الباحث القرآني
﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَهَرٍ﴾ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ .
اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّ كُلَّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطِرٌ عَلى إرادَةِ أنَّهُ مَعْلُومٌ ومُجازى عَلَيْهِ وقَدْ عُلِمَ جَزاءُ المُجْرِمِينَ مِن قَوْلِهِ ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] كانَتْ نَفْسُ السّامِعِ بِحَيْثُ تَتَشَوَّفُ إلى مُقابِلِ ذَلِكَ مِن جَزاءِ المُتَّقِينَ وجَرْيًا عَلى عادَةِ القُرْآنِ مِن تَعْقِيبِ النِّذارَةِ بِالبِشارَةِ والعَكْسُ.
وافْتِتاحُ هَذا الخَبَرِ بِحَرْفِ إنَّ لِلْاِهْتِمامِ بِهِ.
(p-٢٢٥)و (في) مِن قَوْلِهِ ﴿فِي جَنّاتٍ﴾ لِلظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ الَّتِي هي بِمَعْنى التَّلَبُّسِ القَوِيِّ كَتَلَبُّسِ المَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، والمُرادُ في نَعِيمِ جَنّاتٍ ونَهَرٍ فَإنَّ لِلجَّنّاتِ والأنْهارِ لَذّاتٌ مُتَعارَفَةٌ مِنَ اللَّهْوِ والأُنْسِ والمُحادَثَةِ، واجْتِناءِ الفَواكِهِ، ورُؤْيَةِ الجَداوِلِ وخَرِيرِ الماءِ، وأصْواتِ الطُّيُورِ، وألْوانِ السَّوابِحِ.
وبِهَذا الاِعْتِبارِ عَطَفَ (نَهْرٍ) عَلى جَنّاتٍ إذْ لَيْسَ المُرادُ الإخْبارَ بِأنَّهم ساكِنُونَ جَنّاتٍ فَإنَّ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ بَعْدَ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾، ولا أنَّهم مُنْغَمِسُونَ في أنْهارٍ إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمّا يَقْصِدُهُ السّامِعُونَ.
و(نَهَرٍ): بِفَتْحَتَيْنِ لُغَةٌ في نَهْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. والمُرادُ بِهِ اسْمُ الجِنْسِ الصّادِقِ المُتَعَدِّدِ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ [الأعراف: ٤٣]، وقَوْلِهِ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ إمّا في مَحَلِّ الحالِ مِنَ المُتَّقِينَ وإمّا في مَحَلِّ الخَبَرِ الثّانِي لِ إنَّ.
والمَقْعَدُ: مَكانُ القُعُودِ. والقُعُودُ هُنا بِمَعْنى الإقامَةِ المُطَمْئِنَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦] .
والصِّدْقُ: أصْلُهُ مُطابَقَةُ الخَبَرِ لِلْواقِعِ ثُمَّ شاعَتْ لَهُ اسْتِعْمالاتٌ نَشَأتْ عَنْ مَجازٍ أوِ اسْتِعارَةٍ تَرْجَعُ إلى مَعْنى مُصادَفَةِ أحَدِ الشَّيْءِ عَلى ما يُناسِبُ كَمالَ أحْوالِ جِنْسِهِ، فَيُقالُ: هو رَجُلُ صِدْقٍ، أيْ تَمامٌ رُجْلَةٌ، وقالَ تَأبَّطَ شَرًّا: إنِّي لَمُهْدٍ مِن ثَنائِي فَقاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مالِكٍ أيِ ابْنِ العَمِّ حَقًّا، أيْ مُوفٍ بِحَقِّ القَرابَةِ.
وقالَ تَعالى ﴿ولَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إسْرائِيلَ مُبَوَّأ صِدْقٍ﴾ [يونس: ٩٣] وقالَ في دُعاءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤] ويُسَمّى الحَبِيبُ الثّابِتُ المَحَبَّةِ صَدِيقًا وصِدِّيقًا.
فَمَقْعَدُ صِدْقٍ، أيْ: مَقْعَدٌ كامِلٌ في جِنْسِهِ مَرْضِيٌّ لِلْمُسْتَقِرِّ فِيهِ فَلا يَكُونُ فِيهِ اسْتِفْزازٌ ولا زَوالٌ، وإضافَةُ مَقْعَدٍ إلى صِدْقٍ مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ لِلْمُبالَغَةِ في تَمَكُّنِ الصِّفَةِ مِنهُ.
(p-٢٢٦)والمَعْنى: هم في مَقْعَدٍ يَشْمَلُ كُلَّ ما يَحْمَدُهُ القاعِدُ فِيهِ.
والمَلِيكُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى المالِكِ مُبالَغَةً وهو أبْلَغُ مِن مَلِكَ، ومُقْتَدِرٌ: أبْلَغُ مِن قادِرٍ، وتَنْكِيرُهُ وتَنْكِيرُ مُقْتَدِرٍ لِلتَّعْظِيمِ.
والعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وكَرامَةٍ، والظَّرْفُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
* * *
(p-٢٢٧)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الرَّحْمَنِ ورَدَتْ تَسْمِيَتُها بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ بِأحادِيثَ مِنها ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى أصْحابِهِ فَقَرَأ سُورَةَ الرَّحْمَنِ» الحَدِيثَ.
وفِي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ أنَّ قَيْسَ بْنَ عاصِمٍ المُنَقِّرِيَّ «قالَ لِلنَّبِيءِ ﷺ اتْلُ عَلَيَّ ما أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَقَرَأ عَلَيْهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَقالَ: أعِدْها، فَأعادَها ثَلاثًا، فَقالَ: إنَّ لَهُ لَحَلاوَةً» . إلَخْ.
وكَذَلِكَ سُمِّيَتْ في كُتُبِ السُّنَّةِ وفي المَصاحِفِ.
وذَكَرَ في الإتْقانِ: أنَّها تُسَمّى عَرُوسَ القُرْآنِ لِما رَواهُ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنْ عَلِيٍّ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ وعَرُوسُ القُرْآنِ سُورَةُ الرَّحْمَنِ» . وهَذا لا يَعْدُو أنْ يَكُونَ ثَناءً عَلى هَذِهِ السُّورَةِ ولَيْسَ هو مِنَ التَّسْمِيَةِ في شَيْءٍ كَما رُوِيَ أنَّ سُورَةَ البَقَرَةِ فُسْطاطُ القُرْآنِ.
ووَجْهُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ أنَّها ابْتُدِئَتْ بِاسْمِهِ تَعالى ﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن: ١] .
وقَدْ قِيلَ: إنَّ سَبَبَ نُزُولِها قَوْلُ المُشْرِكِينَ المَحْكِيُّ في قَوْلِهِ تَعالى (p-٢٢٨)﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قالُوا وما الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٦٠] في سُورَةِ الفُرْقانِ، فَتَكُونُ تَسْمِيَتُها بِاعْتِبارِ إضافَةِ (سُورَةٍ) إلى (الرَّحْمانِ) عَلى مَعْنى إثْباتِ وصْفِ الرَّحْمَنِ.
وهِيَ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ جُمْهُورِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينِ، ورَوى جَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ في صُلْحِ القَضِيَّةِ عِنْدَما أبى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أنْ يَكْتُبَ في رَسْمِ الصُّلْحِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
ونُسِبَ إلى ابْنِ مَسْعُودٍ أيْضًا أنَّها مَدَنِيَّةٌ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها مَكِّيَّةٌ سِوى آيَةٍ مِنها هي قَوْلُهُ ﴿يَسْألُهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ [الرحمن: ٢٩] . والأصَحُّ أنَّها مَكِّيَّةٌ كُلَّها وهي في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ أوَّلُ المُفَصَّلِ. وإذا صَحَّ أنَّ سَبَبَ نُزُولِها قَوْلُ المُشْرِكِينَ وما الرَّحْمانُ تَكُونُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الفُرْقانِ.
وقِيلَ سَبَبُ نُزُولِها قَوْلُ المُشْرِكِينَ ﴿إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣] المَحْكِيِّ في سُورَةِ النَّحْلِ. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأنَّ الرَّحْمَنَ هو الَّذِي عَلَّمَ النَّبِيءَ ﷺ القُرْآنَ.
وهِيَ مِن أوَّلِ السُّوَرِ نُزُولًا فَقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ في مَسْنَدِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ قالَتْ: «سَمِعْتُ الرَّسُولَ ﷺ وهو يُصَلِّي نَحْوَ الرُّكْنِ قَبْلَ أنْ يُصَدَعَ بِما يُؤْمَرُ والمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَ يَقْرَأُ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن»: ١٣] . وهَذا يَقْتَضِي أنَّها نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الحِجْرِ. ولِلْاِخْتِلافِ فِيها لَمْ تُحَقِّقْ رُتْبَتَها في عِدادِ نُزُولِ سُوَرِ القُرْآنِ. وعَدَّها الجَعْبَرِيُّ ثامِنَةً وتِسْعِينَ بِناءً عَلى قَوْلٍ بِأنَّها مَدَنِيَّةٌ وجَعَلَها بَعْدَ سُورَةِ الرَّعْدِ وقَبْلَ سُورَةِ الإنْسانِ.
وإذْ كانَ الأصَحُّ أنَّها مَكِّيَّةٌ وأنَّها نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الحَجِّ وقَبْلَ سُورَةِ النَّحْلِ وبَعْدَ سُورَةِ الفُرْقانِ، فالوَجْهُ أنْ تُعَدَّ ثالِثَةً وأرْبَعِينَ بَعْدَ سُورَةِ الفُرْقانِ وقَبْلَ سُورَةِ فاطِرٍ.
وعْدَّ أهْلُ المَدِينَةِ ومَكَّةَ آيَها سَبْعًا وسَبْعَيْنِ، وأهْلُ الشّامِ والكُوفَةِ ثَمانًا وسَبْعِينَ لِأنَّهم عَدُّوا الرَّحْمانَ آيَةً، وأهْلُ البَصْرَةِ سِتًّا وسَبْعَيْنِ.
* * *
(p-٢٢٩)أغْراضُ هَذِهِ السُّورَةُ ابْتُدِئَتْ بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ قالَ في الكَشّافِ: أرادَ اللَّهُ أنْ يُقَدِّمَ في عَدَدِ آلائِهِ أوَّلَ شَيْءٍ ما هو أسْبَقُ قِدَمًا مِن ضُرُوبِ آلائِهِ وأصْنافِ نَعْمائِهِ وهي نِعْمَةُ الدِّينِ فَقَدَّمَ مِن نِعْمَةِ الدِّينِ ما هو أعْلى مَراتِبِها وأقْصى مَراقِبِها وهو إنْعامُهُ بِالقُرْآنِ وتَنْزِيلِهِ وتَعْلِيمِهِ، وأخَّرَ ذِكْرَ خَلْقِ الإنْسانِ عَنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ أتْبَعُهُ إيّاهُ ثُمَّ ذَكَرَ ما تَمَيَّزَ بِهِ مِن سائِرِ الحَيَوانِ مِنَ البَيانِ اهـ.
وتَبِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيءِ ﷺ بِأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي عَلَّمَهُ القُرْآنُ رَدًّا عَلى مَزاعِمِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ ﴿إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، ورَدًّا عَلى مَزاعِمِهِمْ أنَّ القُرْآنَ أساطِيرَ الأوَّلِينَ أوْ أنَّهُ سِحْرٌ أوْ كَلامُ كاهِنٍ أوْ شِعْرٌ.
ثُمَّ التَّذْكِيرُ بِدَلائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى في ما أتْقَنَ صُنْعَهُ مُدْمَجًا في ذَلِكَ التَّذْكِيرِ بِما في ذَلِكَ كُلِّهِ مِن نَعَمِ اللَّهِ عَلى النّاسِ.
وخَلْقِ الجِنِّ وإثْباتِ جَزائِهِمْ.
والمَوْعِظَةُ بِالفَناءِ وتَخَلَّصَ مِن ذَلِكَ إلى التَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الحَشْرِ والجَزاءِ. وخُتِمَتْ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ.
وتَخَلَّلَ ذَلِكَ إدْماجَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ العَدْلِ، والأمْرَ بِتَوْفِيَةِ أصْحابِ الحُقُوقِ حُقُوقَهم، وحاجَةَ النّاسِ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ فِيما خَلَقَ لَهم، ومِن أهَمِّها نِعْمَةُ العِلْمِ ونِعْمَةُ البَيانِ، وما أعَدَّ مِنَ الجَزاءِ لِلْمُجْرِمِينَ ومِنَ الثَّوابِ والكَرامَةِ لِلْمُتَّقِينَ ووَصْفُ نَعِيمَ المُتَّقِينَ.
ومِن بَدِيعِ أُسْلُوبِها افْتِتاحُها الباهِرُ بِاسْمِهِ الرَّحْمانِ وهي السُّورَةُ الوَحِيدَةُ المُفْتَتَحَةُ بِاسْمٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ غَيْرُهُ.
ومِنهُ التَّعْدادُ في مَقامِ الاِمْتِنانِ والتَّعْظِيمِ بِقَوْلِهِ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ١٣] إذْ تَكَرَّرَ فِيها إحْدى وثَلاثِينَ مَرَّةً وذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ جَلِيلٌ كَما سَنُبَيِّنُهُ.
* * *
(p-٢٣٠)﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن: ١] ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ [الرحمن: ٢] هَذِهِ آيَةٌ واحِدَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ العادِّينَ. ووَقَعَ في المَصاحِفِ الَّتِي بِرِوايَةِ حَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ عَلامَةُ آيَةٍ عَقِبَ كَلِمَةِ (الرَّحْمانِ)، إذْ عَدَّها قُرّاءُ الكُوفَةِ آيَةً فَلِذَلِكَ عَدَّ أهْلُ الكُوفَةِ آيِ هَذِهِ السُّورَةِ ثَمانًا وسَبْعِينِ. فَإذا جُعِلَ اسْمُ الرَّحْمانِ آيَةً تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ اسْمَ الرَّحْمانِ: إمّا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هو الرَّحْمَنُ، أوْ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِما يُناسِبُ المَقامَ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ واقِعًا مَوْقِعَ الكَلِماتِ الَّتِي يُرادُ لَفْظُها لِلتَّنْبِيهِ عَلى غَلَطِ المُشْرِكِينَ إذْ أنْكَرُوا هَذا الاِسْمَ قالَ تَعالى ﴿قالُوا وما الرَّحْمانُ﴾ [الفرقان: ٦٠] كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الفُرْقانِ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ شَبِيهًا بِمَوْقِعِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ الَّتِي يُتَهَجّى بِها في أوائِلِ بَعْضِ السُّوَرِ عَلى أظْهَرِ الوُجُوهَ في تَأْوِيلِها وهو التَّعْرِيضُ بِالمُخاطَبِينَ بِأنَّهم أخْطَئُوا في إنْكارِهِمُ الحَقائِقَ.
وافْتَتَحَ بِاسْمِ (الرَّحْمانِ) فَكانَ فِيهِ تَشْوِيقُ جَمِيعِ السّامِعِينَ إلى الخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ إذْ كانَ المُشْرِكُونَ لا يَأْلَفُونَ هَذا الاِسْمَ قالَ تَعالى ﴿قالُوا وما الرَّحْمانُ﴾ [الفرقان: ٦٠]، فَهم إذا سَمِعُوا هَذِهِ الفاتِحَةَ تَرَقَّبُوا ما سَيَرِدُ مِنَ الخَبَرِ عَنْهُ، والمُؤْمِنُونَ إذا طَرَقَ أسْماعَهم هَذا الاِسْمُ اسْتَشْرَفُوا لِما سَيَرِدُ مِنَ الخَبَرِ المُناسِبِ لِوَصْفِهِ هَذا مِمّا هم مُتَشَوِّقُونَ إلَيْهِ مِن آثارِ رَحْمَتِهِ.
عَلى أنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ المُشْرِكِينَ في النَّبِيءِ ﷺ ﴿إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، أيْ يُعَلِّمُهُ القُرْآنَ فَكانَ الاِهْتِمامُ بِذِكْرِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّبِيءَ ﷺ القُرْآنَ أقْوى مِنَ الاِهْتِمامِ في التَّعْلِيمِ.
وأُوثِرَ اسْتِحْضارُ الجَلالَةِ بِاسْمِ الرَّحْمانِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأسْماءِ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَأْبَوْنَ ذِكْرَهُ فَجَمَعَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ بَيْنَ رَدَّيْنِ عَلَيْهِمْ مَعَ ما لِلْجُمْلَةِ الاِسْمِيَّةِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى ثَباتِ الخَبَرِ، (p-٢٣١)ولِأنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ السُّورَةِ تَعْدادٌ لِلنِّعَمِ والآلاءِ فافْتِتاحُها بِاسْمِ الرَّحْمانِ بَراعَةُ اسْتِهْلالٍ.
وقَدْ أُخْبِرَ عَنْ هَذا الاِسْمِ بِأرْبَعَةِ أخْبارٍ مُتَتالِيَةٍ غَيْرِ مُتَعاطِفَةٍ رابِعُها هو جُمْلَةُ ﴿الشَّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ﴾ [الرحمن: ٥] كَما سَيَأْتِي، فَفَصَلَ جُمْلَتِي ﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ [الرحمن: ٣] ﴿عَلَّمَهُ البَيانَ﴾ [الرحمن: ٤] عَنْ جُمْلَةِ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ [الرحمن: ٢] خِلافَ مُقْتَضى الظّاهِرِ. لِنُكْتَةِ التَّعْدِيدِ لِلتَّبْكِيتِ.
وعَطَفَ عَلَيْها أرْبَعَةً أُخَرَ بِحَرْفِ عَطْفٍ مِن قَوْلِهِ ﴿والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ﴾ [الرحمن: ٦] إلى قَوْلِهِ ﴿والأرْضَ وضَعَها لِلْأنامِ﴾ [الرحمن: ١٠] وكُلُّها دالَّةٌ عَلى تَصَرُّفاتِ اللَّهِ لِيُعْلِمَهم أنَّ الاِسْمَ الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ هو اسْمُ اللَّهِ وأنَّ المُسَمّى واحِدٌ.
وجِيءَ بِالمُسَنَدِ فِعْلًا مُؤَخَّرًا عَنِ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِإفادَةِ التَّخْصِيصِ، أيْ: عَلَّمَ القُرْآنَ لا بَشَرٌ عَلَّمَهُ وحَذَفَ المَفْعُولَ الأوَّلَ لِفِعْلِ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ [الرحمن: ٢] لِظُهُورِهِ، والتَّقْدِيرُ: عَلَّمَ مُحَمَّدًا ﷺ لِأنَّهُمُ ادَّعَوْا أنَّهُ مُعَلَّمٌ وإنَّما أنْكَرُوا أنْ يَكُونَ مُعَلِّمَهُ القُرْآنَ هو اللَّهُ تَعالى وهَذا تَبْكِيتٌ أوَّلٌ.
وانْتَصَبَ القُرْآنُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِفِعْلِ عَلَّمَ، وهَذا الفِعْلُ هُنا مُعَدًّى إلى مَفْعُولَيْنِ فَقَطْ لِأنَّهُ ورَدَ عَلى أصْلِ ما يُفِيدُهُ التَّضْعِيفُ مِن زِيادَةِ مَفْعُولٍ آخَرَ مَعَ فاعِلِ فِعْلِهِ المُجَرَّدِ، وهَذا المَفْعُولُ هُنا يَصْلُحُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّعْلِيمُ إذْ هو اسْمٌ لِشَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ التَّعْلِيمُ وهو القُرْآنُ، فَهو كَقَوْلِ مَعْنِ بْنِ أوْسٍ:
؎أُعَلِّمُهُ الرِّمايَةَ كُلَّ يَوْمٍ
وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ﴾ [المائدة: ١١٠] في سُورَةِ العُقُودِ وقَوْلِهِ ﴿وما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾ [يس: ٦٩] (p-٢٣٢)فِي سُورَةِ يس، ولا يُقالُ: عَلَّمْتُهُ زَيْدًا صَدِيقًا، وإنَّما يُقالُ: أعْلَمْتُهُ زَيْدًا صَدِيقًا، فَفِعْلُ عَلِمَ إذا ضُعِّفَ كانَ بِمَعْنى تَحْصِيلِ التَّعْلِيمِ بِخِلافِهِ إذْ عُدِّيَ بِالهَمْزَةِ فَإنَّهُ يَكُونُ لِتَحْصِيلِ الإخْبارِ والإنْباءِ.
وقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ في هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمًا عَظِيمَةً عَلى النّاسِ كُلِّهِمْ في الدُّنْيا، وعَلى المُؤْمِنِينَ خاصَّةً في الآخِرَةِ وقَدَّمَ أعْظَمَها وهو نِعْمَةُ الدِّينِ لِأنَّ بِهِ صَلاحَ النّاسِ في الدُّنْيا، وبِاتِّباعِهِمْ إيّاهُ يَحْصُلُ لَهُمُ الفَوْزُ في الآخِرَةِ. ولَمّا كانَ دِينُ الإسْلامِ أفْضَلَ الأدْيانِ، وكانَ هو المُنَزَّلَ لِلنّاسِ في هَذا الإبّانِ، وكانَ مُتَلَقًّى مِن أفْضَلِ الوَحْيِ والكُتُبِ الإلَهِيَّةِ وهو القُرْآنُ، قَدَّمَهُ في الإعْلامِ وجَعَلَهُ مُؤْذِنًا بِما يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدِّينِ ومُشِيرًا إلى النِّعَمِ الحاصِلَةِ بِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الأدْيانِ كَما قالَ ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: ٩٢] .
ومُناسَبَةُ اسْمِ الرَّحْمَنِ لِهَذِهِ الاِعْتِباراتِ مُنْتَزَعَةٌ مِن قَوْلِهِ ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] .
والقُرْآنُ: اسْمٌ غَلَبَ عَلى الوَحْيِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ لِلْإعْجازِ بِسُورَةٍ مِنهُ وتَعَبُّدِ ألْفاظِهِ.
{"ayahs_start":54,"ayahs":["إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَنَهَرࣲ","فِی مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِیكࣲ مُّقۡتَدِرِۭ"],"ayah":"فِی مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِیكࣲ مُّقۡتَدِرِۭ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق