الباحث القرآني
(﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ من التبليغ، ﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ من طاعته، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُول إلَّا الْبَلَاغ الْمُبِين﴾ أي: التبليغ البين).
يقول الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام آمرًا له أن يقول للناس: ﴿أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾، وقد سبق أن الطاعة: موافقة الأمر بفعل الأوامر واجتناب النواهي، هذه الطاعة.
وقوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾ إعادة العامل يدل على أن طاعة الرسول ﷺ طاعة مستقلة، وأن ما جاء به فكما جاء به عن الله؛ ولهذا قال العلماء: إن ما وجب بسنة رسول الله ﷺ كالذي وجب بالقرآن من أمر أو نهي، وهذا واضح؛ لأنه جعل طاعة النبي ﷺ طاعة مستقلة؛ حيث قال: ﴿أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾.
وقوله: ﴿الرَّسُول﴾ (أل) للعهد، وهو عهد ذهني؛ يعني: الرسول المعهود بينكم، وهو محمد ﷺ، وهذه ليست كقوله تعالى: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل ١٦]؛ لأن قوله: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ عهد ذكري، ﴿أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل ١٥، ١٦]، أما هذه فهي للعهد الذهني؛ أي: الرسول المعهود بينكم الذي تعرفونه.
(﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن طاعته، بحذف إحدى التاءين خطاب لهم) ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يقول المؤلف: معنى ﴿تَوَلَّوْا﴾ تعرضوا، هذا معنى التولي: الإعراض، لكن من حيث اللفظ أصلها: تَتَولوا، فإن (تتولوا) خطاب للناس؛ وإن تتولوا أيها الناس فإنما عليه ما حمل، إلى آخره، لكن حذفت منها إحدى التاءين.
وقد اختلف النحويون هل المحذوف تاء المضارعة أو المحذوف تاء الفعل؟
منهم من قال: تاء الفعل؛ لأن تاء المضارعة جيء بها لمعنى، فلا ينبغي حذفها، ومنهم من قال: تاء المضارعة؛ لأن تاء الفعل أصلية، وأما تاء المضارعة فهي زائدة، فهي أولى بالحذف من الحرف الأصلي.
وعلى كل حال، فالخلاف في هذا لفظي لا يترتب عليه أمر معنوي، لكن المراد: تتولوا.
نظير ذلك في حذف إحدى التاءين قوله تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ [الليل ١٤] (تلظى) بمعنى (تتلظى)، وليست (تلظى) فعلًا ماضيًا، وإلا لقال: تلظت، لكنها فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ ﴿عَلَيْهِ﴾ أي: على الرسول ﷺ، ﴿مَا حُمِّلَ﴾ من التبليغ والبيان والدعوة، فإنه عليه الصلاة والسلام بلَّغ بلاغًا مبينًا، ودعا الناس أيضًا ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف ١٠٨].
فالواجب على النبي ﷺ أمران، والمؤلف اقتصر على أحد منهم، الواجب عليه التبليغ والدعوة، وقد بلغ ودعا عليه الصلاة والسلام؛ بلَّغ الناس ودعاهم إلى الله، وقام بما يجب عليه.
﴿وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ ويش اللي حملنا؟ حملنا طاعته واتباعه، وعلى هذا فإن أخلَّ هو بما عليه صار مستحقًّا لما يترتب على ذلك، وإن أخللتم أنتم بما يجب عليكم صرتم مستحقين لجزاء ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام بلَّغ البلاغ المبين، فقام بما حُمِّل، لكن الذين أعرضوا لم يقوموا بما حُمِّلوا، وفي هذا دليل على أن الرسول ﷺ ليس ملزمًا بهدايتهم.
وهذا كثير في القرآن؛ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية ٢٢]، ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس ٩٩]، ﴿إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد ٤٠]، فهو ليس ملزمًا، بل إن الله نهاه أن يكون في صدره حرج وضيق وحزن ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل ١٢٧]، وقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ٣] يعني: مُهْلِك نفسَك لعدم إيمانهم.
وهكذا أيضًا من ورث النبي ﷺ -وهم العلماء- إنما عليهم البلاغ والدعوة، أما هداية الخلق فهي إلى خالقهم تبارك وتعالى، وليس عليك هداهم.
قال الله تعالى مرغبًا في طاعته: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ تطيعوا الرسول ﷺ تهتدوا، وفي هذا إشارة إلى ما سبق من أن ما جاءت به السنة فهو حكم مستقل يجب أن يُطاع ويُتَّبع، كما جاء في القرآن؛ ولهذا قال: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾، والهداية مطلوبة، فإذا أمر النبي ﷺ بأمر فلا يجوز لنا أن نقول هذا: لهذا أصل في القرآن أو لا؟ إن كان له أصل قبلناه، وإن لم يكن له أصل لم نقبله؛ لأن هذا حرام، وهو كفر بالقرآن نفسه؛ لأن الله يقول: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، ثم قال ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ فدلَّ هذا على أن كل ما جاء به فهو حق وهداية، وليس فيه باطل وضلالة.
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ هذا الحصر حقيقي ولَّا إضافي؛ الحصر هنا ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾؟
* طالب: حقيقي.
* الشيخ: حقيقي، كيف حقيقي وهو يجب عليه أن يصلي وأن يزكي وأن يصوم؟
* الطالب: حصر إضافي.
* الشيخ: الحصر إضافي، كذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: حقيقي، إذا قيل: حصر حقيقي، معناه: أن ما سواه منتفٍ، فهل يمكن أن نقول هنا: إن الرسول ﷺ ما عليه إلا أن يبلغ الناس، وأما أن يفعل الطاعات هو بنفسه فليس عليه منها شيء؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا يمكن، إذا ما فيه قيد.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، يعتبر أن هذا الحصر إضافي؛ يعني: بالنسبة لما يجب عليه نحوكم، ولو قال: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ و﴿إِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ﴾ بالنسبة إليكم ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾، أما أن يهديكم ويلزمكم على الحق فهذا ليس عليه، كما قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة ٢٧٢]، فيفيد هذا الحصر بالنسبة لما يجب عليه نحو أمته، فإنه لا يجب عليه إلا البلاغ المبين.
* طالب: حصر حقيقي بالنسبة (...).
* الشيخ: إي، بالنسبة لما يجب عليه لا بالنسبة للعموم، لكن الحصر الحقيقي هو الذي يكون بالنسبة للعموم، لا (...) سوى هذا، ومعنى قوله: إضافي، أنه بالإضافة إلى سبب كذا، لو قلت مثلًا: لا جواد إلا فلان، هذا حصر أنه لا يوجد جواد سواه، مع أن الأجواد سواه كثيرون، لكن لا جواد إلا فلان؛ يعني: بالنسبة إلى قبيلته مثلًا، أو بالإضافة إلى بلده، أو ما أشبه ذلك.
فإذن الحصر يكون إضافيًّا، ما هو حقيقي من حيث المعنى، لكنه بالإضافة إلى كذا، فإذا كان الحصر بمعنى بالإضافة إلى كذا فهو إضافي، وإذا صار الحصر بالإضافة إلى الكل فهو؟
* طلبة: حقيقي.
* الشيخ: حقيقي.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي نعم، حقيقي وإضافي.
يقول: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ البلاغ بمعنى: التبليغ، وأصل البلاغ: الوصول إلى غاية، يقال: بلغ كذا؛ بمعنى: وصل، فالمبلِّغ موصل إلى غاية، وهي الهداية التي أراد الله سبحانه وتعالى من عباده أن يكونوا عليها.
وقول المؤلف: (المبين بمعنى البين) فيه نظر؛ لأنه سبق أن المبين تصح بمعنى: البيِّن، وتصح بمعنى: المبين لغيره؛ يعني: الموضِّح لغيره، وهذا على حسب السياق، فهنا البلاغ بمعنى البيِّن، أو بمعنى المبين لِمَا بلغ، بمعنى المبين؛ يعني: الذي أظهر وأوضح ما دعا إليه وبلَّغه، فهنا (المبين) بمعنى: المظهِر، وليست بمعنى البيِّن كما قال، وأيهما أبلغ؛ المبين بمعنى المظهِر ولَّا المبين بمعنى البيِّن؟
* طالب: بمعنى المظهِر.
* الشيخ: بمعنى المظهِر؛ لأن المبين بمعنى: المظهِر؛ بيِّنٌ بنفسه، مبينٌ لغيره، والبيِّن فقط: بيِّنٌ بنفسه، قد يُبِين غيره وقد لا يُبِين، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
(﴿وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض﴾ بدلًا عن الكفار، ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ بالبناء للفاعل والمفعول، ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ﴾ من بني إسرائيل بدلًا عن الجبابرة، ﴿وَلَيُمَكِّنَن لَهُمْ دِينهمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ وهو الإسلام؛ بأن يظهره على جميع الأديان ويوسع لهم في البلاد فيملكوها، ﴿وَلَيُبَدِّلَنهُمْ﴾ بالتخفيف والتشديد، ﴿مِنْ بَعْد خَوْفهمْ﴾ من الكفار، ﴿أَمْنًا﴾ وقد أنجز الله ما وعدهم).
﴿وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات﴾ الوعد معناه: أن يُنَوِّل شخصًا بما يسره، وأما الوعيد فأن يحذِّره مما يكره، ففرق بين الوعد والوعيد؛ الوعد لما يرجى من المحبوب، والوعيد لما يخشى من المرهوب، وقد قال الشاعر:
؎وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُـــــــــــــــــــهُ أَوْوَعَدْتُــــــــــــــهُ ∗∗∗ لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
﴿وَعَدَ اللَّه﴾ أي: أنه سبحانه وتعالى التزم لهم بما يحبون، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا﴾ أي: جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، والإيمان وحده لا يكفي، والعمل وحده لا يكفي، ولا يكون صالحًا إلا بالإيمان، ولو كان ظاهره صورة الصلاح إذا لم يكن مبنيًّا على إيمان فإنه ليس بصالح، فإنه يدور بين الأمرين؛ الإيمان والعمل الصالح لهما هذا الوعد.
﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ هذا وعد، ومعنى ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ أي: يجعلهم خلفاء لغيرهم؛ يخلفون غيرهم في الأرض، وكلمة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ المراد بها الجنس، ما هي أرض واحدة معينة، بل أرض عامة، حقيقةً كل الأرض، في الأرض كلها؛ وذلك لأن الأرض أرض الله ﴿يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف ١٢٨].
وقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ معروف الذي يشاء أن يورثهم، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء ١٠٥]، وعلى هذا فمثلًا أرض العرب ليست للعرب، وأرض الفرس ليست للفرس، وأرض الروم ليست للروم، الأرض لمن؟
* الطلبة: لله.
* الشيخ: للهِ يورثها من يشاء، وهم العباد الصالحون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فمن كفر بالله وعتا عن طاعته فلا حق له في الأرض، الحق لغيره، يورثها الله تعالى من يشاء من العباد الصالحين.
وعلى هذا، فإذا قال بنو إسرائيل: أرض الشام لنا؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام قال: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة ٢١]، فالله كاتبه هنا، إذا قال بنو إسرائيل هكذا نقول: نعم، إن موسى قال هكذا؛ لأنكم في ذلك الوقت أنتم أهل الصلاح وأنتم عباد الله الصالحون، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، فهي لكم في ذلك الوقت لا شك، لكن لما جاء الإسلام وكفرتم به صرتم لستم أهلًا لها، وصار أهلها من؟
* طلبة: الصالحون.
* الشيخ: الصالحون، وهم المؤمنون بمحمد ﷺ المتبِعون له.
فإذن المسلمون لما أخرجوا قبل ذلك أيضًا احتلها من بعد اليهود من؟ النصارى الروم؛ لأنهم كانوا هم الصالحين بعد اليهود، ثم احتلها من بعد الروم من؟ احتلها المسلمون؛ لأنهم هم عباد الله الصالحون، فكانت الأرض؛ أرض الشام كانت كتبت لمن؟ للصالحين؛ ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، ورثها بنو إسرائيل من الجبارين؛ لأنهم هم على الحق -يعني: اليهود أعني- ثم ورثها النصارى من اليهود؛ لأنهم أهل الحق، ثم ورثها المسلمون من النصارى؛ لأنهم أهل الحق.
وعلى هذا، فاليهود الآن لا حقَّ لهم في فلسطين ولا غيرها من أرض الله، ما لهم حق في الأرض أبدًا، لا هم ولا أي كافر؛ لأن الأرض إنما يستحقها من؟ عباد الله الصالحون.
لكن إن صلح المسلمون ورجعوا إلى دينهم الحقيقي الذي يورثهم الله بها أرضه، فإننا نجزم جزمًا بأنهم سوف يسترجعون الأرض، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور ٥٥]، فنحن نجزم بأن المسلمين الآن لو رجعوا حقيقةً إلى دين الله بالإيمان والعمل الصالح، فسوف يطردون اليهود من الأرض، لا بل سوف يطردون الأمريكان من أماكنهم، والروس من أماكنهم، نجزم بهذا جزمًا ولَّا لا؟
أما ما داموا على هذا الوضع -المسلمون- فإنه حسب القواعد الشرعية والنصوص لا يستحقون النصر؛ لأنهم ما قاموا بجهاد أنفسهم، فضلًا عن أن يقوموا بجهاد غيرهم؛ ليدخلوه في الإسلام، نقول: الآن أقيموا الإسلام فيما بينكم، أقيموا دين الله فيما بينكم، ثم بعد ذلك سوف ينصر الله دينه إذا قمتم به؛ لأنه ما ينصر فلانًا؛ لأنه فلان، أو ينصر هؤلاء الطائفة؛ لأنهم عرب، أو ينصر هؤلاء الطائفة؛ لأنهم (...)، ينصر من قام بهذا الدين، صلاح الدين الأيوبي أصله عربي ولَّا غير عربي؟
* الطلبة: غير عربي.
* الشيخ: غير عربي، ومع ذلك نصره الله على النصارى؛ لأنه قام بدين الله، فالدين نفسه هو اللي بينصر، هو الذي (...) عن نفسه (...) فهو سلاح وإن لم يحمل، ما تقول: الإسلام سلاح يستطيع أن يحكم بالنصر بما في يده من سلاح أبدًا، يبقى إذا (...) سلاح في الإسلام بيد الإنسان، يبقى لنا السلاح المادي؛ أي: بما أقوى مادة.
ومعلوم أن المسلمين أضعف الأمم مادة في الوقت الحاضر؛ لأنهم أمم متفرقة ومتناثرة، والعداوات بينهم كثيرة، والبغضاء بينهم كثير؛ هذا يدعو إلى كذا، وهذا يدعو إلى كذا، وهذا له مذهب خاص، كلهم متفرقون، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام ١٥٩]، وهذا الأمر منطبق تمامًا على المسلمين في الوقت الحاضر، فلا اجتماع على الإسلام، ولا دينَ قيم مقام في المسلمين، قد يوجد فيه شرذمة قليلة إلا أنها لا تمثل المسلمين، يوجد فيها شيء من الصلاح من الإيمان والعمل الصالح، لكن على ضعف أيضًا.
فالحاصل: أن هذا الوعد الذي وعده الله حق، لكن لمن؟ للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهؤلاء هم عباد الله الصالحون الذين قال الله فيهم: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء ١٠٥].
فإذا قال الذين يجاهدون اليهود الآن: نحن سنطرد اليهود، ونقيم على هذه البلاد المقدسة التي احتلوها (...)، نقيم عليها دولة إسلامية تقود الناس بدين الله؛ بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ثم مثلوا ذلك بأنفسهم قبل أن يفتحوا هذه البلاد، حينئذٍ نتيقن لهم بالنصر، وفيما عدا ذلك فالنصر غير مضمون، بل قد يكون بالعكس؛ الهزيمة هي المضمونة؛ لأن من قام بشيء وجاهد به وهو على خلافه فإن ذلك نوع من خداع الله عز وجل، ومن يخادع الله يخدعه.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ قيل: الأرض المراد بها؟
* طلبة: الجنس.
* الشيخ: الجنس؛ يعني: ما هي أرض معينة، كأرض مثلًا مكة يتخذ الله فيها المهاجرين بدلًا عن المشركين، كل الأرض.
﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قوله: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ هذا في الحقيقة مثل قوله: ﴿بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة ٢٦٠] يعني: ذُكِر من باب التوكيد وطمأنينة الموعود بما وُعِدَ به؛ يعني: كأنه قال: انظروا إلى هذا الوعد الذي وعدكم الله فقد تحقق فيمن قبلكم.
﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ مثل من؟ (...) من بني إسرائيل بدلًا عن الجبابرة، صحيح، ومن بني إسرائيل أيضًا بدلًا عن الفراعنة، فإن الله تعالى يقول: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء ٥٩]، يقول أيضًا: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾ وهم بنو إسرائيل في ذلك الوقت، ﴿مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف ١٣٧]، وقال تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ يعني: فرعون، ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الدخان ٢٥، ٢٦]، هذا الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم الذي هو في الدنيا تركوه لمن؟ لبني إسرائيل، أورثهم الله تعالى.
كذلك المسلمون، قال الله تعالى في اليهود الذين قضي عليهم بالقضاء على بني قريظة، وبالتالي (...) فتح خيبر، قال الله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ [الأحزاب ٢٧] يعني: ما عمركم وطأتم عليها، أبدًا، أورثكم الله إياها، وهذا وعد حق.
وقد علمتم أنتم في التاريخ أن المسلمين حينما كانوا يمثلون الإسلام حقيقةً ملكوا مشارق الأرض ومغاربها، ودانت لهم الأمم إدانة تامة، وفي الحقيقة أنهم فتحوا تلك البلدان قبل كل شيء بالدين والأخلاق، فإن من سَبَرَ أحوال المسلمين دخلوا في الإسلام بدون أي قتال، ولكن مع ذلك استعانوا بالسلاح؛ لئلا يقف أحد في وجه دعوتهم، فالسلاح بالحقيقة.. استعمال السلاح في الإسلام ما هو إلا مدافعة عن الإسلام فقط، لا إرغامًا للناس أن يدخلوا بالسيف؛ لأن الله يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة ٢٥٦]، ويقول: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال ٣٩] يعني: صد عن سبيل الله وقيام ضد الدعوة الإسلامية، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾، فدين الله ظاهر، وهو الغالب.
فعلى كل حال نقول: إن من سَبَرَ أحوال التاريخ فيما قبل هذه الأمة وفي هذه الأمة عرف تحقيق هذا الوعد، وأنه وعد تحقق (...)، وأنه إنما يتخلف بما يتخلف بسبب النقص؛ إما في الإيمان (...).
فتخلف النصر في أحد لأي شيء؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: نعم، لترك العمل الصالح وهو الامتثال؛ حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا تَبْرَحُوا عَنْ مَكَانِكُمْ، سَوَاءٌ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ أَمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا»[[أخرجه البخاري (٣٠٣٩) من حديث البراء بن عازب.]]، ولكنهم برحوا وتخلف النصر في غزوة حنين؛ لنقص الإيمان، وهو الاعتماد على الله عز وجل، بل اعتمدوا على قوتهم وكثرتهم، وقالوا: «لن نغلب اليوم من قلة»[[أخرجه أبو داود (٢٦١١)، والترمذي (١٥٥٥)، وابن ماجه (٢٨٢٧) من حديث أنس بن مالك.]]، فغلبوا من قلة.
هذا دليل على أنه متى تخلف أحد الوصفين؛ الإيمان أو العمل الصالح فإنه يتخلف من هذا الوعد بقدر ما تخلف من ذين الوصفين.
قال: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، والأمر الثاني: مما وعد الله به المؤمنين ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾، وهذا هو قرة أعينهم؛ قرة أعين المؤمنين أن الله يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويكون الإسلام هو المتمكن، وهو الظاهر، وهو الغالب، هذه قرة عين المؤمنين، وهي إن لم تكن مثل الأولى فهي أولى منها بالنسبة للمؤمن حقًّا الذي يريد الإيمان والإسلام.
لو سئل: ماذا تتمنى؟ ما قال: أتمنى أن يكون لي سيارة فخمة وقصر مشيد، وما أشبه ذلك، قال: أتمنى أن أجد الإسلام هو العالي وهو المتمكن في الأرض، هذه أمنيته، فهذه أمنية عُلْيَا لكل مؤمن.
وفي قوله: ﴿دِينَهُمُ﴾ بالإضافة إليهم فيها نوع من التخصيص ونوع من الفخر والإعجاب، الدين الذي اختاروه لأنفسهم وصار خاصًّا بهم.
ثم في قوله: ﴿الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ نقول: فيها أيضًا ميزة أخرى بأن هذا الدين الذي اختاروه هو الدين الذي ارتضاه الله لهم أيضًا، فصار هذا الدين فيه ميزة وغبطة للمؤمنين من ناحيتين:
أولًا: أنه هو الذي سلكوه واختاروه لأنفسهم.
والشيء الثاني: أن الله ارتضاه لهم أيضًا ليدينوا لله به، فيكون فيه مزيتان؛ مزية من جهة السالك، ومزية من جهة الشارع؛ السالك هم ﴿دِينَهُمُ﴾، والشارع ﴿الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾، فهم رضوا هذا الدين وربُّهم رضيه لهم، فكان هذا الدين الذي ارتضوه لأنفسهم ورضيه الله لهم أعز شيء عليهم أن يُمكِّن الله لهم هذا الدين.
وهذا نتيجة ثانية للإيمان والعمل الصالح؛ الأول: الاستخلاف في الأرض، والثاني: أن يُمكِّن الله لهم الدين ويثبتهم ويقويهم ويجعله الأعلى على غيره.
الفائدة الثالثة: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ نقول: فيها قراءتان؛ التخفيف ﴿لَيُبْدِلَنَّهُمْ﴾ ، والتشديد ﴿يُبَدِّلَنَّهُمْ﴾، وهما بمعنى واحد، أو مع اختلاف يسير.
﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ﴾ يعني: الإتيان بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ ما قال: بخوفهم أمنًا؛ لتحقق الخوف الأول، ثم يأتي من بعده الأمن وظهور نعمة الأمن، وفائدته بعد الخوف أبلغ من ظهور أمنٍ على أمنٍ، أو لَّا؟ لأنه ما تعرف قيمة الأشياء إلا بضدها، فإذا قُدِّر أن هذا الإنسان في خوف، ثم أُبدل بعد الخوف أمنًا ظهر لهذا الأمن؛ يعني: ظهر له من الأثر في نفسه ما هو أبلغ مما لو كان أمنًا على أمن.
ولذلك الآن هؤلاء الشباب (...) من بنينا الذين عاشوا في هذا الظل الوارف والنعيم الوافر من الإطعام من الجوع والأمن من الخوف، هل يقدِّرون نعمة هذا الأمن؟ أبدًا، ما يُقدِّرونه، ما كأنه إلا أمر عادي لا يمكن أن يتبدل، وكذلك لا يقدِّرون نعمة الشبع، ما كأنه إلا أمر عادي خلقوا عليه ولم يتبدل، لكن من ذاق ألم الجوع ورهبة الخوف ممن سبقوه، ثم أدركوا هذا النعيم، يعرفون قدر هذا النعيم الذين كانوا يبيتون ليالي لا يشبعون إلا من ورق الشجر إن تيسر لهم، ولا يأكلون اللحم إلا من خفاف الإبل المشوية إن تيسرت، هؤلاء هم الذين عرفوا قدر هذه النعمة التي أصبحت اللحوم تلقى على المزابل من عدم الآكلين لها.
فعلى كل حال، قصدي أن الأمن بعد الخوف أشد ظهورًا منه من الأمن على الأمن، هذا لا يظهر في الحقيقة استمرار الأمن بين قوم لم يذوقوا رهبة الخوف، هذا قد لا يشعر به، لكن الحقيقة في الأمر أن ظهور نعمة الأمن إنما يكون إذا جاء من بعد الخوف.
ولا شك أن الذين خوطبوا بهذه الآية أولًا أنهم قد ذاقوا رهبة الخوف ولَّا لا؟ نعم؛ لأنهم كانوا خائفين من أعدائهم الكفار؛ لما ذاقوه من الأذى الشديد القولي والفعلي، حتى النبي عليه الصلاة والسلام ما خرج من مكة إلا خائفًا مختفيًا عليه الصلاة والسلام، حتى أظهره الله عز وجل ودخل فاتحًا منصورًا مؤزرًا، فإذا تصور الإنسان إبدال الخوف بالأمن يجد أن للخوف أثرًا كبيرًا في نفسه، ﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.
ثم قال: (وقد أنجز الله وعده) حيث إن النبي عليه الصلاة والسلام قال وهو على باب الكعبة عام الفتح معلنًا للتوحيد الذي كان يحارب في مثل ذلك المكان، قال: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٧٩٧)، ومسلم (١٣٤٤ / ٤٢٨) من حديث ابن عمر.]]، وقد تحقق، وللهِ الحمد، فكانت الأصنام في جوف الكعبة وحول الكعبة، وهذا ينافي تمامًا شهادة أن لا إله إلا الله، وقد كان المسلمون منهم من لا يمكن من الطواف بالبيت أو الصلاة حوله، وإذا صلى حوله سخر به وأوذي، حتى إمامهم محمدًا ﷺ «كان ساجدًا، وكان حوله أبو جهل ومن معه من شرار قريش، فقالوا: ألا رجل ينتدب، فيأتي بسلا جزور بني فلان، فيلقيه على محمد ﷺ وهو ساجد، فانبعث أشقى القوم فجاء به، ووضعه على النبي ﷺ وهو ساجد، فجعلوا يضحكون ويهزؤون به، حتى إن بعضهم يسقط من الضحك والسخرية، إلى أن جاءت فاطمة ابنته، وكانت صغيرة لا يجرؤون على أن يمنعوها، فأخذت هذا من على ظهره ﷺ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٠)، ومسلم (١٧٩٤ / ١٠٧) من حديث ابن مسعود.]].
فأقول: هذا البيت الذي كان حال المسلمين فيه على هذا الوصف بعد مدة وجيزة -ولله الحمد- وقف النبي عليه الصلاة والسلام على عتبة الباب حكمًا في قريش الذين هم فعلوا به ما فعلوا، وقال لهم: «مَاذَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» قالوا: أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم»، وفي هذا المقام الذي يستطيع أن ينتقم كما يريد عليه الصلاة والسلام قال لهم: «أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[[شرح معاني الآثار (٥٣٣١)، والسنن الكبرى للبيهقي (١٨٢٧٥) من حديث أبي هريرة.]]، فأي تمكين أقوى من هذا التمكين، وعز أعلى من هذا العز؟!
وصدق الله وعده تبارك وتعالى في مدة وجيزة، وللهِ الحمد، وإلا فمن يصدِّق أنه في خلال ثماني سنوات، وخروج النبي عليه الصلاة والسلام على الوصف الذي تعرفون، ثم يرجع فاتحًا منصورًا مؤزرًا.
يقول: (وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر، وأثنى عليهم بقوله: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ ) فالمؤلف يرى أن هذه الجملة استئنافية للثناء عليهم؛ ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾، ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية ليس الغرض منها الثناء، بل الغرض منها استمرار الصفة من الإيمان والعمل الصالح؛ يعني: أن هذا التمكين وهذا الاستخلاف وهذا التبديل بالأمن بعد الخوف هذا، متى يكون؟ إذا استمروا على عبادة الله سبحانه وتعالى من غير إشراك به، فتكون الجملة هذه حالية أوسع بيانًا؛ أن هذا الوصف الحاصل أو هذا الوعد الذي وعد الله به حاصل متى؟ ما استمروا على عبادة الله وعدم الإشراك به.
خذ هذه الصفة -وهي إخلاص التوحيد لله والبقاء عليه الذي هو شرط للتمكين- مع قوله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج ٤٠، ٤١]، هذه أربع صفات مع هذه الصفة -وهي العبادة بدون إشراك- تكون أسباب النصر الذي وعد الله به، كم؟ تكون خمسة؛ عبادة الله بدون إشراك الذي أعلاه التوحيد، ثم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهذه هي أسباب النصر الحقيقية التي بها ينصر الله عباده، ما عدا ذلك فليس بسبب من أسباب النصر.
ولاحظوا أن إعداد القوة داخل في ضمن هذه الأشياء ولَّا لا؟ نعم، داخل في ضمن هذه الأشياء؛ لأنه من جملة عبادة الله؛ حيث أمر الله به، وكل ما أمر الله به فهو من العبادات.
أما رجل يقول: أنا أتمنى النصر، لكن لا يقيم الصلاة، من أين يأتيه النصر؟! يتمنى النصر، ولكنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فمن أين يأتيه النصر؟! لا بد من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وثقوا أنه ما يمكن يقوم للمسلمين قائمة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر لزم -ولا بد- التفرقُ بينهم ولَّا لا؟
أنا أقول لكم الآن: إذا لم يأمر الناس بالمعروف وينهوا عن المنكر فإنه يلزم لزومًا حتميًّا مؤكدًا أن يتفرقوا؛ لأنه هل مشرب الناس واحد وهدفهم واحد؟ لا، هذا أمر بالضرورة، فإذا لم يقم هذا الذي شذَّ عن الإسلام صار مفارقًا لنا، يسلك غير ما نسلك؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران ١٠٤، ١٠٥]، فكل هذا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون التفرق، وهو أمر واقع طبيعي.
يقول: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ وقوله: ﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (شيئًا) نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء مما يشرك به، وليس الشرك خاصًّا بعبادة الوثن؛ بأن يركع الإنسان ويسجد لشجرة أو حجر أو قبر أو شمس أو قمر، لا، الشرك أعم من ذلك كله، حتى إنه إذا أطيع الإنسان في معصية الله يكون ذلك شركًا، ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة ٣١]، «قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، قال: «أَلَيْسَ يُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟» قال: نعم، قال: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»[[الترمذي (٣٠٩٥)، والمعجم الكبير (٢١٨) واللفظ له من حديث عدي بن حاتم.]].
الرجل يفضِّل الدنيا ويقدمها على الآخرة، هل هو مشرك ولَّا لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: مشرك؛ لقول النبي ﷺ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»[[أخرجه البخاري (٢٨٨٦) من حديث أبي هريرة.]]؛ لأن أصل العبادة مأخوذة من الذل، ومنه قولهم: طريق معبد؛ يعني: مذلل لسالكيه، يمشون عليه، فكون الإنسان يذل للدرهم والدينار حتى يقدمه على طاعة الله عز وجل هذا نوع من الشرك؛ ولهذا سماه النبي عليه الصلاة والسلام عابدًا له.
كلمة ﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ ليست بالكلمة الهينة إذا كنا نتصور معناها كما جاء بالكتاب والسنة، أما إذا ضيقنا معناها وقلنا: ﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ أي: لا يعبدون شجرًا ولا حجرًا، صارت ضيقة ولا معنى للعموم فيها، فإذن عبادة الله حقًّا لا تكون إلا بانتفاء الشرك مطلقًا بحيث لا يشرك بالله أحدًا، ليس في نفس العبادة فقط، بل في نفس العبادة والإرادة، وغير ذلك، فإذا حقق هذا الأمر فقد تحقق الإخلاص.
وقد ذكرت لكم أن بعض السلف كان يقول: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص، وهذا حقيقة؛ فالإخلاص ألَّا يشرك الإنسان بالله شيئًا، لا في العبادة التي لله وحده، ولا في الإرادة، هذا أمر يصعب جدًّا على الإنسان أن يحققه، ولكن بعون الله سبحانه وتعالى والاستعانة به يحصل المطلوب.
ثم قال تعالى: (﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ هو مستأنف في حكم التعليل) غريب المؤلف! جعله بالأول ثناء عليهم، ثم جعله تعليلًا، وفي الحقيقة لا شك أنه تعليل كما قررناه، لكنه متضمن للثناء؛ لأنهم عبدوا الله ولم (...).
* * *
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة وَأَطِيعُوا الرَّسُول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاة﴾ أي: افعلوها قيمة على الوجه الذي شرع الله سبحانه وتعالى ورسوله، هذا معنى إقامة الصلاة، وإقامة الشيء؛ يعني: تعديله وجعله قويمًا، وضد ذلك: تعويجه بالإفساد والنقص، فمعنى إذن أقيموا الصلاة: افعلوها كاملة.
والصلاة يعم الفرض والنفل؛ ولذلك إذا دخل الإنسان في نفلٍ وجب عليه أن يأتي بها كما شرع، فلو أراد الإنسان أن يتنفل بنافلة؛ صلاة نفل، ويترك مثلًا التسبيح أو يترك التكبير أو يترك التشهد، ويقول مثلًا: إن الأمر نفل، فأنا كله واحد، نقول له: هو نفل قبل أن تدخل فيه، فإذا دخلت صار الإتيان به على الوجه المشروع أمرًا مفروضًا.
لو قال: أبغي أصلي نفل وبأسجد قبل أركع (...)، أو أبغي أصلي وبأسجد مرة واحدة، أليس ذلك نفلًا؟ نقول له: هذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان نفلًا فإن إقامته على الوجه المشروع واجبة.
وقوله تعالى: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أي: أعطوها لمن يستحقها، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى المستحقين للزكاة بينهم بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة ٦٠] (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿وَآتُوا الزَّكَاة وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾ الطاعة سبق لنا أنها: موافقة الأمر، فعلًا للمأمور، وتركًا للمحظور.
وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾ هذا من باب عطف العام على الخاص؛ فإن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من طاعة الرسول، لكن هذا من باب التنبيه بفضل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وقوله: ﴿الرَّسُول﴾ (أل) للعهد الذهني؛ يعني: الرسول الذي هو معروف لديكم، وهو محمد ﷺ.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ يقول: (أي: رجاء الرحمة)، وهذا يدل على أن المؤلف جعل (لعل) للرجاء، لكن باعتبار الفاعل لا باعتبار المتكلم؛ يعني: أنتم تفعلون ذلك لأجل أن ترحموا؛ راجين بذلك الرحمة، فيكون هنا (لعل) للترجي، لكن باعتبار من؟
* طالب: الفاعل.
* الشيخ: باعتبار الفاعل اللي هو المخاطب، لا باعتبار المتكلم؛ فإن المتكلم -وهو الله عز وجل- لا يعسره شيء حتى يترجاه، ويجوز أن نجعل (لعل) للتعليل وتكون باعتبار من؟ باعتبار المتكلم؛ يعني: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؛ لأن ذلك سبب لرحمتكم، وهذا أقرب؛ فإن (لعل) في كلام الله، بل في كلام كل مخَاطِب تُحمل على ما يريد المتكلم لا على ما يريده المخَاطَب.
وعلى هذا فنقول: (لعل) للتعليل.
* ويكون فيه دليل على أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول سبب لرحمة الله.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ من قِبَل من؟
* طلبة: من قِبَل الله.
* الشيخ: من قِبَل الله عز وجل.
* فوائد هذه الآية: وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول، من أين نأخذ الوجوب؟
* طلبة: من الأمر.
* الشيخ: من الأمر؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب.
فضيلة الزكاة؛ حيث قرنت بالصلاة، وهي مقرونة بالصلاة في مواضع كثيرة من القرآن، وسبب ذلك -والله أعلم- أن الزكاة عبادة مالية محضة، والصلاة عبادة بدنية محضة، وكلاهما من جنس؛ ولذلك حثَّ الله عليهما جميعًا.
* وفيه: أن ما ثبت في السنة كما ثبت في القرآن؛ لقوله: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾، وهذا شامل لما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ابتداء، ولما قاله تفسيرًا للقرآن.
* فيكون فيه دليل على وجوب العمل بالسنة كما يجب العمل بالقرآن.
والأدلة لذلك كثيرة جدًّا، ولكن ينبغي التركيز عليها؛ لأنه ظهر في وقت من الزنادقة من يقولون: إنه لا يجب العمل بما في السنة (...) صادروا كتب السنة، كصحيح البخاري ومسلم، صادروها وحجبوها عن الأسواق؛ لأنهم يرون أن السنة لا يجب العمل بها، بل على مقتضى عملهم هذا أن السنة ضلال؛ لأنه لا (...) للكتب وتحجب عن الناس، إلا إذا كانت سببًا لفسادهم وضلالهم.
* ويستفاد أيضًا من هذه الآية: إثبات الأسباب، وأن الأسباب موجبة بذاتها، من أين تؤخذ؟
* طلبة: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
* الشيخ: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾؛ حيث جعل هذه الأشياء الثلاثة؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول سببًا للرحمة، والصحيح كما أشرنا إليه سابقًا: أن السبب موجبٌ بذاته، لكن مستقل عن الله ولَّا بإذن الله؟
* الطلبة: بإذن الله.
* الشيخ: بإذن الله، وأما من قال: إن السبب غير موجب، وإنما هو أمارة وعلامة فقط، فقوله يرده العقل والواقع.
* وفيه: فضيلة هذه الأمور الثلاثة؛ حيث كانت سببًا لرحمة الله اللي هي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول.
* وفيه دليل على أن الصلاة أفضل من الزكاة؛ وذلك لتقديمها عليها في كل موضع، اللهم إلا أن يكون هناك سبب خاص لتقديم الإنفاق، فقد يقدم الإنفاق على الصلاة، لكن عندما تذكر الصلاة والزكاة فإنها تقدم.
* * *
ثم قال الله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾.
يقول: (﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالفوقانية والتحتانية، والفاعل الرسول ﷺ)، أما قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ فهو خطاب على كلام المؤلف للرسول، ولكن فيه احتمال ثانٍ؛ أن يكون الخطاب لمن؟ لكل من يصح خطابه بمثل ذلك، فيكون هذا أعم، ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ أيها المخاطب النبي عليه الصلاة والسلام وغيره.
وأما على قراءة الياء: ﴿لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ، فيقول المؤلف أيضًا: إن الضمير يعود على الرسول؛ يعني: لا يحسبن الرسولُ الذين كفروا معجزين في الأرض.
ولكن عندي فيه احتمال أقرب؛ بأن نجعل ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ فاعله (الذين)، ﴿لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ ، ويكون المفعول الأول لـ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ محذوفًا، والتقدير: لا يحسبن الذين كفروا أنفسَهم معجزين في الأرض، ويكون في هذا تهديد لهم.
أما على ما ذهب إليه المؤلف فيكون المراد بذلك ليس تهديد هؤلاء الكفار، ولكن المقصود بذلك تثبيت الرسول عليه الصلاة والسلام وتطمينه بأن هؤلاء الكافرين لن يعجزوا الله سبحانه وتعالى، ولكنه يملي لهم وقد يؤخر عقابهم.
وقوله: ﴿مُعْجِزِينَ﴾ يقول: (لنا)، المعجِز هو: الذي يفعل ما يعجز غيره ولا يستطيعه، فهل الذين كفروا معجزين لله؛ أي: فاعلين ما يعجز الله عنه؟
الجواب: لا، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر ٤٤].
(بأن يفوتونا) هذا تفسير للإعجاز؛ يعني: نعجز عنهم فلا ندركهم، بل يفوتوننا.
﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أو ﴿لَا يَحْسَبَنَّ﴾ هذا النهي قلنا: إنه إذا كان الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصح خطابه فهو للتثبيت والتطمين والتسلية، وما أشبه ذلك، إذا كان الضمير ﴿لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على ما أشرنا إليه؛ أن الفاعل (الذين)، يكون المراد بالنهي؟
* طالب: التهديد.
* الشيخ: التهديد.
قال الله تعالى: (﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾ مرجعهم، ﴿النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ المرجع هي) ﴿مَأْوَاهُمُ﴾ أي: مرجعهم الذي يؤون إليه؛ النار.
وإنما قال: ﴿مَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾؛ لأن هذا هو الواقع؛ إذ إن هذه الحياة الدنيا سوف تنقضي، والمرجع الذي ليس بعده شيء آخر هو ما يؤول إليه المؤمن والكافر يوم القيامة؛ إما إلى نار، وإما إلى جنة، هؤلاء مأواهم النار -والعياذ بالله- مرجعهم.
وقوله: ﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ اللام واقعة في جواب القسم موطئة للقسم؛ يعني: والله لبئس المصير، و(بئس) -كما هو معروف- فعل ذم، أو فعل جامد لإنشاء الذم، و(المصير) فاعله، أين المخصوص؛ لأن (بئس) و(نِعْم) تحتاج إلى فاعل ومخصوص، (...) ويش قلنا؟
* طالب: تحتاج إلى فاعل مخصوص.
* الشيخ: ما قلنا هكذا، وأنت أيضًا لا تقوله؛ فإن (ليس) من الجوامد لا تحتاج إلى (...) قلنا يا جماعة؟
* طلبة: (نِعْم) و(بئس).
* الشيخ: (نِعْم) و(بئس) تحتاجان إلى فاعل ومخصوص، الفاعل في هذه الآية: ﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ هو (المصير)، أين المخصوص؟ محذوف أو مستتر؛ ولبئس هي المصير، لكن ما يصح تقول: مستتر، بل هو ضمير مستتر، فهو الفاعل، فالمفعول محذوف؛ إما أن يقال: ولبئس المصير النار، أو: لبئس المصير هي.
* يستفاد من هذه الآية: تمام قدرة الله عز وجل، وأن الكافرين مهما بلغوا من قدرة فليسوا بمعجزين لله، وكون الله تعالى يملي لهم لا يدل على عجزه عنهم، بل يدل على حكمته في تأخير العذاب عنهم، هذه واحدة.
* ثانيًا: دليل على أن أهل النار مخلدون فيها؛ لقوله: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾، ولو لم يخلدوا لكان مأواهم ما بعد النار؛ لأن المأوى معناها المرجع الأخير، وهذا دليل على أن النار دائمة لهم، وأنهم مخلدون فيها.
وقد ثبت في القرآن الكريم تأبيد تخليد أهل النار في ثلاث آيات من القرآن (...) ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء ١٦٩]، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الأحزاب ٦٥]، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣].
* طالب: ما أذكرها (...).
* طالب آخر: المواضع أذكرها؟
* الشيخ: إي.
* طالب: في سورة النساء.
* الشيخ: إي.
* طالب: وفي سورة التوبة.
* الشيخ: لا.
* طالب: في سورة الأحزاب.
* الشيخ: في سورة الأحزاب، إي نعم، أما في سورة النساء فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩] هذا في سورة النساء، وفي سورة الأحزاب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب ٦٤، ٦٥]، وفي سورة الجن: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣]، فهذه ثلاث آيات صريحة ونصٌّ على تأبيد خلودهم.
وبهذا يعرف ضعف قول من قال من أهل العلم: إنه لا تأبيد لأهل النار، واشتبه عليه قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود ١٠٧]، ولم يشتبه عليه قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لأهل الجنة ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ لم يشتبه عليه؛ لأنه قال: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود ١٠٨]، وهنا قال في أهل النار: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.
لكن ليس معنى ذلك ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ أنه سيرفع عنهم هذا العذاب، بل لما كان هذا انتقامًا منهم وعملًا ليس من الأمر الذي يختاره الإنسان حتى تذكر نعمة الله عليه باستمراره، قال في أهل الجنة: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، وقال في هؤلاء: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، فلا يمنعه شيء أن يفعل ما يريد.
* طالب: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ [النبأ ٢٣] ما يستدل بها على عدم التأبيد؟
* الشيخ: إي، ما هو بصحيحة (...)؛ لأن أولًا: أن ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ متعلقة بما بعدها؛ يعني: أحقابًا لا يذوقون، وأحقابًا أخرى، أو يقال: أحقابًا؛ أي: مددًا طويلة، وهذا لا ينافي التأبيد (...)؛ لأن التأبيد هل هو (...) عن الأحقاب ما (...)؟
* طالب: فترات (...).
* الشيخ: لا، أبدًا، ما يمكن فترات؛ لأن المراد بهذا؛ يعني: لو تقول: هذا الرجل (...) النار كلها (...) أحقابًا، كل التأبيد هي أحقاب طويلة.
على كل حال، هذا ما يعارض التأبيد بلا شك؛ إما أن نقول بأنه متعلق بما بعده، وهذا ضعيف عندي، وإما أن يقال: أحقابًا، كونها أحقابًا كثيرة طويلة لا ينافي التأبيد؛ لأن التأبيد أحقابًا طويلة.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: أبدًا، هذا ما له نهاية، أما أهل الجنة ما لهم نهاية.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، (الأحقاب) جمع (حقب)، وهي المدة من السنين؛ ولذلك قال: ﴿أَحْقَابًا﴾ أحقابًا متوالية، إلى ما لا نهاية له، فإذا قلنا: الحقب -مثلًا- ثمانون سنة، وقلنا: أحقابًا؛ يعني: مددًا طويلة، كل حقب ثمانون، إلى ما لا نهاية له (…)، لو أنه قال: أحقابًا عددها كذا، كان يجوز، لكن حتى المدة المؤبدة هي أحقابًا في الحقيقة.
فعلى كل حال، مهما كان الأمر؛ يعني: مهما فهمنا من كلمة أحقاب من التأبيد فإنها لا تعارض الصريح بالتأبيد، ما تعارضه إطلاقًا.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ما هو بصحيح (...).
قلنا: إن ﴿مَأْوَاهُمْ النَّار﴾ تدل على التأبيد؛ لأنه لو كانت غير مؤبدة لكان مأواهم آخر (...).
* وفيه أيضًا دليل على شؤم النار ومرجعها؛ لأن الله تعالى ذمها بقوله: ﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
واعلم أن ما ذمه الله عز وجل أو ما مدحه فإنه أمر عظيم؛ لأن العظيم لا يمدح إلا ما هو عظيم جدًّا؛ يعني: العظيم لا يرى الشيء العظيم إلا وهو صحيح عظيم، لكن غير العظيم قد يرى ما ليس عظيمًا عظيمًا، أما العظيم فإنه لا يُعظِّم إلا ما يستحق التعظيم، ولا يذم إلا ما هو مذموم وذمه كثير.
* طالب: فقد يتصور الإنسان أن هذا الوصف (...)؟
* الشيخ: هو على كل حال عظيم بالنسبة لأخلاق البشر، لكن هذا العظم عظم إلى حد الذي يصل إليه البشر، لكن ربما أنا أقول: هذا الرجل على خلق عظيم؛ لأني جلست معه مدة قليلة ووجدت منه أخلاقًا فاضلة، وليس كما هو الحال، لكن أما إذا قاله إنسان عظيم يعرف الأمور ويقدر الأمور عرفنا عِظَمَه.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، أعظم؛ لأن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فما ذكر الله عن الجنة والنار ليس مما نتصوره فهو أعظم وأعظم؛ لأن فيها شيئًا ما ندركه في الدنيا؛ ولهذا هي من الأمور التي لا يعلمها إلا الله، حقائق ما في الجنة وما في النار من الأمور التي لا يعلمها إلا الله.
ولهذا حسب مفهومنا أن الإنسان إذا عذب في النار ويش يسوي؟ يحترق ويموت، لكن في نار الآخرة لا، يذوق العذاب ويتألم، وقول من قال: إنهم -والعياذ بالله-لا يدركون حرَّها، ويقولون: يتأقلمون معها، هذا قول باطل بلا شك؛ ولهذا يقول الله: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء ٥٦] دل ذلك على أنهم يحسون ويتألمون.
* طالب: هم يحترقون يا شيخ؟
* الشيخ: إي نعم.
* فيه هذا دليل على عظم قبح النار وشؤمها، من كون الله تعالى وصفها بهذا الوصف ﴿وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
* * *
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ [النور ٥٨] تقدم فائدة تصدير الحكم بالنداء، وهو التنبيه وبيان أهميته.
وقلنا: توجيهه إلى المؤمنين فيه أيضا ثلاث فوائد: الإغراء والحث؛ يعني: لإيمانك يوجه إليك هذا الخطاب، الشيء الثاني: أن تنفيذه من مقتضيات الإيمان، الشيء الثالث: أن الإخلال بهذا الشيء نقص في الإيمان.
وقوله: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ اللام؟
* طالب: للأمر.
* الشيخ: اللام للأمر.
(﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من العبيد والإماء، ﴿وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم مِنْكُمْ﴾ من الأحرار وعرفوا أمر النساء، ﴿ثَلَاث مَرَّات﴾ في ثلاثة أوقات) يعني: هذا تفسير للمرات، المراد بالمرات الأوقات.
قوله: ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ هو كما قال المؤلف: (من العبيد والإماء)؛ لأن (الذين) اسم موصول يشمل الذكور والإناث.
وقوله: ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي: ملكتم، وعبَّر باليمين عن النفس؛ لأنها غالبًا أداة الأخذ والإعطاء.
وقوله: ﴿وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم مِنْكُمْ﴾ يعني: لم يبلغوا زمنًا يحتلمون فيه غالبًا، أو ﴿لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم﴾ يعني: العقول؛ أي: لم يبلغوا أن يكونوا في حد العقلاء، وعلى كل حال فالمراد بهم من دون البلوغ.
الشيخ: .. عليك في هذه الأوقات فلا يهمهم.
ولكن في هذا القيد نظر؛ لأنه ليس الغرض من ذلك دخولهم على النساء حتى نقول: إذا عرفوا أمر النساء، بل الغرض من هذه التوجيهات خوفًا من أن يدخلوا على الإنسان في حال لا يحب أن يطلع عليه فيها، يعني هذه الأحوال الثلاث عورات أي إنسان يدخل عليك ولو كان مما لا يعرف أمر النساء لا شك أنك تشمئز منه، وتنفر من هذا الدخول.
فالصحيح أن هذا القيد الذي ذكره المؤلف ليس بمراد، بل نقول: الذين لم يبلغوا الحلم؛ لأنهم إذا بلغوا الحلم فسيأتي إن شاء الله الحكم فيهم.
﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ [النور ٥٨] أي: في ثلاثة أوقات، فَسَّرَها بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ [النور ٥٨]؛ لأن الإنسان قبل صلاة الفجر يكون غير متهيئ لأن يراه أحد ويدخل عليه أحد، قد يكون في ثياب النوم التي يكره أن يكون أحد يراه وهي عليه، وقد يكون ثياب أبلغ من ذلك، كثيابه مع أهله، وما أشبه هذا.
والثاني قال: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ [النور ٥٨] أي: وقت الظهر، حين تضعون (...).
* * *
* طالب: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور ٦٠].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقدم أن الله سجانه وتعالى أمر بطاعة الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وبَيَّنَ أن ذلك سبب لرحمة الله تبارك وتعالى.
نبدأ الآن في * الفوائد: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور ٥٥].
* أولًا: في هذه الآية حَثٌّ وترغيب على الإيمان والعمل الصالح.
* وثانيًا: أن فيها وعدًا لمن اتصفوا بهذين الوصفين أن يستخلفهم الله تعالى في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، يعني يجعلهم خلفاء لأهلها في إرثها من بعدهم.
* وفيها أيضًا: دليل على حسن التعليل؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى ذكر الشواهد على وعده بالأمور الواقعة: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، فإن الله سبحانه وتعالى أراد بهذا المثال ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ تطمينَ هؤلاء الموعودين بذكر الأمر واقعًا فيمن قبلهم، فيكون في ذلك زيادة تشجيع لهم.
* وفي قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ دليل أيضًا على أن الأرض لله يُورِثُها مَن يشاء من عباده، فهو الذي يستخلف فيها الناس بدل غيرهم، وليس للناس في هذه الأرض ملك، الملك في الأرض لله يؤتيه من يشاء.
* وفيه أيضًا: دليل على أن الإيمان والعمل الصالح سبب لتمكين الدين في الأرض، وأن المخالفة سبب لنزع الدين من الأرض؛ لقوله: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾، فيُفْهَم منه أنهم لو فَسَقُوا ولم يؤمنوا ولم يعملوا صالحًا ما مُكِّنَ لهم الدين الذي هو لهم، والذي ارتضاه الله تعالى لهم.
ففيه تحذير بالغ -هذه الفائدة الثانية ترجع على ما قبلها- من أيش؟ من المخالفة والقصور، وأن ذلك سبب لنزع الدين منهم، وهذا هو المضطَرِد في سنن الله سبحانه وتعالى، فإن النعم إذا لم تُشْكَر زالت، وأكبر نعمة يُنْعِم الله بها على عباده هي نعمة الدين، فإذا لم تُشْكَر فإنها تزول كغيرها من النعم.
* وفي هذا: دليل على كمال الدين الإسلامي، حيث قال: ﴿الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾، فهو الدين الذي ارتضاه لعباده، فهو أكمل الأديان على الإطلاق، ولذلك خُتِمَت به الرسالات.
* وفيه أيضًا: على أن الإيمان والعمل الصالح سبب لاستمرار الأمن، ولزوال الخوف؛ استمرار الأمن إذا كان هناك أمن سابق فهو يستمر، ولزوال الخوف إذا كان هناك خوف فإنه يزول؛ لقوله: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.
* وفيه أيضًا: دليل على أن الأمور الهامة ينبغي تأكيدها بأنواع المؤكِّدات، فإن هذا الوعد من الأمور الهامة؛ لما يترتب عليه من المصالح والمنافع في الدنيا والآخرة، ولهذا أَكَّدَه الله تعالى بالقسم واللام والنون: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾، ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.
وأكَّده أيضا بمؤكِّد معنوي، ليس بأداة لفظية، وهو قوله: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، فإن المراد بأداة التشبيه -كما أسلفنا- أيش المراد به؟ تأكيد هذا الوعد بذكر شواهده، فيكون ذلك أيضًا تأكيد معنوي على تأكيد لفظي، فالأول اللي كان مؤكَّدًا باللام والنون والقسم هذه مؤكِّدات لفظية، لكن ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فيها مؤكِّد معنوي، بذكر ما يُقَوِّي القلب ويثبته.
* وفيه أيضًا: دليل على أن الإيمان والعمل الصالح هو عبادة الله؛ لقوله: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾، وعليه يكون تحقيق التوحيد من أسباب هذا الوعد الذي وعد الله به.
* وفيه: التهديد للكافرين؛ لقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، فإن هذا تهديد لمن كفر بعد هذا الوعد، أو بعد هذا الواقع، مَن كفر سواء كان وقع له ما ذُكِر من الاستخلاف في الأرض والأمن، أو لم يقع له ولكنه وُعِدَ به، فإن كفره بعد ذلك يجعله فاسقًا.
* وفيه أيضًا: دليل على عِظَم هذا الفسق الذي يحصل بعد هذا الوعد، أو بعد هذا الواقع، ووجه عِظَمِه أيش؟
* طالب: حَصْرُه.
* الشيخ: نعم، حصر الفسق في هذا، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، مع أنه يوجد أناس فاسقون غيرهم، لكن لعِظَم فسقهم حُصِرَ الفسق فيهم، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
أما الآية الثانية: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النور ٥٦] فقد تكلمنا على فوائدها.
ثم إن الله قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ إلى آخره، تقدم لنا فائدة تفسير الحكم بالنداء، وأنه دليل على العناية به؛ لأن النداء يقتضي التنبه والاستيقاظ، وتوجيهه إلى المؤمنين يدل على أن امتثال هذا الحكم من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته من منافيات الإيمان.
وفيه أيضًا: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، وَجَّهَ الخطاب لهم، ثم قال: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ﴾، والحكم لغيرهم، إشارة إلى أنهم مسؤولون عن تنفيذ هذا الحكم لأولادهم الصغار ومماليكهم، وأن هذا الصغير والمملوك إذا خالف فإنما إثمه على مَن لم يقم بواجب التربية والتأديب.
﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾، فَصَّلَها بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ إلى آخره، أظن تكلَّمنا على ده ولَّا لا؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم، ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾، ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾ بالرفع خبر مبتدأ مقدَّر بعده مضاف، يعني هذا المبتدأ مضاف، وقام المضاف إليه مقامه، أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ لكم، ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾.
مر علينا فيما سبق أن قوله: ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ يعني: ثلاثة أوقات، يستئذنكم في ثلاثة أوقات.
قال: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾، تقدير الكلام: هي -أي هذه الثلاث- ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾.
يقول المؤلف: (إنها على حذف مضاف)، أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ لكم؛ لأن هذه الأوقات ما هي العورات، اللهم إلا على سبيل التَّجَوُّز، بأن نقول: المراد بالعورة زمنها، ولهذا المؤلِّف قدَّرَ قَبْلَها مضافًا: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ؛ لأن الوقت نفسه ليس بعورة، وعلى هذا فلا تكون هذه الأوقات هي العورات، وإنما تكون أوقات عورات، وليست عورات، ولهذا قال: هي أوقاتُ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ لَكُمْ.
والعورة في الأصل ما يُسْتَقْبَح شرعًا أو عرفًا، كل ما يُسْتَقْبَح ويُسْتَحْيَى منه شرعًا أو عُرْفًا فهي عورة، هذه الأوقات الثلاثة أوقات عورات، كيف كانت أوقات عورات؟
* طالب: الأوقات الثلاثة.
* الشيخ: إي، إنها أوقات عورات، كيف ذلك؟ ليش كونها أوقات عورات؟ أولًا: من قبل صلاة الفجر، كيف هذا يصير عورة؟
* الطالب: لكون الناس تخلع ثيابها.
* الشيخ: ويكون عليه ثياب أو لباس النوم التي قد يكره الإنسان أن يَطَّلِع عليها أحد، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة كذلك، فالإنسان في وقت القائلة يضع ثوبه وينام عريانًا، أو ينام على صفة لا يحب أن يطَّلِع عليه أحد، ومن بعد صلاة العشاء يكون متهيِّئًا للنوم، ولابس ثياب النوم، ولا يحب أن يطَّلِع عليه أحد، ولهذا قال: إنها ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾، يعني: أوقاتُ ثَلَاثِ عورات لكم.
* طالب: هذا تقدير المؤلف؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأنه مفهوم من المعنى، يقول: (وبالنصب ثلاثَ عورات، بتقدير أوقاتٍ منصوبًا بدلًا من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه، وهي لإلقاء الثياب فيها تبدو العورات).
يقول المؤلف: (فيها قراءتان: بالنصب؛ ثلاثَ عورات لكم) ويقال فيها ما سبق بأنها على تقدير مضاف، أي: أوقاتَ ثلاث عورات لكم، وهي منصوبة بدلًا مما قبلها، أين اللي قبلها؟ قوله: ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾؛ لأن (مرات) بمعنى (أوقات)، أوقاتَ ثلاثِ عورات لكم، ﴿ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾ الأولى بمعنى ثلاثة أوقات، يصير: أوقاتَ ثلاثِ عورات بدلًا منها، وبدل المنصوب يكون منصوبًا.
والخلاصة: أن في قوله: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ قراءتين؛ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على أنها بدل من قوله: ثلاث عورات لكم، ومع ذلك فهي نفسها ليست هي الأصل، لا في كونها خبر، ولا في كونها بدلًا، بل هي قائمة مقام مضاف، ويش تقدير هذا المضاف؟ تقدير هذا المضاف: أوقاتَ ثلاث عورات، أوقاتَ بالنصب، أو أوقاتُ بالرفع.
يقول المؤلف مجيبًا على سؤال مُقَدَّر: كيف كانت هذه الأوقاتُ أوقاتَ عورات؟ قال: (وهي لإلقاء الثياب فيها تبدو العورات).
يعني أنها سُمِّيَت هذه الأوقات أوقات عورة؛ لأنها إذا أُلْقِيَت الثياب فيها للنوم؛ إما للتهيؤ له، أو لكونه أثر النوم، كما قبل صلاة الفجر، فإنه تبدو فيها العورة، وكأن عادة الناس في ذلك الوقت أن الإنسان إذا نام يخلع ثيابه ويلتحف بلحاف وينام، وعلى هذا فالعورة في ذلك تبدو؛ لأن الإنسان ما عليه إلا لحاف وهو مُتَهَيِّئ للنوم.
أما عادة الناس اليوم فهل هي كذلك؟ يمكن يوجد بعض الناس، ما ندري، لكن الظاهر أن غالب الناس أنهم يلبسون ثوبًا، قميصًا، ثوبًا ساترًا، وكذلك أيضًا كانوا في الزمن السابق البيوت ما فيها حجاب ولا أستار، فإذا فاجأ العبدُ أو الصغيرُ صاحبَ المنزل في هذه الأوقات اطَّلَع على عورته.
أما الآن فالبيوت مُحَجَّبَة، والستور مُكَثَّفة، ولهذا لو دخل البيت ولم يستأذن فإن الحكم قد زال؛ لأن الحكم يدور مع علته، حيث قال الله تعالى: ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾، ولأجل ذلك اختلف أهل العلم في هذه الآية؛ فزعم بعضهم أنها منسوخة (...)، وذلك لأن الناس تركوا العمل بها من قديم.
وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَة وباقية، ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح «أن هذه الآية مُحْكَمَة، لكن في حال دون حال»[[أخرجه معمر في الجامع (١٠ / ٣٧٩) (١٩٤١٩)، وابن أبي حاتم في التفسير (٨ / ٢٦٣٢) (١٤٧٨٩).]]، وأنه لما كانت البيوت فيما سبق غير مُحَجَّبَة، والستور غير موجودة، والناس في حاجة في الحقيقة، الإنسان ما عنده إلا ثوب، ما يلبسه في النوم، يخلعه ويلتحف باللحاف، لأجل أن يوفر على نفسه غسله بعد الاتساخ.
يقول: فأما الآن وقد كانت البيوت مُحَجَّبَة والستور كثيرة، فإن الحكم قد زال، وعلى هذا فالحكم يدور مع عِلَّتِه.
وعندنا أن الحكم باقٍ حتى وإن كانت البيوت مُحَجَّبَة؛ لأننا نقول: الإنسان عادة إذا أراد أن ينام فإنما ينام في مكان خاص، فإذا أراد أحد من هؤلاء المماليك والصغار أن يستأذن عليه في محل النوم الخاص فإن الحكم باق، وماذا تغني الأبواب إذا بغى إنسان يفتح عليه غرفة النوم يفتح الباب على طول، فهذا أشد، فالحكم باقٍ في الحقيقة.
نعم الاستئذان لدخول البيت عمومًا صحيح أنه قد زال؛ لأن الناس ما كانوا في الزمن السابق، كان في الزمن السابق الحجرة هي حجرة النوم وحجرة الأكل وحجرة الجلوس، وكل شيء.
لكن بعد أن وَسَّعَ الله على المسلمين تَوَسَّعت المباني، فصار النوم له غرفة خاصة، والجلوس له غرفة خاصة، وما أشبه ذلك، فنقول: الحكم باقٍ، لكنه بالنسبة لأي شيء؟ للغرف الْمُعَدَّة للنوم، فإن هؤلاء لا يدخلون حتى يستأذنوا في هذه الأوقات الثلاثة.
أما لو دخل الإنسان الغرفة التي ينام فيها في غير هذه الأوقات الثلاثة، فالأصل أنه ما دخل للنوم، فالاستئذان عليه ليس بلازم، إلا إذا عُلِمَ أن هذه الغرفة أيضًا محل لخلع الثياب ولبسها، فإنه إذا دخل غرفته فلا بد أن يستأذن؛ لأنه يُخْشَى أن يكون قد خلع ثوبه ليلبس الثوب الآخر، فتدخل عليه على وجه تبدو فيه العورة، أظن الأمر واضحًا.
صار هذه الآية تخصيصها بهذه الثلاث بَيَّنَ الله الحكمة من ذلك، ويش هي؟ الحكمة في الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنها أوقات عورة، تُلْقَى فيها الثياب غالبًا للنوم، إما للتهيؤ له، أو بعده، أو من أجل حر، كما في قوله: ﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾.
ثم نقول: هل الآية هذه مُحْكَمَة وباقٍ حكمها أو منسوخة؟
الجواب: اختلف فيها المفسِّرون؛ منهم من قال: إنها منسوخة، وليس له دليل سوى الواقع؛ وهو تَغَيُّر الناس، وعدم استئذانهم، فظَنُّوا أنها نُسِخَت.
وقال آخرون: بل هي مُحْكَمَة وباقية.
وقال آخرون: إنها مُحْكَمَة، ولكن ترك الناس العمل بها من أجل تغير الحال. وهذا هو الذي صَحَّ عن ابن عباس[[أخرجه معمر في الجامع (١٠ / ٣٧٩) (١٩٤١٩)، وابن أبي حاتم في التفسير (٨ / ٢٦٣٢) (١٤٧٨٩).]] رضي الله عنهما.
كيف من أجل تغير الحال؟ لأن في الزمن السابق كانت البيوت غير مُحَجَّبة، وليس للإنسان غرفة خاصة للنوم، فكان هؤلاء الأطفال، وهؤلاء المماليك، إذا دَهَمُوا الناس وفتحوا الباب بدون استئذان، قد يدخلون وهم على عورة، قد يكون الإنسان مع امرأته، فأُمِرُوا بالاستئذان.
أما بعد أن وَسَّع الله الأمر وصارت البيوت مُحَجَّبة، وصار النوم له غرف خاصة، فإننا نقول: لا بأس من دخول المنزل عامة في هذه الأوقات بدون أيش؟
* طلبة: استئذان.
* الشيخ: بدون استئذان، ليش؟ لأن العلة التي أمر الله بالاستئذان من أجلها زالت، لكن حُكْمُ دخول غرفة النوم في هذه الأوقات الثلاثة باقٍ ولَّا لا؟
* طلبة: باق.
* الشيخ: باق، فلا يجوز دخوله لهؤلاء الأطفال والمماليك إلا بعد استئذان؛ لئلا يدخلوا والإنسان على حال لا يحب أن يطلع عليه فيها أحد.
* طالب: كشف العورة في هذه الأوقات، هل فيه (...) عورته في الحجرة؟
* الشيخ: إي نعم، هذا لا بأس به، يعني لا بأس أن تبدو عورته عند خلع الثوب، أو عند إرادة النوم والتلحُّف بلحاف، ما فيه بأس.
* الطالب: موقف الاستمرار.
* الشيخ: ما له حاجة في الاستمرار، حتى لو كان الحر ويخلع الإنسان ثيابه فلا بد أن يلتحف، هذا خير له.
* طالب: يا شيخ، تعليل العلماء تحريم البقاء في الحمام لأن تنكشف عورته، الموقف ما هو؟
* الشيخ: لا، الصحيح ما هذه العلة، الصحيح أن العلة أنه مكان خبيث ومأوى الشياطين، فلا ينبغي للإنسان أن يمكث فيه إلا بقدر الحاجة، ثم إن هناك أسبابًا أيضًا ثانية طبية، وهو الضرر؛ لأن هذا من أكبر ما يُحْدِث البواسير، البقاء على الحاجة بدون حاجة يُحْدِث البواسير، كما هو معروف عند الأطباء وعند الفقهاء أيضًا، الآن فهمنا حكم هذه المسألة.
* * *
قال الله تعالى: (﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ﴾ [النور ٥٨]، أي: المماليك والصبيان ﴿جُنَاحٌ﴾ في الدخول بغير استئذان، ﴿بَعْدَهُنَّ﴾، أي: بعد الأوقات الثلاثة).
يقول الله عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، يعني: في الدخول عليكم بدون استئذان.
الْجُنَاح بمعنى الإثم، وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، واضح في نفي الْجُنَاح عن الذين آمنوا؛ لأنهم مُكَلَّفُون، فهم ممن يُوصَفُون بالإثم وعدمه.
وقوله: ﴿وَلَا عَلَيْهِمْ﴾ بالنسبة للماليك ظاهر أنهم يأثمون بما يخالفون به الشرع، أو لا؟
المرة الثانية: (...) ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، منطوق الآية أن الدخول بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة ليس فيه إثم؛ لا على الأولياء، ولا على الصغار والمماليك، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ﴾، مفهوم الآية الكريمة أن دخولهم في هذه الأوقات بدون استئذان..
* طالب: فيه جُنَاح.
* الشيخ: فيه جُنَاح عليكم وعليهم، كذا؟ منطوق الآية ما هو؟ نفي الجناح على الأولياء وعلى المماليك والصغار في الدخول بغير استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، وهذا واضح ما هو إشكال، ومفهومها ثبوت الْجُنَاح في الدخول بغير استئذان في هذه الأوقات الثلاثة، الْجُنَاح على مَن؟
* طلبة: على الأولياء.
* الشيخ: على الأولياء، والصغار، والمماليك، إذا دخلوا بغير استئذان في هذه الأوقات الثلاثة، أما ثبوت الْجُنَاح على الأولياء إذا دخل هؤلاء بغير استئذان، فالأمر فيه ظاهر، أيش وجهه؟ أنهم ما دخلوا بغير استئذان إلا لأن هؤلاء قَصَّرُوا في واجب التربية والتأديب، ومَن قَصَّر في واجب ترَتَّب عليه ما يترتب على تركه، هذا بالنسبة للأولياء.
بالنسبة للماليك عليهم إثم، عليهم جُنَاح؛ لأنهم تركوا الواجب وهم مُكَلَّفُون بالِغُون عاقلون.
بالنسبة للصغار هذا هو الْمُشْكِل، على وين مُشْكِل؟ فإن الصغار لا إثم عليهم، فكيف يصح أن ينفي الإثم مع أنه لا إثم عليهم؟
* طالب: من الأصل ما عليهم.
* الشيخ: إي، دا الفارق، من الأصل ما عليهم إثم، لكن الآية قلنا مفهومة.
* طالب: بالنفي.
* الشيخ: بالنسبة للمفهوم، خَلِّي النفي، قد نقول: الأصل ما عليهم إثم، لكن بالنسبة للمفهوم الذي يقتضي إثبات الْجُناح فيما إذا دخلوا في هذه الأوقات الثلاث بدون استئذان، أو لا؟ إن هذا هو الإشكال، كونهم لا إثم عليهم إذا دخلوا في غير هذه الأوقات الثلاث بغير استئذان هذا واضح، نقول: الأصل النفي، وهذا نفي، لكن الآن الإشكال يا جماعة في دلالة المفهوم ولَّا في دلالة المنطوق؟
* طلبة: في دلالة المفهوم.
* الشيخ: في دلالة المفهوم؛ فإن دلالة المفهوم تدل على أنه يثبت الْجُناح لهؤلاء الصغار إذا دخلوا في هذه الأوقات بغير استئذان، وهذا وجه الإشكال، ويش وجه الإشكال؟ كيف يثبت الإثم على مَن لم يُكَلَّفُوا؟
فالجواب على هذا أن يقال: دلالة المفهوم لا يُشْتَرَط فيها العموم، وإنما تصح وتصدق بالدلالة على فرد من أفراده، ولهذا يقولون: المفهوم لا عموم له، فصار الجواب الآن أن نقول عليكم الدور.
* طالب: نقول: إن المفهوم لا عموم له.
* الشيخ: إي، دلالة المفهوم لا يُشْتَرَط لها العموم، فتصدق بصورة واحدة، أو بفرد واحد، وهنا كم صدقت بكم صورة؟
* طلبة: بصورتين
* الشيخ: بصورتين من ثلاث، فنقول: دلالة المفهوم لا يُشْتَرَط فيها العموم، وإنما تصدق بصورة واحدة من مئة صورة أو من ألف، فكيف وقد صدقت الآن بصورتين من ثلاث، والصورة الثالثة لولا الأدلة على خروجها ما خرجت أيضًا، الأدلة على خروجها عمومات الأدلة على أن الصغير غير مُكَلَّف، وأنه لا إثم عليه.
* طالب: شيخ، لكن الأصل فيها كغيرها؛ العموم ما لم يرد تخصيص.
* الشيخ: نعم، لكنه ما يُشْتَرَط، يعني نقول: إن المفهوم لا عموم له، بمعنى أنه يصدق بصورة واحدة، فيكون المفهوم على حسب الأدلة.
* طالب: قاعدة مضطردة؟
* الشيخ: قاعدة مضطردة عندهم، نعم، المفهوم يكون على حسب الأدلة، إن كان أدلة على العموم، وإلَّا يصدق بصورة واحدة.
* * *
يقول: (﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ للخدمة، ﴿بَعْضكُمْ﴾ طائف ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾.)
﴿طَوَّافُونَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم طوَّافون، والجملة هذه تعليل لقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، لماذا ليس عليهم جناح؟ لأنهم طوافون عليهم، يعني: مترَدِّدون، الطوَّاف بمعنى المتردِّد، ومنه الطائف بالبيت؛ لأنه يتردد عليه، ومنه قول النبي ﷺ في الْهِرَّة: «إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ»[[أخرجه أبو داود (٧٥)، والترمذي (٩٢)، والنسائي في المجتبى (٦٨، ٣٤٠)، وابن ماجه (٧٦٣) من حديث أبي قتادة الأنصاري.]]، أي: من المترددين عليكم، ومنه قول الناس للمساكين؟
* طالب: طوَّافون.
* الشيخ: طوَّافون؛ لأنهم يترددون على الناس يسألونهم، فعلى هذا تكون الجملة ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ تعليلًا لقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، لماذا لم يكن علينا ولا عليهم جناح بعدهن؟ لأنهم طوَّافون متردِّدُون، فلو أُلْزِمُوا بأن يستأذنوا كلما دخلوا لكان في ذلك مشقة عليهم، وعلى أهل البيت أيضًا؛ لأن أهل البيت قد يكونون منشغلين، ولا يسمعون المستأْذِن، وقد يثقل عليهم الرد عليه؛ لأنهم منشغلون، فيكون في ذلك مشقة على مَن؟ على المستأذِن وصاحب البيت.
لو ألزمنا الصبي الذي له ست سنوات، أو عشر سنوات، كلما طلع من البيت ودخل: لا تدخل إلا مطارقًا ومستأذنًا، وكذلك المملوك، فيه مشقة ولَّا لا؟ فيه مشقة كبيرة عليه وعلى أهل البيت، لهذا انتفى الحرج؛ لوجود المشقة، وسيأتي إن شاء الله ذكر ذلك أيضًا في الفوائد.
وقوله ﴿بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، قَدَّرَه المؤلف بقوله: (طائف على بعض)، وعلى هذا فالجملة الثانية ﴿بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ تأكيد للجملة الأولى التي هي ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾، فبعضكم يطوف على بعض ويتردد على بعض، فكوننا نُلْزِم بالاستئذان كلما دخل هذا الصبي، أو كلما دخل هذا المملوك، مع أنه دائمًا في خدمة أهل البيت؛ يأتي لهم بالحوائج وغير ذلك، يكون فيه مشقة.
قال: (والجملة مؤكِّدة لما قبلها -وهو قوله: ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ - ﴿كَذَلِكَ﴾، أي: كما بُيِّنَ ما ذُكِر، ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ ، أي: الأحكام، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بأمور خلقه، ﴿حَكِيمٌ﴾ بما دَبَّرَه لهم).
﴿كَذَلِكَ﴾، تقع هذه الجملة أو هذا التركيب في القرآن كثيرًا، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ﴾، ﴿كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾ [الروم ٥٥]، وما أشبهها.
وإعرابها أن الكاف اسم بمعنى (مثل)، وهي في محل نصب على المفعولية المطلَقة، أي: مثل ذلك التبيين يُبَيِّن الله لكم، كلما جاءك هذا التعبير نقول: الكاف اسم بمعنى (مثل) منصوب أيش عليه؟
* طالب: (...).
* الشيخ: على المفعولية المطلَقة، وإن شئت فقل: على أنه مفعول مُطْلَق، العامل فيه ما بعده، وتقدير الكلام هنا: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل ذلك البيان ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾.
وقوله: ﴿يُبَيِّنُ﴾ أي: يُوَضِّح ويُظْهِر.
وقوله: ﴿الْآيَاتِ﴾ يقول المؤلف: (أي: الأحكام)، ولو فُسِّرَت بما هو أعم لكان أولى؛ لأن الله يُبَيِّن الآيات الكونية والشرعية، لكن كأن المؤلف خَصَّها بالأحكام؛ لأن السياق في الأحكام هنا، ليس في الآيات الكونية، ولكن الأخذ بالعموم أولى.
وقوله: (الأحكام)، كيف كانت الأحكام آيات لله؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ما يخالف، الآيات المهم إنهم ينتفعون بها، لكنها تدل على الله.
* طالب: الحكمة في هذا يدل على الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: إي نعم لأن هذه الأحكام إذا تأمَّلها الإنسان وجدها في غاية الإتقان، ووجدها في غاية المناسبة للخلق، في جلب المصالح لهم، ودفع المضارِّ عنهم.
لله المثل الأعلى، لو أن رجلًا كتب له نظامًا، المادة الأولى، المادة الثانية، إلى آخره، وتدبرنا هذا النظام، وإذا هو نظام مُحْكَم مُتْقَن موفٍّ للمصالح ومناسب، ماذا نقول عن هذا الكاتب؟ نقول: إنه حكيم، ونعجب بحكمته، ويدل ذلك على ذكائه وفطنته.
فكيف بأحكام الله سبحانه وتعالى التي لا يمكن أن تتغير، ولا أن تتناقض، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء ٨٢]، فمن تَدَبَّر أحكام الله سبحانه وتعالى في خلقه تَبَيَّن له أنها من لدن حكيم خبير، ولهذا قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾.
وفي وصف الأحكام بالآيات إرشاد للخلق إلى تأمُّل هذه الأحكام؛ ليستدلوا بها على مُشَرِّعها، لا تظن إذا قال لك الأحكام الشرعية آيات من آيات الله المهم أنك تأتي وتقول: ما شاء الله، إنها آيات، وتؤمن بأنها آيات، لا، يجب أن تبحث وتتأمل، (...) يتبين لك كيف كانت آية من آيات الله عز وجل؛ لتستدل بها على مُشَرِّعها، على حكمته، وعلمه، ورحمته.
وهكذا أيضًا في الآيات الكونية ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ﴾ [فصلت ٣٧]، ما يكفي أن تقول: الليل من آيات الله، والنهار من آيات الله، والشمس من آيات الله، والقمر من آيات الله، ما يكفي هذا، إنما يقال لك: إنها من آيات الله، ويش السبب؟ ترغيبًا للبحث عن وجه كونها من آيات الله؛ لتستدل بها عن اقتناع على خالقها إن كانت كونية، وعلى مُشَرِّعِها إن كانت شرعية.
وقوله ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ إشارة إلى أن هذه الأحكام صادرة عن علم وعن حكمة، وإذا صَدَر الحكم عن علم وحكمة صار مطابِقًا للحق؛ لأن مخالفة الحق في الأحكام مرجعها أحد أمرين؛ إما الجهل، وإما السفه، الجهل منافٍ لأيش؟
* طالب: للعلم.
* الشيخ: منافٍ للعلم، أو السفه المنافي للحكمة، فقد يكون الْمُشَرِّع جاهلًا فلا يشرع أحكامًا مناسبة؛ لأنه جاهل، وقد يكون سفيهًا يعلم الأحكام ويعلم مصلحتها، ولكن لا يريدها، فيكون سفيهًا، فالله جل وعلا مُتَّصِفٌ بالعلم والحكمة اللَّتَيْن بهما أيش؟ تكون الأحكام مناسِبة للمصالح، وباختلاف واحد منهما يختل من الأحكام بحسبه، والله أعلم.
* طالب: (...).
* الشيخ: (...) نعم، يستأذنون دائمًا، لكن هذا فيما يبدو -والله أعلم- فيمن ليس من أهل البيت، أما صاحب البيت فلا يستأذن، هذا الظاهر، وسيأتي إن شاء الله؛ لأن المؤلف معلق كلام ..
* طالب: اللام.
* الشيخ: إي، لام الأمر للوجوب.
* * *
* طالب: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور ٦١].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تقدم أن الله سبحانه وتعالى بَيَّن، بل أوجب أن يستأذن الصغار والمماليك في ثلاث ساعات؛ الأولى: من قبل صلاة الفجر، والثانية: حين تضعون ثيابكم من الظهيرة، والثالثة: من بعد صلاة العشاء.
وبَيَّنَ الله سبحانه وتعالى الحكمة في ذلك بأن هذه الأوقات الثلاثة..؟
* طالب: عورات.
* الشيخ: عورات للإنسان، فربما يدخل الشخص عليه بدون استئذان، فيجده على عورته، أي: على ما يُسْتَقْبح أن يُرَى ويُسْتَهْجَن، وأظن أننا ما تكلمنا على الفوائد.
* طالب: لا.
* الشيخ: وسبق أيضًا أنه ليس عليهم ولا على أوليائهم جُنَاح بعد هذه الثلاث في أن يدخلوا بدون استئذان، وبَيَّنَ الله الحكمة من ذلك أيضًا بأنهم..؟
* طالب: ﴿طَوَّافُونَ﴾.
* الشيخ: طوَّافون علينا، بعضنا على بعض طواف متردد، وإيجاب الاستئذان في كل ما ترددوا فيه حرج ومشقة.
* نبدأ الآن بالفوائد:
* أولًا: توجيه الخطاب للمؤمنين والحكم لغيرهم يدل على أنهم..؟
* طالب: مسؤولون.
* الشيخ: مسؤولون عنهم.
* ثانيًا: وجوب استئذان هذين الصنفين من الناس الصغار والمماليك في ثلاثة أوقات فقط وهي المذكورة، وأما مَن سواهم فيجب عليهم الاستئذان دائمًا.
* طالب: الصغير يدخل على بيت غير بيته.
* الشيخ: إي نعم، فظاهر الآية أنه لا يجب عليه استئذان؛ لأنه صغير ولا يهتم بالأمور.
* طالب: (...) طوَّافون عليكم.
* الشيخ: إي نعم، وفيه دليل على تعليل الأحكام، وأرجو أن لا أحد يسأل ما دمنا نستنبط؛ لأنه قد يكون في ذهني شيء، ثم هذا السؤال يحول بيني وبينكم؛ لأن محل السؤال والمناقشة بعد الدرس.
* الفائدة الثالثة: تعليل الأحكام، بمعنى أن أحكام الله سبحانه وتعالى كلها مبنية على الحِكَم، وجه ذلك في الآية أن الله عَلَّل الحكم الأول والحكم الثاني؛ الحكم الأول: وجوب الاستئذان في ثلاثة أوقات بأنها..؟
* طالب: عورات.
* الشيخ: عورات، والحكم الثاني: عدم الاستئذان فيما عداها بأنهم طَوَّافون عليكم.
* الفائدة الرابعة: تحريم النظر إلى العورات، ما وجهه؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: أنه إذا وجب الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة خوفًا من أن يفاجئهم على عورة، فمن تعمد النظر إلى عورة فهو أولى، إذن فيستفاد منه تحريم النظر إلى العورة، سواء كان الناظر صغيرًا أو كبيرًا، وأما تهاون بعض الناس في نظر الصغير إلى العورة فهذا خطأ، بعض الناس إذا صار الصغير تَوُّه ست سنين، سبع سنين، ما يهمه أن ينظر إلى عورته، وذلك لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يرتسم في ذهنه هذا المنظر، ثم ربما يذكره في يوم من الأيام.
الحاصل أن هذا فيه دليل على تحريم النظر إلى العورة من الصغير والكبير، ولكن ترى المراد بالصغير الذي يميز؛ لأن قوله: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ﴾ دليل على أنه مُمَيِّز، يُؤْمَر بالاستئذان فيستأذن، أما الصغير وغير الْمُمَيِّز فهذا ليس له.. ما يدري عن شيء.
* الفائدة الخامسة: رفع الحرج والمشقة على الناس، من أين نأحذه؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: إي نعم، من رفع الحرج في عدم الاستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة بأنهم طوَّافون عليهم مترددون، والاستئذان فيه مشقة.
* الفائدة السادسة: أن الولي آثِمٌ لما ارتكبه مَوْلِيُّه من معصية أو مخالفة، إذا كان قد فرَّط في تربيته وتأديبه؛ لقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾.
* الفائدة السابعة: طهارة بدن الطفل، وإن غلب على الظن أنه نجس، من أين نأخذه؟
* طالب: ﴿طَوَّافُونَ﴾.
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: عدم الاحتراز.
* الشيخ: إي، ما يخالف، عدم الاحتراز بالنسبة للاستئذان.
* طالب: قول النبي ﷺ لما سُئِلَ عن الهرة قال: «إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ»[[أخرجه أبو داود (٧٥)، والترمذي (٩٢)، والنسائي في المجتبى (٦٨، ٣٤٠)، وابن ماجه (٧٦٣) من حديث أبي قتادة الأنصاري.]].
* الشيخ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ»، وعلَّل ذلك بأنها من الطوافين، وهؤلاء من الطوافين، فربما يؤخَذ من هذا طهارة بدن الطفل، وأنه طاهر ما لم يتيقن النجاسة، فإذا تيقن النجاسة هذا شيء ثانٍ.
* والفائدة الثامنة في هذه الآية: منة الله تعالى على العباد ببيان الآيات الكونية والشرعية، حتى لا يبقى للناس على الله حجة بعد هذا البيان، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾.
* الفائدة التاسعة: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل تشريع الله عز وجل ونظامه، من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
* الشيخ: لا، غير هذا، من كونه جعل ذلك من الآيات، وآيات الله معناها أنها لا تصلح لغيره؛ إذ لو صلحت لغيره لم تكن آية له، فهذا يدل على أن شرع الله لا يمكن أن يأتي أحد بمثله، وإلا ما صح أن يكون آية، لكان غير آية.
* وفيه أيضًا: دليل على ثبوت ملك اليمين للآدميين، وأن الإسلام جاء بالرق؛ لقوله؟ ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾.
ولكن كما هو معروف أن الإسلام حمى حقوق هؤلاء المماليك، ورَغَّبَ في تحريرهم وعتقهم، وجعل للعتق أسبابًا متعدِّدة.
* الفائدة الحادية عشرة: جواز وضع الثوب عند النوم، ويلتحف الإنسان بلحاف؛ لقوله: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾، قَيَّدَ الظهيرة بقوله: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ﴾، وفي الأول ما قيدها، قال: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾، وكذلك فيما بعد: ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾، ولم يقل: حين تضعون ثيابكم من الفجر أو من العشاء.
* طالب: لأنه ليس كل الناس يفعلون هذا، بخلاف النوم يعني من بعد العشاء، أو تضع الثياب من الحر.
* طالب آخر: يعني السهر، أولًا: فيه ناس أعمالهم تضطرهم، فلا يفعلون هذا الشيء، ينامون في أماكن أعمالهم.
* الشيخ: ما يضعون ثيابهم، يعني ينامون بدون وضع ثياب.
* طالب: لا، ما ينامون أصلًا.
* الشيخ: إي، هذه واحدة، والشيء الثاني؟
* طالب: يعني الوقت (...).
* الشيخ: وفي الليل، ما له ثياب إلا النوم؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: (...) لكن ما هم يضعون ثيابهم الناس عند النوم؟
* الطالب: في الأغلب.
* الشيخ: لا، هو الظاهر إنه ما كل الناس يكون ما عند الظهر عورة لهم، إنما يكون عورة لمن يضع ثوبه لينام عند الظهيرة.
وبعضهم قال: لأن نومة الظهر ليست طويلة، فبعض الناس ما يخلع ثيابه، ولهذا قيَّدها بقوله: ﴿حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾، بخلاف نوم الليل؛ فإن الناس يخلعون ثيابهم؛ لأن مدته تطول.
* طالب: ما نحتاج لوضع الثوب بالنهار بعد الظهر فمن باب أولى.
* الشيخ: لا، ما نحن الآن نسأل عن شواذ وضع الثوب، نسأل: ما الحكمة في تقييد الظهر بقوله: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ﴾، ولم يقيِّده بالليل ولا ما بالليل، هذا ما هو بسؤالنا هل يجوز ولَّا ما يجوز، لا، الجواب: جائز.
* الفائدة الثانية عشرة: فيه دليل على عناية الله سبحانه وتعالى بالخلق، وأنهم وإن رَضُوا بما يُسْتَقْبَح فلن يرضى الله به.
فقد يقول قائل: أنا ما يهمني إذا دخل عليَّ طفلي في هذه الأوقات الثلاثة.
فنقول له: ولكن الله سبحانه وتعالى قد اعتنى بك، ومنع من الدخول عليك في هذه الأوقات الثلاثة.
* الثالثة عشرة: وهي جواز الدخول بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، ذكرناها؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: فيه بحث هل هذه الآية مُحْكَمَة أو منسوخة، أو تُرِكَ العمل بها لزوال الحاجة إليها، إيش قلنا أمس؟
* طالب: قلنا: قال بعض العلماء: إن هذه الآيات منسوخة، بدليل أنه تُرِكَ العمل بها، وثبت عن ابن عباس أنه قال: «هي مُحْكَمَة، ولكن في حال دون حال»[[أخرجه معمر في الجامع (١٠ / ٣٧٩) (١٩٤١٩)، وابن أبي حاتم في التفسير (٨ / ٢٦٣٢) (١٤٧٨٩).]].
وقال بعض العلماء: أنه في السابق كانت البيوت يعني ليس بها أستار ولا حجب، ثم وُجِدَت الأستار والحجب فبطل.
ولكن الصحيح أنه قال: إنه لما كانت البيوت فيها أستار وحجب، يقال: هذا (...) حجرة خاصة بالنوم. فيقال: هذا الحكم ما فيه (...) خاصة.
* الشيخ: إذن الآية مُحْكَمَة، ويجب أن نعرف أنه ما يجوز أن نقول عن آية أو حديث: إنه منسوخ، إلا بعد أيش؟
* طالب: بعد تعذر.
* الشيخ: أن يتعذر الجمع بينه وبين ما ادُّعِيَ أنه ناسخه، وأن يُعْلَم..
* الطالب: تأخر الناسخ.
* الشيخ: التاريخ بتأخر الناسخ، وإلا إذا كان إنك ما تستطيع أن تجمع فَكِلِ العلمَ إلى الله، أما أن تدعي النسخ! لأن معنى النسخ إبطال هذ النص، وإبطال النص صعب، ولذلك يجب على الإنسان أن يتورَّع عن إطلاق النسخ فيما لم يثبت نسخُه، ثم إن ترك العمل بها لا يدل على أنها منسوخة في الحقيقة؛ لأن كم من أشياء مُحْكَمَة وترك الناس العمل بها، فترْك الناس للعمل بها إما تهاونًا، وإما لزوال السبب الموجِب للاستئذان.
* الفائدة الخامسة عشرة: وفي الآية أيضًا إثبات العلم والحكمة لله من هذين الاسمين ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، والحكمة سبق لنا أنها وضع الأشياء في مواضعها، بل سبق لنا أن الحكيم ليس معناها ذو الحكمة، فقط، بل معناه ذو الحُكم والحكمة.
* طالب: (...) يا شيخ القاعدة أن المشقة تجلب التيسير.
* الشيخ: إي نعم، فيها أن المشقة تجلب التيسير، نشوف كلام المؤلف؛ لأن له تعليقًا في هذه الآية.
* * *
قال: (وآية الاستئذان قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاوَنَ الناس في ترك الاستئذان).
هذان القولان اللذان أشرنا إليهما، والصحيح: أن الآية مُحْكَمَة وباقية، وأن ترْك الاستئذان إما للتهاون، وإما لزوال السبب الموجِب للاستئذان، وأما أن نقول: إن الأحكام الشرعية تُنْسَخ بترك الناس العملَ بها، فهذا لا وجه له.
* طالب: شيخ، يقول بعض الناس: في ترك ..
* الشيخ: في ترك الاستئذان.
* طالب: ما قال: تهاون في الاستئذان.
* الشيخ: لا، في تركه، (تهاون الناس في تركه)، يعني: فتركوه، أنت قصدك أن الذي ينبغي أن يقول في فعله: تهاونوا به، هذا لا يقال: بفعله، بتركه، ويصلح أيضًا تهاون الناس، بماذا تهاونوا، أو ما سبب تهاونهم؟ يكون: ترك الاستئذان.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي نعم، من المعصية، هذه مخالفة، إذا قصَّر، قَيَّدْنَاها، إذا قَصَّر في تربيته وتأديبه، أما إذا لم يُقَصِّر فلا.
* الطالب: إذا كان بالغًا؟
* الشيخ: لا، إذا كان بالغًا فقد استقلَّ بنفسه، لكن يبقى إذا بلغ يصير مثل غيره، إذا قدر على تغيير المنكر الذي ارتكبه وجب عليه.
كنا أيضًا بحثنا أمس في مسألة قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، وقلنا: للآية منطوق ومفهوم؛ منطوقها لا إشكال فيه، وهو نفي الْجُناح؛ لأنه (...) الجناح.
لكن مفهومها أنه عليهم جُناح في هذه الأوقات الثلاثة؛ على الأولياء وعلى الصغار، وهذا فيه إشكال؛ لأن الصغار ليسوا مُكَلَّفِين حتى يكون عليهم جُناح بالمعصية.
* طالب: قلنا: إن المفهوم (...)، وأن المنطوق يصدق بأحد الأفراد.
* الشيخ: إي نعم، نقول: المفهوم ليس له عموم، فيصدق بوجود صورة من العموم، ولو صورة واحدة.
* * *
ثم قال: (﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ﴾ أيها الأحرار ﴿الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ في جميع الأوقات ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: الأحرار الكبار).
إذا بلغوا الحلم يقول المؤلف: (﴿مِنْكُمُ﴾ أيها الأحرار)، وذلك لأن المماليك -كما سبق- لا يستأذنون إلا في الأوقات الثلاثة، سواء كانوا كبارًا أو صغارًا، ولهذا قَيَّدَها المؤلف بالأحرار لمفهوم الآية الأولى.
وقوله: (بلغوا الحلُم) هو كناية عن البلوغ بالإنزال، والحلُم بمعنى: الاحتلام، أو بمعنى: العقل؛ وذلك لكمال عقولهم، لكن الأول أولى؛ لأنه ما يشترط في هذا كمال العقل، وكمال العقل يحصل بكمال أربعين سنة.
وقوله إذا بلغوا الحلم: ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾، لم يذكر الله سبحانه وتعالى سوى بلوغ الحلم.
والمعروف أن هناك شيئين آخَرين يحصل بهما البلوغ، هما: تمام خمس عشرة سنة، وإنبات شعر العانة. لكن هذان أمران فيهما خلاف بين العلماء.
فمنهم من يرى أنه لا بلوغ إلا بالإنزال، وأن تمام خمس عشرة سنة ليس علامة على البلوغ، بل علامة على قُدرة الإنسان على الجهاد؛ لأن الذين أخذوا بها إنما أخذوا بحديث ابن عمر -رضي الله عنه- «حينما عُرِضَ على النبي ﷺ عام أُحُد فلم يُجِزْه، وعُرِضَ عليه عام الخندق فأجازه»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٦٤)، ومسلم (١٨٦٨ / ٩١) من حديث ابن عمر.]]، وكان له عام الخندق خمس عشرة سنة، لكن في رواية للحاكم أنه قال: «فلم يُجِزْنِي، ولم يَرَنِي بَلَغْت»[[أخرجه ابن حبان (٤٧٢٨)، والدارقطني (٤٢٠٢) من حديث ابن عمر، ولم نقف عليه بهذا اللفظ عند الحاكم، وهو متفق عليه بغير ذكر البلوغ.]]، والثانية: «فأجازني ورآني بَلَغْت»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٦٤)، ومسلم (١٨٦٨ / ٩١) بلفظ: فَأَجَازَنِي، دون ذكر البلوغ.]].
لكن كلمة: بَلَغْت، هل معناها: بَلَغْت سن التكليف، أو بَلَغْت الحالة التي يمكنني فيها أن أُجَاهِد؟
فيه احتمال، لكن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي الله «كتب إلى عُمَّالِه أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة سنة، ورآهم قد بلغوا، وقال: إذا كان هذا السن حَدًّا لصلاحهم للقتال فهو حَدٌّ لبلوغهم»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٦٤)، ومسلم (١٨٦٨ / ٩١) من حديث ابن عمر.]].
ويرى بعض العلماء -كأبي حنيفة- أن حد البلوغ ثماني عشرة سنة، لا خمس عشرة سنة، وهذا هو الذي مشى عليه نظام العمل والعُمَّال هنا؛ لأن الذي واضعه فيما يظهر إنسان أجنبي، ما يعرف إلا المذهب المعروف في الشارع عند عامة المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة الذي يُقَيِّدُه بثماني عشرة سنة، إنما مذاهب الأئمة الثلاثة أن البلوغ يحصل بخمس عشرة سنة.
أما إنبات العانة فنفس الشيء أيضًا؛ فيه الخلاف، والذين قالوا: إنه ليس علامة على البلوغ، قالوا: إن كون الرسول عليه الصلاة والسلام يكشف عن مؤتزَر بني قريظة؛ فمن أَنْبَت قَتَلَه، ليس ذلك دليلًا على أنه مُكَلَّف، بل هو دليل على أنه من أهل القتال، فيقتله النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن المشهور من المذهب ما هو معروف لديكم من أن البلوغ يحصل بواحد من ثلاثة أشياء.
قال: ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾، وَجَّهَ الخطاب لهم؛ لأنهم إذا بلغوا الحلم صاروا أهلًا للتكليف، وتوجيه الخطاب إليهم.
وقوله: ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، أي: من عامة الناس الذين يستأذنون بجميع الأوقات.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾، أي: مثل ذلك البيان يُبَيِّن، وقد قلنا: إن الكاف اسم بمعنى (مثل)، وهي مفعول مطلَق لـ(يُبَيِّن).
وهنا الآية الكريمة مثل الآية التي قبلها إلا الفرق بقوله: ﴿آيَاتِهِ﴾ بدل ﴿الْآيَاتِ﴾، ولعل هذا -والله أعلم- من باب التنويع في الخطاب أو في الأسلوب، وإلا فمعناهما سواء.
ثم قال تعالى: (﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾: قعدن عن الحيض والولد لِكِبَرِهِنّ ﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ لذلك، ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ من الجلباب والرداء والقناع والخمار، ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ﴾: مظهرات ﴿بِزِينَةٍ﴾ خفية؛ كالقلادة والسوار والخلخال، ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾ ) إلى آخره.
﴿الْقَوَاعِدُ﴾ جمع (قاعدة).
وقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ بيان للقواعد.
لأن (أل) في القواعد اسم موصول؛ لأنه إذا دخلت (أل) على اسم مُشْتَق، سواء كان اسم مفعول أو اسم فاعل فهي اسم موصول، فالقواعد بمعنى: اللاتي قَعَدْن.
وقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ بيان لقواعد، لكن قَعَدْنَ عن أي شيء؟
يقول المؤلف: (عن الحيض والولد)، فيصير معنى القواعد، معناه: اللاتي لا يلدن ولا يَحِضْنَ؛ لكبرهن.
وقيل: القواعد الملازمات للبيوت لكبرهن؛ لأنهن لا يخرجن من العجز والضعف، فهن قواعد.
وقيل: إن القواعد اسم للعجائز مطلَقًا، مثلما نقول: عجوز، مشتقة من العجز، نقول أيضًا: قاعدة، بمعنى: عاجزة عن القيام والذهاب والإياب.
وقوله: ﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾، ﴿اللَّاتِي﴾ صفة لأيش؟
* طالب: للقواعد.
* الشيخ: للقواعد ولَّا للنساء؟
* طالب: للقواعد.
* الشيخ: صفة للقواعد؛ لأنك إذا قلت: من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا، صار فيه قواعد من النساء اللاتي يرجون نكاحًا، وليس الأمر كذلك، فقوله: ﴿اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ صفة للقواعد.
وقوله ﴿لَا يَرْجُونَ﴾، كيف ﴿لَا يَرْجُونَ﴾ وهن مؤنث، و﴿يَرْجُونَ﴾ فعل مذكر؟
* طالب: النون نون النسوة.
* الشيخ: والواو؟
* الطالب: الواو اسم فعل.
* الشيخ: إي نعم، الواو واو الفعل، والنون نون النسوة.
ومعنى ﴿لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾، أي: لا يَطْمَعْنَ فيه، وذلك لكبرهن؛ لأنه ما يبغيهن أحد يتزوجهن من العجائز.
﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾، لا شك أن المراد بقوله: ﴿يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ ليس جميع الثياب، بمعنى يَبْقَيْنَ عُرَاة، هذا لا يمكن القول به، إذن فما المراد بالثياب؟ الثياب الظاهرة التي جَرَت العادة بلبسها، مثل: (الجلباب -يقول المؤلف– والرداء، والقناع، والخمار)، هذه الأشياء الظاهرة.
فيجوز للمرأة العجوز أن تلبس مقطعًا، وتُبْدِي يديها ورأسها ووجهها ورجليها وساقيها، لكن بشرط أن لا تتبرج بزينة؛ ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾، فإن كانت تبغي علشان تبقى الزينة من بعد العجز لا هن براجيات النكاح، يحب أنهن يُرَيْنَ بمنزلة الشواب، تجدها مثلًا تلبس سوارًا، وتلبس خلخالًا، وتقعد تبجَّح عند الناس.
لكن هذا بشرط أن لا تكون بهذا الحال، إن كانت بهذا الحال فلا يجوز، لكن إذا كانت المسألة طبيعية فيجوز لها أن تضع ثيابها.
* طالب: ولو كانت عند أجنبي؟
* الشيخ: إي نعم. ولو كانت عند أجنبي؛ لأنها ما ترجو نكاحًا، عادت باغية، وسيأتي إن شاء الله في ذكر الفوائد أشياء أكثر من هذا.
* طالب: بزينة، ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾.
* الشيخ: إي، يعني بمعنى تبرج إلا بالزينة، ما فيه تبرج إلا بالزينة، أقول: هذا بيان للواقع.
* طالب: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾، هل يجوز أن تُصْطَحَب للخدمة أو شيء من هذا القبيل؟
* الشيخ: إي، إذا كانت عجوزًا ما يخاف، يعني لو أن إنسانًا جاب امرأة عجوزًا خادمًا في البيت يجوز تكشف، ما فيه مانع.
* طالب: والْمَحْرَم؟
* الشيخ: لا، المحرَم الأحاديث عامة، ما يجوز تسافر إلا بمحرَم.
* طالب: ما هي موجودة في البيت؟
* الشيخ: لا، ما هو بشرط؛ لأن البيت إذا صار ما فيه خلوة ما يخالف.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، بلوغها تمامًا، تمام الخامسة عشرة.
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم.
معناه ذو الحكم، والحكمة ويش تقول؟
* طالب: (...) يا شيخ، القاعدة أن..
* الشيخ: المشقة.
* الطالب: المشقة تجلب التيسير.
* الشيخ: إي نعم، فيها أن المشقة تجلب التيسير، نشوف كلام المؤلف؛ لأن له تعليق في هذه الآية.
قال: (وآية الاستئذان قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تَهاوَنَ الناسُ في ترك الاستئذان) القولان اللذان أشرنا إليهما، والصحيح أن الآية محكمة وباقية وأن ترك الاستئذان إما للتهاون وإما لزوال السبب الموجب للاستئذان، وأما أن نقول: إن الأحكام الشرعية تُنْسَخ بترك الناس العمل بها فهذا لا وجه له.
* طالب: الشيخ يقول: (في ترك)، (تهاون الناس في ترك)؟
* الشيخ: في ترك الاستئذان.
* الطالب: ما قال: إنه تهاون الناس في فعله.
* الشيخ: لا، في تركه، تهاون الناس في تركه، يعني: فتركوه، أنت قصدك إن الذي ينبغي أن يقول في فعله تهاونوا به، هذا لو قال: بتركه، ويصلح أيضًا: تهاون الناس، بماذا تهاونوا أو ما سبب تهاونهم؟ يكون تركه، ترك الاستئذان، إي نعم.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي نعم، من المعصية أو المخالفة، إذا قَصَّر، قيدناها، ويش قيدناها؟ إذا قصَّر في تربيته وتأديبه أما إذا لم يقصر فلا.
* طالب: ولو كان بالغًا.
* الشيخ: وين؟
* الطالب: ذكرنا (...).
* الشيخ: لا، إذا كان بالغًا فقد استقل بنفسه؛ لكن يبقي إذا بلغ يصير مثل غيره إذا قدر على تغيير المنكر الذي ارتكبه وجب عليه.
إحنا أيضًا بحثنا أمس في مسألة قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ [النور ٥٨]، وقلنا: للآية منطوق ومفهوم؛ منطوقها لا إشكال فيه، وهو نفي الجناح؛ لأنه منتفي الجناح، لكن مفهومها أنه عليهم جناح في هذه الأوقات الثلاثة.
على الأولياء وعلى الصغار، وهذا فيه إشكال؛ لأن الصغار ليسوا مكلفين حتى يكون عليهم جناح في معصيتهم.
* الطالب: المنطوق له أفراد متعددة، وأنه يَصْدُق بأحد الأفراد.
* الشيخ: بأحد الأفراد، إي نعم، نقول: المفهوم ليس له عموم، فَيَصْدُق بوجود صورة من العموم، ولو صورة واحدة.
{"ayahs_start":54,"ayahs":["قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا عَلَیۡهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَیۡكُم مَّا حُمِّلۡتُمۡۖ وَإِن تُطِیعُوهُ تَهۡتَدُوا۟ۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ","وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ","وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ","لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِیَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِینَ مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ وَٱلَّذِینَ لَمۡ یَبۡلُغُوا۟ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَـٰثَ مَرَّ ٰتࣲۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِینَ تَضَعُونَ ثِیَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِیرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَاۤءِۚ ثَلَـٰثُ عَوۡرَ ٰتࣲ لَّكُمۡۚ لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ وَلَا عَلَیۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّ ٰفُونَ عَلَیۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"],"ayah":"لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق