الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلَخْ بَيانٌ لِمَآلِ الكَفَرَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ بَعْدَ بَيانِ تَناهِيهِمْ في الفِسْقِ وفَوْزِ أضْدادِهِمْ بِالرَّحْمَةِ المُطْلِقَةِ المُسْتَتْبَعَةِ لِسَعادَةِ الدّارَيْنِ، وفي ذَلِكَ أيْضًا رَفْعُ اسْتِبْعادِ تَحَقُّقِ الوَعْدِ السّابِقِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِ الكَفَرَةِ وعَدَدِهِمْ والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَتَأتّى مِنهُ الحَسَبْنا نَظِيرَ ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ﴾ [السَّجْدَةُ: 12] .
وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ عَلى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ بِمَن صَدَرَ مِنهُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: «إيّاكَ عَنِّي فاسْمَعِي يا جارَةُ» أوِ الإشارَةُ إلى أنَّ الحُسْبانَ المَذْكُورَ بَلَغَ في القُبْحِ والمَحْذُورِيَّةِ إلى حَيْثُ يَنْهى مَن يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْهُ فَكَيْفَ بِمَن يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنهُ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ( ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ) [الأنْعامُ: 14، يُونُسُ: 105، القِصَصُ: 87] فَقَوْلُ أبِي حَيّانَ: إنَّ جَعْلَ الخِطابِ لِلرَّسُولِ ﷺ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأنَّ مِثْلَ هَذا الحُسْبانِ لا يَتَصَوَّرُ وُقُوعَهُ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِما فِيهِ مِنَ الغَفْلَةِ عَمّا ذَكَرَ ومَحْمَلُ المَوْصُولِ نَصْبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ أوَّلُ لِلْحُسْبانِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُعْجِزِينَ﴾ ثانِيهُما وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فِي الأرْضِ﴾ ظَرْفٌ لِمُعْجِزِينَ لَكِنْ لا لِإفادَةِ كَوْنِ الإعْجازِ المَقْصُودِ بِالنَّفْيِ فِيها لا في غَيْرِها فَإنَّ ذَلِكَ غَنِيٌّ عَنِ البَيانِ بَلْ لِإفادَةِ شُمُولِ عَدَمِ الإعْجازِ لِجَمِيعِ أجْزائِها أيْ لا تَحْسَبَنَّهم مُعْجِزِينَ اللَّهِ تَعالى عَنْ إدْراكِهِمْ وإهْلاكِهِمْ في قُطْرٍ مِن أقْطارِ الأرْضِ بِما رَحَّبْتَ وإنْ هَرَبُوا مِنها كُلَّ مَهْرَبٍ. وقَرَأ حَمْزَةُ وابْنُ عامِرٍ «يَحْسَبْنَ» بِالياءِ آخِرُ الحُرُوفِ عَلى أنَّ الفاعِلَ كُلُّ أحَدٍ كَأنَّهُ قِيلَ لا يَحْسَبْنَ حاسِبَ الكافِرِينَ مُعْجِزِينَ لَهُ ( عَزَّ وجَلَّ ) في الأرْضِ وضَمِيرِهِ ﷺ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ وإلَيْهِ ذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ.
وزَعْمُ أبِي حَيّانَ أنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِما تَقَدَّمَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ أوْ ضَمِيرِ الكافِرِ أيْ لا يَحْسَبْنَ الكافِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمانَ أوِ المَوْصُولِ والمَفْعُولِ الأوَّلِ مَحْذُوفٌ كَأنَّهُ قِيلَ: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْفُسَهم مُعْجِزِينَ في الأرْضِ، وذَكَرَ أنَّ الأصْلَ عَلى هَذا لا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرَ الَّذِي هو المَفْعُولُ الأوَّلُ وكَأنَّ الَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أنَّ الفاعِلَ والمَفْعُولَيْنِ لَمّا كانَتْ كالشَّيْءِ الواحِدِ اقْتَنَعَ بِذِكْرِ اثْنَيْنِ عَنْ ذَلِكَ الثّالِثِ، وتَعَقَّبَهُ في البَحْرِ بِأنَّ هَذا الضَّمِيرَ لَيْسَ مِنَ الضَّمائِرِ الَّتِي يُفَسِّرُها ما بَعْدَها فَلا يَجُوزُ كَوْنُ الأصْلِ (لا يَحْسَبُهُمُ الَّذِينَ إلَخْ كَما لا يَجُوزُ ظَنُّهُ زِيدَ قائِمًا، وقالَ الكُوفِيُّونَ ﴿مُعْجِزِينَ﴾ المَفْعُولُ الأوَّلُ و﴿فِي الأرْضِ﴾ المَفْعُولُ الثّانِي، والمَعْنى لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أحَدًا يَعْجِزُ اللَّهَ تَعالى في الأرْضِ حَتّى يَطْمَعُوا في مِثْلِ ذَلِكَ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا مَعْنًى قَوِيٌّ جَيِّدٌ، وتَعَقَّبَ بِأنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ المُطايَقَةِ لِمُقْتَضى لِلْمَقامِ ضَرُورَةَ أنَّ مَصَبَّ الفائِدَةِ هو المَفْعُولُ الثّانِي ولا فائِدَةَ في بَيانِ كَوْنِ المُعْجِزِينَ في الأرْضِ. ورَدَّ بِأنَّهُ وإنْ كانَ (p-209)مَصَبُّ الفائِدَةِ جَعَلَ مَفْرُوغًا مِنهُ وإنَّما المَطْلُوبُ بَيانُ المَحَلِّ أيْ لا يَعْجِزُوهُ سُبْحانَهُ في الأرْضِ والإنْصافُ أنَّ ما ذُكِرَ خِلافُ الظّاهِرِ، والظّاهِرُ إنَّما هو تَعَلَّقَ ﴿فِي الأرْضِ﴾ بِمُعْجِزِينَ وأيًّا ما كانَ فالقِراءَةُ المَذْكُورَةُ صَحِيحَةٌ وإنِ اخْتَلَفَتْ مَراتِبُ تَخْرِيجاتِها قُوَّةً وضَعْفًا، ومِن ذَلِكَ يَعْلَمُ ما فِيقَوْلِ النُّحاسِ ما عَلِمْتَ أحَدًا مَن أهْلِ العَرَبِيَّةِ بَصَرِيًّا ولا كُوفِيًّا إلّا وهو يُخْطِئُ قِراءَةَ حَمْزَةَ، فَمِنهم مَن يَقُولُ: هي لَحْنِ لِأنَّهُ لَمْ يَأْتِ إلّا بِمَفْعُولٍ واحِدٍ لِيَحْسَبْنَ، ومِنهم مَن قالَ هَذا أبُو حاتِمٍ انْتَهى مِن قِلَّةِ الوُقُوفِ ومَزِيدِ الهَذَيانِ والجَسارَةِ عَلى الطَّعْنِ في مُتَواتِرٍ مِنَ القُرْآنِ، ولَعَمْرِي لَوْ كانَتِ القِراءَةُ بِالرَّأْيِ لَكانَ اللّائِقُ بِمَن خُفِيَ عَلَيْهِ وجْهُ قِراءَةِ حَمْزَةَ أنْ لا يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الكَلامِ ويَتَّهِمُ نَفْسَهُ ويَحْجِمُ عَنِ الطَّعْنِ في ذَلِكَ الإمامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَأْواهُمُ النّارُ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ النَّهْيِ بِتَأْوِيلِها بِجُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ لِأنَّ المَقْصُودَ بِالنَّهْيِ عَنِ الحُسْبانِ تَحْقِيقُ نَفْيِ الحُسْبانِ كَأنَّهُ قِيلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ ومَأْواهُمُ النّارُ.
وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى مُقَدَّرٍ لِأنَّ الأوَّلَ وعِيدُ الدُّنْيا كَأنَّهُ قِيلَ مَقْهُورُونَ في الدُّنْيا بِالِاسْتِئْصالِ ومَخْزُونِ في الآخِرَةِ بِعَذابِ النّارِ، وعَنْ صاحِبِ النُّظُمِ تَقْدِيرُهُ بَلْ هم مَقْدُورٌ عَلَيْهِمْ ومُحاسَبُونَ ومَأْواهُمُ النّارُ.
قالَ في الكَشْفِ: وجَعَلَهُ حالًا عَلى مَعْنى لا يَنْبَغِي الحُسْبانُ لِمَن مَأْواهُ النّارُ كَأنَّهُ قِيلَ أنّى لِلْكافِرِ هَذا الحُسْبانِ وقَدْ أعَدَّ لَهُ النّارَ، والعُدُولُ إلى ﴿ومَأْواهُمُ النّارُ﴾ لِلْمُبالَغَةِ في التَّحَقُّقِ وأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهم لا رَيْبَ وجْهٍ حَسَنٍ خالٍ عَنْ كَلَفٍ لِكُلْفَةٍ ألَمَّ بِهِ بَعْضُ الأئِمَّةِ انْتَهى، ولا يَخْفى أنَّ في ظاهِرِهِ مَيْلًا إلى بَعْضِ تَخْرِيجاتِ قِراءَةِ «يَحْسَبْنَ» بِياءِ الغَيْبَةِ.
وتَعَقَّبَ في البَحْرِ تَأْوِيلُ جُمْلَةِ النَّهْيِ لِتَصْحِيحِ العَطْفِ عَلَيْها بِقَوْلِهِ: الصَّحِيحُ أنَّهُ يَجُوزُ عَطْفُ الجُمَلِ عَلى اخْتِلافِها بَعْضًا عَلى بَعْضٍ وإنْ لَمْ تَتَّحِدْ في النَّوْعِيَّةِ وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهَ، والمَأْوى اسْمُ مَكانٍ، وجَوَّزَ فِيهِ المَصْدَرِيَّةَ والأوَّلُ أظْهَرُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَبِئْسَ المَصِيرُ﴾ جَوابٌ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أيْ وبِاللَّهِ ( لَبِئْسَ المَصِيرُ ) هي أيُ النّارِ، والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرَّرٌ لِما قَبْلِهِ، وفي إيرادِ النّارِ بِعُنْوانِ كَوْنِها مَأْوى ومَصِيرًا لَهم أثَرُ نَفْيٍ فَوْتِهِمْ بِالهَرَبِ في الأرْضِ كُلَّ مَهْرَبٍ مِنَ الجَزالَةِ ما لا غايَةَ وراءَهُ فَلِلَّهِ تَعالى دَرُّ شَأْنِ التَّنْزِيلِ.
{"ayah":"لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











