الباحث القرآني
وأما قوله تعالى: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إلَهَ إلاّ هُوَ﴾
فعطف في الاسمين الأولين دون الآخرين فقال السهيلي: إنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال" وفعله سبحانه في غيره لا في نفسه فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة بين المعنيين ولتنزلهما منزلة الجملتين لأنه يريد تنبيه العباد على أنه يفعل هذا ويفعل هذا ليرجوه ويؤملوه" ثم قال: ﴿شَدِيدُ العِقابِ﴾ بغير واو لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة وهو معنى خارج عن صفات الأفعال فصار بمنزلة قوله: ﴿العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ وكذلك قوله: ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ لأن لفظ ذي عبارة عن ذاته هذا جوابه وهو كما ترى غير شاف ولا كاف فإن شدة عقابه من صفات الأفعال، وطوله من صفات الأفعال.
ولفظة (ذي) فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل كقوله: ﴿عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ بل لفظ الوصف بـ (غافر) و (قابل) أدل على الذات من الوصف بـ (ذي) لأنها بمعنى صاحب، كذا فالوصف المشتق أدل على الذات من الوصف بها.
فلم يشف جوابه بل زاد السؤال سؤالا.
فاعلم أن هذه الجملة مشتملة على ستة أسماء كل اثنين منها قسم، فابتدأها بـ (العزيز العليم) وهما اسمان مطلقان وصفتان من صفات ذاته وهما مجردان عن العطف، ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله فأدخل بينهما العاطف، ثم ذكر اسمين آخرين بعدهما وجردهما من العاطف.
فأما الأولان فتجردهما من العاطف لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم الله، وهما متلازمان فتجريدهما عن العطف هو الأصل، وهو موافق لبيان ما في الكتاب العزيز من ذلك، كالعزيز العليم والسميع البصير والغفور الرحيم.
وأما: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ فدخل العاطف بينهما لأنهما في معنى الجملتين، وإن كانا مفردين لفظا فهما يعطيان معنى يغفر الذنب، ويقبل التوب.
أي هذا شأنه ووصفه في كل وقت، فأتى بالاسم الدال على أن هذا وصفه ونعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك، فعطف أحدهما على الآخر على نحو عطف الجمل بعضها على بعض، ولا كذلك الاسمان الأولان.
ولما لم يكن الفعل ملحوظا في قوله: ﴿شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ إذ لا يحسن وقوع الفعل فيهما
وليس في لفظ ﴿ذِي﴾ ما يصاغ منه فعل جرى مجرى المفردين من كل وجه ولم يعطف أحدهما على الآخر كما لم يعطف في العزيز العليم، فتأمله فإنه واضح.
* (فصل: وقوع الشدة بين رحمتين)
تتمة: تأمل كيف وقع الوصف بشديد العقاب بين صفة رحمة قبله وصفة رحمة بعده فقبله ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ وبعده ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾
ففي هذا تصديق الحديث الصحيح وشاهد له وهو قوله ﷺ:
"إن الله كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي"
رواه البخاري ومسلم.
وفي لفظ": سبقت غضبي "
وقد سبقت صفة الرحمة هنا وغلبت.
وتأمل كيف افتتح الآية بقوله: ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ﴾ والتنزيل يستلزم علو المنزل من عنده لا تعقل العرب من لغتها بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة إلا ذلك.
وقد أخبر أن تنزيل الكتاب منه، فهذا يدل على شيئين:
أحدهما علوه تعالى على خلقه.
والثاني أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده لا غيره، فإنه أخبر أنه منه، وهذا يقتضي أن يكون منه قولا كما أنه منه تنزيلا.
فإن غيره لو كان هو المتكلم به لكان الكتاب من ذلك الغير، فإن الكلام فإنما يضاف إلى المتكلم به ومثل هذا ﴿وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي﴾ ومثله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ﴾ ومثله: ﴿تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾
فاستمسك بحرف (مِن) في هذه المواضع فإنه يقطع حجج شعب المعتزلة والجهمية
وتأمل كيف قال: ﴿تَنْزِيلٌ مِن﴾ ولم يقل تنزيله؟
فتضمنت الآية إثبات علوه ومكانه وثبوت الرسالة.
ثم قال: ﴿العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ فتضمن هذان الاسمان صفتي القدرة والعلم وخلق أعمال العباد وحدوث كل ما سوى الله، لأن القدرة هي قدرة الله كما قال أحمد بن حنبل: فتضمنت إثبات القدر، ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه، أو أن يشاء ما لا يكون، فكانت عزته تبطل ذلك.
وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيء، وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه، لأن كمال قدرته وعزته يبطل ذلك.
ثم قال: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ والذنب مخالفة شرعه وأمره، فتضمن هذان الاسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله
ثم قال: ﴿شَدِيدُ العِقابِ﴾ وهذا جزاؤه للمذنبين وذو الطول جزاؤه للمحسنين، فتضمنت الثواب والعقاب.
ثم قال: ﴿لا إلَهَ إلاّ هو إلَيْهِ المَصِيرُ﴾ فتضمن ذلك التوحيد والمعاد.
فتضمنت الآيتان إثبات صفة العلو والكلام والقدرة والعلم والقدر وحدوث العالم والثواب والعقاب والتوحيد والمعاد، وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله يتضمن الرسالة والنبوة.
فهذه عشرة قواعد الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة. ولكن:
خود تزف إلى ضرير مقعد.
فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها، وهكذا سائر آيات القرآن.
فما أشدها من حسرة، وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه. فالله المستعان.
* (فصل)
اعلم أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها، وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها.
وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها، وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة.
وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين، فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف.
وإن أريد الجمع بين الصفات، أو التنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف.
فمثال الأول: ﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ الحامِدُونَ﴾ وقوله: ﴿مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ﴾
ومثال الثاني قوله تعالى: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخر والظّاهِرُ والباطِنُ﴾
وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: ﴿حم تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾
فأتي بالواو في الوصفين الأولين، وحذفها في الوصفين الآخرين، لأن غفران الذنب وقبول التوب، قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما، فمن غفر الذنب قبل التوب.
فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران، ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمة:
أحدهما: يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.
والثاني: يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحسن العطف هاهنا هذا التغاير الظاهر، وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن، ولهذا جاء العطف في قوله: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخر والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ وترك في قوله: ﴿المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ﴾
وقوله: ﴿الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ وأما: ﴿شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه، وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول وطوله لا ينافي شدة عقابه بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية، ولهذا فسرها النبي ﷺ بقوله
"أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"
فأوليته أزليته وآخريته أبديته.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ","غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِیدِ ٱلۡعِقَابِ ذِی ٱلطَّوۡلِۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ"],"ayah":"تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق