دين الإسلام في الملابس وغير الملابس، يغرونهم بالأموال الطائلة لإذهاب أوقاتهم سُدًى بلا فائدة كمسألة الرياضة وما أشبهها. فالمهم أن أعداء المسلمين يمكرون بهم مكرًا عظيمًا، والمسلمون إما أنهم لا يهتمون بهذا المكر أو أنهم لا يعرفونه، ولكن -على كل حال- الواجب علينا أن نحذر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى يُجازي المحسِن بإحسانه، ويجازي المسيء بإساءته، وتكون إجازة المسيء بإساءته تكون في الحقيقة مجازاة للمحسن؛ لأن أخذ أعدائك بالعذاب هو -في الحقيقة- انتصار لك، وأنت تفرح بذلك، تؤخذ من قوله: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [غافر ٤٥] فبين الله تعالى جزاء هذا وجزاء هؤلاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات عذاب القبر؛ لقوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر ٤٦].
وعذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة والإجماع؛ أما القرآن: ففي مثل هذه الآية: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾. ثم قال: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا﴾ [غافر ٤٦]؛ لأن قوله: (يوم) ظرف زمان متعلق بما بعده، المتعلق بالفعل ﴿أَدْخِلُوا﴾ أو ﴿ادْخُلُوا﴾، وهذا إذن لا يكون إلا بعد يوم القيامة، وعرضهم على النار غُدوًّا وعشيًّا يكون قبل يوم القيامة، ففيه إثبات عذاب القبر، قلت لكم: إنه ثابت بالقرآن، والسنة، والإجماع، أما القرآن ففي مثل هذا.
ومنه -أي من أدلة القرآن- قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام ٩٣]. ﴿الْيَوْمَ﴾ متى؟ اليوم هنا (أل) للعهد الحضوري؛ يعني هذا اليوم الذي هو يوم موتكم، فدل ذلك على ثبوت عذاب القبر.
أما السنة فهي متواترة في ذلك، كثيرة على وجوه متنوعة؛ عامة وخاصة؛ من الخاصة قوله ﷺ حين مر بقبرين يُعذَّبان: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٠٥٥) ومسلم (٢٩٢/١١١) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ]].
وأما الإجماع، فكل المسلمين يقولون في صلواتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر؛ وهذا أمر لا إشكال فيه، وهو من عقيدتنا.
فإن قال قائل: هل العذاب يكون على البدن أو على الروح أو عليهما جميعًا؟
نقول: ظاهر السُّنَّة أن العذاب يكون على البدن حين مُساءلة الملكين، فإن النبي ﷺ أخبر أن المنافق والمرتاب يقول: «لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَانِ؛ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَسْمَعُهُ»[[أخرج أبو داود (٤٧٥١) بسنده عن أنس بن مالك، قال: إن نبي الله ﷺ دخل نخلًا لبني النجار، فسمع صوتًا ففزع، فقال: «من أصحاب هذه القبور؟». قالوا: يا رسول الله، ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال». قالوا: ومم ذاك يا رسول الله؟ قال: «إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء، غيرها، فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له: هذا بيتك كان لك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك، فأبدلك به بيتًا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن، وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين». ]]. والمراد بذلك من قرب منها بحيث يسمع، أما من كان في أقطار الدنيا البعيدة فلا، وهذا يدل على أن الذي يُعذَّب حين المساءلة البدن؛ لقوله: «فَيُضْرَبُ».
أما بعد ذلك فالأصل أن العذاب على الروح، وقد تتصل بالبدن كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإن شئنا قلنا: هذا بحث لا طائل تحته، ولم يسأل عنه الصحابة، فنُثبِت عذاب القبر على حسب ما جاء في الكتاب والسُّنة، لا نزيد ولا ننقص.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجود النار؛ لقوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر ٤٦] ووجودها ثابت في القرآن والسنة، وقد رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النار حين عُرِضَتْ عليه وهو يُصَلِّي بالناس صلاة الكسوف، ورأى فيها من يُعَذَّب؛ فالنار موجودة الآن.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات قيام الساعة؛ لقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ [غافر ٤٦].
ونحن نؤمن بالساعة، وأنها ستقوم، وسيُبعث الناس، وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس اليوم حين يموت الرجل فيُدفن يقولون مثلًا: إنهم ذهبوا به إلى مثواه الأخير، هذه الكلمة كلمة كُفْر، إذا قلت: إلى مثواه الأخير، فهذا يعني أنه لا بعث بعد ذلك، وأن هذا آخر مرحلة للإنسان، وليس الأمر هكذا، ولهذا نقول: إن من قال هذه الكلمة وهو يعرف معناها ويريده فإنه كافر؛ لأنه مُنكِر للبعث، أما من قالها وقال: إلى مثواه الأخير باعتبار الدنيا المشاهَدَة؛ فهذا صحيح، لكن ظاهر العبارة الكُفْر، ولهذا يجب التحرز منها، ويقال مثلًا: ذهبوا به إلى قبره، ذهبوا به إلى محل زيارته،
أو غير صحيح؟
* طالب: إذا كان المقصود (...).
* الشيخ: الواقع أن القبر زيارة، قال الله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ [التكاثر ١، ٢] ولما سمع أعرابي رجلًا يقرؤها قال: والله إن الزائر ليس بمستقر؛ يعني أن هناك شيئًا وراء هذا القبر، وصدق، الزائر ما هو مستقر، يزور ويمشي.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إهانة الكفار إهانةً بدنية وإهانةً قلبية، من أين تؤخذ؟ من توبيخهم وإهانتهم: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ [غافر ٤٦] ولا شك أن قلوبهم تأثر بهذا، وستجد الحسرة والندامة والعياذ بالله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: التنكيت على آل فرعون، كأنه قال: ادخُلوا آل فرعون وانظروا هل ينفعكم أن تكونوا من آله أو لا؟ ففيها نوع تبكيت لهؤلاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن النار أشد العذاب، وأن كل ما قبلها أهون منها؛ لقوله: ﴿أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ولا شك أنها أشد العذاب، كذلك نقول بالنسبة للنعيم، ما يجده المؤمن من النعيم في القبر فليس بشيء بالنسبة لما يجده يوم القيامة، فأكمل النعيم يكون بدخول الجنة وما قبله فهو كالتقدمة بين يديه.
* طالب: هل يستدل على (...) يراها الإنسان في منامه؟
* الشيخ: ويش يرى؟ يرى أنه يعذب؟
* الطالب: في الأحلام هو أنه..
* الشيخ: يرى أنه يُعذَّب؟
* الطالب: أحيانًا الإنسان يرى (...)؟
* الشيخ: لا، ما يُستدل، لكن يستدل به على دفع دعوى أهل الإلحاد؛ حيث قالوا: إنكم تقولون: إن الميت يُقعد في قبره ويُعذَّب، ونحن نحفر القبر ونجد أن الميت باقٍ على ما هو عليه؟ فنرد عليهم بأن هذا النائم يرى أنه مُعذَّب، وأنه مُنَعَّم، وأنه ذهب، وأنه جاء وهو على فراشه لم يتغير، حتى اللحاف ما سقط عن ظهره. فنقول: قِس الغائب بالحاضر، ثم لو كان عذاب القبر يُدرَك بالاطلاع عليه لم يكن إيمانًا بالغيب، لكان إيمانًا بالشهادة، والإيمان بالشهادة لا ينفع؛ يعني الإنسان إذا عَايَنَ الشيء فإن إيمانه به لا ينفع..
طالب: عذاب القبر حين يراه الإنسان في منامه.
* الشيخ: ويش يرى؟
* الطالب: في الأحلام.
* الشيخ: يرى أنه يُعَذَّب؟
* الطالب: ينام الإنسان ويرى (...).
* الشيخ: لا ما يستدل، لكن يستدل به على دفع دعوى أهل الإلحاد حيث قالوا: إنكم تقولون: إن الميت يُقْعَد في قبره ويعذب، ونحن نحفر القبر ونجد أن الميت باقٍ على ما هو عليه؛ فنَرُدُّ عليهم بأن هذا النائم يرى أنه مُعَذَّب وأنه منعم وأنه ذهب وأنه جاء وهو على فراشه لم يتغير، حتى اللحاف ما سقط عن ظهره، فنقول: قس الغائب بالحاضر، ثم إن كان عذابُ القبرِ يُدْرَك بالاطلاع عليه لم يكن إيمانًا بالغيب لكان إيمانًا بالشهادة، والإيمان بالشهادة لا ينفع، يعني: الإنسان إذا عاين الشيء فإن إيمانه به لا ينفع، ترى الكافرين عند حضور الأجل تراهم يؤمنون، ولكن لا ينفعهم ذلك، فرعون لما أدركه الغرق: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس ٩٠]. شوف إلى هذا الحد، يعني: اعترف لله تعالى بالتوحيد، ثم اعترف أنه تابع لبني إسرائيل؛ لقوله: ﴿آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ ولم يقل: أنه لا إله إلا الله، إشارة إلى أنه ذَلَّ حتى صار تابعًا لبني إسرائيل بعد أن كان مُتَجَبِّرًا عليهم.
* طالب: بعض المسلمين يُعَزِّي الكافر.
* الشيخ: يعني: بعض المسلمين يعزونه؟
* الطالب: نعم.
العلماء يقولون: لا بأس، لا بأس أن يُعَزِّيَ الكافرَ، وبعضهم يقول: لا يجوز، وبعضهم فَصَّل قال: إن فعلوا بنا ذا فعلناه اعتمادًا على قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء ٨٦] وهذا أقرب؛ أنهم إن كانوا يفعلون بنا ذلك فعلناه.
لكن هل نقول: عَظَّم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك؟ لا، ما نقول هكذا، نقول: هداك الله للإسلام وجَبَر مصيبتك، وبس، وميته ما نقول: غفر الله له، أو: هو من أهل النار.
* طالب: شيخ، قول أحد الصحابة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: دعوت الله سبحانه وتعالى أن أرى عمر في المنام، ولم يَرَ عمر إلا بعد سنة كاملة (...) قال عمر رضي الله عنه (...)، ما قولكم في هذه المسألة؟
* الشيخ: قولنا: هذه أكذب من الكذب، ما أكثر المنتشر وهو كذب، عمر بن الخطاب قُتِلَ شهيدًا، والشهادة تُكَفِّر كل شيء، كل شيء تكفره إلا الدَّيْن ولم نعلم أنه كان مدينًا.
* طالب: في بعض البلاد العربية وهم النصارى الذين من العرب يضعون جهاز التسجيل داخل القبر، يقول: نحن نريد أن نصدق هل كلامكم صحيح أيها المسلمون من أن عذاب القبر ونعيم القبر ثابت نريد نصدق بهذا، وما أريد (...) القرآن أو السنة، لكن أريد من عقلي أن يصدق هل هذا صحيح أو لا، فماذا نقول لهم؟
* الشيخ: علشان يسمع صياح الميت؟
* الطالب: نعم.
* الشيخ: نقول: لو أراد الله أن تسمعوه بالمسجل لأسمعكم إياه بآذانكم، ليش مسجل؟ ما له حاجة.
ولكن حينما هذا الفعل هل نرتضي معهم بهذا الفعل؟
* الشيخ: نقول: ما أنتم مصدقيَّ.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لو أراد الله أن نسمعه لسمعناه بدون مسجل، نعم.
* طالب: هل يمكن أن نعتبر قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر ٤٦] تفسيرًا لقوله تعالى: ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾؟
* الشيخ: يمكن هذا، ويمكن أن نقول: إن سوء العذاب ما ذكرناه في التفسير، وأما هذه ﴿النَّارُ﴾ فهي جملة استئنافية ذُكِرَت وحدها.
{"ayahs_start":44,"ayahs":["فَسَتَذۡكُرُونَ مَاۤ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِیۤ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَادِ","فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَیِّـَٔاتِ مَا مَكَرُوا۟ۖ وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرۡعَوۡنَ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ","ٱلنَّارُ یُعۡرَضُونَ عَلَیۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِیࣰّاۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤا۟ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ"],"ayah":"فَسَتَذۡكُرُونَ مَاۤ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِیۤ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَادِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق