الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ قال أبو جعفر: أما قوله: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ ، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد ﷺ من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد ﷺ قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد ﷺ وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:- ١٣٣٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قوله: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا ﷺ قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم. ١٣٣٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ ، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد ﷺ قالوا: آمنا. * * * وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر * وهو ما:- ١٣٣٧ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ ، أي: بصاحبكم رسول الله ﷺ، ولكنه إليكم خاصة. ١٣٣٨ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ الآية، قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله: ﴿وإذا خلا بعضهم إلى بعض﴾ أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم -"قالوا" يعني: قال بعضهم لبعض -:"أتحدثونهم بما فتح الله عليكم". * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿بما فتح الله عليكم﴾ . فقال بعضهم بما:- ١٣٣٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ﴿وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك. * * * وقال آخرون بما:- ١٣٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ ، أي: بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. [[قوله: "فكان منهم"، أي كان منهم النبي الذي كانوا يستفتحون به على مشركي العرب ويستنصرون، ويرجون أن يكون منهم، فكان من العرب. وسيأتي خبر استفتاحهم بعد في تفسير الآية: ٨٩ من سورة البقرة في هذا الجزء.]] فأنزل الله: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم﴾ ، أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: ﴿أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون﴾ . ١٣٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ﴿أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ، أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد ﷺ. ١٣٤٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: ﴿قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد ﷺ، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، ﴿أفلا تعقلون﴾ . ١٣٤٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ﴿أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ، ليحتجوا به عليكم. ١٣٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: ﴿أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ، يعني: بما أنزل الله عليكم من أمر محمد ﷺ ونعته. * * * وقال آخرون في ذلك بما:- ١٣٤٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم﴾ قال: قول يهود بني قريظة، [[في المطبوعة: "يهود من قريظة"، ليست بشيء.]] حين سبهم النبي ﷺ بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا، فقال: يا إخوة القردة والخنازير. [[من أول قوله: "قالوا من حدثك؟ . . " إلى آخر العبارة، تفسير للقصة قبله. وقوله"فقال: يا إخوة القردة والخنازير" من كلام رسول الله صلى الله عليهم وسلم، لا كلام علي رضي الله عنه. وسيظهر ذلك في الخبرين بعده.]] ١٣٤٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي ﷺ فقال:"اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير". ١٣٤٧ - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ، قال: قام النبي ﷺ يوم قريظة تحت حصونهم فقال:"يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت. فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم! ﴿أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ ! بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا ﷺ. [[الأثر: ١٣٤٧ - في ابن كثير ١: ٢١٤ وفيه: "من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم".]] * * * وقال آخرون بما:- ١٣٤٨ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ - من العذاب -"ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم؟ * * * وقال آخرون بما:- ١٣٤٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالو أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم﴾ : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله ﷺ: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن [[قصبة القرية: وسطها وجوفها. وقصبة البلاد: مدينتها، لأنها تكون في أوسطها.]] . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر [[البكر جمع بكرة (بضم فسكون) : وهي الغدوة، أول النهار.]] وقرأ قول الله: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: ٧٢] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله ﷺ وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه ﷺ بهم، قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله ﷺ يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء]- قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم"، الآية. [[الأثر: ١٣٤٩ في ابن كثير ١: ٢١٣ - ٢١٤، والزيادة بين القوسين منه.]] * * * وأصل"الفتح" في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه:"اللهم افتح بيني وبين فلان"، أي احكم بيني وبينه، ومنه قول الشاعر: ألا أبلغ بني عُصْمٍ رسولا ... بأني عن فُتاحَتكم غني [[ينسب للأسعر الجعفي، ومحمد بن حمران بن أبي حمران. انظر تعليق الراجكوتي في سمط اللآلئ: ٩٢٧.]] قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي:"الفتاح" [[أمالي القالي ٢: ٢٨١ واللسان (فتح) (رسل) ، وغيرهما، وبنو عصم، هم رهط عمرو ابن معد يكرب الزبيدي. وقد اختلفت روايات البيت اختلافا شديدا، وليس هذا مكان تحقيقها، لطولها.]] ومنه قول الله عز وجل: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: ٨٩] أي احكم بيننا وبينهم. * * * فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا، تبين أن معنى قوله: ﴿قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم﴾ إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد ﷺ، وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله ﷺ وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [من أحكامه وقضائه] . [[ما بين القوسين، زيادة استظهرتها من سابق بيانه، ليستقيم الكلام.]] فإذ كان كذلك. [[في المطبوعة: "فإن كان كذلك"، والزيادة ماضية على نهج أبي جعفر.]] فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد ﷺ إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله ﷺ ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد ﷺ؛ فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها. وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله ﷺ ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد ﷺ وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله ﷺ بذلك. فكان تلاومهم -فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد ﷺ في كتبهم، ويكفرون به، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد ﷺ إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته. * * * قال أبو جعفر: وقوله: ﴿أفلا تعقلون﴾ ، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله ﷺ بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي ﷺ بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم، ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: ﴿أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب