الباحث القرآني

لَمّا كانَ خِتامُ الَّتِي قَبْلَها إثْباتُ الكَمالِ لِلَّهِ بِصِدْقِهِ في وعْدِهِ ووَعِيدِهِ بِإنْزالِ كُلِّ فَرِيقٍ في دارِهِ الَّتِي أعَدَّها لَهُ، ثَبَتَ أنَّ الكِتابَ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ مِنهُ، وأنَّهُ تامُّ العِزَّةِ كامِلُ العِلْمِ جامِعٌ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ فَقالَ: ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ﴾ أيِ الجامِعِ مِنَ الحُدُودِ والأحْكامِ والمَعارِفِ والإكْرامِ لِكُلِّ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ بِإنْزالِهِ بِالتَّدْرِيجِ عَلى حَسَبِ المَصالِحِ والتَّقْرِيبِ لِلْأفْهامِ الجامِدَةِ القاصِرَةِ، والتَّدْرِيبِ لِلْألْبابِ السّائِرَةِ (p-٣)فِي جَوِّ المَعانِي والطّائِرَةِ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ أيِ الجامِعِ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ. ولَمّا كانَ النَّظَرُ هُنا مِن بَيْنِ جَمِيعِ الصِّفاتِ إلى العِزَّةِ والعِلْمِ أكْثَرَ، لِأجْلِ أنِ المَقامَ لِإثْباتِ الصِّدْقِ وعْدًا ووَعِيدًا قالَ: ﴿العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا افْتَتَحَ سُبْحانَهُ سُورَةَ الزُّمَرِ بِالإخْلاصِ وذَكَرَ سَبَبَهُ والحامِلَ بِإذْنِ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو الكِتابُ، وأعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّعْوِيضِ بِذِكْرِ مَن بُنِيَتْ عَلى وصْفِهِمْ سُورَةُ ص وتَتابَعَتِ الآيُ في ذَلِكَ الغَرَضِ إلى تَوْبِيخِهِمْ بِما ضَرَبَهُ سُبْحانَهُ مِنَ المَثَلِ المُوَضِّحِ في قَوْلِهِ ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر: ٢٩] ووَصَفَ الشُّرَكاءَ بِالمُشاكَسَةِ إذْ بِذَلِكَ الغَرَضِ يَتَّضِحُ عَدَمُ اسْتِمْرارِ مُرادٍ لِأحَدِهِمْ، وذَكَرَ قُبْحَ اعْتِذارٍ لَهم بِقَوْلِهِمْ ﴿ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزمر: ٣] ثُمَّ أعْقَبَ تَعالى بِالإعْلامِ بِقَهْرِهِ وعِزَّتِهِ حَتّى لا يَتَخَبَّلَ مَخْذُولٌ شُذُوذَ أمْرٍ عَنْ يَدِهِ وقَهْرِهِ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] - إلى قَوْلِهِ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ﴾ [الزمر: ٣٧] ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِحالِ أنْدادِهِمْ مِن أنَّها لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ فَقالَ ﴿قُلْ أفَرَأيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ أرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أوْ أرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزمر: ٣٨] ثُمَّ أتْبَعَ هَذا بِما يُناسِبُهُ مِن شَواهِدِ عِزَّتِهِ فَقالَ ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٤٤] ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ [الزمر: ٤٦] ﴿أوَلَمْ يَعْلَمُوا (p-٤)أنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ [الزمر: ٥٢] ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] ﴿لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الزمر: ٦٣] ثُمَّ عَنَّفَهم وقَرَّعَهم بِجَهْلِهِمْ فَقالَ تَعالى ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّها الجاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤] ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] ثُمَّ أتْبَعَ تَعالى - ذَلِكَ بِذِكْرِ آثارِ العِزَّةِ والقَهْرِ فَذَكَرَ النَّفْخَ في الصُّوَرِ لِلصَّعْقِ ثُمَّ نَفْخَةَ القِيامِ والجَزاءِ ومَصِيرَ الفَرِيقَيْنِ، فَتَبارَكَ المُتَفَرِّدُ بِالعِزَّةِ والقَهْرِ، فَلَمّا انْطَوَتْ هَذِهِ الآيُ مِن آثارِ عِزَّتِهِ وقَهْرِهِ عَلى ما أُشِيرُ إلى بَعْضِهِ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿حم﴾ [غافر: ١] ﴿تَنْـزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ فَذَكَرَ مِن أسْمائِهِ سُبْحانَهُ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ العَظِيمَيْنِ تَنْبِيهًا عَلى انْفِرادِهِ بِمُوجِبِهِما وأنَّهُ العَزِيزُ الحَقُّ القاهِرُ لِلْخَلْقِ لِعِلْمِهِ تَعالى بِأوْجُهِ الحِكْمَةِ الَّتِي خَفِيَتْ عَنِ الخَلْقِ ما أخَّرَ الجَزاءَ الحَتْمَ لِلدّارِ الآخِرَةِ، وجَعَلَ الدُّنْيا دارَ ابْتِلاءٍ واخْتِبارٍ، مَعَ قَهْرِهِ لِلْكُلِّ في الدّارَيْنِ مَعًا، وكَوْنُهم غَيْرَ خارِجِينَ عَنْ مِلْكِهِ وقَهْرِهِ، ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ [غافر: ٣] تَأْنِيسًا لِمَنِ اسْتَجابَ بِحَمْدِهِ، وأنابَ بِلُطْفِهِ، وجَرْيًا عَلى حُكْمِ الرَّحْمَةِ وتَغْلِيبِها، ثُمَّ قالَ ﴿شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ [غافر: ٣] لِيَأْخُذَ المُؤْمِنُ بِلازِمِ عُبُودِيَّتِهِ مِنَ الخَوْفِ والرَّجاءِ، واكْتَنَفَ قَوْلَهُ ﴿شَدِيدِ العِقابِ﴾ [غافر: ٣] بِقَوْلِهِ ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ [غافر: ٣] وقَوْلُهُ ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ [غافر: ٣] وأشارَ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ - ﴿فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهم في البِلادِ﴾ [غافر: ٤] - إلى قَوْلِهِ قَبْلُ ﴿وأوْرَثَنا الأرْضَ﴾ [الزمر: ٧٤] وكَأنَّهُ في تَقْدِيرِ: إذا (p-٥)كانَتِ العاقِبَةُ لَكَ ولِأتْباعِكَ فَلا عَلَيْكَ مِن تَقَلُّبِهِمْ في البِلادِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ حالَهم في هَذا كَحالِ الأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وجِدالُهم في الآياتِ كَجِدالِهِمْ، وأنَّ ذَلِكَ لِما حَقَّ عَلَيْهِمْ مِن كَلِمَةِ العَذابِ، وسَبَقَ لَهم في أُمِّ الكِتابِ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب