الباحث القرآني

(p-٣٤٩)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما جَعَلَهُ اللهُ إلا بُشْرى لَكم ولِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكم بِهِ وما النَصْرُ إلا مِن عِنْدِ اللهُ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أو يَكْبِتَهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ﴾ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أو يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أو يُعَذِّبَهم فَإنَّهم ظالِمُونَ﴾ ﴿وَلِلَّهِ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الضَمِيرُ في "جَعَلَهُ اللهُ" عائِدٌ عَلى الإنْزالِ والإمْدادِ، والبُشْرى مَصْدَرٌ، واللامُ فِي: "وَلِتَطْمَئِنَّ" مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ "جَعَلَهُ". ومَعْنى الآيَةِ: وما كانَ هَذا الإمْدادُ إلّا لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِ وتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكم وتَرَوْا حِفايَةَ اللهِ بِكُمْ، وإلّا فالكَثْرَةُ لا تُغْنِي شَيْئًا إلّا أنْ يَنْصُرَ اللهُ. وقَوْلُهُ: "وَما النَصْرُ" يُرِيدُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وكَذَلِكَ أيْضًا هي الإدالَةُ لِلْكُفّارِ مِن عِنْدِ اللهِ، واللامُ في قَوْلِهِ: "لِيَقْطَعَ" مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما النَصْرُ إلا مِن عِنْدِ اللهِ﴾ وعَلى هَذا لا يَكُونُ قَطْعُ الطَرَفِ مُخْتَصًّا بِيَوْمٍ، اللهُمَّ إلّا أنْ تَكُونَ الألِفُ واللامُ في "النَصْرُ" لِلْعَهْدِ، وقِيلَ: العامِلُ فِيهِ "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ"، حَكاهُ ابْنُ فُورَكٍ وهو قَلِقٌ، لِأنَّ قَوْلَهُ: "أو يَكْبِتَهُمْ" لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ اللامُ في قَوْلِهِ: "لِيَقْطَعَ" مُتَعَلِّقَةً بِـ "جَعَلَهُ"، فَيَكُونَ قَطْعُ الطَرَفِ إشارَةً إلى مَن قُتِلَ بِبَدْرٍ عَلى ما قالَ الحَسَنُ وابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُمْ، أو إلى مَن قُتِلَ بِأُحُدٍ عَلى ما قالَ السُدِّيُّ، وقُتِلَ مِنَ المُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ سَبْعُونَ، وقُتِلَ مِنهم يَوْمَ أُحُدٍ اثْنانِ وعِشْرُونَ رَجُلًا. وقالَ السُدِّيُّ: قُتِلَ مِنهم ثَمانِيَةَ عَشَرَ والأوَّلُ أصَحُّ. والطَرَفُ: الفَرِيقُ، ومَتى قَتَلَ المُسْلِمُونَ كُفّارًا في حَرْبٍ فَقَدْ قَطَعُوا طَرَفًا، لِأنَّهُ الَّذِي ولِيَهم مِنَ الكُفّارِ، فَكَأنَّ جَمِيعَ الكُفّارِ رُقْعَةٌ وهَؤُلاءِ المَقْتُولُونَ طَرَفٌ مِنها أيْ حاشِيَةٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: "لِيَقْطَعَ طَرَفًا" بِمَنزِلَةِ: لِيَقْطَعَ دابِرًا. وقَوْلُهُ: "أو يَكْبِتَهُمْ" مَعْناهُ: أو يُخْزِيهِمْ، والكَبْتُ: الصَرْعُ لِلْيَدَيْنِ، وقالَ النَقّاشُ وغَيْرُهُ: التاءُ بَدَلٌ مِن دالِ كَبَتَهُ، أصْلُها كَبَدَهُ أيْ: فَعَلَ بِهِ ما يُؤْذِي كَبِدَهُ، وإذا نَصَرَ اللهُ عَلى أُمَّةٍ كافِرَةٍ فَلا بُدَّ مِن أحَدِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، إمّا أنْ يُقْتَلَ مِنهم أو يَخِيبُوا، فَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الهَزْمِ. (p-٣٥٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ تَوْقِيفٌ عَلى أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وهَذا التَوْقِيفُ يَقْتَضِي أنَّهُ كانَ بِسَبَبٍ كَمَنَ جِهَةَ النَبِيِّ ﷺ. ورُوِيَ في ذَلِكَ «أنَّهُ لَمّا هُزِمَ أصْحابُهُ، وشُجَّ في وجْهِهِ حَتّى دَخَلَتْ بَعْضُ حَلَقِ الدِرْعِ في خَدِّهِ، وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ، وارْتَثَّ بِالحِجارَةِ حَتّى صُرِعَ لِجَنْبِهِ، تَحَيَّزَ عَنِ المَلْحَمَةِ، وجَعَلَ يَمْسَحُ الدَمَ مِن وجْهِهِ ويَقُولُ: "لا يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذا بِنَبِيِّهِمْ"» هَكَذا لَفْظُ الحَدِيثِ مِن طَرِيقِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، وفي بَعْضِ الطُرُقِ: "وَكَيْفَ يُفْلِحُ؟" وفي بَعْضِها «أنَّ سالِمًا مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ كانَ يَغْسِلُ الدَمَ عن وجْهِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قالَ: فَأفاقَ وهو يَقُولُ: "كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذا بِنَبِيِّهِمْ وهو يَدْعُوهم إلى اللهِ؟" فَنَزَلَتِ الآيَةُ،» بِسَبَبِ هَذِهِ المَقالَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَأنَّ النَبِيَّ ﷺ لَحِقَهُ في تِلْكَ الحالِ يَأْسٌ مِن فَلاحِ كُفّارِ قُرَيْشٍ، فَمالَتْ نَفْسُهُ إلى أنْ يَسْتَأْصِلَهُمُ اللهُ ويُرِيحَ مِنهُمْ، فَرُوِيَ أنَّهُ دَعا عَلَيْهِمْ أوِ اسْتَأْذَنَ في أنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، ورَوى ابْنُ عُمَرَ وغَيْرُهُ: أنَّهُ دَعا عَلى أبِي سُفْيانَ والحارِثِ بْنِ هِشامٍ وصَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِاللَعْنَةِ، إلى غَيْرِ هَذا مِن مَعْناهُ، فَقِيلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ أيْ: عَواقِبُ الأُمُورِ بِيَدِ اللهِ، فامْضِ أنْتَ لِشَأْنِكَ ودُمْ عَلى الدُعاءِ إلى رَبِّكَ. قالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ: قَوْلُهُ: ﴿أو يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عَطْفٌ عَلى "يَكْبِتَهُمْ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ اعْتِراضٌ أثْناءَ الكَلامِ، وقَوْلُهُ: "أو يَتُوبَ" (p-٣٥١)مَعْناهُ: فَيُسْلِمُونَ، وقَوْلُهُ: "أو يُعَذِّبَهُمْ" مَعْناهُ: في الآخِرَةِ بِأنْ يُوافُوا عَلى الكُفْرِ. قالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "أو يَتُوبَ" بِمَعْنى حَتّى يَتُوبَ، أو إلى أنْ يَتُوبَ، فَيَجِيءُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: لا أُفارِقُكَ أو تَقْضِينِي حَقِّي، وكَما تَقُولُ: لا يَتِمُّ هَذا الأمْرُ أو يَجِيءُ فُلانٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ لَيْسَ بِاعْتِراضٍ عَلى هَذا التَأْوِيلِ، وإنَّما المَعْنى الإخْبارُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّهُ لَيْسَ يَتَحَصَّلُ لَهُ مِن أمْرِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ شَيْءٌ يُؤَمِّلُهُ إلّا أنْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَيُسْلِمُوا، فَيَرى مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَلامُ أحَدَ أمَلَيْهِ فِيهِمْ، أو يُعَذِّبَهُمُ اللهُ بِقَتْلٍ في الدُنْيا، أو بِنارٍ في الآخِرَةِ أو بِهِما، فَيَرى مُحَمَّدٌ ﷺ الأمَلَ الآخَرَ. وعَلى هَذا التَأْوِيلِ فَلَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ رَدْعٌ كَما هو في التَأْوِيلِ الأوَّلِ، وذَلِكَ التَأْوِيلُ الأوَّلُ أقْوى. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "أو يَتُوبُ" "أو يُعَذِّبُ" بِرَفْعِ الباءِ فِيهِما، المَعْنى: أو هو يَتُوبُ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعالى ظُلْمَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ. ثُمَّ أكَّدَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ بِالقَوْلِ العامِّ، وذَكَرَ الحُجَّةَ الساطِعَةَ في ذَلِكَ وهي مِلْكُهُ الأشْياءَ، إذْ ذَلِكَ مُقْتَضٍ أنْ يَفْعَلَ بِحَقِّ مِلْكِهِ ما شاءَ، لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وذَكَرَ أنَّ الغُفْرانَ أوِ التَعْذِيبَ إنَّما هو بِمَشِيئَتِهِ وحَسَبَ السابِقِ في عِلْمِهِ، ثُمَّ رَجا في آخِرِ ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِلنُّفُوسِ وجَلْبًا لَها إلى طاعَتِهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. و"ما" في قَوْلِهِ ﴿ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ﴾، إشارَةٌ إلى جُمْلَةِ العالَمِ فَلِذَلِكَ حَسُنَتْ ما؛ وما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ مِن أنَّ هَذِهِ الآيَةَ ناسِخَةٌ لِدُعاءِ النَبِيِّ ﷺ عَلى المُشْرِكِينَ كَلامٌ ضَعِيفٌ كُلُّهُ، ولَيْسَ هَذا مِن مَواضِعِ الناسِخِ والمَنسُوخِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب