الباحث القرآني
وقوله: ﴿يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم ٢٤]، ﴿فَيُحْيِي﴾ الله عز وجل، و﴿بِهِ﴾ الباء للسببية، وهي تفيد -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- إثبات العِلَل في أفعال الله، أو لا؟ إثبات العِلَل في أفعال الله سبق لنا مرارًا وتكرارًا بأن أفعال الله وشرع الله كله مقرون بالحكمة والتعليل.
ومنه ما سبق لكني نسيت أنبهكم عليها، قوله: ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم ٢١]، اللام للتعليل فتفيد الحكمة، ثبوت الحكمة في أفعال الله، وقد مر علينا في العقيدة أن مِن أهل البدع مَن ينكر الحكمة، مَن هم؟ الأصل الجبرية اللى هما الجهمية، ينكرون الحكمة، المعتزلة على العكس، المعتزلة يُوجِبُون الحكمة، ولهذا قالوا: إنه يجب على الله فعل الأصلح، كما مر علينا في العقيدة.
وقوله: ﴿فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، كلمة ﴿الْأَرْضَ﴾ هل المراد ذات الأرض تَحْيَا، أو المراد النبات الذي في الأرض يحيا؟
* طالب: النبات.
* الشيخ: المراد النبات الذي في الأرض.
* طالب: (...).
* الشيخ: أيش نوعها؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: (...).
المراد بالأرض نباتُ الأرض، وحينئذ قد يعترض علينا معترض ويقول: إنكم تقولون: لا مجاز في القرآن، وهنا إذا حملتم الأرض على نباتها فقد قلتم بالمجاز، فما هو الجواب على هذا؟
الجواب على هذا أننا كرَّرْنَا مرارًا بأن الكلمة في حَدّ ذاتها لا يُفْهَم معناها إلا بسياقها، فقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الروم ٢٢] لا شك أن المراد ذات الأرض، لكن ﴿فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يخاطب أناسًا يعرفون الذي يحيا والذي يموت، يعرفون الذي يحيا بالمطر، والذي يموت بفقد المطر، فهل أحد ممن يخاطَب بهذه الآية يقول: إن هذا الطين وهذا الرمل وهذا الحجر يموت بِفَقْد المطر ويحيا بوجوده؟ ما أحد يقول هكذا، والكلمة يعيِّن معناها السياق.
وبهذا نَسْلَم من القول بالمجاز؛ لأن القول بالمجاز أبرز علامات المجاز أنه يصح نفيه، والقرآن ما فيه شيء يصح نفيه؛ لأنه لو صح نفي شيء في القرآن لكان معناه التكذيب.
مثال ذلك: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكهف ٧٧] قال قائل: الجدار لا يريد، ويش معنى هذا؟ معناه نفي ما أثبت الله عز وجل، وهذا هو الذي جعل بعض أهل العلم يُنْكِر المجاز في القرآن ويُثْبِتُه في غيره من اللغة العربية، يقول: لأنه ليس في القرآن شيء يصح نفيه، وأبرز علامات المجاز أنه يصح نفيه.
ولكن الصواب ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا مجاز لا في القرآن ولا في اللغة العربية؛ لأننا نقول: إن الذي يعيِّن المعنى هو السياق، وعليه فإذا تعيَّن معنى الكلمة فهو حقيقتها في كل سياق. (...)
(﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور)، فالمشار إليه كل ما سبق، ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم ٢٤] هذه ثلاثة، هذا المذكور فيه ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يقول: (يتدبرون)، وهنا قال: ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم ٢٤]، أي: لذَوِي عقلٍ، والعقل تقدَّم أنه ينقسم إلى قسمين: عقل إدراك، وعقل رشد؛ عقل إدراك الذي هو مناط التكليف، الذي يقول فيه العلماء: يُشْتَرَط لوجوب الصلاة أن يكون عاقلًا، فيسميه عقل إدراك؛ لأن الإنسان به يدرك الأمور، فيميز بين النافع والضار وغيره.
العقل الثاني: عقل الرشد الذي هو مناط الثناء والمدح، وهو الذي يوجَد في القرآن كثيرًا، عقل الرشد.
مثلًا نفى الله سبحانه وتعالى العقل عن الكفار مع أنهم أذكياء، عندهم عقل إدراك، لكنهم ليس عندهم عقل رشد يتصرفون فيه تصرف العاقل، وسُمِّي العقل عقلًا؛ لأنه يعقل صاحبَه عما يضره، وهذا هو الذي جعله يسمى عقلًا، ويسمى حِجْرًا، ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر ٥] ؛ لأنه يَحْجُر صاحبه ويحجزه عما لا ينفعه.
وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم ٢٤] أتى بالعقل هنا؛ لأنه إشارة إلى ما سيُذْكَر فيما بعد؛ لأن الآيات كما تشاهدون كلها في تقرير إعادة الموتى، وانتقال العقل من هذه الأشياء المحسوسة إلى أشياء منظورة موجودة إنما يكون عن طريق العقل، ولهذا قال هنا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
ثم قال عز وجل: (﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم ٢٥] بإرادته من غير عَمَدٍ)، ﴿مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ﴾ نقول في إعرابها كما قلنا فيما سبق، أي: من آياته قيامُ السماوات والأرض بأمره.
وقوله: (﴿بِأَمْرِهِ﴾: بإرادته بغير عَمَدٍ)، أفادنا المؤلف رحمه الله أن المراد بالأمر هنا الأمر الكوني؛ لأنه قال: بإرادته، وإن كان في تفسير الأمر بالإرادة شيء من الشك، إذ إنني أخشى أنه فَسَّرَ الأمر بالإرادة فرارًا من الكلام، أو من إثبات الكلام لله عز وجل؛ لأن الأمر ولو كان كونيًّا يكون بالكلام، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢]، فأخشى أن المؤلف -غفر الله له- أراد بتفسير الأمر بالإرادة الفرارَ من إثبات الكلام، ومعروف أن الأشاعرة لا يُثْبِتُون الكلام بالحرف والصوت، وإنما يُثْبِتُون الكلام على أنه المعنى القائم بالنفس، والحرف المكتوب والصوت المسموع يقولون: إنه عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله.
وقوله: ﴿أَنْ تَقُومَ﴾ أيضًا فسَّرَه بقوله: من غير عَمَدٍ، وهذا يدل على أنه ذهب إلى أن المراد بالقيام هنا القيام الحسي، يعني: أن تبقى غير واقعة على الأرض، بل هي مُمْسَكَةٌ بأمر الله سبحانه وتعالى بغير عَمَدٍ، وهذا تفسير قاصر، والصواب أن قيام السماوات والأرض أعمّ من كونه قيامًا حِسِّيًّا أو قيامًا معنويًّا، بمعنى أنه يشمل القيام الحسي والقيام والمعنوي، فالسماوات قائمة بأمر الله قيامًا حسيًّا بما فيها من الانتظام بما خَلَقَ الله عز وجل من الأفلاك المتضَمَّنَة للشمس والقمر والنجوم وغير ذلك، وكذلك الأرض قائمة قيامًا حسيًّا بما أودع الله تعالى فيها من مصالح الخلق، من أشجار ونبات وأنهار وبحار، وغير ذلك، هذا قيام حسي.
فيه أيضًا قيام معنوي، وهو قيام هذه بطاعة الله، فإن المعاصي إفساد في الأرض، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف ٥٦]، فالسماوات أيضًا والأرض تقوم بأمر الله الشرعي كما تقوم بأمره الكوني، ولا قيام للأرض ولا للسماوات إلا بالتزام أمر الله الشرعي، فحينئذ يفسّر القيام بأنه قيام حسي وقيام معنوي، عرفتم؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: القيام الحسي ما هو؟ القيام الحسي هو قيام هذه الأجرام بما فيها من الأفلاك والنجوم، وبما في الأرض من أشجار وبحار وغير ذلك، هذا قيام حسي.
القيام المعنوي أيش المراد به؟ أن تقوم بطاعة الله عز وجل، وتصلح وتبقى بطاعة الله، فالآية شاملة للمعنيين، وعلى هذا يكون المراد بالأمر الأمر الكوني والأمر الشرعي.
قال: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم ٢٥] ، أتى بـ(ثم) بعد ذِكْر قيام السماوات والأرض؛ لأن البعث متأخر، ما يكون إلا بعد قيام الساعة، يقول: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ﴾ الفاعل مَن؟ الله عز وجل، ﴿دَعْوَةً﴾ أي: واحدة، ﴿مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾، (﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ بأن ينفخ إسرائيل في الصور فيُبْعَث مَن في القبور، ﴿إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ منها أحياءً، فخروجكم منها بدعوته من آياته تعالى).
﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾، قوله: ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ هل تتعلق بـ﴿تَخْرُجُونَ﴾ يعني: إذا دعاكم دعوة تخرجون من الأرض، أو متعلِّق بـ(دعا)؟ نقول: هو متعلق بـ(دعا)، إذا دعاكم دعوة من الأرض، وليس متعلق بـ﴿تَخْرُجُونَ﴾؛ لأنه لا يتعلق ما قبل (إذا) الفجائية بما بعدها.
﴿إِذَا دَعَاكُمْ﴾، ﴿إِذَا﴾ شرطية، و﴿إِذَا أَنْتُمْ﴾ ﴿إِذَا﴾ فجائية، فهي نائبة مناب الفاء الواقعة في جواب الشرط.
قوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾ يعني: دعاكم منها، هل دعوة الله تكون من الأرض، أو إذا دعاكم من الأرض، يعني أنكم أنتم في الأرض؟ المراد هذا، إذا دعاكم من الأرض، مثلما تقول: دعوته من بيته، ما أنا في البيت، لكن هو في البيت فدعوته منه ليحضر.
﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات ١٣، ١٤]، يعني: على وجه الأرض، ﴿إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾، هذا من آيات الله أيضًا.
ثم قال: (﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الروم ٢٦] ملكًا وخَلْقًا وعبيدًا)، ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، الضمير في ﴿لَهُ﴾ يعود على الله، وهو خبر مقدَّم والمبتدأ منفي، وتقديم الخبر -كما هو معروف في علم البلاغة- يفيد الحصر، يعني: فالله وحده له مَن في السماوات والأرض.
وقوله: ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ جارّ ومجرور متعلق بمحذوف تقديره؟
* طالب: أحيانًا.
* الشيخ: لا.
* طالب: مستقر.
* الشيخ: مستقر لا.
* طالب: استقر.
* الشيخ: استقر؛ لأن الجارّ والمجرور الواقع صلة للموصل يُقَدَّر بفعل، بخلاف الواقع خبرًا لمبتدأ فإنه يُقَدَّر باسم، (...) أن هذا للفرق بينهما، الجار والمجرور إذا وقع صلة -أو الظرف- إذا وقع صلة لموصول فقَدِّر مُتَعَلَّقَه فعلًا؛ لأن الأصل في صلة الموصول أن يكون جملة، لكن إذا وَقَعَ الجارّ والمجرور أو الظرف خبرًا لمبتدأ فقَدِّره باسم؛ لأن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا لا جملة، تقول: زيد في البيت، تُقَدِّرُه: كائن في البيت، لأجل يكون (زيد) مبتدأ و(كائن) خبر، لكن لو قلت: زيد في البيت، أي: زيد استقر في البيت، صار الخبر جملة، والأصل في الخبر أن يكون مُفْرَدًا، كذا؟
أما إذا قلت: يعجبني الذي في المسجد، ما تقول: الذي كائن في المسجد؛ لأنك إذا قَدَّرْت (الذي كائن في المسجد) لزم أن تُقَدِّر مبتدأ أيضًا، أي: الذي هو كائن في المسجد، أليس كذلك؟ لماذا يلزمك أن تُقَدِّر مبتدأً؟ لأن صلة الموصول لا بد أن تكون جملة، بخلاف خبر المبتدأ فإنه يكون مفردًا، مفهوم يا جماعة؟
إذن عندما نُقَدِّر المتعلق للجارّ والمجرور الواقع صلة ماذا نُقَدِّره؟ فعلًا؛ ليكون ذلك جملة، وعندما نُقَدِّر متعلق الجار والمجرور أو الظرف للمبتدأ نقدره اسمًا.
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أي: مَن استقر في السماوات والأرض، ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من الملائكة، هذا الذي نعرف، والأرض من البشر والحيوان، وهنا قال: ﴿مَنْ﴾ تغليبًا للعاقل، وإلا فإن الأرض فيها العاقل وغير العاقل، ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال: (مُلْكًا وخَلْقًا وعبيدًا)، كان الأولى أن يُقَدِّم الخلق، ثم الْمُلْك، ثم العبيد، فله مَن في السماوات هو الذي يملكهم سبحانه وتعالى، وهو الذي خَلَقَهُم، وهو رَبُّهم وهم عبيده، له ملك السماوات والأرض، ولا أحد يعارضه في ذلك، كل مَن في السماوات والأرض كما قال الله عز وجل: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣].
(﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [الروم ٢٦]: مطيعون)، ﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ، و﴿قَانِتُونَ﴾ خبره، والجار والمجرور ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ﴿قَانِتُونَ﴾، لكنه قُدِّمَ عليه للاختصاص والحصر.
وقوله: ﴿كُلٌّ﴾ التنوين هنا عِوَضٌ عن مفرد، كلما جاءت (كل) أو (بعض) منونة فإنها عِوَض عن مفرد، المعنى يعني التقدير: كل مَن في السماوات والأرض.
وقوله: ﴿لَهُ قَانِتُونَ﴾ يقول: (مطيعون)، والطاعة هنا طاعة وخضوع للأمر الكوني، وهذا شامل للمؤمن وغير المؤمن، أليس كذلك؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: والثاني: طاعة وقنوت للأمر الشرعي، وهذا خاص بالمؤمن، وعلى هذا يكون المراد بالقنوت هنا الشرعي أو الكوني؟ الكوني؛ لأنه قال: ﴿كُلٌّ لَهُ﴾، ولا يتصور هذا إلا في الكوني، فالكل خاضع لأمر الله قانت باعتبار أمره الكوني، إذا أراد شيئًا على مَن في السماوات والأرض قال له: كن، فيكون.
ثم قال تعالى: (﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ [الروم ٢٧] للناس، ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم ٢٧] بعد هلاكه، ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم ٢٧] من البدء).
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ أي: يبتدئه، وأتى بكلمة ﴿يَبْدَأُ﴾؛ لأن الخلق مستمر، كل يوم يكون فيه ابتداء الخلق، أليس كذلك؟ الأجنة في بطون الأمهات تنشأ كل يوم، كم في الدنيا في اليوم الواحد جنين يُكَوَّن؟ كثير جدًّا، ولهذا أتى بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار، ولم يقل: بدأ.
وقوله: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ يعني: ثم هو، أي الله عز وجل، يعيده، ومعنى الإعادة رَدُّه على ما كان أولًا، كما في قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء ١٠٤] ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الناس «يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا بَدَؤُوا»[[أخرج البخاري -واللفظ له- (٣٣٤٩) ومسلم (٢٨٦٠) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: «إنكم محشورون حفاةُ عراةً غُرْلًا، ثم قرأ: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]. ]].
قال: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ﴾ الضمير يعود على الإعادة، كذا؟ المفهوم من قوله: ﴿يُعِيدُهُ﴾، فمرجع الضمير إذن المصدر المفهوم من الفعل، وقد سبق لنا عدة مرات أن مرجع الضمير قد لا يُذْكَرُ بلفظه، ولكن يُذْكَرُ ما يدل عليه، انظر إلى قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة ٨] ، أين مرجع الضمير في ﴿هُوَ﴾؟ العدل المفهوم من كلمة ﴿اعْدِلُوا﴾.
إذن ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ نقول: ﴿وَهُوَ﴾ أي: الإعادة، والإعادة مصدر، فَصَحَّ أن يعود الضمير عليها مُذَكَّرًا.
قال: ﴿أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، (أهون) اسم تفضيل من هان يهون، واسم التفضيل يدل على أن الْهُون في حقه درجات، هَيِّن وأَهْوَن، ودرجات الْهُون قد توحي بأن هناك مشقة؛ لأنه لولا أن في بعضها مشقة ما صار بعضها أهون من بعض، ولذلك اختلف الْمُفَسِّرُون في اسم التفضيل هنا، وهو أهون، فقيل: إنه بمعنى هَيِّن، ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي: وهو هَيِّن عليه.
وقال بعض المفسرين ما ذهب إليه المؤلف؛ وهو أنه أهون عليه من البدء بالنظر إلى ما عند المخاطَبِين من أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه، وإلا فَهُمَا عند الله تعالى سواء في السهولة.
فصار الآن كلمة (أهون) هل هي على بابها أو لا؟ المؤلف مشى على أنها على بابها، لكنها باعتبار المخاطَبِين؛ لأن المخاطَب يعرف أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه، وسبب ذلك أن إعادته لا تحتاج إلى تفكير جديد؛ لأنه قد سبق فيها التفكير، ثانيًا أن مواد التكوين موجودة، افرض -مثلًا- أنني صنعت سيارة، عندما أريد صنعها تحتاج إلى تفكير أولًا ومواد، فإذا أردت أن أُعِيدها مرة ثانية مثل أن تفككت هذه السيارة وأردت أن أعيدها، يكون الإعادة أهون؛ لأن التفكير فقد فرغت منه، والمواد موجودة موفرة، فيكون الإعادة أهون باعتبار المخاطَب، أما بالنسبة لله عز وجل فلا نقول: إنه في حقه ما هو أهون وما هو هَيِّن، بل الكل عند الله تعالى هَيِّن وسهل.
وقال بعض المفسرين: إن أهون بمعنى هيِّن، فعلى هذا يكون الهون بالنسبة إلى الله عز وجل لا بالنسبة لما عندنا نحن، وهو هين عليه.
في الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى قال: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ إِنَّنِي لَنْ أُعِيدَهُ، وَلَيْسَ بَدْءُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ»[[أخرجه البخاري (٤٩٧٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ]]، فهو مُفَسِّر للآية، ليس بَدْء الخلق بأهون عَلَيَّ من إعادته، فهو يفسر أن كل ذلك هَيِّن عليه، ولكن لا شك أن الإعادة أهون باعتبار المفهوم عند المخاطَبِين، فما مشى عليه المؤلف رحمه الله هنا جيد.
﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الروم ٢٧] ، أي: الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلا الله.
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ﴾، ﴿لَهُ﴾ خبر مقدَّم، و﴿الْمَثَلُ﴾ مبتدأ مؤخَّر، والْمَثَل يُطْلَق على عدة معانٍ، فيُطْلَق على الشَّبَه، كقوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة ١٧] يعني: شَبَهُه كشَبَه الذي استوقد نارًا، ويُطْلَق الْمَثَلُ على الصفة، كقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد ١٥]، ويُطْلَق الْمَثَلُ على الذات، قالوا: ومنه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١] يعني: ليس كذاته، وترى الْمَثَل والْمِثْل سواء، فمعناهما واحد، وقالوا: منه قول الشاعر:
؎لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرِ ∗∗∗ ..........................
المراد بالْمَثَل هنا -وله المثل الأعلى- أيّ المعاني؟ الصفة، له الصفة العليا في السماوات الأرض، كل صفة كاملة فلله سبحانه وتعالى أكملها، وكل صفة نقص فإنه مُنَزَّهٌ عنها، لماذا يُنَزَّهُ عن صفة النقص؟ لأنه ما دام قد ثبت له الصفة الكاملة العليا فإنه بالضرورة العقلية ينتفي عنه النقص؛ لأنه لو اتصف بنقص ما استحق أن يكون له الْمَثَل الأعلى، أليس كذلك؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: إذن هذه الآية الكريمة تدل على صفات الكمال لله عز وجل، الكمال المطلَق؛ لأنه قال: ﴿الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾، وعلى انتفاء النقص من جميع الوجوه؛ إذ إنه لو اتصف بنقص ما استحق أن يكون له المثل الأعلى.
ونأخذ من هذا أنه كل ما وصف الله نفسه فهو صفة كمال، وليس فيه نقص، أليس كذلك؟
* طلبة: بلى.
* الشيخ: كل ما وصف الله به نفسه فهو صفة كمال، وكل كمال فإن الله تعالى مُسْتَحِقّ له، فهذان شيئان؛ الأول: أن نعلم عِلْمَ اليقين أن كل ما وصف الله به نفسه فهو صفة كمال، الثاني: أن نعلم أن كل صفة كمال فالله تعالى مستحِقّ لها، فهو أهلٌ لها كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ»[[أخرجه مسلم (٤٧٧/٢٠٥) من حديث أبي سعيد الخدري. ]]، وسيأتي إن شاء الله في الفوائد ما يُسْتَدَلّ به على الرد على الذين ينكرون صفات الله بحجة أنها تستلزم النقص، وهو التشبيه.
وقوله: ﴿الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، كيف معنى المثل الأعلى في السماوات والأرض؟ نعم، يعني: عند أهل السماوات من الملائكة، وعند أهل الأرض، فكل الفِطَر السليمة فإنها تعترف بأن المثل الأعلى والصفة العليا لله وحده، وأما قول المؤلف: (وهي أنه لا إله إلا الله) فهذا فرد من أفراد المثل الأعلى، وليس هو المثل الأعلى كله، فإن لا إله إلا الله تدل على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية، وهذا من المثل الأعلى، لكن المثل الأعلى أعم من ذلك، فله -مثلًا- القدرة الكاملة، والعلم الكامل، والحياة الكاملة، والسمع الكامل، والبصر الكامل، والحكمة البالغة، وهكذا، فهي أعمّ من تفرده بالألوهية.
(﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ [الروم ٢٧] في ملكه، ﴿الْحَكِيمُ﴾ [الروم ٢٧] في خلقه)، تفسيره هذا فيه قصور، العزيز يعني: ذو العزة، وهي الغلبة والقهر والقَدْر، فله عزة القهر والقَدْر سبحانه وتعالى، والقهر، فالعزة إذن ثلاثة معانٍ: عزة القهر، بمعنى أنه القاهر لكل شيء، فلا يغلبه أحد، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون ٨].
الثاني: عزة القَدْر، أيش معنى عزة القَدْر؟ المعنى أنه سبحانه لا نظير له ولا شِبْهَ له؛ لكمال قَدْرِه سبحانه وتعالى وعظمته، ومنها قوله: هذا الشيء عزيز، أي: نادر الوجود لا نظير له.
المعنى الثالث من العزة: عزة الامتناع، بمعنى أنه يمتنع عليه النقص؛ لكمال قوته، ومنه قولهم: هذه الأرض عَزَاز، يعني: شِدَاد قوية، ما يمكن ينفذ إليها شيء، والأرض الرخوة بالعكس، كل شيء يؤثر فيها، حتى الرجل إذا مشى عليها يؤثر، ولَّا لا؟ بخلاف الأرض الصلبة التي تسمى العَزَاز.
فصارت الآن عزة القَدْر وعزة القهر، والثالث: عزة الامتناع.
قوله تعالى: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم ٢٠] من أي المعاني؟
* طلبة: الامتناع.
* الشيخ: إي، الامتناع، ﴿بِعَزِيزٍ﴾ أي: بممتنع، فهو من عزة الامتناع.
وأما قوله: ﴿الْحَكِيمُ﴾ فالمؤلف يقول: (الحكيم في خَلْقه)، وأحيانًا يقول: في صنعه، ومعناهما واحد، لكن هذا قاصر أيضًا؛ لأن الحكيم مشتق من الْحُكْم والحكمة، فعلى قولنا: إنه مشتق من الْحُكم يكون حكيم بمعنى حاكم، مثل: رحيم بمعنى راحم، وعلى قولنا: إنه من الحكمة، يكون حكيم بمعنى مُتْقِن، فهو من أَحْكَمَ يُحْكِم.
فَعِيل بمعنى مُفْعِل هل تأتي في اللغة العربية؟ الجواب: نعم، ومنه قوله تعالى: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة ١٠] بمعنى: مُؤْلِم، ومنه قول الشاعر:
؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
(أمن ريحانة الداعي السَّمِيعُ) أي: الْمُسْمِع؛ لأن الداعي يُسْمِع غيره، وليس هو نفسه سميعًا، إذن نقول: حكيم إذا كان من الحكمة فهو من أيش؟ مِن أَحْكَمَ، بمعنى: أتقن، حطوا بالكم لتفسيره، حكيم نقول: مأخوذة من الْحُكْم والحكمة، فعلى أنه مأخوذ من الْحُكْم يكون بمعنى حاكم، مثل: رحيم بمعنى راحم، سميع بمعنى سامع.
إذا قلنا: إنه من الحكمة فهي من أَحْكَمَ، فهي حكيم بمعنى مُحْكِم، أي: اسم فاعل من الرباعي.
الْحُكْم، ينقسم حكم الله عز وجل إلى قسمين: كوني وشرعي؛ فالكوني نافذ في جميع الخلق شاؤوا أم أَبَوْا، والشرعي نافذ في مَن؟ أطاع الله عز وجل، أما مَن لم يطعه فإنه لا ينفذ حكمه.
هل هناك أمثلة من القرآن تدل على هذا التقسيم؛ أن الحكم كوني وشرعي؟ نقول: نعم موجود، قال أحد إخوة يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يوسف ٨٠]، المراد بالْحُكْم هنا الْحُكْم الكوني القَدَرِي، يعني: أو يُقَدِّر الله ذلك، أما الْحُكْم الشرعي فإن الله لما ذَكَرَ ما يجب في النساء المهاجرات في سورة الممتحنة أيش قال؟ قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠]، المراد بالحكم هنا الشرعي؛ لأن ما ذُكِرَ من الأمور كله أمور شرعية.
ما تقولون في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص ٧٠]؟ أي الحكمين؟ شامل، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة ٥٠]، الظاهر أنه شامل، وإن كان في الشرع في هذه الآية أظهر؛ لأن الله قال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة ٥٠].
إذن الحكيم من الْحُكْم تنقسم إلى قسمين هما: حكم شرعي وحكم كوني؛ الحكم الكوني هو قضاؤه وقَدَرُه، وكل أحد خاضع له، الحكم الشرعي ما حكم به شرعًا، ويخضع له كل أحد؟ لا، لا يخضع له كل أحد.
أما إذا قلنا: إنه من أحكم، حكيم من الحكمة بمعنى مُحْكِم فإن الحكمة يقولون: إنها تنقسم إلى قسمين: حكمة غائِيَّة وحكمة صورية، يعني صورة الشيء كذا وكذا، فكَوْن الشيء على صورة معينة نجد أن جميع ما خلقه الله في صفاته كله على صفةٍ مُوَافِقَة للحكمة، تَدَبَّر المخلوقات تجد أن المخلوقات في ذواتها وحركاتها وهيئاتها وصفاتها كلها موافقة للحكمة.
الحكمة الغائية هي الغايات المحمودة في أفعاله وأحكامه الشرعية، كل ما خلق الله عز وجل فإنه لغاية محمودة، ليس عبثًا ولا سدى، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الدخان ٣٨، ٣٩]، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص ٢٧]، حتى ما يُقَدِّرُه الله من الأمور المؤلمة فإنها حكمة، فهزيمة المؤمنين يوم أُحُد حِكْمة ولَّا لا؟ نعم حكمة لا شك، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [آل عمران ١٦٦، ١٦٧]، وقال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران ١٤١].
فإذن كل أفعاله سبحانه وتعالى حكمة، ولها غاية محمودة، كذلك أيضًا أحكامه الشرعية مثل أحكامه الكونية، هي على وضعها على صفة معنية موافقة للحكمة، ثم غاياتها الحميدة التي بها صلاح القلوب والبلاد والعباد أيضًا حكمة، فصار يا إخواننا الحكمة نوعان: حكمة في الشيء على صفة معينة، وحكمة في غايته الحميدة، ثم إن هذه الحكمة تكون في الشرع وتكون في القَدَر في الكون إننا إذا علمنا ذلك أن الله تعالى حكيم فإننا نطمئن غاية الاطمئنان لما قضاه وقَدَّرَه، ولما شرعه وحكم به، نطمئن، وأنه موافق للحكمة، وحينئذ لا يمكن أن نُورِد ولا أن يَرِد على (...) جاء كذا، من أين شُرِعَ كذا، إلا على سبيل الاسترشاد، فالإنسان اللي يسأل عن الحكمة مسترشدًا لا بأس، أما الذي يسأل عن الحكمة معترضًا فإنه قاصر، ولم يَقْدُر الله حق قدره.
ثم قال تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [الروم ٢٨]، حطوا بالكم من كلمة ﴿الْحَكِيمُ﴾ وبهذا التفسير الذي فسرناها به يتبين أن المؤلف رحمه الله قد قَصَّر في تفسيرها.
(﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا﴾، ﴿ضَرَبَ﴾: جعل، ﴿لَكُمْ﴾ أيها المشركون، ﴿مَثَلًا﴾ كائنًا، ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾، وهو..).
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا﴾ الْمَثَل بمعنى الشَّبَه والنظير، يعني: ضرب لكم أمرًا نظيرًا لما فعلتم أنتم في جانب الله عز وجل، ما هذا الْمَثَل؟ ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [الروم ٢٨]، يقول: (وهو ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ﴾، ﴿مِنْ مَا﴾ أي: من الذي، ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي: من مماليككم، ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ لكم).
كلمة ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ إعرابها أنها مبتدأ دخل عليها حرف (مِن) لأجل العموم، ولكنه قد يُشْكِل علينا أن (من) ما تُزَادُ إلا بعد النفي، ابن مالك ويش يقول في هذه المسألة؟
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ نَكِرَةً كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ
اللي معنا الآن ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ قلنا: إن (من) هذه زائدة إعرابًا، ولكنها في المعنى لها معنى، وهو التنصيص على العموم، وذكر ابن مالك أنها لا تُزَاد إلا بعد نفي وشبهه، اللي معنا الآن شِبْه نفي نعم؛ لأنه استفهام بمعنى النفي، يعني: ما لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم.
وقوله: ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ أي: مشاركين لكم (﴿فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من أموال وغيره، ﴿فَأَنْتُمْ﴾ وهم ﴿فِيهِ سَوَاءٌ﴾ )، هذه قوله: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ ليست عائدة على النفي، لكنها عائدة على الْمَنْفِيّ، يعني: فهل أنتم سواء فيما رزقناكم تخافونهم كخيفتكم أنفسكم؟ أي: أمثالكم من الأحرار، والاستفهام بمعنى النفي، المعنى: ليس مماليككم شركاء لكم إلى آخره عندكم، فكيف تجعلون بعض مماليك الله شركاء له؟!
قوله: ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الروم ٢٨]، يقول المؤلف رحمه الله: (أي: أمثالكم من الأحرار)، فجعل الأنفس هنا بمعنى الجنس؛ لأن النفس كما تقدم تأتي بمعنى الجنس، يعني: يقول: هل هؤلاء المماليك شركاء لكم في رزقكم من الأموال والأولاد، ومساوون لكم، وتخافونهم كما تخافون من أنفسكم؟ ويش الجواب؟ لا، فإذا كان كذلك فلماذا تجعلون هذه الأصنام شركاء مع الله وهي مخلوقة له مملوكة مربوبة له.
إذن الْمَثَل واضح جدًّا في أن هؤلاء المشركين يُفَرِّقُون بين المتماثِلَيْن، أليس كذلك؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: فكما أنكم الآن بإقراركم أن عبيدكم لا يساوونكم في المنزلة، ولا يشاركونكم في الرزق، فكذلك أيضًا ما يملكه الله عز وجل من هذه الأصنام وغيرها لا يساوون الله تعالى في المنزلة، ولا يشاركونه في الحقوق، وهذا مَثَل ظاهر جدًّا.
مثاله أيضًا من أنفسنا نحن، هذا رجل يُؤَدِّب ولده إذا أخطأ، فقال له بعض الناس: ليش تؤدب ولدك، ليش تضربه، ليش تنهره؟ ماذا يقول لهم؟ يقول: ألست تفعل بولدك مثل هذا؟ أيش الجواب؟ الجواب: بلى، إذن كيف تلومني على شيء تفعله أنت؟
هذا الذي ذكر الله عنهم يقال لهم: كيف تجعلون مع الله شريكًا فيما يستحقه وحده، وأنتم لا تجعلون لأنفسكم شريكًا من عبيدكم فيما تَخْتَصُّون به من الرزق، والعجيب أن هذه الآية استدل بها مَن يرون الاشتراكية، أول ما ظهرت الاشتراكية في العالم العربي بدؤوا يأتون بالنصوص المتشابهة، وقالوا: هذه الآية صريحة في الاشتراكية.
كيف ذلك؟ قال: لأنه يقول: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ شوف كيف التلبيس؟ وهذه ما هي على ما أرادوا، هذه داخلة في النفي، يعني: لستم فيه سواءً، أليس كذلك؟
* طلبة: بلى.
* الشيخ: هذا معنى الآية، لكن دائمًا أهل الباطل يُلَبِّسُون لباطلهم بمتشابه النصوص، وهذه من حكمة لله عز وجل أنه في النصوص أشياء متشابهة ليَضِلّ بها مَن يَضِلّ، والله أعلم، وهذه وجدتها (...)
﴿مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ إلى آخره.
* يستفاد من الآية الكريمة: أولًا: أن البرق من آيات الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن البرق يشتمل على الخوف والرجاء؛ لقوله: ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾.
وسبق أن الصحيح أنها ليست مُوَزَّعَة كما ذهب إليه المؤلف، بل هي صفة مشتملة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى بإنزال الماء من السماء.
* ومنها: رحمته بالخلق، حيث كان إنزال هذا المطر من السماء، هذا واحد، وحيث كان ينزل شيئًا فشيئًا؛ لأنه لو كان ينزل دفعة واحدة لأهلك الناس.
* ومن فوائد الآية: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث يحيي الأرض بعد موتها، تجد الأرض يابسة ما فيها عود أخضر، ثم بعد نزول المطر تصبح مُخْضَرَّة تهتز.
* ومنها: رحمته بالخلق أيضًا، فإن إحياء الأرض نافع للإنسان والحيوان.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا ينتفع بالآيات إلا ذوو العقول، تؤخذ؟
* طالب: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
* الشيخ: نعم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: استعمال العقل في القياس، في قياس الأشياء المتشابهة، والنظير على نظيره.
* ومن فوائدها: أن القياس من الأدلة العقلية، وإن كان ثابتًا بالشرع، لكن طريقه هو العقل؛ لأن العقل يهتدي بهذا على هذا، وينتقل من هذا إلى هذا.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ إلى آخره.
* من فوائد الآية الكريمة: أن قيام السماوات والأرض بأمر الله، ليس للمخلوقين فيه تعلُّق إطلاقًا، الله تعالى هو الذي يُقِيمُها، يقيم السماوات والأرض، سواء القيام الحسي أو المعنوي.
* ومنها: إثبات الكلام لله، من أين؟
* طالب: قوله: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً﴾.
* الشيخ: لا، قبل.
* طالب: ﴿بِأَمْرِهِ﴾.
* الشيخ: ﴿بِأَمْرِهِ﴾، والمؤلف قال: (بإرادته)، وقد تقدم التنبيه على هذا، أن المراد ﴿بِأَمْرِهِ﴾ اللي هو الكلام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى ببعث الموتى بكلمة واحدة، ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾، ولاحظوا يا جماعة أن المسألة ما هي بخلق واحد فقط أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة، بل هي ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، دعوة واحدة يكون بها جميع الخلق خارجين، وهذا لا شك أن فيه ما هو من أبلغ القُدَر، وأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
* ويستفاد من الآية أيضًا: أن مَقَرّ بني آدم الأرض؛ لقوله: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه ٥٥] ، فالمعمول في هذه الآية مُقَدَّم، ﴿فِيهَا﴾ و﴿مِنْهَا﴾، وتقديم المعمول يدل على الحصر، ومن هذا الشيء (...).
إذن فالحياة على الكواكب متعذِّرة بالنسبة لبني آدم، هذا هو ظاهر الآيات؛ لأن بني آدم خُلِقُوا من الأرض ويرجعون إلى الأرض، ويُدْعَوْن يوم القيامة من الأرض.
* ومنها: إثبات الكلام لله في قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾.
أما قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ * فيستفاد منها: عموم ملك الله، من أين يؤخذ العموم؟ العموم من قوله: ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾؛ لأن (من) اسم موصول، والموصولات كلها تفيد العموم.
* ويستفاد من الآية: انفراد الله عز وجل بالملك واختصاصه به، من أين يؤخَذ؟ من تقديم الخبر، ﴿وَلَهُ مَنْ﴾، يعني: لا لغيره، أو لا؟
وهنا يَرِدُ علينا إشكال في قوله: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾، هذا العموم نجد أن بني آدم يملكون أشياء من هذا، أو لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: فما هو الجواب عن ذلك؟
نقول: الجواب عن هذا أن ملك بني آدم ملك مقيَّد بتمليك مَن له الملك، ولذلك أنت لا تستطيع أن تتصرف بمالك كما تشاء، هل تملك أن تحرق مالك؟ ما تملك أن تحرقه، ولا أن تتلفه، صحيح تملكه بالنسبة لغيرك من الآدميين ما يقدرون يمنعونك، لكن بالنسبة للخالق الذي له الملك يمنعك من هذا، فصار ملكنا لما نملك ليس ملكًا تامًّا.
دليله أو وجهه أننا لا نستطيع ولا نملك أن نتصرف فيما بين أيدينا كما نشاء.
* ويستفاد من الآية الكريمة: خضوع الكائنات لربها سبحانه وتعالى، من أين؟ ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾، وأن جميع الكائنات خاضعة لله.
* ويستفاد من ذلك: أن القنوت لا يختص بالقنوت الشرعي، وأكثر الناس يظنون أن القنوت يختص بالقنوت الشرعي، ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة ٢٣٨]، هذا قنوت شرعي لا شك، لكن الآية هذه وما أشبهها تدل على أن القنوت أنه الخضوع لله عز وجل، سواء كان ذلك خضوعًا شرعيًّا أم كونيًّا.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن الخلق حادث بعد أن لم يكن، أو لا؟ الخلق حادث بعد أن لم يكن، من أين يؤخذ؟ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾، فيكون في الآية ردٌّ لقول الفلاسفة القائلين بِقِدَم العالم، والصواب أن العالم حادث بعد أن لم يكن؛ لقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات إعادة الخلق؛ لقوله: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: استعمال قياس الأَوْلَى، وأظنكم تعرفون قياس الأَوْلَى في أصول الفقه، الاستدلال بالنظير على نظيره هذا قياس مساواة، والاستدلال على الشيء الذي يكون أَوْلَى من الْمَقِيس عليه يسمونه قياس الأَوْلَى، فهنا في الآية استعمال قياس الأَوْلَى، من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
* الشيخ: قوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ إعادتُه، فإنه إذا كان قادرًا على الابتداء فهو على الإعادة من باب أولى.
* طالب: على أحد الوجهين يا شيخ؟
* الشيخ: إي نعم، على ما مشى عليه المؤلف.
* ومن فوائد الآية: إثبات كمال الصفات لله؛ لقوله: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
* ومن فوائدها: الرد على أهل التعطيل الذين ينكرون صفات الله عز وجل، فإن الذين ينكرون صفات الله ما جعلوا له الْمَثَل الأعلى، بل جعلوه موصوفًا بالنقائص -والعياذ بالله- سواء كان هذا التعطيل كليًّا أم جزئيًّا؛ لأنه إن كان كليًّا كما فعل الجهمية وسَلَبُوه جميع الصفات، وكذلك المعتزلة قالوا: له أسماء بدون صفات، فلاحظ أنهم سَلَبُوا الكمال عن الله، أما إذا كان جزئيًّا كما فعل الأشاعرة والماتُريدية ونحوهم فإن هذا فيه سَلْب الكمال عن الله فيما وصف به نفسه، أو لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] الاستواء صفة كمال، وهم يقولون: ﴿اسْتَوَى﴾ بمعنى: استولى، فلم يجعلوا للعرش خصيصةً بالاستواء عليه؛ لأن الله تعالى مستولٍ على كل شيء.
وكذلك أيضًا إذا قالوا: إن المراد بالآيات خلاف الظاهر، فإنهم وصفوا الله عز وجل بالنقص، كيف ذلك؟ لأن إرادة المتكلم بكلامه خلافَ الظاهر بدون بيان يعتبر تدليسًا وتمويهًا، والله عز وجل ما أنزل القرآن إلا للبيان، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [النساء ٢٦]، ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء ١٧٦]، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ [النحل ٤٤]، والآيات في هذا كثيرة، فإذا قلنا: إن الله أراد بهذا خلاف الظاهر، فهذا وصف له بالتعمية سبحانه وتعالى، وأنه لا يريد البيان، وهذا لا شك أنه نقص، ولهذا نقول: إن جميع مَن أنكروا صفات الله عز وجل كلية أم جزئية فإنهم قد صفوا الله سبحانه وتعالى بالنقص، واضح؟
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن كل صفة وصف الله بها نفسه فهي صفة كمال، أو لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ﴾.
* الشيخ: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ﴾، فإذا أثبت لنفسه صفة عَلِمْنَا أنها صفة كمال، الرحمة أثبتها الله لنفسه، صفة كمال ولَّا نقص؟
* طالب: كمال.
* الشيخ: كمال، لكنها عند أهل التعطيل الْمُحَرِّفين هي صفة نقص، يقولون: إن الرحمة تدل على الْخَوَر والضعف، فلهذا رحمة الله لا يراد بها الرحمة وإنما يراد بها الإحسان، أو مرادف الإحسان، يفسرونها إما بالجزاء المفعول المخلوق، وإما بإرادته، وعلى هذا فَقِس.
هل يستفاد من هذه الآية الكريمة استعمال قياس الأَوْلَى في حق الله، وأن نقول: كل صفة كمال في المخلوق فالخالق أَوْلَى بها؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: إي نعم، شيخ الإسلام رحمه الله يُقَرِّر هذا، بأن استعمال قياس الأولى في حق الله جائز، أما قياس التمثيل وقياس الشمول فهذا ممتنع؛ لأنه هو التشبيه، فإذا قلنا: كل صفة كمال في المخلوق فالخالق أولى بها، صح.
لكن يجب أن نعلم أن صفات المخلوق الكاملة التي تكمل نقصه كاملة في حقه، لكن لتكميل نقصه هذه لا يُوصَف الله بها، يعني هي كاملة في حق المخلوق، لكن لتكميل نقصه، فإن الخالق لا يُوصَف بها؛ لأنها وإن كانت كاملة فهي في الواقع نقص، مثل الأكل والنوم والنكاح، وما أشبه هذا، هذه الصفات في حق المخلوق أيش؟ صفة كمال؛ لأن اللي لا يأكل معناه مريض، والذي لا ينام معناه مريض، والذي لا يتزوج معناه أنه مريض، فَفَوَات هذه الصفات نقص في المخلوق، لكنها لما كانت تكميلًا لنقصه صارت لا يوصَف بها الخالق، لحاجة الإنسان إلى الأكل صار يأكل، واللي ما يشتهي يموت، اللي ما يشتهي ولا يأكل آخره الموت.
وكذلك لما كان الإنسان يتعب ويحتاج إلى صفة تقطع هذا التعب، ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ ٩]، صار النوم في حقه كمالًا، وكذلك لما كان الإنسان محتاجًا إلى بقاء النسل والنوع صار النكاح في حقه كمالًا، وفي الحقيقة تكميل لنقص، لكن لا يُوصَف الله به عز وجل؛ لأن الله كامل من جميع الصفات.
* طالب: شيخ، سبق لنا أن الصفات توقيفية، ولو فتحنا هذا الباب كما قال شيخ الإسلام رحمه الله فربما الإنسان يقيس بعقله ويخطئ لأنه قد يظن هذا كمالًا وهو ليس صفة كمال، يعني توقيفية.
* الشيخ: بيَرِدُ علينا هذا الشيء، لكن نقول: كل صفة كمال من حيث العموم والجنس، أما أن نقول: كل صفة مثلًا تثبت للمخلوق نثبتها للخالق هذا ما يمكن ما يستقيم، أما من حيث الجنس كل صفة كمال في المخلوق فالله أولى بها.
* طالب: لكن ما لم يَرِد (...).
* الشيخ: هو مؤيد، ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾.
* الطالب: (...).
* الشيخ: مثل ما قلنا: المقصود الجنس، أما كل صفة مثلًا ما يمكن، خصوصًا ..
* الطالب: المثل الأعلى فيما ورد من الصفات، فيما ورد السمع ..
* الشيخ: لا، مطلقًا، حتى - مثلًا الأشياء التي قد لا قد تكون موجودة في النص وهي من صفات الله، يعني قصدي أنها من الكمال، والله تعالى متَّصِف بها.
* الطالب: وهل هي (...)؟
* الشيخ: ممكن الصفات الخبرية قد نقول: إن الصفات الخبرية أنها تمتنع أن يقاس الله بالخلق، ولا قياس الأولى، كالعين واليد، وما أشبهها، فهذه قد نقول: إنها ما يمكن أن نقيس قياس الأولى، فالأُذُن في المخلوق كمال، لكنها في الخالق ما تُثْبَت له؛ لأنها ما ورد بها الشرع.
* ويستفاد من الآية الكريمة: إثبات العزة؛ لقوله: ﴿الْعَزِيزُ﴾، وإثبات الحكمة ﴿الْحَكِيمُ﴾، وإثبات الْحُكْم أيضًا من قوله: ﴿الْحَكِيمُ﴾.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: قطع الاعتراض أو على الخلق والشرع، بمعنى أنك ما تعترض على خلق الله أو على شرعه، وإنما تُسَلِّم، كيف ذلك؟ لأنك إذا آمنت بالحكمة، أن الله تعالى حكيم، فحينئذ ينقطع الاعتراض نهائيًّا، ما تقول: لِمَ، ولا من أين، إلا على سبيل الاسترشاد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اطمئنان الإنسان التام لما قَدَّرَ الله تعالى وشَرَعَهُ، حيث إنه صادر عن الحكمة.
* * *
نبدأ الآيات الجديدة الآن، قال: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
قوله: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ﴾ أي: من الذي، ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، ﴿مَلَكَتْ﴾ هذه هي صلة الموصول، والعائد محذوف، والتقدير: مَلَكَتْهُ أيمانكم.
وقوله: ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ الأيمان جمع يمين، وهي اليد، وأضيف الملك إلى اليد؛ لأن غالب تصرفات الإنسان بيده، وأضيف إلى اليمين؛ لأنه أشرف من اليسار.
وقوله: ﴿مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ المراد: ما ملكت الأيمان من الإنسان، ولهذا قال المؤلف: (أي: مماليككم) أي: من مماليككم.
وقوله: ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ هذه هي المبتدأ، والخبر، وين الخبر؟
* طالب: ﴿لَكُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿لَكُمْ﴾ المقدَّم، ولكن المبتدأ دخلت عليه (مِن) لإفادة العموم، أو للتنصيص على العموم؛ لأن (مِن) الزائدة -كما تقدم لنا- تفيد التنصيص على العموم.
وقوله: ﴿هَلْ لَكُمْ﴾ ﴿مِنْ شُرَكَاءَ﴾ إذا قال قائل: كيف جاءت (مِن) زائدة وهي لم تُسْبَق بنفي؟
* طالب: سُبِقَت بشبهه.
* الشيخ: سُبِقَت بشبهه نعم.
هل لكم شركاء لكم (﴿فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من الأموال وغيره، ﴿فَأَنْتُمْ﴾ وهم ﴿فِيهِ سَوَاءٌ﴾ )، يقول المؤلف: (﴿مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من الأموال وغيره)، والجواب لا ولَّا نعم؟ الجواب: لا، ليس لنا مما ملكت أيماننا شركاء فيما رُزِقْنَا، فالمملوك لا يشاركك في مالك، ولا يشاركك أيضًا في ولدك، ولا يشاركك في أي شيء تملكه.
وقوله: (﴿فَأَنْتُمْ﴾ وهم ﴿فِيهِ سَوَاءٌ﴾ )، المؤلف أتى بكلمة (وهم)؛ لأن المساواة لا تكون إلا بين شيئين، فلهذا أتى بقوله: (وهم)، ولا حاجة إليها في الحقيقة، الكلام تامٌّ بدونها؛ إذ من الممكن أن نقول: ﴿فَأَنْتُمْ﴾ الضمير يعود على المالك والمملوك، فأنتم أيها المالكون والمملوكون فيه سواء، وحينئذ لا نحتاج إلى تقدير: وهم.
وقوله: ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾، هذا الذي تَسَلَّطَ عليه النفي، يعني: لستم فيه سواء.
(﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: أمثالكم من الأحرار)، ﴿تَخَافُونَهُمْ﴾ الضمير يعود على مَن؟ على (ما) ﴿مِنْ مَا﴾، باعتبار اللفظ ولَّا باعتبار المعنى؟ باعتبار المعنى؛ لأن (ما) لو عاد إليها الضمير باعتبار اللفظ لعاد إليها مفردًا، فلما عاد إليها جمعًا صار باعتبار المعنى.
وقوله: ﴿كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾، المؤلف رحمه الله جعل الأنفس بمعنى الجنس، يعني: كما تخافون من جنسكم، ولهذا قال: (أي: أمثالكم من الأحرار)، ويمكن أن يقال: إنه يعود على ذات الإنسان ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني: كما أنكم لكم التسلُّط على أموالكم فأنتم تخافون أن يتسلطوا على هذه الأموال كما تتسلط أنفسكم.
وقوله: ﴿كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ هذا مصدر مضاف إلى الفاعل، و(أنفس) هي المفعول، قال المؤلف رحمه الله: (والاستفهام بمعنى النفي، أي: ليس مماليككم شركاء لكم إلى آخره عندكم، فكيف تجعلون بعض مماليك الله شركاء له).
وهذا مثل واضح؛ لأنه إذا كان أنت اللي تملك لا يشاركك في مالك، وفيما هو من خصائصك فكيف تجعل لله تعالى شريكًا فيما هو من خصائصه؟ الكلام واضح جدًّا في إلزام هؤلاء بعدم الشرك، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ قال المؤلف: (نُبَيِّنُها مثل ذلك التفصيل ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يتدبرون).
﴿كَذَلِكَ﴾ الكاف اسم، بمعنى: مثل، فهو إذن مفعول مطلق، أين عامله؟ ﴿نُفَصِّلُ﴾ أي: مثل ذلك التفصيل والتبيين نُفَصِّل الآيات، ولكن مَن الذي ينتفع بها؟ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
فإذا قال قائل: إن الله تعالى فَصَّلَ الآيات للعاقلين وغير العاقلين، فلماذا خَصَّ ذلك بالعاقلين؟
الجواب: لأنهم المنتفعون بهذا التفصيل، مثلما وصف الله القرآن بأنه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ٢] ، وفي آية أخرى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [البقرة ١٨٥] عامة، فباعتبار الهداية المطلقة هو عامّ، وباعتبار الانتفاع هو خاص، والله أعلم.
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الروم ٢٩]، قوله تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ﴾ هذه للإضراب، والإضراب هنا انتقالي وليس إبطاليًّا، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا بَيَّنَ هذه الآيات الدالة على قدرته وعلى أنه إله واحد لا شريك له بضرب الْمَثَل الأخير، الْمَثَل الذي لا ينازع فيه إلا مُكَابِر، الْمَثَل الأخير ما هو؟ أنه كيف تجعلون لله شريكًا هو يملكه، الله يملكه، فهل لكم أنتم شركاء في أموالكم من مماليككم؟ الجواب: لا، إذن فإنه يدل على أن الله لا شريك له، بعد هذا بَيَّنَ عز وجل أن الذين خرجوا عن ذلك وأنكروا البعث وأنكروا الوحدانية أنهم ليسوا على حق، وإنما هم ظالمون، ولهذا قال: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾.
قوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قال المؤلف: (بالإشراك)، وهذا تخصيص في غير محله، والظاهر لي أن المؤلف خَصَّصَه مراعاة للمَثَل الذي قبله؛ لأن الْمَثَل الذي قبله واضح في أن الغرض منه إبطال الشرك، ولكن لو قيل: إنه يشمل هذا وغيره من الظلم، كإنكار البعث مثلًا، إنكار البعث لا شك أنه ظلم؛ لأنه يستلزم تكذيب الله عز وجل، كما ثبت في الحديث القدسي أن تكذيب الله «أن الله تعالى لن يعيده كما بدأه»[[أخرج البخاري (٤٩٧٤) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «قال الله: كذَّبَني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبُهُ إيايَ فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأمَّا شتمُهُ إيايَ فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ، لم أَلِدْ ولم أُولدْ، ولم يكن لي كُفْئًا أحدٌ». ]]، وقد سبق ذِكْرُه، فيكون المراد بالظلم هنا الإشراكَ وغيرَه مما ظلموا فيه أنفسهم.
وقوله: ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ جمع هوى، والهوى في الأصل الْمَيْل، ثم إنه لا يطلق في الغالب إلى على الهوى المذموم، فيقال: اتَّبَع هواه دون هُدَاه، وقد يأتي للهوى المحمود كما في الحديث وإن كان فيه ضعف، «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»[[أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (١٥) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. ]]، فهنا الهوى التابع لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أنه هوى محمود.
وقوله: ﴿أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يعني: أن هذا الاتباع ليس مبنيًّا على علم، بل هو مبني على الجهل والضلال فيمن كانوا جاهلين، وعلى الاستكبار والعناد فيمن كانوا معاندين، فالذين اتبعوا أهواءهم اتبعوها بغير علم؛ إذا كانوا جاهلين فالأمر ظاهر أنه لا علم لهم باتباع أهوائهم، لكن إذا كانوا معاندين فهل نقول: إنهم بغير علم؟
الجواب: نعم، نقول: إنهم بغير علم؛ لأن مَن استكبر وعاند الحق فإنه كالجاهل بما يستحقه الرب عز وجل، فهو في الحقيقة غير عالم، بل الجاهل خير منه.
فإذا قال قائل: كيف يصح نفي العلم مع وجوده؟ قلنا: كما يصح نفي السمع مع وجوده، ونفي البصر مع وجوده لمن لم ينتفع به، أليس الله يقول: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال ٢١]، وقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة ١٨]، أو ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة ١٧١]، المهم أن نفي العلم لِمَن لم ينتفع به صحيح كنفي السمع عمن لم ينتفع به.
والحاصل أن المتَّبِعين لأهوائهم ينقسمون إلى قسمين: قسم جاهل حقًّا بنَى هواه على الضلال، ويمكن أن نُمَثِّل لهؤلاء بمن؟ بالنصارى، فإن النصارى ضالُّون، وقسم آخر مُسْتَكْبِر معانِد، فهذا في الحقيقة لا علم عنده، وإن كان له علم فإنه لا ينفعه بل ضره، كاليهود.
قال الله عز وجل: ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾، ﴿فَمَنْ يَهْدِي﴾ (من) اسم استفهام، والمراد بالاستفهام هنا النفي، وقد سبق لنا قاعدة أن الاستفهام إذا جاء بمعنى النفي صار مُشْرَبًا بالتحدي؛ لأنك إذا قلت: مَن يفعل كذا، أعظم مما إذا قلت: لا أحد يفعله، كأنك تقول: هذا أمر لا يمكن، فإن كنت صادقًا فأَرِنِي مَن يفعله، فإذا جاء الاستفهام بمعنى النفي صار أبلغ من النفي المجرَّد؛ لأن الاستفهام بمعني النفي مُشْرَب معنى التحدي.
وقوله: ﴿مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾، ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، أين المفعول؟ المفعول محذوف، والتقدير: مَن أضلَّه الله، وهذا المفعول هو عائد الموصول، وعائد الموصول الذي يعود إليه.
﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ قال المؤلف: (أي: لا هادي له)، فَسَّر الاستفهام بالنفي، أي: لا هادي له، وهو حق، لكنه كما قلت: أبلغ من النفي المجرد.
ثم قال: (﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ مانعين من عذاب الله)، الظاهر أن الواو هنا للاستئناف؛ لأن الجملة خبرية، والتي قبلها إنشائية، ﴿مَنْ﴾ إنشائية، هل هو صحيح ولَّا لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: ليش؟
* الطالب: استفهام.
* الشيخ: استفهام، الاستفهام من قسم الإنشاء كما قرأنا في البلاغة، أو ما يُدْرَس في الليل لا يُعْطَى في النهار؟!
﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يعني أن هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم بغير علم مستحقون للعذاب، ولن يجدوا أحدًا ينصرهم منه، أي: من العذاب، أي: يمنعهم.
وقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، النفي هنا مؤكَّد بـ(مِن) الزائدة الداخلة على قوله: ﴿نَاصِرِينَ﴾، وأصل الكلام بدون هذه أن يقال: وما لهم ناصرون، أسأل الآن: هل (ما) هنا حجازية أو عربية؟
* طالب: عربية.
* الشيخ: عربية؟!
* طالب: حجازية.
* الشيخ: حجازية، ترى الحجازي معناه الذي يختص به الحجازيون، والعربي الذي للحجازيين والتميميين؟
* طلبة: عربية.
* الشيخ: عربية؟ نعم، لماذا؟ لاختلاف التركيب؛ لأن خبرها قُدِّم، ولا تكون حجازية إلا إذا كانت مُرَتَّبَة الاسم قبل الخبر، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾.
قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم ٣٠]، بعد أن تَوَعَّد هؤلاء المشركين بما توعَّدَهم به، وبَيَّنَ أنه لا أحد يهديهم إذا أضلَّهم الله عز وجل ..
مائلًا إليه وعمن سوى ذلك، أليس كذلك؟ ولهذا حُذِفَ المتعلق بالاسم؛ ليكون شاملًا للميل إلى الدين، والميل عن الدين.
وأصل الحنف: ميل الرِّجْل، الرجل المائلة تُسَمَّى حنفاء؛ فالحنيف معناه (المائل عن، إلى) أو لا؟ عن الشرك إلى التوحيد، وعن المعصية إلى الطاعة.
وقوله: (أي: أخلص دينك لله أنت ومن تبعك) (أخلص دينك لله) هذا تفسير معنوي لقوله: ﴿أَقِمْ وَجْهَكَ﴾، ولو جُعِلَ أعم من ذلك لكان أولى؛ لأن إقامة الوجه تشمل الإخلاص وتمام الإتباع؛ لأن إقامة الوجه نحو الشيء يستلزم متابعته وعدم المخالفة، فيكون شاملًا لإخلاص النية والاتباع اللذين هما أساس العمل، كل عمل لا ينبني على الإخلاص والمتابعة فهو باطل؛ لأنه إذا فَقَد الإخلاص صار شركًا، وإن فقد الاتباع صار بدعة، وقد قال النبي ﷺ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١)، ومسلم (١٩٠٧ / ١٥٥) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.]] وهذا للإخلاص، وقال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[[أخرجه مسلم (١٧١٨ / ١٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.]] وهذا للاتباع.
وقوله: (أنت ومن اتبعك) أتى المؤلف بقوله: (ومن اتبعك)؛ لأنه سيأتينا وصف مجموع وهو قوله: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ﴾ إلى آخره، ولا يمكن أن تكون الحال المجموعة للمفرد؛ لأن الحال وصف فكما لا يُخْبَر عن الواحد بالجمع، لا تُجْعل الحال جمع لواحد.
وما ذهب إليه المؤلف صحيح من وجهين: أولًا مراعاة اللفظ الآتي، والثاني أن الخطاب للرسول ﷺ خطاب له ولأمته؛ لأن زعيم القوم يُوَجِّه إليه الخطاب الموجه للجميع يقول مثلًا -الركن في الجيش- يقول للقائد: اذهب إلى الجبهة الفلانية، من يريد؟ القائد ومن معه، لا يريده وحده؛ فالخطاب لزعيم قوم خطاب للجميع.
فالله عز وجل يوجِّه خطابه للرسول ﷺ والمراد هو والأمة؛ الدليل على هذا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق ١]، الخطاب مفرد ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، وبعده ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ مو بوحده هو، بل كل الأمة، ويدلُّ لذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب ٢١] فنحن لنا فيه أسوة فنحن له تبع.
إذن وجه كون الخطاب لشخص الرسول ﷺ للأمة له وجهان:
الوجه الأول أن خطاب الزعيم خطاب له ولمن تبعه بدليل ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ [الطلاق ١].
الوجه الثاني أننا مأمورون باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فكل خطاب له يُؤمر به أو يُنهى عنه فإننا تبع له في ذلك.
والفرق بين الوجهين ظاهر؛ لأنه على الوجه الأول يكون تناول الخطاب لنا أصلًا مع الرسول ﷺ، وعلى الوجه الثاني يكون توجيه الخطاب لنا عن طريق التبعية.
قال: (﴿﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ ﴾ خلقته ﴿﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ ﴾ وهي دينه).
(﴿﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ ﴾ وهي دينه أي: الزموها).
قوله: ﴿فِطْرَتَ﴾ البحث فيها من وجهين؛ الوجه الأول من حيث الرسم، الرسم غير جارٍ على القواعد المعروفة، لا في الرسم العثماني ولا في الرسم الحاضر؛ وجه ذلك.. أيش وجه ذلك؟
* طالب: (...) تاء مربوطة.
* الشيخ: أن التاء مطلقة (فطرة) وهي مربوطة؛ لأنها مفرد والمفرد تكون التاء فيه مربوطة، وليس في القرآن فطرة مربوطة إلا هذه، هي مفتوحة ولَّا مطلقة؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: عجيب، مفتوحة؟! كأن الفتح ضد الكسر، إحنا نسميها مربوطة ومطلقة.
* طالب: الفتح ضد الغلق.
* الشيخ: طيب، ويش تسمونها؟
* الطالب: مربوطة.
* الشيخ: ويش ضد الربط؟
* الطالب: الإطلاق.
* الشيخ: الإطلاق، طيب على كل حال، هذا لأن خط القرآن يُتْبَع فيه الرسم العثماني، واستفاضًا في البحث؛ اختلف العلماء رحمهم الله هل يجوز للإنسان أن يكتب المصحف على غير الرسم العثماني أو لا يجوز؟
فمنهم من قال: إنه جائز؛ لأن الرسم العثماني هو عبارة عن شكل وصورة، ولو كان الرسم العثماني في ذلك العهد على غير هذا الوصف لكُتِبَ القرآن به أليس كذلك؟ إذن فخضوعه للرسم العثماني في ذلك الوقت ليس على سبيل أنه نزل على هذا الوجه، لكن على سبيل أن الرسم في ذلك الوقت كان على هذه الصورة، فهمتم؟
ولا شك أنه لو كان على الصورة الموجودة حاليًّا لا شك أنه سيُكْتب عليها ولَّا لا؟ مثلًا (الصلاة) الصورة الحالية بعد الصاد لام ألف؛ يعني القاعدة الحاضرة الآن لام ألف، لكن على الرسم العثماني لام واو.
* طالب: الصلاة.
* الشيخ: لا، الصلاة (...) (الزكاة) مثلها، (الربا) بالواو مع أنها على الرسم الموجود بالألف، فالحاصل أنَّا نقول: إن بعض العلماء يقول: إنه يجوز أن يُكْتَب القرآن على القواعد المعروفة حاليًّا؛ تعليلهم لأن هذا الرسم شكل صادف أنه في ذلك الوقت على هذا النحو فكتبوه، وليس القرآن نازلًا مكتوبًا بهذا، لو كان نازلًا مكتوبًا بهذا لقلنا: ربما لا يجوز، لكن هذا اصطلاح، وإذا كان اصطلاحًا فكل ما يَتَأَدَّى به الغرض فإنه يجوز.
ومنهم من يقول: إنه لا يجوز مطلقًا أن يُخالَف الرسم العثماني وأنه يجب أن يبقى الرسم حتى لو رسمته للصبيان على السبورة يجب أن يكون بالرسم العثماني احترامًا للقرآن.
ومنهم من فَصَّل: وقال: إن المُبْتَدِئ يجوز أن نرسمه له بحسب القواعد المعروفة عنده، وغيره لا يجوز قالوا: لأن المُبْتَدِئ يحتاج إلى تعليم؛ لو أنك كتبته بالرسم العثماني للمبتدئ وقلت: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ [البقرة ٢٧٦] ماذا يقرؤها؟ يمحق الله الربو أليس كذلك؟ (الزكاة) يقول: الزكوت، (الصلاة) الصلوت، وما أشبه ذلك بخلاف الإنسان العالم فإنه يكتبه بالرسم العثماني.
وهذه الأقوال أيًّا كان صحيحًا فإن ما يفعله بعض الناس اليوم من جعلهم يكتبون القرآن على صورة النقوش يجعلونها في براويز أيهم أحسن نقشًا فإن هذا محرم على كل الأقوال؛ لأنه أصبح الآن إذا عملنا هذا العمل كأننا جعلنا القرآن وشيًا وتطريزًا فتضيع قيمته، وأقبح من ذلك أن يُجْعَل على صورة إنسان، فقد شاهدت في تقويم (...) صورة إنسان بآية من القرآن، حاطين رأسًا ورجلين كأنه جالس مفترش -أعوذ بالله- مضادة ظاهرة ومحادة لله ورسوله، الصورة محرمة كيف عاد تكتب بها القرآن؟! كذلك كتابة القرآن.
والحاصل أن الناس -نسأل الله لنا ولهم الهداية- صاروا يبالغون في أشياء تضرهم ما تنفعهم بالنسبة للقرآن الكريم.
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم صحيح، لكن الذين يقولون بالجواز يقولون: نحن نبغي نكتبها على قراءة واحدة، والقراءات الآن ضُبِطَت (...).
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ما سمعت، لا، الخلاف في هذا مشهور، ما فيه (...).
والبحث الثاني في قوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ ما الذي نصبها؟ ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ الذي نصبها فعل محذوف قدره المؤلف بقوله: الزموا فطرة الله، ومثل هذا يقولون: إنه منصوب على الإغراء، فهو إذن أبلغ من ذِكْر العامل الذي هو الْزَم، حذفه أبلغ؛ لأنه إذا وُجِدَ العامل تقيدت الجملة به، لكن إذا حُذِفَ العامل صارت الجملة صالحة له ولسواه مما يمكن أن يتسلط على المعمول، الزموها، اعتنوا بها، تمسكوا بها، وما أشبه ذلك؛ فلهذا يقولون: إنه منصوب على الإغراء، وهو المبالغة في الحث.
ثالثًا ﴿فِطْرَتَ﴾ كلمة (فطرة) منين مشتق؟ من (فطر الشيء)، فطر الشيء أي: ابتدعه على غير مثال سابق؛ كما في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر ١]؛ أي: مبدعهما على غير مثال سابق.
هذه الفطرة أبدعها الله عز وجل في الإنسان أو في الناس كما في لفظ الآية على غير مثال سابق؛ ولهذا قال: (﴿﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ ﴾ خِلْقَته ﴿﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ ﴾ وهي دينه).
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، البدع والفطر معناهما واحد؛ قال: وهي دينه أو الزموها.
﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ وهذه الآية شاهد للحديث الصحيح: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري واللفظ له (١٣٨٥)، ومسلم (٢٦٥٨ / ٢٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] لو أن المخلوق تُرِكَ وفِطْرَتَه ما عَبَد إلا الله؛ ولهذا البهائم العُجْم التي ليس لها مَا يغريها أو (...) هل يمكن أن تعبد اللات والعزى والشمس والقمر؟
الجواب: لا ولَّا نعم؟ لا؛ لأن الله يقول: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء ٤٤]، فأصل الخلق مفطور على تسبيح الرب عز وجل الخالق، لكن مَنْ أُعطوا العقول هم الذين ربما ينحرفون؛ لأن لهم إرادات واتجاهات بخلاف مَنْ ليس له إلا العقل المعيشي فإنه لا ينطلق عن هذه الفطرة؛ ولهذا البهائم العجم -كما قلت- تعرف خالقها وفاطرها ولا تسبح إلا الله.
وقوله: ﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ قال: (﴿﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ﴾ لدينه؛ أي: لا تبدلوه بأن تشركوا).
* الطالب: تعريف الفطرة ويش معناه؟
* الشيخ: هو اللي ذكرنا قبل قليل، الفطرة معناه وجود الشيء أو إيجاد الشيء على غير مثال سبق، والمراد بالفطرة هنا توحيد الله ودين الله.
* الطالب: هل نقول: قوة في النفس (...) الخالق (...)؟
* الشيخ: لا، ما حاجة، (دين الله) أوضح مثلما قال المؤلف رحمه الله.
وقوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ﴿لَا تَبْدِيلَ﴾ كلنا يعرف أنه نفي؛ لأن (لا) نافية للجنس، فهل هو باقٍ على كونه نفيًا لفظًا ومعنًى، أو أنه نفي لفظًا خبر معنى؟
المؤلف مشى على الأخير، وأنه نفيٌ بمعنى النهي؛ أي: لا تبدلوا هذه الفطرة بالإشراك، والنفي يأتي بمعنى النهي كثيرًا مثل؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، عليه الكثير.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، هذا نهي، قال الله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة ١، ٢]؛ فإنه فيها تفسيرينِ على ما تقدم؛ أحدهما أنها بمعنى النهى أي: ليس فيه ريب ولا شك، والثاني بمعنى النهي لا ترتابوا فيه، ومثل قوله: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ [الحج ٧]، هذه ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أي: لا تبدلوا خلق الله بالإشراك، بل أقيموا وجوهكم حنفاء، ويجوز أن يكون نفيًا على ظاهره، وأنه لا أحد يُبَدِّل خلق الله كما في قوله تعالى: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام ١١٥]، ويكون المعنى أن الأمر بيد الله عز وجل؛ فمَن شاء هداه بقى على فطرته، ومن شاء أن يُضِلَّه أضله، فلا أحد يستطيع أن يبدل خلق الله، وإنما الذي بيده الأمر هو الله؛ وعلى هذا فيكون في الآية وجهان:
الوجه الأول أنها خبر بمعنى النهي.
والثاني أنه خبر على بابه، وعلى الأول الأمر ظاهر، أي المعنى ظاهر أنكم لا تبدِّلوا فيكون (...) معنى على الإشراك، وعلى الثاني يكون وجهه أن هذه الفطرة التي فطر الله عليها الخلقَ لا أحدَ يستطيع أن يبدلها، بل الذي يبدلها هو الله، فمن أراد الله هدايته لم يضله أحد، ومن أراد الله إضلاله لم يهده أحد، لا سيما وأنه قال قبل هذا: ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [الروم ٢٩].
طيب، من جملة أخبار التبديل ما ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: «فَأَبَواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، وذِكْر الأبوين ليس على سبيل الحصر، وإنما هو على سبيل التنظير والتمثيل؛ يعني أن من يتصل بهذا الإنسان يجعله يهوديًّا أو نصرانيًّا، وكم من إنسان تَنَصَّر لا عن طريق الأبوين ولكن عن طريق الجلساء والرفقاء، ومن ثَمَّ حذر النبي عليه الصلاة والسلام من جليس السوء ورغب في الجليس الصلاح، وقال: «إِنَّ مَثَلَ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ؛ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ أَوْ يَبَيعَكَ أَوْ تَجِدَ مِنْهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً، وَجَلِيسِ السُّوءِ كَنَافِخِ الْكِيرِ؛ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَّ مِنْهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً»[[أخرج البخاري (٥٥٣٤) ومسلم واللفظ له (٢٦٢٨ / ١٤٦) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة».]].
* طالب: نافخ الكير (...).
* الشيخ: لا، معناه ما كان لمؤمن، هذه بمعنى أنه ممتنع غاية الامتناع؛ لأن (ما كان) و(ما ينبغي) وما أشبه ذلك في القرآن تأتي بمعنى ممتنع غاية الامتناع.
* طالب: (...).
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ [التوبة ١١٥].
* الطالب: (...) الأخير ما (...) تقال: جبرية.
* الشيخ: لا، الرسول ﷺ يقول في خطبته. ويش يقول؟ «مَنْ يُهْدِ اللَّهَ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ»[[أخرجه أبو داود (٢١١٨) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.]].
* الطالب: (...) ما أحد يستطيع أبدًا، يعني: إن شاء الله هداه (...).
* الشيخ: نعم، ما فيه شك، ما أحد يستطيع هداية الإنسان أبدًا أو انحراف إنسان إلا بإذن الله، هذا النبي عليه الصلاة والسلام حَرِصَ غاية الحرص وبذل ما يستطيع من جهد في هداية عمه أبي طالب، ولكن ما تمكن ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص ٥٦]، وليس معنى ذلك أننا إذا قلنا: إن الأمر بيد الله عز وجل وأنه هو الذي يضلُّ ويهدي ليس معنى ذلك ألا نفعل الأسباب، كما أن الأمر بيد الله في إيجاد الأشياء، إيجاد الرزق، إيجاد الولد، دفع الضرر، هل نحن نفعل الأسباب أو نبقى حائرين؟ نفعل الأسباب.
نحن نقول: الهداية بيد الله والإضلال بيد الله، لكن لكل منها سبب.
* طالب: وهو أولى اللي مشى عليه المؤلف؟
* الشيخ: ما قاله المؤلف له وجه؛ لورود ذلك في اللغة العربية، والوجه الثاني هو الأصل؛ لأن اللي عندي النفي، فمن صرفه عن ظاهره يحتاج إلى دليل.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":24,"ayahs":["وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَیُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَیُحۡیِۦ بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ","وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاۤءُ وَٱلۡأَرۡضُ بِأَمۡرِهِۦۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمۡ دَعۡوَةࣰ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ إِذَاۤ أَنتُمۡ تَخۡرُجُونَ","وَلَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلࣱّ لَّهُۥ قَـٰنِتُونَ","وَهُوَ ٱلَّذِی یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَیۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","ضَرَبَ لَكُم مَّثَلࣰا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن شُرَكَاۤءَ فِی مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِیهِ سَوَاۤءࣱ تَخَافُونَهُمۡ كَخِیفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ","بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُم بِغَیۡرِ عِلۡمࣲۖ فَمَن یَهۡدِی مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ","فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ","۞ مُنِیبِینَ إِلَیۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","مِنَ ٱلَّذِینَ فَرَّقُوا۟ دِینَهُمۡ وَكَانُوا۟ شِیَعࣰاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَیۡهِمۡ فَرِحُونَ","وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرࣱّ دَعَوۡا۟ رَبَّهُم مُّنِیبِینَ إِلَیۡهِ ثُمَّ إِذَاۤ أَذَاقَهُم مِّنۡهُ رَحۡمَةً إِذَا فَرِیقࣱ مِّنۡهُم بِرَبِّهِمۡ یُشۡرِكُونَ"],"ayah":"وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرࣱّ دَعَوۡا۟ رَبَّهُم مُّنِیبِینَ إِلَیۡهِ ثُمَّ إِذَاۤ أَذَاقَهُم مِّنۡهُ رَحۡمَةً إِذَا فَرِیقࣱ مِّنۡهُم بِرَبِّهِمۡ یُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق