الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أَيْ: لَيْسَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢] ، وَقَالَ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣] . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهداية بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الغِوَاية، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ عَمّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ كَانَ يَحوطُه وَيَنْصُرُهُ، وَيَقُومُ فِي صَفِّهِ وَيُحِبُّهُ حُبًّا [شَدِيدًا] [[زيادة من ت، ف، أ.]] طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَانَ أَجَلُهُ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَسَبَقَ الْقَدَرُ فِيهِ، وَاخْتُطِفَ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ [[في أ: "الحجة".]] التَّامَّةُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المسَيَّب، عَنْ أَبِيهِ -وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْن الْمَخْزُومِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ آخَرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾ [التوبة: ١١٣] ، بوأنزل فِي أَبِي طَالِبٍ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ . أَخْرَجَاهُ [[في ت: "البخاري ومسلم".]] مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ [[صحيح البخاري برقم (١٣٦٠) وصحيح مسلم برقم (٢٤) .]] . وَهَكَذَا رَوَاهُ [[في ت: "وروى".]] مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَان، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وفاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رسولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "يَا عَمَّاهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيّرني [[في ف: "يعيرني".]] بِهَا قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَع الْمَوْتِ، لأقرَرْتُ بِهَا عينَك، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لأقرَّ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ [[في ت: "رواه الترمذي وقال: حسن صحيح".]] ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ [[صحيح مسلم رقم (٢٥) وسنن الترمذي برقم (٣١٨٨) .]] . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّان، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هريرة، فذكره بنحوه [[المسند (٢/٤٣٤) .]] . وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقُولَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: [[في أ: "وكان".]] أيْ ابْنَ أَخِي، ملةَ الْأَشْيَاخِ. وَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم [[في ت: "بإسناده".]] ، عن سعيد بن أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ قَيْصَرَ جَاءَ [[في أ: "جارا".]] إليَّ قَالَ: كَتَبَ مَعِي قَيْصَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كِتَابًا، فَأَتَيْتُهُ فَدَفَعْتُ الْكِتَابَ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"مِمَّنْ الرَّجُلُ؟ " قُلْتُ: مِنْ تَنُوخَ [[في هـ: "تيرح" والمثبت من ف، أ.]] . قَالَ: "هَلْ لَكَ فِي دِينِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ؟ " قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ، وَعَلَى دِينِهِمْ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ [[في ت، ف، أ: "فقال".]] : ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [[رواه أحمد في المسند (٣/٤٤١) من طريق حماد بن سلمة بنحوه.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ : [يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اعْتِذَارِ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ [[في أ: "اتباعهم".]] الْهُدَى حَيْثُ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ] [[زيادة من ت، ف، أ.]] أَيْ: نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَخَالَفْنَا مَنْ حَوْلَنَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يَقْصِدُونَا بِالْأَذَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَيَتَخَطَّفُونَا أَيْنَمَا كُنَّا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ يَعْنِي: هَذَا الَّذِي اعْتَذَرُوا بِهِ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ، وحَرَم مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضع، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْحَرَمُ آمِنًا فِي حَالِ كَفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، وَلَا يَكُونُ آمِنًا لَهُمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَتَابَعُوا الْحَقَّ؟. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ مِمَّا حَوْلَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاجِرُ وَالْأَمْتِعَةُ ﴿رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فَلِهَذَا قَالُوا مَا قَالُوا. وَقَدْ قَالَ [[في ت: "وقد روى".]] النَّسَائِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكة قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ -: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [[النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٨٥) .]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب