الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ كَيْفَ مَخْرَجُهُ ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ عَلى صُورَةِ بَدَلٍ، كَما يَقُولُ القائِلُ: فُلانٌ في بَلْدَةِ كَذا في دارِ كَذا، وعَلى هَذا يَكُونُ ”مَقْعَدِ“ مِن جُمْلَةِ الجَنّاتِ مَوْضِعًا مُخْتارًا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلى ما في الجَنّاتِ مِنَ المَواضِعِ، وعَلى هَذا قَوْلُهُ: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ لِأنّا بَيَّنّا في أحَدِ الوُجُوهِ أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿فِي جَنّاتٍ ونَهَرٍ﴾ في جَنّاتٍ عِنْدَ نَهَرٍ، فَقالَ: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ صِفَةُ مَقْعَدِ صِدْقٍ، تَقُولُ دِرْهَمٌ في ذِمَّةِ مَلِيءٍ خَيْرٌ مِن دِينارٍ في ذِمَّةِ مُعْسِرٍ، وقَلِيلٌ عِنْدَ أمِينٍ أفْضَلُ مِن كَثِيرٍ عِنْدَ خائِنٍ، فَيَكُونُ صِفَةً، وإلّا لَما حَسُنَ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً. ثانِيهِما: أنْ يَكُونَ: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ كالصِّفَةِ لِجَنّاتٍ ونَهَرٍ، أيْ في جَنّاتٍ ونَهَرٍ مَوْصُوفَيْنِ بِأنَّهُما في مَقْعَدِ صِدْقٍ، تَقُولُ: وقْفَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ أفْضَلُ مِن كَذا و﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ يَدُلُّ عَلى لُبْثٍ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ المَجْلِسُ، وذَلِكَ لِأنَّ قَعَدَ وجَلَسَ لَيْسا عَلى ما يُظَنُّ أنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ لا فَرْقَ بَيْنَهُما، بَلْ بَيْنَهُما فَرْقٌ ولَكِنْ لا يَظْهَرُ إلّا لِلْبارِعِ، والفَرْقُ هو أنَّ القُعُودَ جُلُوسٌ فِيهِ مُكْثٌ حَقِيقَةً واقْتِضاءً، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: هو أنَّ الزَّمَنَ يُسَمّى مَقْعَدًا ولا يُسَمّى مَجْلِسًا لِطُولِ المُكْثِ حَقِيقَةً. ومِنهُ سُمِّيَ قَواعِدُ البَيْتِ. والقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ قَواعِدُ ولا يُقالُ لَهُنَّ: جَوالِسُ لِعَدَمِ دَلالَةِ الجُلُوسِ عَلى المُكْثِ الطَّوِيلِ، فَذَكَرَ القَواعِدَ في المَوْضِعَيْنِ لِكَوْنِهِ مُسْتَقِرًّا بَيْنَ الدَّوامِ والثَّباتِ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ. ويُقالُ لِلْمَرْكُوبِ مِنَ الإبِلِ قَعُودٌ لِدَوامِ اقْتِعادِهِ اقْتِضاءً، وإنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فَهُو لِصَوْنِهِ عَنِ الحَمْلِ واتِّخاذِهِ لِلرُّكُوبِ كَأنَّهُ وُجِدَ فِيهِ نَوْعُ قُعُودٍ دائِمٍ اقْتَضى ذَلِكَ ولَمْ يُرَدْ لِلْإجْلاسِ. الثّانِي: النَّظَرُ إلى تَقالِيبِ الحُرُوفِ فَإنَّكَ إذا نَظَرْتَ إلى ”ق ع د“ وقَلَبْتَها تَجِدُ مَعْنى المُكْثِ في الكُلِّ فَإذا قَدَّمْتَ القافَ رَأيْتَ قَعَدَ وقَدَعَ بِمَعْنًى، ومِنهُ تَقادَعَ الفَراشُ بِمَعْنى تَهافَتَ، وإذا قَدَّمْتَ العَيْنَ رَأيْتَ عَقَدَ وعَدَقَ بِمَعْنى المُكْثِ في غايَةِ الظُّهُورِ، وفي عَدَقَ لِخَفاءٍ يُقالُ: أعْدِقْ بِيَدِكَ الدَّلْوَ في البِئْرِ إذا أمَرَهُ بِطَلَبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيها، والعَوْدَقَةُ خَشْبَةٌ عَلَيْها كُلّابٌ يَخْرُجُ مَعَهُ الدَّلْوُ الواقِعُ في البِئْرِ، وإذا قَدَّمْتَ الدّالَ رَأيْتَ دَقَعَ ودَعَقَ والمُكْثُ في الدَّقْعِ ظاهِرٌ والدَّقْعاءُ هي التُّرابُ المُلْتَصِقُ بِالأرْضِ، والفَقْرُ المُدْقَعُ هو الَّذِي يُلْصَقُ صاحِبُهُ بِالتُّرابِ. وفي دَعَقَ أيْضًا إذِ الدَّعْقُ مَكانٌ تَطَؤُهُ الدَّوابُّ بِحَوافِرِها فَيَكُونُ صَلْبًا أجْزاؤُهُ مُتَداخِلٌ بَعْضُها بِبَعْضٍ لا يَتَحَرَّكُ شَيْءٌ مِنها عَنْ مَوْضِعِهِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: الِاسْتِعْمالاتُ في القُعُودِ إذا اعْتُبِرَتْ ظَهَرَ ما ذَكَرْنا قالَ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ [النساء: ٩٥] والمُرادُ الَّذِي لا يَكُونُ بَعْدَهُ اتِّباعٌ، وقالَ تَعالى: ﴿مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤] فَأشارَ إلى الثَّباتِ العَظِيمِ. وقالَ تَعالى: ﴿إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا﴾ [الأنفال: ٤٥] فالمَقاعِدُ إذَنْ هي المَواضِعُ الَّتِي يَكُونُ فِيها المُقاتِلُ بِثَباتٍ ومُكْثٍ، وإطْلاقُ مَقْعَدَةٍ عَلى العُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ القُعُودُ أيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، إذا عَرَفْتَ هَذا الفَرْقَ بَيْنَ الجُلُوسِ والقُعُودِ حَصَلَ لَكَ فَوائِدُ مِنها هَهُنا فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى دَوامِ المُكْثِ وطُولِ اللُّبْثِ، ومِنها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧] فَإنَّ القَعِيدَ بِمَعْنى الجَلِيسِ والنَّدِيمِ، ثُمَّ إذا عُرِفَ هَذا وقِيلَ (p-٧٢)لِلْمُفَسِّرِينَ الظّاهِرِينَ فَما الفائِدَةُ في اخْتِيارِ لَفْظِ القَعِيدِ بَدَلَ لَفْظِ الجَلِيسِ مَعَ أنَّ الجَلِيسَ أشْهَرُ ؟ يَكُونُ جَوابُهم أنَّ آخِرَ الآياتِ مِن قَوْلِهِ: ﴿حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] و﴿لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: ٢٣] وقَوْلِهِ: ﴿جَبّارٍ عَنِيدٍ﴾ [هود: ٥٩] يُناسِبُ القَعِيدَ لا الجَلِيسَ، وإعْجازُ القُرْآنِ لَيْسَ في السَّجْعِ، وإذا نَظَرْتَ إلى ما ذُكِرَ تَبَيَّنَ لَكَ فائِدَةٌ جَلِيلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ حِكْمِيَّةٌ في وضْعِ اللَّفْظِ المُناسِبِ؛ لِأنَّ القَعِيدَ دَلَّ عَلى أنَّهُما لا يُفارِقانِهِ ويُداوِمانِ الجُلُوسَ مَعَهُ، وهَذا هو المُعْجِزُ وذَلِكَ لِأنَّ الشّاعِرَ يَخْتارُ اللَّفْظَ الفاسِدَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ والسَّجْعِ، ويَجْعَلُ المَعْنى تَبَعًا لِلَّفْظِ، واللَّهُ تَعالى بَيَّنَ الحِكْمَةَ عَلى ما يَنْبَغِي، وجاءَ بِاللَّفْظِ عَلى أحْسَنِ ما يَنْبَغِي، وفائِدَةٌ أُخْرى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قِيلَ لَكم تَفَسَّحُوا في المَجالِسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكم وإذا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا﴾ [المجادلة: ١١] فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فافْسَحُوا﴾ [المجادلة: ١١] إشارَةٌ إلى الحَرَكَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿فانْشُزُوا﴾ [المجادلة: ١١] إشارَةٌ إلى تَرْكِ الجُلُوسِ، فَذَكَرَ المَجْلِسَ إشارَةً إلى أنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ جُلُوسٍ، فَلا يَجِبُ مُلازَمَتُهُ ولَيْسَ بِمَقْعَدٍ حَتّى لا يُفارِقُونَهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: ”مَقْعَدِ صِدْقٍ“، أيْ صالِحٍ، يُقالُ: رَجُلُ صِدْقٍ لِلصّالِحِ، ورَجُلُ سَوْءٍ لِلْفاسِدِ، وقَدْ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ: ﴿إنّا فَتَحْنا﴾ [الفتح: ١] في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ [الفتح: ١٢]، وثانِيهِما: الصِّدْقُ المُرادُ مِنهُ ضِدُّ الكَذِبِ، وعَلى هَذا فَفِيهِ وجْهانِ. الأوَّلُ: مَقْعَدُ صِدْقِ مَن أخْبَرَ عَنْهُ وهو اللَّهُ ورَسُولُهُ. الثّانِي: مَقْعَدٌ نالَهُ مَن صَدَقَ فَقالَ: بِأنَّ اللَّهَ واحِدٌ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ المُرادُ أنَّهُ مَقْعَدٌ لا يُوجَدُ فِيهِ كَذِبٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى صادِقٌ ويَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الكَذِبُ، ومَن وصَلَ إلَيْهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الكَذِبُ؛ لِأنَّ مَظَنَّةَ الكَذِبِ الجَهْلُ، والواصِلُ إلَيْهِ يَعْلَمُ الأشْياءَ كَما هي، ويَسْتَغْنِي بِفَضْلِ اللَّهِ عَنْ أنْ يَكْذِبَ لِيَسْتَفِيدَ بِكَذِبِهِ شَيْئًا، فَهو مَقْعَدُ صِدْقٍ، وكَلِمَةُ (عِنْدَ) قَدْ عَرَفْتَ مَعْناها، والمُرادُ مِنهُ قُرْبُ المَنزِلَةِ والشَّأْنِ لا قُرْبُ المَعْنى والمَكانِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ لِأنَّ القُرْبَةَ مِنَ المُلُوكِ لَذِيذَةٌ كُلَّما كانَ المَلِكُ أشَدَّ اقْتِدارًا كانَ المُتَقَرِّبُ مِنهُ أشَدَّ التِذاذًا وفِيهِ إشارَةٌ إلى مُخالَفَةِ مَعْنى القُرْبِ مِنهُ مِن مَعْنى القُرْبِ مِنَ المُلُوكِ، فَإنَّ المُلُوكَ يُقَرِّبُونَ مَن يَكُونُ مِمَّنْ يُحِبُّونَهُ ومِمَّنْ يَرْهَبُونَهُ، مَخافَةَ أنْ يَعْصُوا عَلَيْهِ ويَنْحازُوا إلى عَدُوِّهِ فَيَغْلِبُونَهُ، واللَّهُ تَعالى قالَ: ﴿مُقْتَدِرٍ﴾ لا يُقَرِّبُ أحَدًا إلّا بِفَضْلِهِ. والحَمْدُ لِلَّهِ وصَلاتُهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِهِ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلامُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب