الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَلا بَعْضُهم إلى بَعْضٍ قالُوا أتُحَدِّثُونَهم بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكم لِيُحاجُّوكم بِهِ عِنْدَ رَبِّكم أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿أوَلا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ﴾ ﴿وَمِنهم أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلا أمانِيَّ وإنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ المَعْنى: وهم أيْضًا إذا "لَقُوا" يَفْعَلُونَ هَذا، فَكَيْفَ يَطْمَعُ في إيمانِهِمْ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا الكَلامُ مُسْتَأْنَفًا مَقْطُوعًا مِن مَعْنى الطَمَعِ، فِيهِ كَشْفُ سَرائِرِهِمْ. ووَرَدَ في التَفْسِيرِ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: «لا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنا قَصَبَةَ المَدِينَةِ إلّا مُؤْمِنٌ». فَقالَ كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ ووَهْبُ بْنُ يَهُودا، وأشْباهُهُما: اذْهَبُوا وتَحَسَّسُوا أخْبارَ مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وقُولُوا لَهم آمَنّا، واكْفُرُوا إذا رَجَعْتُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في مُنافِقِينَ مِنَ اليَهُودِ، ورُوِيَ عنهُ أيْضًا أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ قالُوا لِبَعْضِ المُؤْمِنِينَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ أنَّهُ نَبِيٌّ، ولَكِنْ لَيْسَ إلَيْنا، وإنَّما هو إلَيْكم خاصَّةً، فَلَمّا خَلَوْا قالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ وقَدْ كُنّا قَبْلُ نَسْتَفْتِحُ بِهِ؟ فَهَذا هو الَّذِي فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِن عِلْمِهِ، وأصْلُ "خَلا" خُلَوَ تَحَرَّكَتِ الواوُ وانْفَتَحَ ما قَبْلَها فانْقَلَبَتْ ألِفًا. وقالَ أبُو العالِيَةِ وقَتادَةُ: إنَّ بَعْضَ اليَهُودِ تَكَلَّمَ بِما في التَوْراةِ مِن صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقالَ لَهم كَفَرَةُ الأحْبارِ: أتُحَدِّثُونَهم بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكم. أيْ عَرَّفَكم مِن صِفَةِ مُحَمَّدٍ فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْكم إذْ تُقِرُّونَ (p-٢٦١)بِهِ ولا تُؤْمِنُونَ بِهِ؟ وقالَ السُدِّيُّ: إنَّ بَعْضَ اليَهُودِ حَكى لِبَعْضِ المُسْلِمِينَ ما عُذِّبَ بِهِ أسْلافُهُمْ، فَقالَ بَعْضُ الأحْبارِ: ﴿أتُحَدِّثُونَهم بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ مِنَ العَذابِ، فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْكُمْ، ويَقُولُونَ: نَحْنُ أكْرَمُ عَلى اللهِ حِينَ لَمْ يَفْعَلْ بِنا مِثْلَ هَذا؟، وفَتَحَ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- بِمَعْنى: حَكَمَ. وقالَ مُجاهِدٌ: «إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ: يا إخْوَةَ الخَنازِيرِ والقِرَدَةِ. فَقالَ الأحْبارُ لِأتْباعِهِمْ: ما عَرَفَ هَذا إلّا مِن عِنْدِكم. أتُحَدِّثُونَهُمْ؟» وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: كانُوا إذا سُئِلُوا عن شَيْءٍ قالُوا: في التَوْراةِ كَذا وكَذا، فَكَرِهَتِ الأحْبارُ ذَلِكَ ونَهَوْا في الخَلْوَةِ عنهُ، فَفِيهِ نَزَلَتِ الآيَةُ. والفَتْحُ في اللُغَةِ يَنْقَسِمُ أقْسامًا تَجْمَعُها بِالمَعْنى التَوْسِعَةُ وإزالَةُ الإبْهامِ، وإلى هَذا يَرْجِعُ الحُكْمُ وغَيْرُهُ، والفَتّاحُ هو القاضِي بِلُغَةِ اليَمَنِ، و"يُحاجُّوكُمْ" مِنَ الحُجَّةِ وأصْلُهُ مِن حَجَّ إذا قَصَدَ، لِأنَّ المُتَحاجِّينَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَقْصِدُ غَلَبَةَ الآخَرِ، و﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ مَعْناهُ في الآخِرَةِ، وقِيلَ "عِنْدَ" بِمَعْنًى: في رَبِّكُمْ، أيْ فَيَكُونُونَ أحَقَّ بِهِ، وقِيلَ: المَعْنى: عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّكم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾، قِيلَ: هو مِن قَوْلِ الأحْبارِ لِلْأتْباعِ، وقِيلَ: هو خِطابٌ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ: أفَلا تَعْقِلُونَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لا يُؤْمِنُونَ وهم بِهَذِهِ الأحْوالِ؟ والعَقْلُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أوَلا يَعْلَمُونَ" بِالياءِ مِن أسْفَلٍ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ "أو لا تَعْلَمُونَ" بِالتاءِ خِطابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. (p-٢٦٢)والَّذِي أسَرُّوهُ: كُفْرُهُمْ، والَّذِي أعْلَنُوهُ: قَوْلُهُمْ: آمَنّا، هَذا في سائِرِ اليَهُودِ، والَّذِي أسَرَّهُ الأحْبارُ: صِفَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ والمَعْرِفَةُ بِهِ، والَّذِي أعْلَنُوهُ: الجَحْدُ بِهِ، ولَفْظُ الآيَةِ يَعُمُّ الجَمِيعَ. و"أُمِّيُّونَ" هُنا عِبارَةٌ عن جَهَلَةٍ بِالتَوْراةِ. قالَ أبُو العالِيَةِ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُما: المَعْنى ومِن هَؤُلاءِ اليَهُودِ المَذْكُورِينَ. فالآيَةُ مُنَبِّهَةٌ عَلى عامَّتِهِمْ وأتْباعِهِمْ، أيْ أنَّهم مِمَّنْ لا يَطْمَعُ في إيمانِهِمْ، لِما غَمَرَهم مِنَ الضَلالِ. وقِيلَ: المُرادُ هُنا بِالأُمِّيِّينَ قَوْمٌ ذَهَبَ كُتّابُهم لِذُنُوبٍ رَكِبُوها فَبَقُوا أُمِّيِّينَ. وقالَ عِكْرِمَةُ والضَحّاكُ: هم في الآيَةِ نَصارى العَرَبِ، وقِيلَ: عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: هُمُ المَجُوسُ، والضَمِيرُ في "مِنهُمْ" عَلى هَذِهِ الأقْوالِ هو لِلْكُفّارِ أجْمَعِينَ، وقَوْلُ أبِي العالِيَةِ، ومُجاهِدٌ أوجَهُ هَذِهِ الأقْوالِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "أُمِّيُّونَ" بِتَخْفِيفِ المِيمِ، والأُمِّيُّ في اللُغَةِ الَّذِي لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ في كِتابٍ، نُسِبَ إلى الأُمِّ، إمّا لِأنَّهُ بِحالِ أُمِّهِ مِن عَدَمِ الكِتابِ، لا بِحالِ أبِيهِ، إذِ النِساءُ لَيْسَ مَن شَغَلَهُنَّ الكِتابُ، قالَهُ الطَبَرِيُّ، وإمّا لِأنَّهُ بِحالٍ ولَدَتْهُ أُمُّهُ فِيها، لَمْ يَنْتَقِلْ عنها، وقِيلَ: نُسِبَ إلى الأُمَّةِ وهي القامَةُ والخِلْقَةُ، كَأنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الآدَمِيِّينَ إلّا ذَلِكَ، وقِيلَ: نُسِبَ إلى الأُمَّةِ عَلى سَذاجَتِها قَبْلَ أنْ تُعْرَّفَ المَعارِفُ، فَإنَّها لا تَقْرَأُ ولا تَكْتُبُ، ولِذَلِكَ قالَ النَبِيُّ ﷺ في العَرَبِ: «إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَحْسِبُ ولا نَكْتُبُ» الحَدِيثُ، والألِفُ واللامُ في "الكِتابَ" لِلْعَهْدِ، ويَعْنِي بِهِ التَوْراةَ في قَوْلِ أبِي العالِيَةِ، ومُجاهِدٍ. والأمانِيُّ جَمْعُ أمْنِيَةٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، ونافِعٌ في بَعْضِ ما رُوِيَ عنهُ "أمانِي" بِتَخْفِيفِ الياءِ، وأصْلُ أُمْنِيةٍ أمْنُويَةٍ عَلى وزْنِ (p-٢٦٣)(أُفْعُولَةٍ)، ويُجْمَعُ هَذا الوَزْنُ عَلى (أفاعِلَ)، وعَلى هَذا يَجِبُ تَخْفِيفُ الياءِ، ويُجْمَعُ عَلى (أفاعِيلَ) فَعَلى هَذا يَجِيءُ أمانِيِي، أُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ فَجاءَ "أمانِيَّ" واخْتَلَفَ في مَعْنى "أمانِيَّ" فَقالَتْ طائِفَةٌ: هي هُنا مِن تَمَنِّي الرَجُلِ إذا تَرَجّى فَمَعْناهُ أنَّ مِنهم مَن لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ، وإنَّما يَقُولُ بِظَنِّهِ شَيْئًا سَمِعَهُ فَيَتَمَنّى أنَّهُ مِنَ الكِتابِ، وقالَ آخَرُونَ: هي مِن تَمَنّى إذا تَلا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا إذا تَمَنّى ألْقى الشَيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تَمَنّى كِتابَ اللهِ أوَّلَ لَيْلِهِ وآخِرَهُ لاقى حِمامَ المَقادَرِ فَمَعْنى الآيَةِ: أنَّهم لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلّا سَماعَ شَيْءٍ يُتْلى لا عِلْمَ لَهم بِصِحَّتِهِ، وقالَ الطَبَرِيُّ: هي مِن تَمَنّى الرَجُلُ إذا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ مُخْتَلَقٍ كَذِبٍ، وذَكَرَ أهْلُ اللُغَةِ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: تَمَنّى الرَجُلُ إذا كَذَبَ، واخْتَلَقَ الحَدِيثَ، ومِنهُ قَوْلُ عُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما تَمَنَّيْتُ ولا تَغَنَّيْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ. فَمَعْنى الآيَةِ أنَّ مِنهم أُمِّيِّينَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلّا أنَّهم يَسْمَعُونَ مِنَ الأحْبارِ أشْياءَ مُخْتَلَقَةً يَظُنُّونَها مِنَ الكِتابِ، و"إنْ" نافِيَةٌ بِمَعْنى "ما"، والظَنُّ هُنا عَلى بابِهِ في المَيْلِ إلى أحَدِ الجائِزَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب