الباحث القرآني

قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٤٤]. (قاتلوا): هنا حُذف المفعول، والمفعول معلوم وهم الكفار، قاتلوا الكفار. وقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: في طريقه. وهذا يشمل النية والعمل، أما النية فأن يكون الإنسان قاصدًا بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا كما جاء في الحديث الصحيح «أن رسول الله ﷺ سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ » أيهم الحمية أو الشجاعة أو من قاتل ليرى مكانه، رياء وسمعة أي ذلك في سبيل الله؟ عدل النبي ﷺ في الجواب عن كل هذه الثلاثة وقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٢٣)، ومسلم (١٩٠٤ / ١٥٠)، من حديث أبي موسى الأشعري.]] هذا القتال في سبيل الله، أن تكون نيتك أن تكون كلمة الله هي العليا، لا كلمتك أنت، ولا كلمة إمامك الذي تقتدي به، ولا كلمة أي من كان، ولكنها كلمة الله سبحانه وتعالى، أن تكون كلمة الله هي العليا، كذا. هذا باعتبار النية. كذلك في سبيل الله باعتبار العمل، بأن يكون عمل الإنسان في جهاده على وفق الشرع، فيلتزم ما دل الشرع على التزامه من وجوب طاعة الأمير وأن لا يغزو إلا بإذنه، وأن لا ينصرف عن الغزو إلا بإذنه وما أشبه ذلك مما تقتضيه أعمال الجهاد. فهو شامل لهذا وهذا؛ لأن (في) للظرفية فتشمل الأمرين جميعًا؛ النية، ويش بعد؟ والعمل. وعلى هذا فلا يجوز لنا العدوان على الكافرين إلا على الوجه الذي أباحه الشرع ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة ١٩٣]. وقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لما أمر بالقتل حذر من المخالفة فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سميع لأقوالكم وعليم بأحوالكم، والأمر هنا للتهديد لا لمجرد العلم؛ لأن مجرد علمنا أن الله سميع عليم بدون أن يحدث لنا ذلك امتثالًا لأمره واجتنابًا لنهيه، أقول: مجرد علمنا بذلك لا فائدة له، بل لا بد أن يكون له أثر في اتجاهنا؛ وهو أن نحذر مخالفته فنقول ما لا يرضى، أو نعمل ما لا يرضى لقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. في هذه الآية الكريمة الأمر بالقتال، وهل هذا أمر بالقتال نفسه، أو أمر بإخلاص النية في القتال؟ عندنا الآن أمران: ﴿قَاتِلُوا﴾ و﴿فِي سَبِيلِ﴾ هل الأمر منصب على قوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أو على قوله: ﴿قَاتِلُوا﴾؟ ويكون أمرًا بالقتال مقيدًا بالإخلاص؟ الظاهر هو هذا، أنه أمر بالقتال مقيدًا بالإخلاص، وليس مجرد أمر بالإخلاص بالقتال، وإلا لقال: إذا قاتلتم فقاتلوا في سبيل الله، وعلى هذا فالآية دالة على الأمر بالقتال وأن يكون في سبيل الله. هل هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ وهل هو للوجوب الكفائي أو العيني؟ هذا يختلف، قد يكون واجبًا على الأعيان، وقد يكون واجبًا على الكفاية، وقد يكون مستحبًّا. والجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، وهو في المرتبة الثالثة من الأعمال باعتبار محبة الله للعمل، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «سألتُ النبي ﷺ: أيُّ العملِ أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قلْتُ: ثمّ أيّ؟ قال: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قلتُ: ثمَّ أيّ؟ قال: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ولوِ اسْتزدْتُه لزَادَني. »[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٢٧)، ومسلم (٨٥/١٣٩)، من حديث عبد الله بن مسعود.]] فعلى هذا نقول: ينقسم القتال في سبيل الله إلى ثلاثة أقسام: واجب على العيان، وعلى الكفاية، والتطوع. ذكر أهل العلم أنه يجب على الأعيان في أربع حالات: الحال الأولى: إذا حضر الصف فإنه يجب عليه حينئذٍ، ولا يحل له أن ينصرف لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال ١٥، ١٦]. ولأن النبي ﷺ ذكر التولي يوم الزحف من كبائر الذنوب[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٢٧٦٦)، ومسلم (٨٩ / ١٤٥)، من حديث أبي هريرة.]]. الثاني: إذا حصر العدو بلده، يعني طوقه، فإنه يجب عليه الدفاع لوجوب إنقاذ المسلم وحصر البلد معناه أن يمنع من دخول الأشياء إليه أو من خروجها منه، وفي هذا ضرر على المسلمين؛ لأنه إذا طال الحصار فالنهاية الاستسلام. كذلك أيضًا إذا استنفره الإمام، يعني قال: انفر، يا فلان، اخرج، فإنه يجب عليه، ويكون هنا فرض عين لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء ٥٩]. الرابعة: إذا احتيج إليه بذاته، بعينه، فإنه يجب عليه، وقد يكون لغيره فرض كفاية، لكن هو له فرض عين؛ لأن الناس محتاجون إليه كما لو كان صاحب رأي وتدبير، أو كان عنده علم باستعمال آلات الجهاد التي لا يعرف استعمالها إلا هو، ففي هذه الحال يتعين عليه ويكون الجهاد فرض عين. ويكون فرض كفاية وهو الأصل، الأصل أن الجهاد فرض كفاية، فيجب على المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله وجوبًا؛ لأن الله عز وجل أمر به أمرًا مطلقًا مثل هذه الآية، والأصل في الأمر الوجوب. ولا نقول: إنه فرض عين في غير الأحوال الأربعة التي سبقت؛ لأن المقصود بالقتال إذلال الكافرين، فإذا قام به من يكفيه سقط عن الباقين. وهذه هي القاعدة في العبادات المأمور بها والتي يقصد منها إيجاد الفعل، فإنها تكون فرض كفاية، كل عبادة يقصد بها إيجاد هذا الفعل فإنها تكون فرض كفاية، فمثلًا الأذان فرض عين ولَّا لا؟ فرض كفاية؛ لأن المقصود إيجاد الأذان، فإذا وُجد سقط عن الباقين، كذلك الجهاد، يجب على المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله. ولكن ليُعلم أن الجهاد له شروط: من شروطه القدرة، من شروط الجهاد القدرة، فإذا كان المسلمون عاجزين عن القيام به فإن الله تعالى لا يلزمهم به لقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة ٢٨٦]، ولقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن ١٦]، ولأن النبي ﷺ لم يؤمر بالقتال إلا حين كان له دولة وشوكة وقوة. وليس من العقل والحكمة أن نقاتل ونحن لا نستطيع القتال؛ لأن معنى ذلك تسليط عدونا علينا حتى يبيدنا، فمثلًا لو أن رجلًا خرج بسيفه وخنجره ورمحه إلى رجل معه الصواريخ العابرة للقارات والطائرات وما أشبه ذلك وقال: أنا بأقاتل في سبيل الله، نوافق على هذا؟ ما نوافقه؛ لأن نقول: معنى ذلك أنك أظهرت نفسك للعدو، ولكن تربص به حتى يأتي الله بأمره، والله على كل شيء قدير. ويستفاد من الآية الكريمة: وجوب الإخلاص لله لقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقد بين رسول الله ﷺ هذا الإخلاص بقوله: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٢٣)، ومسلم (١٩٠٤ / ١٥٠)، من حديث أبي موسى الأشعري.]]. ويستفاد منها: أنه يحرم على الإنسان أن يقاتل حمية، أو أن يقاتل شجاعة، أو أن يقاتل رياء؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا أمر الله بهذه العبادة العظيمة أن تكون خالصة له فما عدا ذلك يكون منهيًّا عنه، ولا يجوز للإنسان أن يُغرر بنفسه من أجل هذه الأغراض التي هي بالنسبة لكونها في سبيل الله دنيئة جدًّا. ولكن لو قال الرجل: أنا أقاتل حمية لوطني؛ لأنه وطن إسلامي، وأريد الدفاع عنه، فهل هذه نية خالصة؟ نعم، نية خالصة؛ لأنه يقول: أنا لا أفرق بين وطني والوطن الآخر ما دمت أقاتل عن أوطان المسلمين، هذه نية خالصة لا بأس بها. وهل يستفاد من الآية الكريمة وجوب الإخلاص في كل عمل الطاعة؟ قياسًا على ذلك، قياسًا على القتال؛ لأن القتال له أسباب ودوافع غير الإخلاص، فإذا أوجب الله الإخلاص فيه فمن باب أولى العبادات الأخرى التي ليس لها مثل دوافع الجهاد. ويستفاد من الآية الكريمة: وجوب التمشّي في الجهاد على ما تقتضيه الشريعة إقدامًا وإحجامًا، وأخذًا وتركًا لقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: الحذر من المخالفة لقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فإن الغرض من ذلك التحذير من المخالفة. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذه الاسمين لله، وهما: السميع والعليم. ومنها: إثبات هاتين الصفتين، وهما: السمع والعلم؛ السمع يُطلق على إدراك المسموع، وعلى نتيجة هذا الإدراك وهو الاستجابة. فالسمع نوعان إذن؛ سمع بمعنى إدراك المسموع، وسمع بمعنى الاستجابة للمسموع، الاستجابة للمسموع وهي إجابة دعائه، فمن الثاني -وهو الاستجابة- قول المصلي: (سمع الله لمن حمده) يعني؟ * الطلبة: استجاب الله. * الشيخ: كذا؟ كذا؟ أيش قلت؟ * الطالب: قلت: قول المصلي: سمع الله لمن حمده. * الشيخ: بس ويش اللي قبلها؟ * الطالب: سمع بمعنى إدراك المسموع، وبمعنى الاستجابة. * الشيخ: طيب (سمع الله لمن حمده) يعني استجاب لمن حمده، وقوله تعالى عن إبراهيم: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم ٣٩] أي: مجيب. وأما الأول وهو السمع مع الإدراك فكثير، ثم هذا السمع الذي مع الإدراك ثلاثة، السمع الذي مع الإدراك قد يُراد به التهديد، وقد يُراد به التأييد، وقد يراد به بيان الإحاطة. فمن الأول -إرادة التهديد- قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران ١٨١] ويش المراد بالخبر؟ التهديد، ما أخبر الله بذلك إلا ليهدد هؤلاء. ومن الثاني قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦] فالمراد به التأييد؛ تأييد موسى وهارون. ومن الثالث قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ [المجادلة ١] فهذا المراد به الإحاطة بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء، وأما هنا سؤال قبل أن نتجاوز هذا المحل: السمع هل هو من الصفات الذاتية أو من الصفات الفعلية؟ * الطلبة: الذاتية. * الشيخ: خطأ. * طالب: فعليّة. * الشيخ: خطأ. * طالب: ذاتيّة فعليّة. * الشيخ: خطأ. * الطالب: شيخ، باعتبار أصل الصفة ذاتية، وباعتبار يعني آحاده باعتبار فعله. * الشيخ: خطأ. * طالب: السمع بمعنى إدراك المسموع هذا ذاتي فعلي. * الشيخ: نعم، صفة ذاتية، وبمعنى الإجابة صفة فعلية؛ لأن الله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وباعتبار إدراك المسموع صفة ذاتية، هل إن شاء الله سمع وإن شاء الله ما سمع؟ سمع الله موصوف به أزلًا وأبدًا. العلم إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، هذا العلم، والله عز وجل موصوف بالعلم أزلًا وأبدًا جملة وتفصيلًا لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى في الأرض ولا في السماء لا جملة ولا تفصيلًا ولا ماضيًا ولا حاضرًا، ولهذا علم الآدمي محفوف بآفتين مع نقصه: الآفة الأولى: الجهل، والثانية: النسيان، وهو بنفسه قاصر لا يتجاوز إلا يعني لا يشمل إلا ما حول الإنسان، فلا يتجاوز ما حوله ولا يدرك بخلاف علم الله سبحانه وتعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب