الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَتْ يا أيُّها المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وإنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ﴾ ﴿ألا تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ﴿قالَتْ يا أيُّها المَلأُ أفْتُونِي في أمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا حَتّى تَشْهَدُونِ﴾ ﴿قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمْرُ إلَيْكِ فانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ﴾ ﴿قالَتْ إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ فِي هَذِهِ المَواضِعِ اخْتِصارٌ يَدُلُّ ظاهِرُ القَوْلِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَألْقى الكِتابَ وقَرَأتْهُ وجَمَعَتْ لَهُ أهْلُ مُلْكِها، و"المَلَأُ": أشْرافُ الناسِ الَّذِينَ يَنُوبُونَ مَنابَ الجَمِيعِ، ووَصَفَتِ الكِتابَ بِالكَرَمِ، إمّا لِأنَّهُ مِن عِنْدَ عَظِيمٍ في نَفْسِها ونُفُوسِهِمْ، فَعَظَّمَتْهُ إجْلالًا لِسُلَيْمانَ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وإمّا أنَّها أُشاراتٌ إلى أنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَيْهِ بِالخاتَمِ، ورُوِيَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «كَرَمُ الكِتابِ خَتْمُهُ»، وإمّا أنَّها أرادَتْ أنَّهُ بَدَأ بِبَسْمِ اللهِ تَعالى، وقَدْ قالَ ﷺ: «كُلُّ كَلامٍ لَمْ يَبْدَأْ بِاسْمِ اللهِ تَعالى فَهو أجْذَمُ». ثُمْ أخَذَتْ تَصِفُ لَهم ما في الكِتابِ، فَيَحْتَمِلُ اللَفْظُ أنَّهُ نَصُّ الكِتابِ مُوجَزًا بَلِيغًا، وكَذَلِكَ كُتُبُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ، وقَدَّمَ فِيهِ العُنْوانَ -وَهِيَ عادَةُ الناسِ عَلى وجْهِ الدَهْرِ- ثُمْ سَمّى اللهَ تَعالى، ثُمْ أمَرَهم بِألّا يَعْلُوا عَلَيْهِ طُغْيانًا وكُفْرًا، وأنْ يَأْتُوهُ مُسْلِمِينَ، ويَحْتَمِلَ أنَّها قَصَدَتْ إلى اقْتِضابِ مَعانِيهِ دُونَ تَرْتِيبِهِ، فَأعْلَمَتْهم أنَّهُ مِن سُلَيْمانَ، وأنَّ مَعْناهُ كَذا وكَذا. وقَرَأ أُبَيِّ: "وَأنْ بِسْمِ اللهِ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ النُونِ وحَذْفِ الهاءِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "أنَّهُ مِن" (p-٥٣٦)"وَأنَّهُ بِسْمِ اللهِ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ فِيهِما، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ: "وَإنَّهُ مِن سُلَيْمانَ" بِزِيادَةِ واوٍ، و﴿بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ﴾ اسْتِفْتاحٌ شَرِيفٌ بارِعُ المَعْنى مُعَبَّرٌ عنهُ بِكُلِّ لُغَةٍ، وفي كُلِّ شَرْعٍ. و"أنْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ رَفْعًا عَلى البَدَلِ مِن "كِتابٌ"، أو نَصْبًا عَلى مَعْنى: بِأنْ لا تَعْلُوا، أو مُفَسِّرَةً بِمَنزِلَةِ أيْ، قالَ سِيبَوَيْهِ: وقَرَأ وهَبَ بْنِ مُنَبِّهٍ: "ألّا تَغْلُوا" بالِغِينَ مَنقُوطَةً، قالَ أبُو الفَتْحِ: رَواها وهَبَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وهي قِراءَةُ أشْهَبِ العَقِيلِيِّ، ذَكَرَها الثَعْلَبِيُّ. ثُمْ أخَذَتْ في حُسْنِ الأدَبِ مَعَ رِجالِها، ومُشاوَرَتِهِمْ في أمْرِها، وأعْلَمَتْهم أنَّ ذَلِكَ مُطْرَدٌ عِنْدَها في كُلِّ أمْرٍ، فَكَيْفَ في هَذِهِ النازِلَةِ الكُبْرى؟ فَراجَعَها المَلَأٌ بِما يَقَرُّ عَيْنَها مِن إعْلامِهِمْ إيّاها بِالقُوَّةِ والبَأْسِ، أيْ: وذَلِكَ مَبْذُولٌ إلَيْكَ، فَقاتِلِي إنْ شِئْتِ، ثُمْ سَلَّمُوا الأمْرَ إلى نَظَرِها، وهَذِهِ مُحاوِرَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الجَمِيعِ. وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ: "ما كُنْتُ قاضِيَةً أمْرًا" بِالضادِ مِنَ القَضاءِ. وذَكَرَ مُجاهِدٌ في عَدَدِ أحْشادِها أنَّها كانَ لَها اثْنا عَشَرَ ألْفَ، قِيلَ تَحْتَ يَدِ كُلِّ واحِدٍ مِائَةَ ألْفٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا بَعِيدٌ، وذَكَرَ غَيْرُهٌ نَحْوَهُ فاخْتَصَرْتُهُ لِعَدِمْ صِحَّتِهِ. ثُمْ أخْبَرَتْ بِلْقِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ المُلُوكِ بِالقُرى الَّتِي يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْها، وفي الكَلامِ خَوْفٌ عَلى قَوْمِها، وحِيطَةٌ لَهُمْ، واسْتِعْظامٌ لِأمْرِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ هو مِن قَوْلِ بِلْقِيسَ تَأْكِيدًا مِنها لِلْمَعْنى الَّذِي أرادَتْهُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هو مِن قَوْلِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى مُعَرِّفًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ وأُمَّتِهِ، ومُخْبِرًا بِهِ. (p-٥٣٧)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب